موقف ابن حزم من الفلسفة
«قراءة في رسالة الرد على الكندي الفيلسوف»
الايمان عند ابن حزم هو الإيمان بالكتاب والسنة دون أي أعمال للنظر العقلي فيما ينشأ من هذا الإيمان من مشكلات
يحتل ابن حزم الأندلسي مكانة مرموقة في تاريخ الفكر العربي الإسلامي الوسيط , فهو فضلاً عن كونه فقيهاً يعتد به إذ استن المذهب الظاهري، أديب ولغوي ومؤرخ أنساب، وكاتب في علم الطب. والذاكرة الشعبية ما زالت تحتفظ بما سطره في كتابه الجميل «طوق الحمامة».
وكان الغزالي قد أشار إلى فضله حين كتب عنه مادحاً: «وجدت في أسماء الله تعالى كتاباً لأبي محمد بن حزم يدل على حفظه وسيلان ذهنه»(1).
وجاء في نفح الطيب أن ابن حيان قال: «كان ابن حزم صاحب حديث وفقه وجدل وله كتب كثيرة في المنطق والفلسفة لم يخل فيها من غلط»(2).
وبين قول الغزالي وقول ابن حيان يتعرف المرء على شخصية يُختلف في شأنها، وهذا الأمر ما كان ليكون إلا لأن ابن حزم ذا شخصية متميزة أصيلة، بمعزل عن الموقف منه، بل إن اختلاف الناس في تقويم ابن حزم لدليل على ثراء هذا المفكر اللاهوتي كما أرى.
فليس من مهمة لابن حزم إلا الدفاع عن الترسيمات الدينية الإيمانية الشعبية. ودحض التفكير الفلسفي النظري واعتبار الفلاسفة خصوماً، ملاحدة، يجب الرد عليهم وتسفيههم.
وليس رسالة الرد على الكندي الفيلسوف إلا مظهر من مظاهر عداء ابن حزم للفلسفة.
أما كتاب «الفصل في الأهواء والملل والنحل» فهو أهم معلم من معالم لاهوت ابن حزم.
وإنما نسعى في بحثنا هذا إلى النظر في موقف ابن حزم من الفلسفة قارئين رسالته في الرد على الكندي.والكندي هذا يمثل باكورة التفلسف العربي الذي لم يصل إلى الحد الذي وصل إليه ابن سينا أو ابن رشد، ومع ذلك كانت دريئة وجه إليها ابن حزم سهامه، ليدحض التفكير الفلسفي عموماً في النظر إلى مشكلات الله والعالم والعقل.
فلنتأمل أولاً الوصف الذي خلصه صاحب «طوق الحمامة» على الكندي حين قال بحقه: «لا شك إنه غير صحيح الإيمان، غير عالم بربه، غير ذي بصيرة في شيء، لأنه تناقض في كلامه، واضطرب اضطراباً يخبر أنه لم يحصل على ما يقول»(3).
إذاً الكندي: غير «صحيح الإيمان»، «غير عالم بربه»، «غير ذي بصيرة» بل و«جاهل».
أوصاف كهذه إذا قيلت بحق الفيلسوف الكندي، فإنها ولا شك تنسحب على كل فيلسوف من الفلاسفة العرب. فما يصح من نقد للكندي يصح أيضاً على الفارابي وابن سينا وابن ماجه وابن طفيل وابن رشد… إلخ.
فالفيلسوف بعامة والأمر كذلك ليس بصحيح الإيمان، وما الإيمان عند ابن حزم إلا الإيمان بالكتاب والسنة دون أي إعمال للنظر العقلي فيما ينشأ من هذا الإيمان من مشكلات.
يضيف ابن حزم «وأول ذلك العلة المعلول الذي كفر بهما في كتابه في التوحيد.. فبعد أن أوجب الإيمان التام الجيد، ونفى عن التوحيد كل ما ينقضه من المضاف والنوع والجنس وسائر المقولات، زعم أن الواحد علة ما خلق. والعلة لا تكون إلا جنساً، والعلة لا تكون إلا مضافة.
والعلة من كل جهة لا تكون من الوحدة الصحيحة في قوله وما أوجب لسانه، فحسب بهذا عياً وكفراً وضلالاً(4).
وهكذا أضاف إلى الأوصاف التي خلعها على الكندي سابقاً صفتين أخريين: الكفر والضلال.
