مما ينبغي الإشارة إليه أن هناك فرقا بين الشعرية كمكوّن من مكونات النص الإبداعي , والشعرية كمنهج نقدي لغوي يقوم على دراسة العمل الأدبي ليشمل جميع عناصره وما ينشأ بينها من علاقات تتوازى وتتقاطع بشكل يحدد سماته الفنية.
أنا لا أقصد في هذه المقالة بالشعرية المنهج النقدي الذي نشأ كغيره ضمن المناهج النقدية الحديثة و يتغذّى من خلال المقاربات اللسانية و انما أقصد ما عناه الناقد الامريكي «رومان جاكبسون «تحديدا عندما أكد ان «هدف علم الادب ليس هو الأدب في عمومه و انما أدبيته أي تلك العناصر المحددة التي تجعل منه عملا أدبيا «(1) بمعنى ان ما أعنيه من الشعرية هنا ليس المنهج النقدي اللغوي و انما أقصد تلك الظاهرة الفنية و الجوهرية لصناعة اللغة الشعرية، بمعنى العناصر التي تجتمع لتمثّل هويّة ما للعمل الأدبي فتجعله يقترب الى حد كبير من خلال التشبيهات و الاستعارات و الصور والتي تلعب عادة دورا كبيرا في كتابة الشعر بعيدا عن أي حكم تقييمي بل من منطلق انه السمة الغالبة في نص ما.
شعرية العنوان:
يعتبر عنوان الكتاب عتبة مهمة و أساسية تشير الى عوالم الكاتبة، اختارت القاصة باسمة العنزي عنوانا لكتابها القصصي «يُغلق الباب على ضجر «يضم ثلاثة عشرة قصة، نلاحظ ان الكاتبة عند صياغتها للعنوان تستهلّ كتابها بشعرية بيّنة و توظّف التعبير المجازي في صياغة العنوان, نلاحظ ان الباب بما هو معطى حسي يُغلق عادة على معطى حسي أيضا لكونه يمثل عنصر الفصل بين العالم الداخلي للبيت و العالم الخارجي له، فهو يُغلق على غرف, يُغلق على أشياء وتفاصيل وعوالم الحياة الداخلية حتى لا تكشف للغريب و لكن القاصة باسمة تقوم بانزياح شعري جميل و تجعل الباب يُغلق على ضجر و الضجر احساس ينفرد به الانسان وهو:
الضجر لغة: ضَجِرَ ضجْرا أي ضاق و تبرّم و ضجر المكان أي ضاق بمن فيه.
تحيل دلالة الضجر على السأم و القلق و الملل, كما أن الضجر يحيل على المكان الضيّق.
و الباب اذ يُغلق فانه يُغلق على مكان ضيق و يُغلق على حالة ملل و سأم تزيد من حالة ضيق المكان ضيق نفسي يثير التبرّم من الحياة. وهو اذ يُغلق فاننا أمام افترفرضية انه يغلق و نحن في الداخل فنواجه عالما صغيرا محدودا ملولا بحيث يصبح القصّ طريقة الكاتبة لمواجهة ضيق المكان و الاحساس بالاختناق و تصبح الكتابة طريقة للتحليق بعيدا عن هذا الباب المغلق، و يكون القصّ أسلوب جديد لبناء عالم مواز يزخر بالحياة ويفيض بالحماس و الحركة و تصبح الكتابة طريقة جديدة للتعبير عن الحياة الأفضل.
شعرية العنوان و التي تصنع بشكل ما جماليته أيضا عندما القارئ يهمّ بفتح الكتاب و لكن القاصة قد جعلت كتابها ينغلق على ضجر، هي تبدو مصرّة على اخفاء ما في داخل الغرف مع ما يعنيه الغلق من إحكام و شدة و كأنها تستفز القارئ – من حيث لا يدري – أن يفتح الكتاب ليستكشف بنفسه ما الذي غُلّق دونه فاذا به يكشف عن عوالم غريبة و تنفتح له تفاصيل حياة مثيرة و حكايات مريبة و شخوص مقصيّة و مهمّشة..
