لم يكن الشاعر حسين مردان (1927ـ1972) عرضاً عابراً في تاريخ الثقافة العربية الحديثة بما سادها من روح التجديد، وإنما كان في صلب هذه الثقافة التي سيكون فيها الصوت الشعري، والنقدي، الذي امتاز بخصوصية نظرته الى العالم، وبالدور الذي وضعه لنفسه، وجعل منه منهجاً لحياته التي واكبت حركة التجديد الشعري منذ انطلاقتها الأولى، مسهماً في تأكيد معالم الطريق الذي انتهجت. فإذا كان، في شعره، قد مثّل حالة شعرية نستطيع أن ندعوها بالشخصية، فإنه في نقده قد عبّر عن وعي له خصوصيته، هو الآخر. وفضلاً عن هذا وذاك، كان «شخصية أدبية» لها حضورها في الزمان والمكان من خلال ما عبّر فيه عن «فلسفته» في الحياة، كما في الأدب.. فكان يقارب، بل ويحرص على المقاربة، بين ذاته وعمله الأدبي، وهو الذي كانت حياته احتفاءً بالحياة، على الرغم من شقاوة الحياة التي عاشها، والتي أثمرت أعمالاً، شعرية ونثرية ونقدية، يمكن عدها استثنائية في ثقافة عصره.
وعلى صخب ما عاش من حياة، لم يكن يرى العمر، عمر الانسان، اكثر من «ورقة ورد، لا تدري متى تسقط على التراب…»
كان «رامبوي» النزعة، «زوربوي» الروح، وإن جاء الحياة بروحيته هذه قبل أن يأتي «زوربا»، فنعرفه، بنحو عقدين من الزمان!
(1)
وإذ يتكيف السؤال أعلاه عنواناً لمقالتنا فإنه يحمل في طياته اعترافاً مؤكداً بأن حسين مردان كان مختلفاً عن أدباء مرحلته ومثقفيها من العراقيين أولئك الذين أعلنوا عن حضورهم في مساحة زمانية تمتد منذ منتصف أربعينات القرن الماضي وحتى سبعيناته، وهي المرحلة ذاتها التي شهدت التألق الإبداعي والثقافي لحسين مردان.
كما أن في تبني السؤال بصياغة زمانية حاضرة تعني قناعتنا أن سمة الاختلاف والتميز البائنة في كل ماله صلة بحسين مردان لم تنبت إلى حدود مرحلتها في الزمان المحدد الذي أتيح لها أن يعيشه ويعايشه، بل لعلها تتسع ـ بتشخيصها ذاك ـ لتنساح إلى مراحل لاحقة، ربما انـضوى جانب من راهننا الثقافي فيها.
ومباينة حسين مردان ـ في شخصيته ومنجزه ـ للسائد المعتاد من حوله لم يكن مما يتيح لمن يرصده أن يضعه في حيز محدد الوجهة والاهتمام والانجاز الذي يوفر للتلقي أن يباشر معاينته، فيواجهه بشيء من الموازنة بين بعض ماتهيأ له من خصوصيات ومايماثلها لدى الآخرين من الأدباء سواه.
فإذا جعلنا منطلق ذلك المواضعات السلوكية التي تخيرها لشخصيته، كالتمرد والرفض واللامبالاة لكثير من الانشغالات السياسية والاجتماعية، فإننا لا نكاد نعدم ما يماثلها أو يقترب منها لدى بعض من أدباء مرحلته أو بعدها.
وإذا كانت الالتفاتة إلى حيث الجديد الأدبي في تشكلاته الجمالية، فلأنساق التجربة الملتفتة إلى ذلك عنده ماسبقه إليها وشاركه فيها سواه. ولكن حسين مردان جمع مسألة الاختلاف في بعديها (الفكري والجمالي) وشكلها هوية تخصه.
فلعله لم يمر بتاريخ العراق الثقافي والإبداعي ـ ومنذ أبي نواس الذي هجر في مقدمات الكثير من قصائده الوقوف على الطلل، حين تيقن أنه لم يعد يثير عاطفة، بعد أن لم يبق هناك من طلل في مدينة متحضرة كبغداد ـ من شاعر تمرد على السائد وتخطاه ودعا إلى غيره وقدم مثاله البديل، كحسين مردان. فإذا كان الزهاوي ـ ومعه الرصافي , وبعدهما الجواهري ـ عايشوا شيئاً من التمرد في الموقف والسلوك فإن أمرهم في ذلك لم يأخذ مداه حتى آخره. وإذا كان ما أطلق عليه (جيل الرواد) قد تمرد على القوالب البنائية الموروثة، وأتى بشعر التفعيلة فإن ذلك مسعى لبديل أسلوبي ليس إلا(طبقاً لما قاله أكثر من رائد منهم) , أما الذي تحقق لحسين مردان فقد اكتنف كلا البعدين واستوفاهما وزاد عليهما.
(2)
لرصد ماكان عليه وجود حسين مردان ـ إنساناً ومثقفاً ـ لابد من تبويب الأمر في بعدين الأول، ماتهيأ له من أقدار خاصة صنعت له ذلك الاختلاف، والآخر تجليات اختلافه في المتحقق السلوكي والفكري اللذين عايشهما وانشغل بهما وأحال جانباً منهما خصوصيات تشير إليه وحده.
وربما استوجب الأمر في بعده الأول الاستعانة ببعض وقائع سيرته الشخصية، وملاحقتها بنوع من التراتب التاريخي لمضامينها. ولعل أول ما يبدو فيها هو ذلك الانتماء إلى الذات والتمسك بكل الذي يعبر عنها في السلوك والرغبات والاشتغال الذهني، ومنذ مراحل صباه ـ بل طفولته، وهو ما صرح به ملخصاً على نحو لافت في إحدى مقالاته قائلاً : «في السابعة قرأت عنترة ؟ وفي العاشرة نظمت أول بيت. وبدأت أمي تضايقني… لابد من الانقطاع إلى الأدب ! وهكذا تركت المدرسة.. ثم بدأ الخصام مع العائلة ! واضطررت إلى هجر البيت : إلى أين ؟… أنا لا أملك غير رأسي ! وإنه لرأس ، وإني لقادر أن أشق الصخر بإصبعي… وحملت عصاي، وجئت إلى بغداد المدينة الغامضة (د.علي جواد الطاهر،من يفرك الصدأ، ص79)
لقد تأسس على ذلك التمسك بما تدعيه الذات وتذهب إليه ـ الذي يبدو أنانيا محضاً في بعض سلوكياته ـ الانعتاق من العائلة ومغادرتها في مراحل شبابه الأولى، وتغييب الرغبة في إنشاء عائلته الخاصة في مراحله اللاحقة، حتى أنه ليجعل من فكرة الزواج (زواجه) أمراً جديراً بمناقشته مع الآخرين ثم إهماله تماماً ، مقنعاً نفسه بأن تكتفي بحب تلك المرأة التي فكر بالزواج منها على البعد (تنظر مقالته ـ خواطر عابر سبيل، جريدة الأخبار، في 21/4/1957م)
ويبدو أن نزعة غريزية من التمرد قد تمكنت من وجوده واستوطنته، وأمست لازمة أداء في السلوك والموقف عنده، ولنستعيد هنا مامر ذكره من إدعائه قراءة (عنترة) التي لا يمكن لها ـ في تلك السن ـ أن تكون شعرية بقدر ما كانت تردداً على سيرته في متنها الشعبي المتداول شفاهياً، حيث عنترة فيها الفارس القوي والشجاع الذي نهدت به قدراته الخارقة إلى أن يكسر مواضعات عصره الاجتماعية، فيصبح ـ وهو العبد الأسود المنبوذ ـ فارس قومه الخالد وشاعرهم المبرز الذي استجابت الأقدار لكل طماحه وأمانيه.
وكما افترضت وقائع سيرة عنترة أن يرحل إلى حيث يصنع لفروسيته كشوفاتها المعلنة فقد رحل الفتى(حسين مردان) ـ ابن السابعة عشرة ـ من مدينه (الخالص) في محافظة ديالى إلى حيث العاصمة (بغداد) التي سيعلن ـ وبعد سنتين من وجوده فيها، وماكابده من عيش مرهق، وما فرضت عليه ظروفه المادية ـ أو ما وجد نفسه فيه، فتبناه وجعله سمة امتياز له ـ عن نفسه شاعراً، فيصدر ديوانه الأول (قصائد عارية) الذي أهداه ـ بما لم يسبقه إليه أحد قبله ـ إلى نفسه : « لم أحب شيئاً مثلما أحببت نفسي، فإلى المارد الجبار الملتف بثياب الضباب، إلى الشاعر الثائر المفكر الحر، إلى : حسين مردان).
لقد استحالت نزعة التمرد ثقة بالنفس وبالإمكانات الشعرية حد الادعاء والنرجسية المفرطة، ورغبة استفزاز الآخرين بما تضمنه هذا الديوان منذ عنوانه، مروراً بذلك الإهداء، ووقوفاً عند مضامين قصائده وجماليات التشكيل الذي تخيره لها.
(3)
منذ البدء كان حسين مردان يعي ما يريد ويفقه غايات وعيه ومقاصده، وإذ اختار الشعر منطلقاً أولاً لتبيان ذلك الوعي وتلك المقاصد فلقد كان على بينة أن الشعر هو الوسيلة الأنجع والأقرب لتقديم أفكاره، فللشعر في العراق اليد الطولى من الانشغال الثقافي والاهتمام والتلقي المنشد إلى طرائقه وجمالياته. ومن هنا واصل كتابة الشعر مؤجلاً الترويج لأرائه النقدية لخمس سنوات أخرى.