ثم يقول في وضع آخر: «أخشى أن يكون هذا الكندي شقياً زندقياً يوقع غيره فيما وقع فيه، ويرى مثله ممن أراد الله هلاكه، إن البراهين تتناقض في إثبات التوحيد، كيف هي وكيف تثبت، وأنها لا تصح إلا بهذه الشرائط، ثم اتبع ذلك بأن لا بد للعالم من علة، وإنه لا علة إلا خالقة، ينقض بذلك الصفة التي هي التوحيد، فيرى أن الوحدة غير موجودة وغير قائمة، فإن كانت هذه بصيرته وإياها قصد، فما أرى في جهنم أسفل درجة منه وإن لم يكن قصدها فالشيخ (أي إبليس) دبرها على لسانه فهو أسفل سافلين»(5).
نخلص إلى القول: إن الفيلسوف، من وجهة نظر ابن حزم , زنديق كافر ضال، مآله إلى جهنم مع إبليس. وكأن إبليس هذا هو الذي يتحدث الفلاسفة باسمه، فضلهم ضلالاً مبيناً.
تذكرنا هذه الشتائم للفيلسوف بشتائم الغزالي له في كتابه تهافت الفلاسفة، فليرجع إليه من يريد الاستزادة.
ولا شك عندي أن ابن حزم مارس الإرهاب على الفيلسوف.
فأي خطر على الفيلسوف في ذلك العصر وفي عصرنا أكبر من خطر وصفه بالكفر والزندقة والضلال، وإيهام العامة أنه قائم في الآخرة في قاع جهنم.
والحق أن هذه الكلمات الإرهابية لا تصد الفيلسوف بل العوام أو الناس الذين يخشى عليهم من أن ينظروا نظر الفيلسوف. إنه إرهاب يمتد إلى العامة كافة.
لندع هذه الشتائم الحزمية بحق الفيلسوف ولندخل في صلب المشكلة ونتساءل: كيف دحض «صحيح الإيمان» ابن حزم «فاسد الإيمان» الكندي الفيلسوف؟.
يقول ابن حزم «لا نقول في الباري عز وجل كما قال يعقوب بن إسحاق: إنه علة فنقض واحديته. وهدم بناءه، وكذّب نفسه في المقدمات التي برهنها في بدء أقاويله، وزلت قدمه فهوى.. إذ ليست العلة علة معقولة إلا لمعلول، ولا لمعلول معلول إلا لعلة بالقول إلى مضاف اضطراراً. فتوهم السامع أن خالقه مضاف إلى معلول بغير إطلاق، تعالى ربنا عن ذلك وتقدس»(6).
في البدء يجب أن نشير إلى أن الله عند الكندي ليس مقولة ولا عنصراً ولا جنساً ولا نوعاً ولا شخصاً فصلاً ولا خاصة.. إنه مع سلب الصفات. إنه الواحد الحق الأول.
لكن خطأه كما يرى ابن حزم أنه جعل من الله علة، لأن الله كما يرى هذا المفكر الأندلسي هو «الأحد الأول الصمد المبدع للعلل وهو الذي ابتدع جميع المعلولات لأجل تلك العلل التي نبعت منه(7).
والذي جعل ابن حزم يرفض قول الكندي بأن الله علة، هو النتيجة المترتبة على العلاقة بين العلة والمعلول.
فمن المعروف أن الكندي أقر بأن الله خالق الوجود من العدم (تأييس الإيسات عن ليس)، لكن هذا لم يشفع للكندي عند ابن حزم وسبب ذلك أن قول الكندي بأن علاقة الله بالعالم علاقة علة بمعلول من شأنه أن يضفي صفة الضرورة عن علاقة الله بالعالم، لما ينتج من ضرورة بين العلة والمعلول، ولهذا قال ابن حزم: «إن اسم العلة فيه معنى الضرورة إلى معلولها، والمعلول محمول على العلة فهما مضافان مضطران متصلان غير مفترقين ولا غنين لحاجة كل منهما إلى صاحبه، وليس هذه صفة الخالق كان قبل أن يبدع شيئاً غنياً عن كل شيء»(8).
ومعنى هذا، أنه إذا كانت هناك علاقة ضرورية بين العلة والمعلول فالله ليس حراً في خلق معلولاته، وبالتالي نفيت صفة الحرية عن الله. لأن الله إذ ذاك يخلق مضطراً.
وابن حزم لا يرفض هذه النتيجة لأنها غير ناتجة منطقياً عن علاقة العلة بالمعلول، بل لأنها غير منسجمة مع المفهوم الديني الإسلامي للإله، ولأنها متناقضة أصلاً معه.
فالله الديني «ليس كمثله شيء، هو الخالق وما سواه مخلوق، وهو المختار وما سواه مضطر، ولذا لا تلحقه الأسماء المجازية والخفية لحوق اللزوم والتفرد في العقول العالمة به عز وجل»(9).