لعل ما يحسب للقاصة باسمة العنزي انها لا تقدم كتابها بشكل مباشر و لا تطرح قصصها بيسر و انما تدفع القارئ منذ العتبة الاولى – وهو يقرأ عنوان الكتاب – الى التفكير و تستفز فضوله و لعلها تغريه اذ اختارت كغلاف لكتابها القصصي لوحة فنية جميلة تنتصر فيها للجمال.. و أجد القاصة باسمة العنزي تستجيب لما يقوله اندري جيد من أن العنوان الناجح هو العنوان الاستفزازي و لعل استفزازية العنوان تتمثّل في هذا التعارض بينها و بين قارئها فهي تغلق الباب بلوحة فنية جميلة جعلتها غلافا لكتابها و القارئ يفتح الكتاب ليكتشف عوالم حزينة و موجعة بين دفتيه.
شعرية العتبات:
عندما تفتح الكتاب يواجهك بيت شعري تجعله القاصة عتبة أخرى لولوج عوالمها انه مقطع شعري من قصيدة «الملاّح القديم «للشاعر الانقليزي صمويل تايلور كوليردج ( 1772 / 1834 ), ربما تحاول القاصة أن تبتعد كثيرا عن العوالم الضيقة و الرتيبة و الملولة و تستنجد بالشعر ليكون ملاذها, و تبتعد زمنيا أكثر عندما تعتمد هذا الشاعر الانقليزي من زمن قديم نسبيا و لعل لهذا الاختيار الشعري دلالته عند القاصة اذ يبدو أنها تريد من القارئ أن يتسلّح باللوحة الفنية كعتبة أولى و بالشعر كعتبة ثانية ليفتح أبواب الغرف و يشرّع نوافذها و لعله في هذا الاطار تصدق المقولة «ان الفن ضرورة حتى لا تقتلنا الحقيقة «.
شعرية المواضيع:
إعتدنا القول أن من بين أغراض الكتابة «أن نحلم النفس بكل شيء» بحيث تصبح اللحظة الشعرية هي لحظة مخاتلة للواقع و لمشاكله و لأزماته, فهي طريقة لمواجهة بؤس الواقع بخلق عالم بديل تصالح فيه الذات ذاتها، و باسمة العنزي في كتابها «يُغلق الباب على ضجر» تقدم قصصها بشعرية واضحة عندما تُحلم النفس بعالم جديد تتوق له الأنفس الموجوعة، فتفضح من خلال مواضيع كتابها حالات البؤس الاجتماعي و تكشف تناقضات الواقع و تعرّي مظالم كثيرة وهي في كل ذلك تهدف الى عالم بديل للواقع البائس وتُحلم النفس بالعدالة الاجتماعية بين مختلف الشرائح في المجتمع و بالتوازن النفسي بين الأفراد و بالحظ يوزع بالعدل بين الجميع..
في كل قصص باسمة العنزي هناك جرح ينزّ و ألم عميق و ذاكرة جريحة و أحلام معطوبة و ذات مهتزّة, تطرح العنزي مواضيعها لتجعل القارئ يواجه حقيقة الواقع و يلمس قاع المجتمع و يبدو ان العنزي تؤمن أن أفضل طريقة لاقصاء الرداءة هي مواجهتها و الحديث عنها و أنجع حلّ لتجاوز أزمات المجتمع أن نتحدث عن هذه الأزمات، لذلك يبدو أن العنزي قد اختارت عندما تتحدث عن ظلم المجتمع أن تنتصر للعدالة و عندما حرّكت سواكن الناس البسطاء و المهمّشين فانها تنتصر الى حقهم في الحياة الكريمة وعندما تستعرض تمظهرات الجهل القاتل المفسد للعقول و المخرّب للنفوس فانها تنتصر للمعرفة و للوعي المؤسس.