لقد كانت أفكار قصائده وجهة متطرفة في تخير موضوعاتها والكيفيات التعبيرية التي تتشكل من خلالها، وذلك ما لا قبل للذائقة الثقافية العراقية السائدة آنذاك أن تتلقاه وتستسيغه من دون أن يثير حفيظة بعض أطرافها، وهو الأمر الذي لم يكن بعيداً عن مقاصد الشاعر لمواجهته واستفزازه، يقول : « لقد حاولت في قصائدي الأولى التي ظهرت في ديوان (قصائد عارية) أن أكشط الجلد، وأرفع جميع طبقات اللحم مخترقاً صلابة العظم للوصول إلى حركة الدم، لمعرفة العلاقات التي تربط المرأة والرجل، فلقد ظل الحب خيمة مغلقة ينظر إليها الشعراء كشيء له علاقة بالسماء، ولم تبلغ الجرأة بهم على اقتحام الجو الداخلي للتفرج على ما يوجد هناك… ولذا كنت صريحاً وعنيفاً في وصف هذه العاطفة الإنسانية. لقد أردت للحب أن يبدو كما هو في الطبيعة، وليس كما يبدو من خلال التقاليد والمثل الاجتماعية القديمة (حسين مردان، الأزهار تورق داخل الصاعقة، ص156).
وإذ كانت الحال كذلك فلم يكن من الغريب أن تتنادى أكثر من جهة للوقوف بوجهه، وأن يطارد ديوانه، فتصادر نسخه، ويحال صاحبه إلى المحاكم، ليكون أول شاعر عراقي حديث تجرّمه شاعريته !
جاء ديوانه الأول (قصائد عارية) على نهج قالب الشطرين الشعري. وتلك مسألة جديرة بالتأمل، فحسين مردان الذي أعلن الثورة على القيم الاجتماعية السائدة في الرؤية لايستكملها في الشكل التعبيري المحايث لها باختلافه ، ولم يكن ذلك عن افتقاد الرغبة للتمرد في هذا الجانب، فقد كان الأمر في متناول يده، بل انه سرعان مافعله في مجموعاته الشعرية اللاحقة التي جعل وجهتها ما أطلق عليه تسمية (النثر المركز).
لقد كان مدركاً لأهمية أن يساير في تلك المرحلة ما تكيفت له الذائقة الثقافية التي استبدت (قصيدة الشطرين) بتلقيها، وأن يصل إليها من خلال مأمنها من الصياغة الشعرية المتوارثة، متلاعباً بما سوى ذلك من المواضعات الجمالية في التخير اللفظي المغاير وفي أنساق التخيل ورسم الصورة الذي يذهب به ـ في الغالب عليه ـ إلى مشهدية غرائزية مثيرة. وهذا ما تخيره صيغة أدائية لديوانه الأول (قصائد عارية) وقصيدته الطويلة اللاحقة (اللحن الأسود ـ 1950م)، ولكنه سرعان ما تطامنت ذائقته مع ما تخير له مصطلح (النثر المركز) متناسياً ماجرى تداوله بعض الشعراء في بلدان عربية أخرى من تسمية، كـ (الشعر المنثور) التي دعا إليها (أمين الريحاني) قبل أكثر من ثلاثة عقود من السنوات، وجاراه فيها عدد من الشعراء العرب في أقطار متعددة. كما أنه بقي وفي مراحل تالية غير آبه للتسمية الجديدة (قصيدة النثر) التي فرضت نفسها، منذ أن أطلقها (أدونيس) وتبنتها مجلة (شعر) البيروتية في ستينات القرن الماضي.
وإذ يقدم مثاله الشعري في هذا الاتجاه فإنه يساوقه بتقديم بيانه المعرفي عنه، فيقول في بعض رؤاه عنه: «إن تحطيم القافية الواحدة في الشعر الحديث لم يستطع إنقاذ الشعر من حوض الصمغ الذي يغرق فيه. كما أن تجزئة التفاعيل وتقطيعها ـ ولو أنه قفز بالشعر العربي قفزة جبارة إلى الأمام ـ لم يستطع كذلك أن يبتر أو يقتلع السلاء من أغصانه الخضر… وأرى أن العقبة الوحيدة التي تقف أمام اندفاع الشعر العربي إلى الذروة هو الوزن، ذلك الرنين الرتيب الذي يشوش صفاء المخيلة ويكتم نبضات الروح وحركتها، ويشوه طراوة الخيال وألوانه التي لا تحتمل مطلقاً الضغط أو التحديد. وقد آن لنا أن ندعو إلى القضاء على الوزن، فنرفع بذلك كيس الرمل الثقيل عن عنق الشاعر المعاصر (حسين مردان،الأرجوحة هادئة الحبال، المقدمة، ص5).
لقد راح مردان يبشر بهذا الأسلوب الشعري الذي يكسر السائد من قوالب النظم ويضعه بديلاً نوعياً، هو عنده أكثر استجابة من سواه لمتطلبات الذات الشاعرة وكشوفاتها الداخلية، فاختاره لمجموعاته اللاحقة : صور مرعبة1951م،عزيزتي فلانة 1952م، الربيع والجوع 1953م، العالم تنور1955م، نشيد الإنشاد 195، الأرجوحة هادئة الحبال، بغداد1958م، هلاهل نحو الشمس1959م.
حتى إذا توطدت أبعاد هذه التجربة الأدائية لديه وترسخت، وجارته في وجهته تجارب أخرى لشعراء آخرين عاد ليؤكد ـ بقوة النص الذي يكتبه وينشره ـ أن التخير الشكلي ليس هو الغاية، وأن بالإمكان للأشكال النصية المختلفة أن تتعايش جميعاً في أرض إبداع واحدة، كان مثالها عنده دواوينه اللاحقة التي جمعت النثر المركز بقصيدة التفعيلة بشعر الشطرين : أغصان الحديد 1960م، طراز خاص 1967م.
(4)
اتجه حسين مردان ـ وبعد أن أكد حضوره الشعري الضاج بالاختلاف ـ ليقدم أفكاره ورؤاه النقدية في بيانات نثرية لم تتوقف حتى آخر أيامه، كان فيها ـ مثلما هو في شعره « يقتحم على الناس أذواقهم مهشماً فيهم هذه الطبيعة الساذجة في التلقي، ملغياً عادة الإعجاب المجاني عندهم (ماجد السامرائي، ألف باء، العدد217، بغداد 1972، ص47)
لقد أصدر كتابه النقدي الأول (مقالات في النقد الأدبي ـ 1955م)، والثاني (رسالة من شاعر إلى رسام 1956م). كما بدأ يكتب المقالات والخواطر الفلسفية والفكرية في أكثر من مجلة وصحيفة، كانت المفارقة أن يجمع بعض مقالاته تلك في كتاب خاص اختير له عنوان (الأزهار تورق داخل الصاعقة) الذي صدر بعد وفاته قي العام1972م بيوم واحد!؟
هذا الجهد الصادق والحصيف من الكتابة ـ ولسنوات متواصلة ـ أمده بثقة عالية بما توافر عليه من إمكانات. وهكذا سلك حسين مردان يكيف وجوده الإنساني والثقافي عبر أفق من التمثل يخصه وحده، وراح « يتابع شؤون الفكر والحياة والسياسة خلال منظار الشاعر الذي يبقى ـ مهما تختلف عليه الأحوال ـ معتزاً بنفسه لدرجة تحسبها ادعاء وغروراً ووهماً، ولو أنها حقيقة قائمة لديه، حرسته من كثير من الدنايا، فلم ينزلق في منافقة أو عمالة ، وهو البوهيمي الفقير المتشرد..ونحا به الاعتزاز نحو علو في الفكر والإنسانية وسعة الأفق (الطاهر، من يفرك الصدأ، ص20). ولعل واحدة من تجليات تلك النزعة بوجهتها الإنسانية التي أخذت تتماهى بها ذاته ما وطد وعيه وقناعاته عليه ـ ولاسيما بعد ثورة تموز 1958من مواقف أوجزها بقوله : «وقفت أهتف للوئام، وأوجه سهامي إلى كل من يعرقل مسيرة الشعب… وعدت إلى الجوع والنوم على الأرض. ولم تخرج النظافة من قلبي أبدا» (الطاهر، ص81)
لقد أقام لشخصيته بناءها على مدرك من الوعي والسلوك خاص أهله أن يقف بثقة عالية وبجرأة مماثلة لها لا تكاد تتردد في أن تقول رأيها، فتخالف وتنتقد بقسوة، وتدعو إلى جديدها القيمي والسلوكي المغاير حد استفزاز مواضعات الذائقة الأدبية السائدة ، عبر تجاوز حالة الإعجاب أو أنماط المجاملة السائد في أفق الثقافة العراقية،إلى حيث يجاهر بآرائه عن كثير من الظواهر الأدبية، ويجادل الآراء التي أصبحت قناعات راسخة عن كثير من الأسماء الأدبية البارزة في المشهد الثقافي العربي قديمه وحديثه. فهو ـ على سبيل التمثيل ـ يتناول، ولأكثر من مرة،التجربة الشعرية للجواهري من دون أن يلتفت لما تعزز من مكانة شعرية مهابة له.
لقد أنجز في العام 1952م ممارسة قرائية نصية لاحدى قصائد الجواهري، هي (اللاجئة في العيد)، وهو ما يمكن عده مثالاً متقدماً في هذا النمط من التناول القرائي الذي ينطلق فيما يقرره من النص ذاته. وفي قراءاته الأخرى التي تأمل فيها تجربة الجواهري كلها، فقد أبدى قناعته بأنه ـ أي الجواهري «لم يتعود الغوص في الأعماق، بل هو لا يعرف الطريق إلى ذلك، لأنه لم يتزود بثقافة فنية شاملة، فقد شغلته السياسة، وألهته رغباته الشخصية… عن المطالعات الأدبية الحديثة، فهو لايكاد يعرف شيئاً عن علم النفس، ويجهل الأساليب الجديدة في الأدب العالمي… وقد حاول الجواهري أثناء زيارته لـ (باريس) وبعد رجوعه منها أن يسبغ على أسلوبه (الصخري) شيئاً من الجدة والإشراق، لمسايرة النهضة الشعرية الحديثة التي بدأت تتغلغل في الأوساط الأدبية بسرعة مدهشة، فكانت قصائده: (أنيت) و(باريس)، و(أفروديت). وفي هذه القصائد شيء من التدفق العذب والموسيقى الهادئة. ولكن فيها من السطحية والتكلف أكثر مما فيها من الحرارة والفن (نفسه،ص25)
وعن (طه حسين) فإنه يتساءل: لست أدري لماذا يعطي الناس ـ وعلى الأخص الطبقة المثقفة ـ آراء الدكتور طه حسين في الشعر ـ والشعر الحديث خاصة ـ قيمة مقدسة، هي فوق مستوى الجدل والمناقشة، وقد ثبت أن معظم ما يصرح به من آراء، وما يهب من ألقاب هي نوع من المجاملات تفرضها ظروف معينة أو غاية ترمي إلى هدف معين (مقالات في النقد الأدبي، ص25)
وحين يلتفت مردان إلى أسماء راسخة الحضور في أدبنا القديم يستوقفه منها ماهو جدير بالإشادة عند، كعده أبا تمام « أبرز المخترعين في مجال اللغة وعمق المعاني. ولكنه مع ذلك لايخلو من مهارة مدهشة في الاستنباط والتوليد، على الرغم من طريقته المعقدة في الصياغة والتركيب» (الطاهر، ص162) في حين لايكون الأمر كذلك عن المتنبي، فهو وإن إن كان عند سواه القمة التي لم يصل إلى أعالي ذراها شاعر عربي قط،فإن شعره عنده لايخلو من الإسفاف، (حسين مردان، مقالات في النقد الأدبي، ص25)
ولم بكن حظ المعري عنده مختلفاً، فيقول عنه الآتي: « بلغ الغرور بشاعر المعرة إلى حد جعله يكلف نفسه ما ليس في طاقته. وهل باستطاعة مخلوق ـ مهما أوتي من الذكاء والثقافة الواسعة ان يوجد من العبث فناً ؟.