الله هو المختار وما سواه مضطر هي نقطة الانطلاق في الوعي الديني لعلاقة الله بالعالم. لأنه في الاضطرار نقص. والكامل لا يمكن أن يكون مضطراً. بل حراً وبشكل مطلق.
ولهذا فهو إن أراد شيئاً إنما يقول لـه كن فيكون..
هذا التصور للإله الحر يقع خارج الترابط الضروري بين العلة والمعلول. الذي تقول به الفلاسفة أو بعضهم.
فضلاً عن ذلك فإن ابن حزم إن وافق الكندي على تصوره لعلاقة الله بالعالم بوصفها علاقة علة بمعلول، فإنه سيوافقه على فكرة قدم العالم.
فالفلاسفة المسلمون أقروا بالأولوية المنطقية لله على العالم، دون الأولوية الزمانية. فالعلة غير متقدمة بالزمان على المعلول وبهذا الصدد يقول التوحيدي: «العلة قبل المعلول لا دخل للزمان فيه. وكذلك قول النحويين الاسم قبل الفعل لا يتضمن معنى الزمان»(10).
ويقول السهروري: للعلة على المعلوم تقدم عقلي لا زماني، وقد يكون في الزمان معاً، ويضيف أن العلة تتقدم على المعلول بالوجود(11).
كما لخص علاء الدين الطوسي رأي الفلاسفة في العلة وذلك في كتابة تهافت الفلسفة قائلاً: «أما الفلاسفة فإنهم ذهبوا إلى أن الموجودات، من حيث ذواتها، بعضها علة حقيقية لبعض. وأثبتوا بين الممكنات أيضاً تلك العلية، فكلهم متفقون على أن العلة الأولى هي واجب الوجود»(12).
والحق أن جميع الفقهاء يرفضون فكرة قدم العالم، فقد رفضه الغزالي أيضاً، ومن الطبيعي أن يرفضها ابن حزم كذلك.
ترى لماذا رفضت فكرة قدم العالم مع الله؟ومن قبل الفقهاء؟ لسبب بسيط، وهو أنه إذا كان العالم قديماً مع الله فالعالم إذاً غير مسبوق بعدم وبالتالي لا بداية لوجوده. فالعالم إذن أزلي. فهو إذاً لم يزل موجوداً مع الله ومعلولاً له، ومساوقاً له، غير متأخر عنه بالزمان مساوقة المعلول للعلة ومساوقة النور للشمس(13).
إن تصوير علاقة الله بالعالم كعلاقة الشمس بنورها، تختصر التصور الفلسفي الإسلامي بمسألة قدم العالم. فنور الشمس صادر عن الشمس صدوراً ضرورياً وليس هناك تقدم للشمس على نورها إلا بتقدم علة الشمس على معلولها النور منطقياً وليس زمانياً. فنور الشمس قديم مع الشمس يلازمها.
والحق أن نظرية الفيض الفارابية والسينوية والتي أخذاها عن أفلوطين، إنما لتأكيد هذه العلاقة الضرورية بين الله والعالم ولتجاوز معضلة الخلق من العدم.
ولكن هناك في النهاية علاقة بين الله والعالم، فكيف ينظر ابن حزم لهذه العلاقة كنقيض للعلاقة التي يتصورها الفلاسفة؟
يقول ابن حزم: «فإن سأل سائل عن تلك العلل الموصوفة البسيطة السابقة لتهوية المتهويات، قيل له: الاستقصات الأربع الخارجة من عنده التي هي للخلق موضوعة منفعلة، بعد إذ هي لا كائنة ولا موجودة، فهي الاستقصات الأربع المتهوية المتأيسة في المكان الجامع لها، وهي الطبائع الأربع السابقة للخلق من ربها عز وجل: الأرض والماء والنار والهواء، لتهوية جميع التهويات في المكان الجامع»(14).
إذاً التصور الأول عند ابن حزم هو التالي: الأرض والماء والهواء والنار هذه الاستقصات الأربع، أول الموجودات التي وجدت بعد أن لم تكن موجودة طبعاً أوجدها الله. وهذه بدورها صارت عللاً. والله ليس علة لهذه العلل «فالله تعالى لا علة، إذ ليس مشتركاً معها في الاسم ولا في المعنى وإذ هي بالفصل بائنة عنه لأن الفصل غاية لها، وهو لا غاية له عز وجل».
فالله لا يفعل لغاية، أيضاً، لأنه لو فعل لغاية انتقل من حال إلى حال.
وليس المعلولات إلا اضطراراً العلل لبعضها، لأننا نرى الأربعة في المعلول المركب مبنية بوزن العدل.