من هذا المنطلق اختارت باسمة العنزي مواضيع قصصها مبرّرا للحلم بعالم أفضل يبدو ممكنا في نفق الواقع الذي تشتد فيه الأزمات و تتراكم فيه مخلّفات الجهل و الفقر و تضطرب النفوس فتجعل العنزي الأمل في آخر النفق.. و ان كانت لا تقدم حلولا فتلك مهمة السياسي ولكنها ككاتبة اختارت أن تنشغل بقضايا المجتمع, دورها أن تكشف ما في قاعه من غصّات و أن تبشّر بعالم أفضل و أن تزرع الأمل في الطريق و لعل هذا من أهم أدوار الأدب.
شعرية الشخوص:
ان الشعر كما حدده أرسطو هو «فن المحاكاة «و قد فسّر لورنس بيرنز أحد شرّاح أرسطو ذلك بان أرسطو كان يعني محاكاة الطبيعة، و إن هدف الفن ليس فقط محاكاة ما هو حقيقي في الطبيعة ولكنه محاكاة الكمال الممكن في الطبيعة أيضا، بمعنى ان الشعر هو نزوع الى عالم المثل و بهذا المعنى يمكن أن يكون الشاعر كل من يعتقد في عالم المثل بما هو العالم الحقيقي الذي يضم القيم الحقيقية و بالتالي يمكن ان ينسحب هذا التحديد على كل من يعتقد في تلك القيم الفاضلة. و عندما ننظر في الشخوص التي تقدمها باسمة العنزي نلاحظ انها شخوص تهفو الى عالم مثالي و لعلها تنزع الى هذا من منطلق تألمها من شدة الواقع خصوصا و أننا نجد الكاتبة نفسها تتعامل مع هذه الشخص من الداخل أي انها تقدمهم الى القرّاء من خلال أحلامهم و مشاعرهم المنفلتة و أنفاسهم المتقطّعة بمعنى ان القاصّة تقدّم العوالم الخارجية لشخوصها من داخل عوالمهم الشعورية و النفسية و الاجتماعية.
يمكن أن نتحدث عن شخوص شعرية من منطلق انها شخوص رهيفة الاحساس تحمل همومها و أجاعها على مرّ السنين و تميل الى التخيل لتتستّر عن سلبيتها و تبالغ في الحلم كطريقة لتعويض واقعها البائس الذي لا يرضيها أبدا، تبدو هذه المواصفات العامة لشخصية شعرية ( موغلة في الشاعرية بما هو الاحساس المرهف ) وفق ما صاغه لها الوعي السائد و التي لم يسع أغلب الشعراء على تقويضها أو تعديها بل حافظوا عليها بطريقة أو بأخرى و لعل هذه هي السمات الغالبة على كل الشخوص التي تقدمها باسمة العنزي في كتابها «يُغلق على حجر «، انها تقدم شخوصها و تجعلهم في حالة تناسب واقعهم و لأنهم يحتكمون الى واقع متأزم وعلاقات مرتبكة تجاه العالم الذي يعيشونه فان هذه الشخوص تبدو متأثرة جدا ببيئتها و تحاول التأقلم بخجل و ارتباك مع عوالمها.. و هذا ما يجعل من هذه الشخصيات في مجملها تصارع أقدارها و عندما تعجز فانها تطلق للأحلام العنان لتقفز على معوقاتها.. و لذلك بدت «حصّة» الفتاة الصغيرة الخرساء ( في قصة «حصّة النائية»ص 15 ) التي أصيبت بصدمة اثر حادث أليم توفيت فيه أمها وأيضا أخيها و انتهت مع أب فقير و محبط فانها لا تملك غير أن تتحوّل كل ليلة الى جنيّة طيّبة لامرئية تنتقل بين منازل الفقراء و المهمّشين لخدمتهم و التخفيف من معاناتهم و مساعدتهم على مواجهة صعاب حياتهم..نلاحظ ان «حصّة» الفتاة البريئة و الصغيرة و الخرساء تتحوّل الى ملاك ينشر الفرح بين الناس، كأنها إله يريد ترميم واقع بائس و يبشّر بالخير و يقود الناس الى عالم أفضل..