لقد أراد ذلك أبو العلاء، ليثبت لشعراء زمانه بأنه أعلم الناس بلغة العرب وأكثرهم سيطرة على ناحية القريض، فاختار هذا الضرب من العبث الصعب. ولو أن المعري كرس كل ما بذل من جهد مخيف في نظم لزومياته لكتابة رسالة ثانية كرسالة (الغفران) لخدم الأدب العربي خدمة كبيرة (نفسه ص25)
وحين يعاين تجارب زملائه من الشعراء رواد الشعر الحر في العراق ـ الذين طالما تحدث عن حصته من الريادة معهم ـ وكان كذلك حقاً ـ فهو لا يكاد يتجاوز تجارب أي منهم سواء بالإشادة أو بالنقد الحاد، كقوله عن تجربة البياتي : إن أكثر قصائد عبد الوهاب البياتي مهشمة الهيكل. وإن السلك الخفي الذي يربط الصور ببعضها في قصائده لا يبدو إلا متقطعاً، مما يهبط بمستوى القصيدة الفني إلى حد كبير، وأرى أن السبب في ذلك يعود إلى اهتمام الشاعر بعواطفه أكثر من اهتمامه بالعمل الفني، فهو يعتقد أن مجرد طرق المواضيع الإنسانية… تكفي لإثارة إعجاب القراء، ثم وضعه بعد ذلك في قائمة شعراء الإنسانية (الطاهر،ص17ص3).
ولأنه ـ كما ادعى لنفسه ـ (دكتاتور الشعر) الذي يسعى لتثبيت القيم الصحيحة للحركة الأدبية في بلاده، فقد ساءه ما كان يرصده من واقع الشعر العربي حينذاك، ليقرر إن الشعر العربي اليوم في خطر. فإذا استمر هذا الهبوط فسوف ترتطم الحركة الشعرية بالقاع حتماً، فعلينا أن نعمل منذ الآن للقضاء على هذا النوع من الشعراء الذين يستهينون بكل القيم الفنية، ويستعملون ضروب الأساليب لاستدرار عطف الجماهير، لينالوا شيئاً من المجد الأدبي (جريدة الأخبار، 1 حزيران 1956م)
وضمن انشغاله الذاهب باتجاه الحداثة وكل ما يتمثل اشتراطاتها وحضورها في الفنون المختلفة فلعله أول الشعراء العراقيين الذين وعوا أهمية التواصل بين الفنون وحركيتها في منظومة فلسفية وجمالية واحدة. وتعبيراً عن ذلك فقد واصل في عدد كبير من مقالاته الكتابة والتنظير عن الفنون السمعية والبصرية المختلفة (من تشكيل ومسرح وسينما وتلفزيون) مبدياً مقدرة عالية على تفحصها الذي ذهب من خلاله إلى الحديث عن المدارس الفلسفية والفنية الحديثة.
لقد اهتم بدراسة (السريالية) و(الوجودية) و(الانطباعية) و(المستقبلية) و (التجريدية) وسواها من المدارس الحديثة، مبشراً بأفكارها، ومؤسساً من خلال ذلك مساحة جديدة من الوعي والانشغالات التي تداولتها معه آفاق الثقافة العراقية المختلفة، لاسيما حين راح يجادل كثيرا من القناعات المخطئة في فهمها، فعنده مثلاً أن الوجودية «ليست فلسفة إباحية مدمرة كما يصفها أنصاف المثقفين، وإنما هي مرحلة فكرية هدفها تحرير العقل من القيود والتقاليد التي فقدت قابليتها للبقاء، وخلق قيم جديدة تناسب تطور الفكر البشري، ورفع الإنسان إلى قمة البطولة، لتحمل مسؤولياته وأخطائه وحده» (حسين مردان، شاعر العصر، جريدة العالم العربي في 26 تشرين الثاني نوفمبر 1950).
(5)
كان حسين مردان في حياته كثير التبرم من الأكاديميين وتوجهاتهم القرائية ، ولعله لم يدر في خلده أن أولئك الأكاديميين ذاتهم ـ ولاسيما المبرزون منهم ـ من سوف يطيل الوقوف عند تجربته الشعرية وخصوصية متحققها ـ ولاسيما بعد وفاته ـ فيعودون إلى قراءتها، وينادون بأن تنال ماتستحقه من الاهتمام والمكانة. فالدكتور الراحل (جلال الخياط) مثلاً لم يذكر حسين مردان في الطبعة الأولى من كتابه (الشعر العراقي الحديث ـ مرحلة وتطور) الصادرة في العام 1972م، ولكنه عاد، في الطبعة الثانية من كتابه الصادرة في العام 1978م ذاته ليخصص فصلاً كاملاً عنه، بل إنه يضعه في مساحة حديث تسبق بقية رواد التجربة الشعرية الجديدة (السياب ونازك والبياتي). مؤكداً (ص138) أن مردان كان «منذ عهود شبابه الأولى شاعراً في شخصيته وسلوكه وآرائه التي طغت على شعره… إنه من أكثر الشعراء جرأة وتقحماً لعوالم الركود والتقليد السائدة ـ شعراً وحياة ـ وكان نسيج وحده فيما جاء به من شعر جريء صفع القيم الزائفة الشائعة في عصره».
ولعل الدكتور (علي جواد الطاهر) كان من أكثر الذين شغلوا بتفصيلات شخصية حسين مردان ومنجزه، فقد أصدر عنه كتاباً كاملاً في عام 1988م، أخذ عنوانه (من يفرك الصدأ) من عنوان إحدى مقالات الشاعر نفسه، وضمنه قراءة متقصية لسيرة الشاعر الشخصية والثقافية، مستوفياً كثيراً من المقالات التي كان مردان ينشرها في مجلة (ألف باء) البغدادية خلال سبعينات القرن الماضي.
يكتب الدكتور الطاهر (من يفرك الصدأ، ص15)، مستجلياً جوانب شعورية وسلوكية في شخصية مردان، فيرى أن أخص صفاته عند عارفيه : « لطيبة، وسلامة النية، وبراءة الطفولة»… ومعها إنه كان ذكياً، ذا شخصية ورأي وذوق وعمق واطلاع وحب للمعرفة لا يقف عند حد، وله من تجاربه اليومية ماقل أن يمر به أديب من الغرائب عنفاً وشذوذاً. ويضيف (ص21) : «من هنا، من نقطة الشاعر الواقعي ذي المزاج الخاص الذي يرى مالا يراه الآخرون من أسرار العلاقات بين الأشياء، ويدفعه ـ من حيث لا يدري ـ إلى أن يعبر عن الأشياء كما يريد هو لاكما يريد الآخرون؟ وقد يزيدها تعقيداً، ولكنه يزيدها جمالاً وفناً وأدباً، ودخل الذي فقهه من الرمزية والسريالية في تركيب ذلك المزاج».
(6)
بعد كل الذي فعله وأنجزه يعيد حسين مردان تأمل ماجرى له،فيعيد النظرفيه ويكتب «لقد تركت نظم الشعر لأنه لم يعد يصلح للتعبير عن الجنون… أنا أحس أني قد وصلت الى المنتهى، ولم يبق ما يثير دهشتي… إن الفن لا يستطيع كشف المليون وجه المدفون في باطني. وعليه قررت التحول إلى الجانب المظلم من القمر. ولابد لي من اختراع وسائل وأدوات متقنة لالتقاط الصور المجسمة لتململ الظل في أعماق النفس، وتسجيل كل خداع الفكر خلف الأحداق (الأزهار تورق داخل الصاعقة،ص14). ويضيف في مقال آخر:
«لقد رسمت لوحة طويلة يركض في داخلها الحصان عشرين سنة من دون أن يصل إلى حافتها… فتوصلت إلى حقيقة مخيفة ومفجعة وهي أنني محكوم بالركض وراء المستحيل، وأن الموت الدرب الوحيد الذي يصل إلى الهدوء» (الطاهر، ص91 ـ 92)
ويكتب شعراً:
مثلما جئت سوف أذهب لغزاً
يحتويه الغموض والكتمان
مردان
«أنا رجل شارع حقيقي»..
ماجــد الســــامرائي
باحث واكاديمي من العراق
لو أن الروائي غائب طعمة فرمان توقف اطول، وتأمل اكثر، وأبعد في حياة الشاعر حسين مردان قبل أن يكتب تلك الحياة على النحو الذي كتبها به في روايته «خمسة اصوات» لكان خرج علينا بشخصية تناظر، وقد تضاهي شخصية «زوربا» كما كتبها نيكوس كازنتزاكي. فتلك الحياة التي كتبها الشاعر في غير عمل، شعري ونثري، له (وآخرها كتابه: «الأزهار تورق داخل الصاعقة»ـ 1972) كان أن اخضعها، من جانبه، لغير قليل من «التشذيب» و«التهذيب»، بدت أوسع مما كتبه الروائي عنه في روايته!