خلاصة القول «إن تعلم أنه ليس شيء من المعلولات كائناً إلا لعلة موضوعة، وضعها منه تعالى أن يكون علة أو معلولاً، ولكن كل شيء كان فلعلةٍ موضوعة كان، وجب عند الله عز وجل أن يكون المعلول من أجلها كائناً، لأن الله عز وجل تعالى وتقدس وتنزه عن أن يضع نفسه ليكون من أجله شيء»(14).
ثم نتساءل مع ابن حزم هل كان العالم ممكناً قبل أن يكون.
والحق إن جميع الفلاسفة بما فيهم الكندي، قالوا بالإمكان.
فالفاعل الأول فعل فعلاً كان ممكناً أن يكون قبل كونه، كما يرى ابن حزم. لأن الإمكان واجب قبل الفعل لا محالة. إنه عند ابن حزم أيضاً هو البون الأكبر بين الفاعل والمفعول. لكن الإمكان لا يجوز كما يرى أن يكون الانفعال التام المقدر المفروغ منه لأن الانفعال عن إمكان ضرورة. والمفعول القائم عن انفعال يكون أيضاً ضرورة متتابعاً.
فإذا لم يكن الإمكان ضرورة، فما هو إذاً: الإمكان عند ابن حزم هي الإرادة، هي الملك، هي العرش، وهو الغاية القصوى والنهاية العظمى والفصل الأكبر وهو الحق المحيط بالكل وهو الملأ الأعلى والنور الأعظم والحجاب الأرفع المضروب بين الخالق وخلقه… هو العلم والكرسي القائم تحت عرش الرحمن(15).
فليس بالإمكان عند ابن حزم إلا الإرادة أو كما يقول الإمكان هي الإرادة الجامعة لكل مراد من المنفصل والمفعول.
هل هذا يعني أن الإمكان توسط بين الله والعالم، ربما، لأن الإمكان كما يفهمه ابن حزم هو العرش والذي تحته حركة انفصال الزمان (16).
وتحت الزمان حركة المفعولات المكونات التامة الأوقات والسنون والأيام. والزمان نهاية السنين والأيام والدهر نهاية الزمان (17).
والحق أن أحدا من الفلاسفة لم يذهب هذا المذهب في الإمكان.
فلو نظرنا إلى الإمكان عند ابن رشد مثلاً لما وجدنا إلا الإمكان بوصفه تقديم خروج الشيء إلى الفعل، أي وجود الشيء الممكن، ومن يسلم أن العالم كان قبل أن يوجد ممكناً إمكاناً لم يزل فإنه يلزمه أن يكون العالم أزلياً لأن ما لم يزل ممكناً ان وضع أنه لم يزل موجوداً لم يكن يلزم عن إزالة محال، وما كان ممكناً أن يكون أزلياً فوجب أن يكون أزلياً، لأن الذي يمكن فيه أن يقبل الأزلية لا يمكن فيه أن يكون فاسداً إلا لو أمكن أن يعود الفاسد أزلياً.
والإمكان أيضاً عند الفلاسفة وعند ابن رشد هو الوجود بالقوة، ونقيضه الممتنع. ثم يتحدث ابن رشد على الإمكان الفاعل والكامل والمنفعل.
من كل ما سبق نرى أن ابن حزم لكي يظل متناسقاً مع نفسه في أن الفاعل لا بفعل من ضرورة، وليس علة للمعلولات، فإنه يرى في الإمكان ما لم يره أحد من الفلاسفة، ببساطة إنه تفسير لا هوائي للإمكان.
ولهذا فلابن حزم نص آخر يسميه زيادة تبين على من ألحد في أسماء الله فسمى ربه علة. يعيد ويكرر ليدلل أن الله ليس علة بل هو خالق العلل، إن أراد شيئاً قال له «كن فيكون»، فإن أراد ربنا شيئاً كان يقول كن فيكون كائناً (18) .
ولسنا نحتاج إلى مزيد للقول في هذا.
وابن حزم الظاهري ليس ظاهرياً في الفقه فحسب، وظاهرياً بالنظرة إلى العالم أيضاً. سأقتطف من حوارٍ أجراه ابن حزم مع رجل على قول الدهرية.
ابن حزم: هل تعرف شيئاً إلا ما يعرفه عقلك، أو عندك شيء آخر تعرف به وتنكر الدهري: ما أعرف إلا ما عرفه عقلي.
فما عرفه العقل فهو المعروف المقر به.
فما لا يعرفه العقل إذاً هو المنكر، والمنكر أصل لذي لا برهان عليه؟.