شخوص أخرى تحلم مثل الطفلة «حصّة» بعالم أفضل من بينها «نثّاج» مثلا ( في قصة «لعنة نثّاج «ص 69 ) يحلم أن يتحرّر من اسمه لينعتق من الأحكام الاجتماعية التي سُجن فيه بسبب الجهل المترسّب في قاع الوعي الجمعي للمهمّشين و المحقورين..
أيضا السارد في قصة «خليّ البال» ( ص 83 ) و الذي يحلم أن تصل رسالته الى أصحابها و يظل ينتظر الرد بقلب واجف.
بنفس الرهافة و القدرة من الحلم نجد الفتاة بطلة قصة «سبعة أغصان»(ص53) تقرّر الرحيل عن بيت العائلة و تتركه لتنهشه الورثة و تسافر بحثا عن انسجامها في مكان ما…
على غرار هذه الشخوص يمكن أن نحدد الملامح العامة «للشخصية القاعدية «ان صح استئجار هذا المفهوم من الحقل السوسيولوجي و الاستعانة به في قراءة قصص باسمة العنزي أي تحديد الملامح التي توحّد كل شخوص قصص الكاتبة في الغالب فنلاحظ انها شخوص رهيفة موغلة في الاحساس تحمل جرحا في أعماقها و تُحلم النفس بعالم أفضل، و أضيف اني أجد هذه الشخصيات رغم ملامح الضعف والعجز في مواجهة أقدارها الاجتماعية و الميتافزيزيقية الا اني أجدها شخصيات ايجابية لأنها تضجّ بالخير و تسعى للتصالح مع ذاتها و التواصل مع عالمها وهي في ذلك تبتعد عن المواجهة العنيفة و تختار الحلم كأكثر الأشكال سلمية لمواجهة الظلم و العنصرية و الرداءة، و لذلك نجد هذه الشخوص تحدث القارئ عن أحلامها بصوت مرتفع و لعلها طريقة ذكية لاستدراج القارئ أن يحلم معها أيضا و من ثمة تتسرّب ثقافة الحلم بما هي ثقافة تؤسس لثقافة بديلة ضد ثقافة اليأس و الاحباط التي يغذّيها الجهل و الظلم و الاستبداد و من هذا المنطلق نتحدث عن شعرية هذه الشخوص الرهيفة و الخيّرة و الحالمة فكأنها شخوص تبدو خارجة من قصائد لتؤسس لعالم أفضل.
شعرية السرد:
إن اللغة القصصية/ الشعرية عند باسمة العنزي تتمثل من خلال التلاعب بالنظام اللغوي بين الايحائية و المعيارية فتجعل اللغة توحي بحالات الحزن و الاحباط و الألم, بمعنى ان الشعرية السردية تبدو في استعمالها المجاز و توظيفها لصور استعارية، يكفي أان تفتح الكتاب على أية صفحة حتى تنساب أنهار من القصائد المبثوثة في كل مكان من صفحات السرد من ذلك ما تقوله :
«الأبواب لا تفتح عادة لذوي الأسماء الباهتة الآتية من خارج سور الحظ و الثروة و لهث أصحابها في دروب التمرّد» أو قولها ايضا «يتمنون الهداية للابن الشارد بعيدا عن كثبان الاهل»( ص 72 ).
«أن تنتظر عشرين عاما يعني أن تودّع شبابها المحبوس في قنينة»ص 76
«لكن شهقة الألم لا تصل.. دموعه تفسر على أنها حزن النجوم الآفلة تتدافع الفرائس في شرك الحيرة تنكمش أعضاء جسده الضئيل».ص 22
«صحراء شاسعة تبتلع حزن الشمس وقت غربها, تهدي عراءها للحافلات و الأرصفة يقال انها غدرت بعائلة «بوفالح» في الصيف الكثر قسوة قبل عشرين عاما».ص 65
«في أماسي العيد و الأيام السعيدة و البرد الجميل يبدأ بمصافحة كفوف الحنين».