فهذا الشاعر، الذي عاش في مرحلة صاخبة من تاريخ العراق المعاصر، لم يُكبّل حياته، ولا مخيلته بأية قيود، وإن أبقى على ما لا يقوده الى التهوّر، فما كان يريده، وقد أراد، هو أن يُحدث انقلاباً في فكر انسان هذا الواقع وفي تفكيره، كما في رؤيته العالم!… وكان يرى أن مخيلته قادرة على ذلك، وأن الفن هو الوجه الطبيعي لما يفكر به، ويراه.. وكان يجد في ما يحلم به يقظة شاملة للواقع… وكان تفكيره من ذلك التفكير الذي يوصف بالمترامي.
يدهشك عالم حسين مردان (1927ـ1972) وأنت تدخله من خلال واحد من بين أبرز كتبه، وآخرها، أعني «الأزهار تورق داخل الصاعقة». ففي مقالات هذا الكتاب، التي جمعت ما كان يكتبه أسبوعياً في مجلة «ألف باء» بين عام 1968 وعام1971، يأخذنا في مداخل جديدة لكل من حياته والواقع المتصل بهذه الحياة، جامعاً بين رؤيته ورؤاه، ومنتقلاً بين «حقيقة» ما يحياه و«وهمية» ما به يحلم‘ واضعاً ذلك في سياق شعري، لا من حيث اللغة وحدها، وإنما في الرؤيا التي تتخلل هذه اللغة، والتي لم تكن، مهما علت به وارتفعت، لتبعده عن الواقع وارضه، ذلك الواقع الذي كان يتلمس خشونته بنعومة كلمات الشاعر. فهو إن سار وراء حلمه، أو وجد نفسه يتعقب «خطوات القمر الصامتة»، فإنه كان يتخذ من «قوة الخيال» هذه وسيلة، بل يجدها «الوسيلة الوحيدة التي نستطيع بواسطتها التغلغل في الأغوار».. فقدرة الخيال عنده، وكما يتمثلها، هي ما «يستوعب حجم الكون كله». أما إذا ما أدرك الجفاف يدرك الواقع، فإنه لا يجد امامه إلا التجوّل في قلبه: «بحثاً عن ذكرى أو شبح، عن رجفة حارة أو لوعة»، ليسأل: اين اختفت تلك الأشياء الجميلة من أفق الواقع؟
لذلك كان ـ كما يقول ـ يهتم لأحلامه، ويبذل جهداً «في لمّها وتجميعها بكل دقة وعناية». وكان له نهجه وأسلوبه في التعاطي مع الحلم: «فعند خروجي من الحلم أبدأ بسرده على نفسي، ثم أسجل خطوطه العامة، وحوادثه الواضحة على الورق لكي أدرسه، محاولاً الوصول الى التأكد من علاقة اللاشعور بالعالم الخارجي لايجاد مادة جديدة لعملي الأدبي» الذي كان يهمه أن يكون مع الحاضر.. فالماضي، بحسب رؤيته له، ليس إلا «مجموعة خرائب، حتى ولو كان يغفو تحت قوس قزح جميل»,
على مثل هذا انبنت «فلسفته» في الحياة، وفي كيفية أن يحياها، كما في النظر إليها. فهو كما كان «يمنع»التكلم «عن الآتي» بدعوى أنك قد «تموت بعد ساعة»، كان يقول: «إذا لم تعبر البحر فلا تحلم بروعة الشاطئ الثاني…» ورفضه هذا متأت من ايمانه بأن الحديث عن الماضي من شأنه أن «يضعف قابلية التفاعل مع الحاضر».. فكان يدعو الانسان الى أن يُطلق «حرية السير» لقدميه.. «فالشوارع مهما كانت طويلة ومستقيمة فإنها ستلتقي في النهاية مع بعضها». وما دام الزمن «ينقش خطوطه فوقنا باستمرار، فلنأكل دون أي تمييز، فإن احتمال الجوع للحصول على فطور شهي ومرغوب فيه، دليل صبر خيالي لا حاجة لنا به، وليس له أي مبرر واقعي أو معاصر»، ناظراً الى العالم بعين تراه «يتآمر» على الانسان.. لذلك كان يحذّر هذا الانسان من أن المصيدة مهيأة له منذ اللحظة التي خرج بها الى العالم. وامام ذلك لا يجد إلا أن يدفع بالنصح إليه ويقول: «فارتد القميص الذي بين يديك قبل أن ترتدي الكفن»، نافياً عن نفسه أن يكون مُصدراً في ما يقول عن تشاؤم، وإنما يقول هذا لأنه «أحد الذين يفهمون معنى العدم المطلق».
ونجد احساسه بالمكان واضحاً، وعلى شيء من العمق. فبغداد التي جاءها وهو في العشرين من عمره، بعد أن قرر هجر مدينته والمدرسة فيها، كان أن تلقفه «شارع الرشيد» بما كان عليه من فتنة (انتهت اليوم!)، ليقول من خلاله، مصمماً على البدء والمسار: «من هذا الرصيف ستبدأ مسيرتي الصعبة نحو قمة الجبل»… ولم يكن ذلك «الجبل» شيئاً آخر سوى حياة بغداد وعالمها كبير الاغراء الذي راح يصعده والدهشة تشدّه «من كل جانب»، حاملاً الى مقاهيه، بروادها المعروفين من شعراء وادباء وصحفيين، أفكاره «المتطرفة في الشعر والأدب» التي يقول عنها إنها هي التي وضعته «تدريجياَ في المكان اللائق» بين «أصدقائه الجدد»، وإن كان قد التقى أيضاَ، وفي تلك الأيام التي يصفها بالرهيبة، «وجه الجوع الأصفر». ولما لم يتوفر له، أو يستطيع توفير مكان للنوم، كان يقضي الليل يذرع «شوارع المدينة عرضاً وطولاً الى أن يبزغ الفجر»، فإذا ما هيمن النعاس على عينيه لجأ «الى أقرب بستان للحصول على غفوة صغيرة…» ـ كما روى هو عن نفسه.
وتأخذه المقاهي التي يصف التزاور بين ادبائها وشعرائها بأنها كانت «تشكل نواة متفجرة للحوار والمصادمات الحقيقية».. ولكنه، من وجه آخر، يجد فيها «جامعات حقيقية للأدب والشعر».. (ومما كانت تعج به هذه المقاهي من حيوات، ولدت رواية الروائي، ابن ذلك الجيل، غائب طعمة فرمان التي لم يكتبها إلا في أواخر ستينات القرن الماضي، أعني «خمسة أصوات»، التي سيكون حسين مردان واحداً منها، والأكبر حضوراً فيها بمفارقات حياته وايامه!)
وإذا كانت أيام العوز والجوع والتشرد من أكبر العوامل المؤثرة في تكوين «وعيه الطبقي»، فإن هذا «الوعي» لم يأخذ لديه بعداً سياسياً، وإن وجد نفسه يميل الى «الاشتراكية»، ولكن على «طريقته الخاصة»: مقاسمة الآخرين بما لديهم، وبما يغطي الضروري من حاجته!
الشاعر والمدينة
جاء حسين مردان بغداد التي وجد فيها «مدينة ذات ملامح متداخلة، بحيث تعجز النظرة العادية عن رؤيتها أو ملامستها بصورة صحيحة ومضبوطة».. جاءها وهي في حقبة من حياتها تمثلت فيها أعلى درجات حضورها الثقافي والفني الذي صنعته غزارة نتاج مثقفيها ممن سيصبحون «عنوان الحاضر» الذي عاشته بزهو!.. إذ كان لكل منهم رؤيته العالم التي هي نتاج وعيه الخاص بالمدينة، الوعي الذي سيتمثل في ابداعه..
ولم يكن حسين مردان بعيداً عن شيء من هذا، إن لم نقل إنه كان في العمق منه. فهذا الشاعر الذي لم يحمل من «مدينته ـ قريته» سوى موهبته التي ارتكزت الى/ وانطلق منه بما تمثّل فيه مجايلوه واصحابه «روحاً جديدة»، كان حضوره «حضور المتمرد» الذي يطلب الى المدينة «الاعتراف بتمرده»!…
ولم يأخذه نهار حياته اليومية هذه الى «ثورية» تركيب الحياة فيها بقدر ما أخذه ليلها الذي سيشعر معه باغترابه الوجودي..
إلا أنه، مع هذا، كان أن عمل، بدا من تواصل حياته بصورتها هذه معها، على تحويل عالمه الى ما يجعل لهذا العالم خصوصيته، مبتعداً به عن البساطة التي لا تُسلمه إلا الى مماشاة الناس بأحلامهم العادية.. كما لم يرد لنفسه أن يكون مجرد عابر سبيل الى الكلمة، ولا تقبل الحياة الهادئة من الخارج، الصاخبة من الداخل.. وإنما سيخرق السائد والمألوف فيها، مؤكداً «جدّة ما يكتب» بلغته الخاصة ـ التي وإن لم يُفارق فيها لغة المدينة، فإنه أخذ من تلك «اللغة» ما يُعبر عن قلقه الوجودي وتمرده الاجتماعي…
ومن هنا لم يكن، في ما يكتب، ليتعالى على موضوعاته، وإنما نجده منغمراً فيها بما يحس منها ويشعر تجاهها، محتوياً من ذلك تلك التفاصيل الحميمة التي كان يُدخلها في ما يكتب.. وما كتب يندرج في «العجم الشعري» لعصره، ولكن بتعابيره الخاصة، وبتجلياته أيضاً.. إذ كان يدنو، أكثر من سواه من شعراء عصره، من مفردات الحياة اليومية، عابراً بها الى الشعر، وجاعلاً لها حضورها في ما يكتب.
الخطوة التي فتحت دربها!