نعم
والمنكر باطل
نعم
فهل يعرف العقل شيئاً لا نهاية له.
لا يعرف العقل إلا ما له نهاية في جسمه.
فإني أجمع لكل كل ما مضى: لا يخلو قولك وقول أصحابك من أن نقول: إن العقل الغاية أو فوق غاية فإن قلت هو الغاية قلت لك فهو متحرك، والحركة لا تكون إلا في مكان، والمكان لا يكون إلا في مكان إلى ما لا نهاية له.
فالعقل ينكر هذا. وإن قلت عقلي متحرك، فإنه جسم، والجسم لا يكون إلا في جسم إلا ما لا نهاية. وإن قلت فوقه غاية قلت لك: ما تلك الغاية التي فوقه، أتشبهه أم لا تشبهه؟ فإن قلت تشبهه: فهي جسم، فهي إذاً في جسم، فرجعت إلى سيرتك الأولى، وإن قلت لا تشبهه قلت لك: فإن العقل لا يجد مثلاً إلا ما يشاهده، ولم يشاهد إلا الأجسام، فإذا أجبت بشيء تزعم أنك تجد مثاله وهو خلاف المثال أنكره العقل، وما أنكر العقل فهو باطل (19).
وعلى هذا المنوال يستمر الحوار.
فالعقل بهذا المعنى إنما يعقل الأشياء الموجودة أو صفات الأشياء والذي يستدل به على حقائق كيفيات الأمور وتميز المحال منها.. أو إن شئت معرفة ما خلق الله تعالى.
ولهذا فإن ابن حزم يرفض علم الكلام كما الفلسفة، والتصوف. أو الميتافيزيقا بعامة، لأنها تبحث فيما وراء الطبيعة أو الأشياء غير الكائنة.
لكن للعقل أيضاً وظيفة هي فهم أوامر الله تعالى أي النص عند ابن حزم.
ولهذا لا نجد عند ابن حزم مشكلة النقل والعقل والتي نجدها عند الفارابي وابن سينا وذروتها عند ابن رشد.
لأنه ليس محتاجاً بالأصل إلى هذه التفرقة، وآية ذلك أنه أعلن بكل صراحة: «إن دين الله تعالى ظاهر لا باطن فيه، وجهراً لا سر تحته، كله برهان، لا مسامحة فيه واتهم، كل من يدعو أن يتبع بلا برهان، وكل من ادعى للديانة سراً وباطناً فهي دعاوى مخارق، واعلموا أن رسول الله (ص) لم يكتم من الشريعة كلمة فما فوقها، ولا أطلع أخص الناس به من زوجة أو عم أو ابن عم أو صاحب، على شيء من الشريعة كتمه عن الأحمر والأسود ورعاة الغنم، ولا كان عنده، عليه السلام، سر ولا رمز، ولا باطن غير ما دعا إليه الناس كلهم إليه.
ولو كتم شيئاً لما بلّغ كما أمر، ومن قال هذا فهو كافر، فإياكم وكل قول لم يبن سبيله ولا وضح دليله وجملة الخير كله أن تلتزموا ما نص عليكم ربكم تعالى في القرآن بلسان عربي مبين لم يفرط فيه من شيء تبياناً لكل شيء، وما صح عن نبيكم (ص) برواية الثقاة من أئمة أصحاب الحديث رضي الله عنهم مسند إليه عليه السلام. فهما طريقتان يوصلانكم إلى رضى ربكم عز وجل (20).
والحق إن الاختلاف بين الفلسفة واللاهوت اختلاف لا حل له سوى أن لا يتدخل أحد الطرفين بشؤون الآخر , وبخاصة تدخلاً نافياً .
الهوامش:
(1) رسائل ابن حزم، بيروت، 1983، ص 70.
(2) الرسائل، ص 371.
(3) التوحيدي، المناسبات، بلا تاريخ، ص 154.
(4) انظر، موسوعة المصطلحات الفلسفية عند العرب، بيروت 1998، ص 502 503.
(5) المرجع السابق، ص 53.
(6) المرجع السابق ص 622.
(7) الرسائل، ص 371.
(8) الرسائل ص 375.
(9) الرسائل، ص 376.
(10) الرسائل، 378.
(11) الرسائل ص 379.
(12) الرسائل ص 379.
(13) الرسائل ص 109.
(14) الرسائل ص 110.
(15) الرسائل ص 382.
(16) الرسائل ص 392.
(17) ابن حزم، في الإهداء والملل والنمل، ج 2، ص 116 117.
(18) المرجع السابق، ص 135.
(19) المرجع السابق، ص 120-121.
(20) المرجع السابق، ص 122.