تبدو القاصة باسمة العنزي في كتابتها السردية ترشح بالشعرية فكأني أجدها شاعرة قد أخطأت طريقها الى القص، بل لا أغالي ان قلت اننا أحيانا نعثر على قصائد نثرية مبثوثة بين سهول السرد فبوصفي قارئة يكفي ان أعامل الجملة السردية بعقلية نثرية و أغيّر في التوزيع البصري للنصوص حتى أحصل على نص نثري ممكن من ذلك الفقرة السردية ص 53 ( من قصة «سبعة أغصان» ):
في مستشفى الطب النفسي
يطرق الباب برقة..
تهتز علب الليثيوم في غرف الممرضات,
في الداخل
ثمة رجل يسعل
و لا يتواصل مع من حوله
نظراته كالزجاج المهشّم.
أو قولها ص 54 ( من قصة «سبعة أغصان «):
الهواء الثقيل المحبوس بين الجدران الأربعة
لن يجد مخرجا
كل شيئ مدعو الى جمود أبدي
رنين الهاتف يثير غضبها
لن تجيب..
أو قولها ص 53 مع تصرّف بسيط يقتضيه طبيعة النص المفترض:
كل مساء يضعون قلوبهم قرب أحذيتهم المتّسخة
في الصباح ينظفون أحذيتهم يبتلعون قلوبهم اليابسة
و يمضون في اتساخ جديد.
بل لا أجد نفسي أجازف ان قلت اننا يمكن ان نجد قصائد قصيرة جدا تقترب كثيرا من الهايكو عندما تقول مثلا في ص
لا يملك أصحاب ساعات السواتش البلاستيكية
همّ الزمن و المواعيد المجدولة.
و لعل هذه الجمل السردية التي تقترب من الهايكو تكون كذلك فعلا في قولها ( ص 34):
التّين في اللوحة سئم سكونه.
او قولها ( ص 66) من قصة «مفتاح صدئ «:
«لا جديد «تهمس الستائر للنوافذ ساخرة .
القفلة:
يبدو ان القاصة الكويتية باسمة العنزي تميل في قصصها أن تربك القارئ بمواضيعها فاختارت الكتابة بماهي كشف عن المهمّشين وهي لا تقدم ذلك في أسلوب سردي هادئ و انما اختارت مرّات كثيرة أن تهزّ قارئها بخواتم مفاجئة و صادمة و مخيّبة لأفق انتظار القارئ لقصصها و كأنها طريقة أخرى لتهزّ الطمأنينة التي قد يهنأ بها القارئ و تطوّح بالقارئ بعيدا عن المتوقّع و بالتالي تنتهي العنزي الى قصص واخزة و محيّرة و مدهشة و كأنها تعتبر الكتابة لحظة ازعاج للقارئ لذلك يبدو انها تتسلّح بمطرقة نيتشة الذي يرفض الهدوء و الطمأنينة الزائفة و يدفع قارئه الى أقصى تخوم القلق والحيرة.
في قصة «يذبل التين» (ص 33)، و في قصة «ألعاب نارية» (ص 39) و لعل أكثرها اثارة بالنسبة لي قصة «شيخة السراب» (ص 75) حيت تقدم القاصّة باسمة العنزي لوحة عن الحياة الاجتماعية في الكويت تزخر بالأحكام الجاهزة و تثقل بالعادات و التقاليد التي يسوسها وعيا ذكوريا كأن يكون زواج البنت «سترة» لها و يتقدم الب الى غرفة ابنته التي تتبعه والكلمات تتداعى في مقدمة طويلة عن أهمية العادات و التقاليد و تجهّز كلمتها لتقول له فقط «أرجوك أبي, لا أريد الزواج الآن «و يسبقها الأب أنه جاء ينصحها ان لا تدخل كلية الهندسة المختلطة و أن تتريث اكثر في اختياراتها الجامعية.
شخصيا كنت أتوقع أن يضعف الأب أمام الأكداس المتكلّسة للوعي السائد و جبال الأحكام الجاهزة
و أن ترضخ البنت لسطوة الأب و لكن تعصف الكاتبة بانتظارات القارئ و تنتصر لحق البنت في الدراسة يما يعكس الخلفية الفكرية التي تنطلق منها الكاتبة و التي تتماهى و دور الكتابة بما هي الانتصار للوعي ضد الجهل و للخير ضد الجهل و تؤسس لثقافة الحياة ضد عقلية الموت.
