لإزالة العفن، والبقع، والروائح السيئة، ولمزيد من التعقيم والتلميع والتبييض، تنقع بدرية الإسماعيلي حيوات أبطالها في الكثير من الملح. «ملح» هو عنوان مجموعتها القصصية الأولى التي تشاطرت بطولتها القرية والمدينة. صدرت ضمن البرنامج الوطني لدعم الكتاب عبر مؤسسة الانتشار العربي. هكذا تجعل بدرية من المادة المُطهرة المُعقمة الطبيعية معادلا موضوعيا لدناسة البشر وقدراتهم، أو لعلها أرادته ضمادا لجراحها وأوجاعها، ومخففا لالتهاباتها واحتقاناتها.
نتعرف عبر هذه المجموعة القصصية على جملة من النساء اللواتي أظن أنهن في أمس الحاجة لـ «الملح». شخصيات تراوغ حول منطقة العبث. ذاك العبث المجاني الذي لا شيء يضبط إيقاعه، فهو منفلت وجامح.
الرجال ليس لديهم علاقة ثمينة بشيء كما يبدو من قصص هذه المجموعة، فكل شيء مُتاح على مداه الشاسع، والمتعة هي التي تحدد مسار خططهم، فهنالك هدف واضح، مبتغى، بينما تُفكر المرأة دائما في العبث كوسيلة تؤدي إلى الهدف. فالمرأة عندما تكتشف أنّ الرجل الذي أمامها لا يريدها هي لأجلها هي وإنما لرغبات التغيير والتبجح بها أمام الأصدقاء، فهي قد تدلق الشاي على دشداشته وتبكي كما حصل في قصة «مجنونة»، «انتبهتُ إلى عينيه تلتهمان أصابعها. فركت يديها بحرج الأنثى عندما تتعرى أمام غريب».
حتى الفتاة القادمة من البلد، في قصة «استثناء». الراغبة بالانخراط في حياة المدينة. راغبة بحياة الصخب والمواعيد والحرية. حتى أن زيارة الوالد القروي لها في مقر عملها أربكتها وخدشت اتساقها مع فكرة التمدن. فقد اقتحم الحاجز الذي ظلت تلف نفسها به طويلا وقد استطاعت أن تحقق الحد الأدنى من الاستقرار النفسي. فهنالك فرق هائل بين المدينة والقرية، فالقرية بعد لا تستوعب بذخ الماكياج والكعب العالي كما لا تستوعب خصلات الشعر الملونة بالأحمر الفاقع المتهدلة على جانبيّ وجهها ولا العباءات الملتصقة بالجسد.
ولكن هذه المرأة الفارة من القرية تستطيع بواسطة المال والمال وحده أن تبعد شبح والدها. ذاك الذي يُمثل صلتها بالقرية. وهي تعبر عن استقلاليتها المادية وقدرتها على الانفصال عن القرية بقرار شخصي. ورغم كل هذه القوة التي تبدو عليها من الرسم الخارجي إلا أنها أيضا ليست خارج لعبة العبث، فموظف الاستقبال يُذكرها بموعده الغرامي ما أن ينصرف والدها، وكأن القرى في صور بدرية الاسماعيلي هي المرايا الأخيرة للنقاء – أو على الأقل هذا ما تبدو عليه خارجيا- بينما المدن بحاجة للمزيد من رش الملح على فوضاها وتماهي قيمها.
في المدينة أيضا تلتقي قطع الأناناس بين شفتيّ الفتاة الجميلة وبين شاعر يتلو آخر أحرف القصيدة التي لم تكتمل بعد، في قصة «الأناناس» وما أن يُنجز كل منهما مهتمه بين أكل الأناناس و إلقاء القصيدة حتى يلتقيان لينعما ببعضهما. لكن الفتاة صاحبة الأناناس، وما أن تنهي مهمتها حتى تبدأ بإخفاء دخان سجائره الذي علق في ثيابها وذلك برش المزيد من العطر عليه.
كل هذا العبث يكبر في المدينة لا يُعلن عن نفسه صراحة بل يتوارى خلف أبواب مواربة، وإن بدت القشرة الخارجية لمثل هذه المجتمعات تسير وفق قيمها ومبادئها, إلا أنها تخفي تحت قشرتها الرقيقة أكثر مما تبدي. تلك الأشياء التي تبقى سرية بين اثنين. فهي «تحسست مكان القُبلة وشعرت بفراشة تستعد للطيران». بينما هو «تحسس أصابعه وقد علق بها طعم ثدييها، فما كان منه إلا أن أخفى طعمها بالسيجارة الألف». وهنا نكتشف الفرق الهائل بينهما. الرجل والمرأة. فالمرأة ترتعش أمام فكرة وتفصيل – وإن تقاطع فيه الجانب المادي بالجانب المعنوي- ينمو ويكبر ويتصاعد في مخيلتها إلى أن تتحول إلى فراشة. بينما الرجل يبقى رهن الجانب المادي والمحسوس في نظرته للمرأة.
بل إن حتى «كومار» الهندي الذي يدخر المال وكابد الاغتراب وفراق الأهل لأجله، هو الآخر كان راغبا بالدخول إلى عبث المدينة. راغبا في أن يكون جزءا من اللعبة، فكان راغبا بالحصول على فتاة من جانب فندق الشيراتون فور خروجه من السينما لابسا طقم الملابس المميز الذي اشتراه قبل ثلاثة أعياد. ولكن مع تقدم الليل تضاءلت فرصه أمام أعين الجميلات. هكذا شعر «كومار» فجأة أنه خارج اللعبة وأن المراهقين وأصحاب التكاسي خطفوا منه حلمه. ربما لأنهم ضمن شروط اللهو. بينما «كومار» لا يزال خارجها. فلا مانع لديهم من انفاق كل ما حصلوا عليه في نهارهم للحصول على أجساد أكثر بياضا مما هو موجود تحت أسقف منازلهم.