كانت بغداد يوم جاءها حسين مردان تعيش صورتها الجديدة على ثلاثة ايقاعات متوازية النغم تجديداً، هي: ايقاع اللون الذي كان يتكثف في أعمال فنان مثل جواد سليم (الذي سيرسم أغلفة أعمال الشاعر الأولى)، وقد اندفع باتجاه تجذير الفن في أصوله الرافدينية، ممتزجة بفتوحات الحداثة في الفن في العالم. وايقاع الكلمة الشعرية التي سيكون شعراء التجديد رادتها، وإن كان «مردان» قد أخذ على شعرائها ما كان يشير به الى اختلاف في الرؤية والنظر. فأخذ على السياب ما يذكر أنه قاله له يوماً: «إنك تُسيء الى الشعر الحديث لتعلقك بالشعر الملحمي»، وذلك من منطلق رؤيته النقدية التي ترى «ان روح العصر لا تنسجم، وترفض هذا النوع من القصائد الطويلة جداً». كما كان له موقف من استخدام الشاعر الأساطير الاغريقية والرومانية في الشعر الحديث، مؤكداً أنه حاول ان يثبّت «بعض القيم الجديدة» لهذا الشعر من خلال دعوته الى «أن نميل الى ما حولنا، وأن نستغل الأساطير في تراثنا العربي»، منطلقاً في هذا مما يرى من «أن الشعر الحديث يرتكز على ممارسة الولوج في نواة الكلمة وما ينتشر حولها من فضاء لا نهائي». وما أخذه على البياتي أبعد وأكبر، وربما بلغة أشد قسوة. كما كان هناك ايقاع الصوت الغنائي بموسيقاه وألحانه البغدادية الأصيلة، من خلال أغان ومقامات حدّت هذا الفن بأصوله التراثية مطوَّرةً بما يعلو بروح العصر إبداعاً.
في هذا الخضم الابداعي لم يكن حسين مردان وهويضع خطواته الأولى على ارض المدينة، بغداد، ليضعها بتوجس، وهو الذي جاءها بروح المقتحم لعالمها، فضلاً عن أن عالمها هذا لم يكن، بطبيعته، مغلقاً دون احد. كان عقله، ونفسه هما اللذان احتكّا بحياة ذلك الواقع مع أول احتكاك لقدميه بأرضه… وكان واقعاً مثيراً: البحث الذي يجري فيه هو البحث عن ثقافة جديدة، كما عن حيوات جديدة.. والناس فيه يصارعون ذواتهم المتمردة على ما ورثت من تقاليد وجدتها، في ما آلت إليه، رثّة، كما يصارعون الواقع السياسي السائد.. فكانت «الثورة» في مجال الأدب والفن قوية بالمؤثرات التي استوعبت، كما هي قوية بالتأثيرات التي احدثت. وقد استثمر حسين مردان هذه اليقظة التي سيوظفها في مخاطبة قرائه.. وينجح.
كانت الحياة، وقد أدركها «متمردا» قبل أن تُدركها نماذج أخرى متمردة على الحياة وتوازناتها، قد شهدت ما شهدته معترفةً بذلك «المنحى الجديد» الذي مثله فيها: واقعاً يومياً وكتابة.. فقد أعطى الأدب الذي كتب (شعراً، و«نثراً مركزاً» كما أطلق عليه مسمياً نمطاً من الكتابة خاصاً به، أو نثراً يقوم على الرأي ويبث الأفكار والآراء، ومنها النقدية) ما بدا من خلاله ما كان يرمي اليه من انشاء ما ينشىء منه/ وبه أسلوباً آخر في الكتابة. ويوم كتب ما وسمه تسمية بـ«النثر المركز» كان فيه كمن يريد التأكيد، وبروح تجمع المبدع الى الناقد، أن «الأشكال الفنية» السائدة لا بدّ أن تتغير، وتضيف بهذا المتغير/ المغاير فيها ما يضيف بعداً آخر للكتابة الابداعية، بما لذلك من مرتكزات، وأساليب.
وسرعان ما أصبحت بغداد (المدينة) مدينته.. فلا شعور بالغربة، ولا احساس بما قد يضفي ظل الاغتراب على طرف من حياته فيها ـ وإن كان، في نظر «بعض الآخرين»، هو «الغريب عليها» بحكم ذلك الانسراح اللامحدود لحياته عما هو مالوف من «تقاليد الحياة» فيها..
كان يريد الواقع بشمسه وهوائه، وإن كان كثيراً ما وجده يطبق عليه من خلال تيارات السياسة وصراعاتها فيه. ويوم توهم «صورة البطل» في «هلاهل نحو الشمس»، فكتب، وللمرة الأولى، مبشراً بـ«الزعيم» الذي رأى فيه المنقذ، فتغنى بخطاه التي رأى فيها «خطى تحوّل»… إلا أنه سرعان ما تكشف له عن «مرامٍ أخرى» غير تلك التي توهم، فخذله كما خذل التاريخ في بلده.. ما انعطف به من بعد ذلك الى سنوات من الصمت.. وإن لم يتخلّ عن «ممارسة الحياة»، حياته، بالمعاني التي وضع وبالأبعاد التي أدرك!
أنا رجل شارع حقيقي!
في مقال له يعود الى مطلع السبعينات (ضمن كتابه: الأزهار تورق داخل الصاعقة) وصف حسين مردان نفسه بأنه «رجل شارع حقيقي».. بل ذهب في تحديد «هويته» الى ما هو أبعد، فقال: «إنني شيخ المشردين في العراق وفي العالم»، مؤكداً أن تشرده «لا يرجع لأسباب اقتصادية أو سياسية»، فهو، كما اكد في هذا المقال، يملك «داراً جديدة ومورداً محترماً»،(بعد ما أدرك تلك الحياة، حياته من تغيّر وتبدل في احوالها بدءًا من عام 1968)، وإنما يعود بشعوره هذا الى أنه، كما أحب أن يصف نفسه، «عبد حرية لا تطاق، حرية ترفض أن تُربط حتى بشعرة رفيعة»، فضلاً عما يداخله من احساس، وصفه بالمرضيّ، بالملل، و»شعور مركز ومرعب بالوحدة»، ما جعل يومه كله، كما كان يستشعره، «سلسلة هروب من الملل والعزلة ومن الحرية»، الأمر الذي جعل مواقفه، في ما يكتب، تتصف بالشجاعة، وبرفض الانصياع للسكون، مؤمناً «أن النقد هو زراعة الضوء فوق المناطق المظلمة لرؤية الخطر الذي لا شكل له». ومن هنا لم يكن يخشى المكاشفة، ولا يأبه من تحذير من لا يسمعون إلا صوت المديح والثناء من «الألسنة المصبوغة» التي وجدها «تستطيع التحدث بألف لغة». بهذا المعنى هو «رجل شارع حقيقي»، لأنه لا يميل «الى المخاتلة والتزويق. لأني مقاتل نظيف».
وهو إن يكن، كما وصفه صديقه، «خير عاشق في الكتابة على الورق» فما ذلك إلا لأنه، كما يتمثل نفسه، «رجل سلم حتى مع المرأة».. فما يشده الى من أحب هو «روعة التكوين» التي يقول إنه يوم اكتشفها هامَ بها.
من هنا كانت الكتابة عنده بمثابة مرافعة للدفاع عن حياته (التي كان يجدها حياة فذّة)، وعن كل ما يجد فيه المتعة والحيوية.. واغناءً للذات والنفس.
الشاعر والشعر
إذا كان المجددون في الشعر العراقي الحديث أول من أسس/ وأطلق القصيدة الخارجة على «تقاليد القصيدة العربية».. فإن حسين مردان كان اول من أطلق لقصيدته «الخروج على الأعراف»، نابذاً ما كان يصفه بـ«الرث» من التقاليد الاجتماعية.. كما كان أول شاعر في تاريخ الشعر في العراق الحديث يقف أمام القضاء بتهمة «الخروج على الآداب العامة» و«المس بالأعراف الاجتماعية» وذلك في أول ديوان له «قصائد عارية» (1949).. غير أن القضاء برّأه بعد أن وقف يدافع عنه محامون لهم حضورهم على ساحة القضاء والفكر!… فقد كان ما يهمه بدرجة أساس هو «تحرير الانسان من الداخل»، لذلك رأى أنه لتحقيق ذلك لا بّد من «اشعال الحرائق في سقيفة الواقع» ـ وهو ما وجد السريالية «عمدت الى صنعه». ومن هنا حدّد مهمته، شاعراً وكاتباً، «بالمشاركة في تصفية القبح في العالم.»
وكما صفّى حسابه مع «الأب» بالخروج من/ وعلى «بيت العائلة»، فإنه سيمتد بذلك الى مجال الأدب، فلا سطوة لأبٍ، ولا تعلق بأبوّة.. فكان أول «أب» شعري تصدى له هو الجواهري الذي أعلن أنه غير مؤمن بعبقريته «بصورة مطلقة».. واضعاً نفسه ضمن «قوّة ونفوذ الأدباء الشباب الذين كانوا يحلمون مثلي في الثورة على كل مظاهر الأدب القديم، وخاصة في ميدان الشعر». ومن خلال ذلك كان يرى أن الناقد «متبوع وليس بتابع»، ولذلك فإن عليه (وكان يرسم الدور لنفسه، أو يأخذها بالمهمة) أن «يأخذ على عاتقه اعادة تصحيح الصورة العامة، أو المفردة، عند القراء، وعند المجتمع ككل»، مشترطاً في من «يُنبّه الناس الى الحقائق بالكشف عن جذور الأشياء ان يكون طليعياً وهادفاً، وإلا فسوف يصبح لوحاً معتماً يفصل بين ذهن القارئ وبين المستقبل».
وفي السياق ذاته، كان يرى أن القصيدة «موجودة في الوزن والقافية وفي التحرر منهما»، جاعلاً من «القيمة الفنية العالية» هدفاً للشاعر في ما يكتب أو يقول.. فـ«الشاعر لم يُخلق دفعة واحدة، أو بصورة فجائية، وإنما هو ينمو ويكبر من خلال صراعه الدائب مع متناقضات المجتمع.»
وإذا كان دائم التصريح، حتى أيامه الأخيرة، بأنه «دكتاتور الأدب»، فإن لنا أن نتمثل «ديكتاتوريته» هذه من خلال أمرين: تمثل وضعه في العالم.. واشتباكه معه، أو انتظامه فيه. فهو في ما كتب كان أن أكد، وظل دائم التأكيد، لما أسس له: حرية القول بما يرى ويعتقد. ومن هنا جاء اشهاره هويته بأنه «رجل شارع حقيقي».