ما يقترب من النقد:
لعل أشد ما لفت انتباهي في الكتاب القصصي لباسمة العنزي هي الكتابة وفق روح شعرية جميلة لعلها تتنزّل في اطار انفتاح الأجناس على بعضها بما يثري كل جنس و يزيد في عمقه، فمن الطبيعي بل لعله من الواجب أن تنفتح القصة على الشعر و تنفتح الرواية على السينما وينفتح المسرح على الرقص الخ.. و لعله نلاحظ ان الكتابة الحديثة الآن ينفتح فيها السرد على الشعر وعلى الغناء و على الزجل و لذلك يحسب لباسمة العنزي تأثّرها بالكتابة الشعرية على مستوى الانحيازات و التكثيف اللغوي و الصور بما يجعل من قصصها ذات نكهة لذيذة، و لكن انفتاح السرد على الشعر يحمل نوعا من المجازفة فهي و إن كانت يمكن أن توظف لاثراء النص و جماليته فانها أيضا يمكن أن تؤدي به الى الهلاك و ذلك عندما يقترب النص من الشعرية الى حد الذي يقطع الخيوط التي تشدّه الى الحقل القصصي و تتوه به في منطقة أخرى هي أدب الكيتش بما هي تلك الكتابة السردية التي تبالغ كثيرا في شعريتها حتى انها تتحول الى لغة فضفاضة مزوّقة تعوّض فقرها الداخلي و ضحالتها بتلك الهالة من الجمل الاستعارية و اللغة المنمّقة كأسلوب لاستدراج القارئ و ايهامه بقوة النص و قد كتب عن هذا الدكتور و الشاعر التونسي المنصف الوهايبي في تفكيكه و شرحه لكتابات أحلام مستغانمي الذي يعتبرها لم تتخلّص من سطوة شعرية نزار قباني مما اوقعها حسب رأيه في الكتابة «الكيتشية « بما هي تجميل مفرط للواقع يؤدي الى الابتعاد عنه و يوضّح الدكتور الوهايبي ذلك بقوله «على أساس من تجميع الكلمات بطريقة الكيتش، حيث كلمة من الشرق وأخرى من الغرب، فمحاولة صهرهما في تركيب بالنعت أو بالإضافة: «أحزاب البكاء/لغم الحب /منصة السعادة/مساء الولع/ شهقة الفتحة..» ( 2 )
تبدو القاصة باسمة العنزي تحذق اللعب داخل اللغة و تتعامل معها وفق قواعد الكتابة الجميلة التي قد تنفتح على انماط أدبية اخرى دون مبالغة و هذا يحسب لها و لعل الحذر واجب حتى لا يأخذ اللعب داخل اللغة الى حقل الكيتش فتضيع منها قصصها الجميلة.
بقيت ملاحظة أخيرة ان تتحكّم القاصة في عناوين قصصها فان كان يبدو طريفا ان تقسم القصص الى منازل وفق ترقيم ما ( منزل رقم 20 / منزل رقم 21.. الخ ) و تحت كل ترقيم عنوان مثل «جنيّة الفرح «او «الشاهين في مربطه «أو «حين ينمو الشوك «فقد بدا ثقيلا ان تضيف عنوانا ثالثا لكل قصة كأن تقول «البيوت الدامعة تطوي تارخها «أو «حصة النائية «أو «مربط الصخور»…
غير هذا أجد تجربة الكتابة عند القاصة الكويتية باسمة العنزي جميلة و ثرية تستحق الاهتمام و تشي بموهبة يمكنها التطور و الاضافة الى المشهد الادبي الكويتي خاصة و العربي عامة.
===
المصدر:
يُغلق على ضجر / باسمة العنزي
– دار الفارابي بيروت / دار الفراشة للنشر و التوزيع 2010
الاحالات:
دراسات في النقد الادبي الحديث / د. محمد صلاح زكي ابو حميدة
(2 )
مقالة أدب الكيتش: أحلام مستغانمي / بقلم النصف الوهايبي