لم تأت قصص بدرية الإسماعيلي في السياق المعتاد. الذي يروج لضعف المرأة وجرها إلى مناطق من اللهو والعبث لا ترغب بها، وإنما كشفت لنا عن نساء يذهبن بأرجلهن وبإرادتهن الكاملة نحو اللهو، فهي أحيانا شريكا فيه، وأحيانا أخرى تبدو أكثر من ذلك فهي من تستفز وتحرض رغبة الرجل فيها.
ولكن هنالك أيضا نساء يذهبن إلى اللهو لأنهن يرتجفن من قطار العمر وهو يعبر فوقهن. يهمش طموحاتهن وأحلامهن، «ستظل تعيرني في كل ثانية بالقطار الذي سيفوتني وأنا سأدعو عليها في كل ثانية بأن يمر القطار ليهشم رأسها المنفوخ».
كما تكشف قصة «أنبوب» أنّ المرأة يمكن أن تكون ألد أعداء المرأة، والأكثر دراية بمواطن ضعفها. المرأة A275; ترغب في مواجهة تقدمها في العمر خصوصا عندما لا تكون متزوجة بينما تمر سنواتها بسلالة عندما يكون بصحبتها الرجل. لكن الرجل ربما لا يكابد ذات العناء. لذا يطول عبث الرجل، وتقل همة المرأة لأن تواصل في ذات الطريق.
كانت هنالك أيضا مرآة بمدخل بناية، تتمكن بدرية الإسماعيلي عبر هذه المرآة من تغيير علاقات البشر ببعضهم البعض. المرآة تستوقف الناس. بل المرآة تساعدهم على الضحك وعلى قول ما لديهم من حكايات. بل إنّ بعضهم دعا البعض الآخر لتناول القهوة. المرآة كشفت اسرارا كثيرة. وهناك من كان يصلح إزاره أمام المرآة، حتى القطة باتت تحك جلدها بحواف المرآة.
فكرت المرأة بخوف في قصة «شفاه مطبوعة»، ماذا لو أنّها اكتشفت القُبلة نفسها التي تعاونت هي وعشيقها على إزالتها عن ياقة قميصه مطبوعة على قميص زوجها؟ ترى ماذا كانت ستفعل. هكذا تضع الإسماعيلية بطلاتها في قلق السؤال، تضعهن في مواجهة ما يفعلن ماذا لو فُعل بهن كذا وكذا. فلسنا فقط أمام نموذج امرأة تكابد خيانات الزوج، بل زوجة تكابد قلق أن يكشف زوجها خيانتها.
وتزيد الإسماعيلية من جرعة العبث عندما تكشف عن خيانة يتواطأ عليها طرفان. يتفاهمان عليها بصمت تام. فالزوج يخون وهي تخون وكل منهما يبرر ذلك بخيانة الآخر له، وتستمر الحياة بينهما. بل ويصر كل منهما على إخفاء ما هو متأكد أصلا أنّ الآخر يعرفه. فالتصريح مُفجع، فحتى وإن كنا نعرف كل شيء، ينبغي أن لا نترك أثرا على الأقل. ربما يحصل ذلك ليرمما القشرة الخارجية التي تلف المجتمعات المحافظة. لنرمم أسباب بقاء زوجين تحت سقف واحد. «زوجي العزيز أتمنى في المرات القادمة أن تخفي آثار عربدتك قبل قدومك إلى المنزل».
حتى أنّ تلك المرأة التي يضربها زوجها السكير فتهرب وتعود بطفل لا يشبه لونها الأسمر حملت منه من خياط باكستاني. هذه القصة حدثت في القرية حيث افترضنا أن العبث فيها أقل من المدينة ولكنه عبث قليل الحيلة وقصير اليد وليس عبثا اختياريا نابعا من قرار.
تضع بدرية الإسماعيلي يدها على جرح آخر. الخطاب المُوجه للمرأة والذي للأسف لم يتجاوز جسدها، ولم يصعد إلى عقلها، كأنها لا تزال تلك الناقصة، التي ينبغي أن ينحصر دورها في «طاعة الزوج العمياء والغسل من الجنابة والحرام والحلال، والنامصة والمتنمصة ودم الحيض وارتداء الجوارب الخ»، وهو خطاب يُسبب الكثير من الانتكاسات للمرأة العربية ويُعيدها إلى قرون خلت، عندما يبقى مكتفا في هذه الخانة ولا يمكنه تجاوزها.
هكذا تنمو العلاقات في قصص بدرية الإسماعيلي فلا تبقى على نمط واحد ولا تسير على وتيرة واحدة بل تتبدل فقد استغنت الزوجة عن جميع الطقوس التي رافقتها في بداية الزواج من دهن العود ومساحيق ترتيب البشرة وقمصان النوم التي تبدي اكثر مما تخفي. لأنها تفعل ذلك ليس لأجل نفسها وإنما لأجل الآخر وعندما يكون تجاوب الآخر هزيلا فهي تهمل نفسها بل تموت أو تلجأ إلى نوع آخر من اللهو.