شعرية النثر فـي
نص حسين مردان
عبد القادر جبار
ناقد من العراق.
يوصف الشاعر حسين مردان بأنه شاعر متمرد في سلوكه، عاش حياة التشرد بعد مجيئه الى بغداد من مدينة ديالى (قضاء الخالص)، ادمن حياة المقاهي والأرصفة وهناك تعرّف على بعض ادباء العراق مثل بلند الحيدري وعبد الوهاب البياتي ومحمد مهدي الجواهري اصدر مجموعة من الدواوين ابرزها، قصائد عارية عام 1949م اللحن الاسود 1950 والارجوحة هادئة الحبل 1962(1) كتب النثر الى جانب الشعر في مقالات نقدية وادبية والى جانب هذه المقالات كتب النثر المركز، وهو بنية هجينة لم تشكل نمطاً في تاريخ الادب العراقي لذلك.
عدّت بنية النثر المركز في أدب حسين مردان بنية متمردة على جنس الشعر مثلما هي متمردة على جنس النثر، فالنص في هذا الاسلوب في الكتابة لا ينتمي الى الشعر، مثلما هو غير منتم الى النثر في نمطه التقليدي، وهذا الهجين الذي يضع المتضادات في وحدة منسجمة هو نتاج عقلية وروحية حسين مردان المتمردة (غير المنسجمة) مع واقعها الخارجي فالنثر المركز بنية غير خاضعة لشروط (الوزن) والقافية كما هي في الشعر التقليدي وهي في الوقت نفسه بنية (خارج) نمطية النثر التقليدي التي ورثها الآدب العربي الحديث المتصفة باعتمادها التوصيل وظيفة اساسية لوجودها،والنثر في كتابات حسين مردان لا يعتمد التوصيل فحسب بل يرتقي الى الجمالية اذ ترتفع فيه الشعرية احياناً وينسحب النثر أمام لغة مليئة بالايحاء والرؤيا والخلق، وبإيقاعات داخلية يمكن ان تقرب المتلقي منها وكأنها قصيدة موزونة ولكن ايقاعاتها الجاذبة غالباً ما تكون مختصة بطريقة كتابة النثر المركز وهذا ما ساد في كتابات حسين مردان (في نثره المركز)
أما من الناحية التشكيلية فانه يمكن ان تتخذ نصوص النثر المركز عند حسين مردان بنية بصرية مماثلة لبنية السطر الشعري في قصيدة التفعيلة وهذا ما ميز نثره وهذه – البنية تبدو من حيث التعيين الاجناسي منتمية للشعر اذ توفرت فيها لغة عالية فهناك على حد قول ياكوبسن لغة عن اللغة، تحتوي اللغة، وما وراء اللغة مما تحدثه الاشارات من موحيات لا تظهر في الكلمات ولكنها تختبئ في مساربها(2)
وتتحقق هذه المواصفات في النثر المركز لحسين مردان فهي لغة عالية واقرب الى الشعر من حيث انزياح اللغة عن السياق التواصلي المجرد والبناء والصورة الشعرية واذا ما حللنا نص (كريم ولحظة الانفجار)، مثلاً الذي يقول مردان فيه: كنت صديق خمر..! ارضع دخان الحانات/ وانام والهم في رأسي/ واقلب قدمي على الأرصفة نجد ان السطر الأول من هذا النص موزونا وان الوزن متحقق في (كنت صدي) على وزن مفتعلن ووزن (أرضع دخ) على الوزن نفسه، وهذا الوزن المتشابه في علاقات مفردتي السطر الاول والسطر الثني من النص وفي الموقع نفسه تشير الى وجود تناسب وزني عمودي بين السطرين، ينتقل هذا التناسب الى السطر الثالث والرابع والخامس في مفردات (وأنام) بعد حذف الميم (واقلّبُ) بعد حذف اللام الثانية والباء، ومفردة (وأنا)، وفي هذه المفردات الثلاث هناك علاقة وزنية (فعلن)، وهذا التناسب الوزني المندرج نحو الاسفل يشير الى الروح الشاعرة التي تتلبس حسين مردان- لحظة كتابة نص (النثر المركز)، وهو تمرد اخر من دون ان يعيه حسين مردان على النمط التفعيلي للشعر العربي التقليدي والمعاصر، لذلك لم يكن النثر المركز، نثراً بمعناه التقليدي ولم يكن (قصيدة نثر) بمعناها التقليدي، واذا كان حسين مردان قد سبق في النثر المركز قصيدة النثر فهناك وظائف وسياقات لكل منهما فالنثر المركز لا يرتفع الى مستويات الانزياح الذي يرتفع الى الشعرية بشكل مطلق، بل يبقى محافظاً على اصل وجوده في تعريف النقد العربي القديم له والقائل: «واكثر النثر شرح أمور متيقنة واحوال مشاهدة، وما كثر فيه الجد والتحقيق افضل مما كثر فيه المحال والتقريب»(3).
اي ان النثر في وظيفته الاتصالية يعتمد الوضوح والمباشرة والشرح والابتعاد عن الفنون البلاغية لكن هذه الصفات ليست مطلقة ايضا لان من النثر في فهم النقاد العربالقدماء ما يرتفع الى الشعرية ويذهب ابن سينا في هذا الصدد «وقد يعرض لمستعمل الخطابة شعرية كما يعرض لمستعمل الشعر خطابية».(4)
وبهذه الصفات لم يجعل النقد العربي القديم النثر خالياَ من الانزياح في اللغة، الاّ انه قام باعمام لغة المتن التقليدي للنثر على المتن المتمرد المرتفع الى الشعرية، واذا كانت البنية البصرية لنثر حسين مردان قد اتخذت تشكيلة السطر التقليدي لقصيدة التفعيلة، فان هذه التشكيلة ليست مبتكرة بالكامل اذ سبق للأدب العراقي ان استعملها في العقود الأولى من القرن العشرين، ففي نص نثري كتبه روفائيل بطي عام 1922محتفياً بزيارة أمين الريحاني قال: وسوف يعرفني رفاقي / متى رفعوا الغشاوة عن اعينهم يعلمون/ انني واياهم في الجوهر متفقون/ وان اختلفنا في الاعراض/(5).
وهذه الطريقة في الكتابة على الرغم من تشابهها من حيث التشكيل البصري مع النثر المركز الذي كتبه حسين مردان الاّ انها اختلفت في اللغة وطريقة التعبير لأن حسين مردان يجعل الجانب الذاتي في مقدمة النص واساسه الذي ينطلق منه الى العالم الخارجي في حين اتسم نص روفائيل بطي بطابعه الفلسفي المحمول على المباشرة في اللغة لأنه يحاول تفسير الاشياء وتعليلها أما من حيث التناسبات الصوتية التي يحدثها نص حسين مردان النثري فهي تكاد تكون محصورة في منجزه من دون ان نلاحظها في نص روفائيل بطي او الأدباء الاخرين الذين كتبوا النثر المركز مثل معروف الرصافي، ونحن هنا لسنا بصدد مقارنة نص روفائيل بطي أو غيره مع نصوص حسين مردان، ولكننا بحاجة الى نص من النثر سبق نثر حسين مردان لنتعرف على المميزات الخاصة بنثر الأخير، والآن وبعد ان تعرفنا على التشكيل البصري والتناسب الايقاعي العمودي في نثر حسين مردان. ما الذي يمكن ملاحظته من سمات في نثره:
ان اهم سمة يمكن ملاحظتها في الجانب الايقاعي بعد التناسب العمودي، ان كثيراً من نصوص النثر المركز تبدأ بسطر أو سطرين ينتميان الى الوزن الشعري التقليدي كما في نص (عملاق من رماد) الذي يبدأ السطر الأول فيه بالاتي:
لم أسكر بعد، وهذا السطر الشعري من وزن الخبب (فعلن فعلن) وفي المقطع السابع من نشيد الإنشاء (أنا لحبيبي)، فعولن، فعولن، وفي نص ابتسامة عبد الكريم قاسم بـ(كان ظل حديد) (فاعلن فاعلن) وعلى شاكلة هذا الوزن علاقة سيعود الربيع في السطر الاول من نص الربيع والجوع، اذن هناك تناسب ايقاعي آخر في بعض سطور نصوص النثر المركز عند حسين مردان وفي السطر الاول من النص خاصة ولا يمكن تفسيره الا بغلبة روح الايقاع عليه، أما رسالة النص النثري المركز فقد وغالبا ما يعتمد المحور الأول على نصوص العهد القديم من الكتاب المقدس، ويكاد هذا البعد يتداخل مع الاسطوري في رسالة النص، لولا افتراق الموضوعات الخاصة بكتاب العهد القديم، ويرتكز نص حسين مردان في بعده غير السياسي على الحب المعتمد على البعدين الاسطوري والديني بشكل رئيس ولكن باطار معاصر، ولهذا الموضوع بنيته النثرية الخاصة، اما السياسي فيعتمد بشكل اساس على النفس التبشيري بالسياسة، ومنها تلك المتعلقة بالموقف من أحد الزعماء الذين حكموا العراق بعد عام 1958م وهو عبد الكريم قاسم، ولهذا النص النثري لغته الخاصة واسلوبه، واذا ما عدنا الى البعد الديني المعتمد على نصوص الكتاب المقدس (العهد القديم)، نجد ان اللغة ترتفع الى مستوى الشعرية في النص، وهذا الارتفاع متحقق في استلهام النص النثري لدى حسين مردان للنص الديني، الامر الذي جعل علاقاته تزيح المألوف في السياقات اللغوية باتجاه قطب الانزياح الشعري في بعض علاقاتها، ففي المقطع الاول الذي كتبه حسين مردان من نشيد الانشاد الذي يحاكي (النص التوراتي) بالعنوان نفسه يقول:
حبيبي فمه قارورة عطر/ فليرش قبلاته على شفتي/ قبلاته اللذيذة كشراب الليمون/ حبيبي جسمه كلفائف الورد/ ومن لحمه يسيل الشذى/ وفي هذا النص هناك محاكاة واضحة لنشيد الانشاد في النص التوراتي، اذ يبدأ التشبه في ذلك النص من دون استعمال أداة تربط بين المشبه والمشبه به، ولكنه حين ينتهي من مقدماته تبدأ اداة التشبيه تؤدي وظيفة مؤثرة في علاقة المشبه بالمشبه به كما في الاصحاح الاول الذي يقول (حبك اطيب من الخمر) ثم ينتقل الى تشبيه جديد يستخدم فيه (كاف) التشبيه يقول: (أنا سوداء وجميلة يا بنات أورشليم كخيام قيدار). وفي الاصحاح الثاني يبدأ (أنا نرجس شارون سوسنة الاودية)، ثم ينتقل لاستعمال اداة التشبيه (كالسوسنة بين الشوك)، وفي الاصحاح الثالث تبدأ التشبيهات باستخدام الاداة مباشرة: من هذه الطالعة من البرية كأعمدة من دخان، ويكرر حسين مردان هذا الاسلوب من التشبيهات في نثره المركز بقوله: (انا جميلة كخيام قيدار)، (انا جميلة كعصفور سليمان)، وفي المقطع الثاني يبدأ من التشبيه باستخدام الاداة:(كالسوسنة بين الشوك، كالتفاح بين شجر الوعر)، وفي المقطع الرابع : فأنت شهية كالطعام الحار، لذيذة كموائد الخمر، وفي هذه النصوص اغرق حسين مردان المقاطع بالتشبيهات المباشرة محاكياً بذلك الاسلوب التوراتي ومستخدماً العناصر الفاعلة في موضوعات النص ذاتها (علاقات الحب، اجواء اورشليم، علاقة الملوك بالعبيد…الخ)، ان هذه التشبيهات المتكررة رفعت شعرية النثر ومنحته زخماً باتجاه الانزياح نحو قطب الشعرية لذلك عدّ ارسطو طاليس التشبيه نوعاً من الشعرية في النثر، وذلك بقوله: «التشبيه نافع ايضاً في النثر، لكن ينبغي التقليل من استعماله في النثر لان فيه طابعاً شعرياً»(6) والطابع الشعري هنا وهو الذي وجه النصوص ووسمها بطابعه ولكن مع ملاحظة : ان المناطق التي يكسر فيها حسين مردان نمطية التشبيه المباشر ويلجأ الى الاستعارة ترتفع فيها شعرية النص النثري ايضاً وتصل احياناً الى قطب الانزياح الشعري كما في المقاطع الاتية: بيوتنا ترقص على اجنحة العصافير/ وحمامنا الاخضر يسبح في النبع/ وفي مقطع اخر يقول: ها هو مقبل نحوي وعلى راسه تاج من السوسن/ سأضع جبينه على قلبي الى ان يطلع النهار/ حبيبي الذي يشبه الغزال وفي المقطع الثالث يقول: اسمه على شفتي اغنية خضراء/ ها هو الهلال يضحك فوق التلال فيذكرني بحاجبك الصغير، ان هذه التشبيهات اقامت علاقة بين حقول دلالية مختلفة عن بعضها وجعلت الانسجام بين المشبه والمشبه به كأنه واقع حقيقي يدفع القارئ باتجاه الخيال لاستلهام مزيد من علائم الصورة الشعرية والتفاعل مع عناصرها. يحدث هذا التعارض الذي يوفق بين الحقيقية والخيال على الرغم من بعد العلاقة بين طرفي التشبيه هذا فضلا على ان التشبيه لم يكن مباشراً الا بعد ان يحاكي النص مخيلة القارئ ويفعلها باتجاه الخيال، ولكن هذا الارتفاع بمستوى اللغة يضعف في النثر المركز في الموضوعات السياسية، والسبب في ذلك يعود الى ان البعد السياسي في نثر حسين مردان يمتاز بإطاره التبشيري الامر الذي يستلزم مخاطبة الاخر بمستويات وعيه المختلفة، والامثلة الاتية تشير الى ذلك، في نص (14 تموز او نشيد الحديد) يقول حسين مردان ومع الليل يتدفق نهر الدموع/ وتسهر اجفان الاطفال/ وشبح يختفي وراء كل باب/ ومسدس الجاسوس بين حواجبنا.
وفي نص (هلاهل… نحو الشمس)، يبدأ بالمقطع الاتي: لقد تهاوى عرش المخاط/ وسقط العنكبوت.. فلم يبق من يحسب انفاس الشعب، ويرسم نظرات الاحرار بالتقارير، ان اللغة في هذا المقطع ليست مألوفة تماماً، الاّ ان الطابع المباشر هو الذي هيمن على علاقة النسق فيها، وجعلها لا تصل الى مرحلة الانزياح، والسبب في ذلك يعود الى الطبيعة التبشيرية التي اعتمدها حسين مردان في بنائه النص النثري في الجانب السياسي والنقل المباشر ليوميات السياسة، اما في مجال الحب فهناك ارتفاع في مستوى اللغة يصل احياناً الى قطب الانزياح الشعري، اذ ترتكز علاقات النسق في النص الغزلي النثري عند حسين مردان على البوح الذاتي والغنائية الامر الذي يجعل اللغة تتجلى في الانثيال الروحي لكاتب النص، ومن هذه الانثيالات:
وسحبت نفسي من الحلم/ بهدوء/ وفتحت جفني !!/ انه اليوم الاول من العام الجديد، وفي مقطع اخر يقول : اغوص في الكسل المترف/ الكسل الذي يمنعني عن/ التثاؤب !/ ونغم رفيع يتساقط من/ فوق شفة فارسية، اما حين يتجه النص النثري الى الذات فانه اللغة تنحرف باتجاه الشعرية بشكل اوضح من موضوعات النثر الاخرى، كما في هذا المقطع :
انا وحدي في اعوام الثلج/ وشفتاي قطعتان من حديد/ وعندما يضرب الليل عيني/ سأذهب الى بيتي الصغير،، / لأسهر مع الكتب/ الكتب… السرطان الذي يأكل/ احداقي.
وفي هذه العلاقات بين عناصر النسق الذاتي تصبح لغة النثر عند حسين مردان وسيلة جمالية للتأثير في المتلقي، وتجتاز بعدها التواصلي المباشر، الى ابعاد اكثر اتساعاً وعمقاً، وفي هذا الارتفاع نحو الشعرية ابتعدت لغة الخطاب النثري من المباشرة الى توسيع الدلالة وتعميقها وصولاً الى ما اسماه عبد القاهر الجرجاني (معنى المعنى)، يقول حسين مردان في مقطع اخر من نثره الذي يتحدث عن الذات: انه الصبح/ بلابل من الفضة تنثر اجنحتها في الشرق/ من الراديو ينبعث صوتا/ املس كالصابون/ انها فيروز/ تغني عن شجر الارز/ ومع ذلك فانا داخل حلم فريد/، وعلى الرغم من المباشرة في هذا المقطع الا انه رسم صورة جميلة لعالم يحلم به حسين مردان، عالم يعيش فيه بسعادة يجتاز بها تعاسته التي طالما داهمته واخذته من الابداع وهو في الخامسة والاربعون من عمره.
المراجع
1.حسين مردان _الأعمال النثرية_جمعها عادل كتاب_دار الشؤون الثقافية _بغداد 2010
2.رومان ياكوبسن_قضايا الشعرية_تر محمد الولي ومبارك حنون_ط1_دار توبقال الدار البيضاء_1988
3.ابن سنان الخفاجي _سر الفصاحة _تحقيق عبدالمتعال الصعيدي _ القاهرة_1953م
4. ابن سينا _الخطابة (الشفاء _المنطق) تحقيق الدكتور محمد سليم سالم _القاهرة 1954
5.يوسف عزالدين_نشأة الشعر الحر في العراق_دار المعارف _ بيروت 1972
6.ارسطوطاليس.فن الخطابة_تر عبدالرحمن بدوي_دار الشؤون الثقافية بغداد_1986
حسين مردان..
النقد خارج المنهج
قيس كاظم الجنابي
أكاديمي من العراق.
-1-
ولد حسين مردان عام 1927م، أي بعد السنة التي ولد بها السياب عام 1926م، ولم يكمل دراستهُ في المدارس الرسمية،فآثر تثقيف نفسه على طريقته الخاصة، فكتب الشعر المنثور حتى غلب عليه،واخذ ينشر مقالاته النقدية في الصحافة اليومية وبعض المجلات الأسبوعية، فتكونت لديه حصيلة من النقد الذي نشأ وترعرع تحت ظل ثقافة متحررة، إلى حد التمرد، والانفعال؛ فكانت تلقي بظلالها على نقده بعيدا عن المناهج النقدية المتعارف عليها، فكان سباقاً إلى كتابة المقالة الأدبية قبل الدكتور علي جواد الطاهر، ولكن خارج الضوابط الصارمة التي كانت سائدة، فهو يخص قصيدة (اللاجئة في العيد) لمحمد مهدي الجواهري، وقصة (شاعر العصر) لعبد الرزاق الشيخ علي، ومجموعة (أباريق مهشمة) لعبد الوهاب البياتي، بمقالات نقدية,مع مقالات أخرى, فيصدرها في كتاب خاص عنوانه (مقالات في النقد الأدبي) عام 1955م في بغداد، دون أن يجترح له منهجاً، أو يتبنى منهجاً نقدياً يكتب بهِ هذه المقالات، مُؤثراً أن يكون حسين مردان نسيج وحده، بكل عنفوانه وصبواته وذاتيته المتضخمة. لقد كان متمرداً، معولاً على سلاح الهجوم أولا ضد خصومه؛ فقد كان مع الجواهري على طرفي نقيض, مثلما كان مع البياتي وغيره،حريصاً ان ينشر قصيدة الجواهري قبل مقالته عنها، حتى يكشف للقارئ صدق وجهة نظره، وصواب توجهاته.
لقد كان حسين مردان يسقط ما في نفسه وهواجسه على الآخرين – بعض الأحيان – بطريقة واضحة، فلابد أن نأخذ بعين الاعتبار زمن تلك المقالات, وقدرتها على التعبير عن نفسها زمنياً وفنياً، فقد نشر مقالته عن الجواهري في جريدة الاوقات البغدادية عام 1952م، وجعلها تقوم على نزعة استفزازية لا تستجيب لها المناهج النقدية المتعارف عليها، ولا تستوعبها اللغة النقدية الرصينة والهادئة؛ فهي أشبه بهجوم مباغت على شاعر كان محط أنظار الجميع، يستهلها بمقدمة ذات ملامح سياسية، تسخر من الشاعر الجواهري، ثم يحاول ربط المقدمات بالنتائج بحماسة واضحة، ونزعة ثورية لها أسبابها الدفينة في نفسه، حين يقول: ((وإذا كان الجواهري قد نجح في قصائده السياسية السابقة لتعبيره عن سخط الشعب الواعي تجاه الفئة الحاكمة ؛فليس معنى ذلك انه في مقدور الجواهري أن يخلق من كل معضلة اجتماعية أو أزمة سياسية موضوعاً لقصيدة ناجحة، وقد سقط في قصيدته هذه سقوطاً شنيعاً، أزعج حتى المعجبين به والمتحمسين لنبوغتهِ، إذ لم يوفق في عرض الموضوع عرضاً مثيرا كعادته في قصائده السياسية))(1).
من مواصفات النقد المنهجي هو دقة التعبير، والابتعاد عن الانفعال، وتجنب إظهار العاطفة الذاتية، لان هذه الأمور من مواصفات المقالة الأدبية، التي تهتم بالجانب الذاتي، وتستخصر الانفعال والعاطفة،لان أسلوبها هو الذي يعبر عن خصوصية الطابع الإنشائي والفردي، بينما يجنح النقد المنهجي إلى محاكمة النص محاكمة خاصة ,بعيداً عن شخصية الناقد، ولكن حسين مردان في هذه التجارب المبكرة التي خاضها كان ميالاً إلى الكشف عن موافقة الشخصية التي لا تستند – في غالب الأحيان – إلى دعائم موضوعية في قصيدة الجواهري، فهو يتهمه بأنه يريد أن يغذي مجده الأدبي، فيطل على المتلقي بقصيدة فيها الإسفاف، والسردية والسطحية، لأنه لا يعلم أن الشعر صنعة كالتجارة، وقد بلغ به الأمر إلى حد وصفه بأنه ((كالطفل الضعيف الذي يملأ عبه بالحصى ويقف بعيداً خائفاً يهدد الرجل الذي صفعه صفعة أطارت صوابه))(2). لأنه يرى أن في النثر ما هو أفضل من الشعر، من حيث عذوبة الألفاظ وجمال الأخيلة، ومن الشعر ما يجعلك تصرخ إذا ما قرأته لتفاهة معانية وضحالة خياله وضيق آفاقه(3).
ويبدو– لي – أن الصراع بين الجواهري وحسين مردان كان واضحاً، لاختلاف الرجلين في الموقف من الحداثة والتجديد؛ على الرغم من كون هذه المقالة قد كتبت بوقت مبكر هو عام 1952م، لأنه لم تتوضح في هذا الوقت تجربة الشعر الحر بعده بالشكل المطلوب، لكن حسين مردان كان مشبعاً بروح التمرد، وهاجس التجديد، ويعد نفسه أحد رموز هذه المرحلة؛ لذا نجده يتهم الجواهري تهماً خطيرة، لو قالها غَيره لعدت من غرائب العصر؛ فها هو يقول عن قصيدة الجواهري هذه : ((لا يمكن أن توصف بالسخف فقط لأنها تثير في نفس القارئ الاشمئزاز والاحتقار أكثر مما تثير في نفسه من الألم والحزن، وهكذا حكم الجواهري على قصيدته بالفشل))(4).
وحين يتعلق الأمر بالبياتي في مجموعته (أباريق مهشمة) نجد حسين مردان اقل حدة، وأكثر اتزاناً، محاولاً أن يتبنى موقفاً نقدياً ما، أكثر من كونه يتبنى موقفاً شخصياً، فيصف قصائد (أباريق مهشمة)، بأنها ((مهشمة الهيكل وان السلك الخفي الذي يربط الصور ببعضها في قصائده لا يبدو إلا متقطعاً مما يهبط بمستوى القصيدة الفني إلى حد كبير))(5). كما يصفه بالصديق فيلين له عريكته، حتى وهو يصف لغة شعره، بأنها تشي لغة كتاب العرائض في العراق، وانه لا يبتعد عمن حوله، أما مقالاته الأخرى في هذا الكتاب، فليست ذات بال.
-2-
في المرحلة التالية من تجربة حسين مردان المتمثلة بكتابه (الأزهار تورق داخل الصاعقة) الصادر عام 1972م وما لم ينشر من تراثه الذي جمعه الدكتور علي جواد طاهر في كتابه (من يفرك الصّدأ؟) مع شعره المنثور وغير المنثور، نرى أن كتاباته جمعت بين الأدب والفنون الأخرى، وحاولت أن تتبنى توجهاً خاصاً لم يبلغ إلى مستوى المناهج النقدية المعروفة، وخصوصاً بعد أن اخذ ينشر أسبوعيا؛ مما وفَّر له فرصة في تبديد شحنات الحماس والانفعال, واسهم في إخضاع نقده إلى نوع من الهدوء الذي افتقر إليه كتابه الأول (مقالات في النقد الأدبي), ولكنه كان أمينا لكتابة المقالة الأدبية في عناصرها المعروفة، مثل إيثار الوصف والإنشائية، وبروز النزعة الذاتية، والانفعال في الحدث أو الموقف، كما مال حسين مردان إلى مناقشة قضايا عامة في الثقافة والأدب، والاهتمام بالمكان والتشكيل اللوني،مع الاستمرار في إيثار الموقف الأيديولوجي، بحيث يمكننا القول أن المنهج لدى حسين مردان هو حسين مردان نفسه، بكل تحولاته ومواقفه، فقد شعر في هذه الحقبة بأنه أصبح صوتا ثقافيا مؤثراً، وبان نقده، أو ما يكتبه بشكل عام هو تعبير عن شخصية الثقافية الخلاقة؛ لهذا ابتعد عن موضوع المهاترات الشخصية والمواقف الصبيانة، وآثر أن يتعرض إلى موضوعات تهم القارئ بشكل خاص مثلما تهمه، بوصفها جزءاً من زاده الثقافي، وجزءاً من تجربة الكتابة، فأصبح يهتم بنقد الكتب بشكل موضوعي، أو الكتابة عن موضوعات تتعلق به شخصيا كالمقاهي والرحلات، والأفكار ذات الطابع الوجودي؛ بما ليس علاقة بالشخصيات، أو القضايا الشخصية، بيد أن حسين مردان يبقى ميالاً إلى ما تمليه عليه ذاته في تضخمها الذاتي؛ فعن قصة (الرجل الخالد) لدستويفسكي لم يتعرض لبناء القصة أو شخصية الكاتب، بقدر تعرضه إلى موضوع القصة، حتى انه وصف قدرات الكاتب بالفذة، وانه طرح الطفلة (لويزا) رمزا للخطيئة، وان دستويفسكي وجه لطماته بقوة هائلة إلى الطبقة الارستقراطية ومباذلها في عهد الحكم القيصري، لذا وصف نماذجه البشرية، بأنها محطبة وطيبة تتخبط بين تيارين ((تستسلم فتنجرف أو تقاوم فتنتصر))(6).
وغالباً ما ينساق حسين مردان نحو أثر الشعر الأيديولوجي، وعلاقته بقضايا الجماهير، لذا نجده يقول : ((أن شعبنا الآن يحاول اختراق حاجز المأساة ليقترب من باب الفردوس فعلى الشعر أن يدور حول رأس الحربة،ويتخلى – ولو مؤقتاً – عن هدفه الاستراتيجي في مخاصرة كل مودة يأتي بها الأدب الغربي))(7).
وحين يتناول كتاب الفنان شاكر حسن آل سعيد (دراسات تأملية) يبدو محايداً تماماً، بعيداً عن نزعته العدائية، أول أمره، وعبر أربع حلقات، حتى تنسجم مع مقالاته التي كان ينشرها بصفة أعمدة صحفية، ولكنه يؤاخذه في الحلقتين الثالثة والرابعة على عدم إحاطته ببعض الأمور، ثم يختتمها بقوله : ((ولقد أدى تثبيت مثل هذه الخلاصات للقصص إلى إضعاف البناء التحليلي وخرج بهِ إلى جادة السرد والشرح غير المقبول بالنسبة لكاتب مثل شاكر حسن يعتمد على التخييل والاجتهاد الشخصي، أكثر مما يعتمد على نتائج العلم في المختبر))(8). مما يشير إلى أن حسين مردان في هذه المرحلة قد تغيّر فعلاً وأصبحت لغته هادئة رزينة، مشحونة بطاقة تعبيرية قادرة على إقناع المتلقي، بعيداً عن التصورات المنهجية، لأنها مرتبطة بهِ شخصياً، وهو ما يتكرر في مقالاته الست عن البيان الشعري، حينما يترك العنان لأفكاره لتنساب حتى المقالة الخامسة، ثم يتعرض بوضوح إلى البيان الشعري، ليخرج بفكرة مفادها أن البيان الشعري ظهر لمجرد الإثارة وتبني المدهش(9). أما في القسم السادس منها فلم يتعرض له.
ولحسين مردان فلسفة خاصة في هذا الجانب أوجزها في إحدى مقالاته، وعنوانها (بعيداً عن اللعب مع الدّمى)؛ وبالذات حين يفصح عن فهمه لحرية التعبير، فيقول: ((فالكاتب أو الشاعر الذي لم يبلغ الدرجة الأخيرة في سلم التكامل لا يستطيع رؤية الاتساع الموجود في الآفاق القريبة من القمم..وارى أن الطريقة الوحيدة للفرار من خيال التوقف أو الاكتفاء بتجربة واحدة أو عدة تجارب))(10).
من خلال ذلك يتضح لنا بأن حسين مردان، ناقد مقالي، بالدرجة الأساس، لايعير اهتماماً يذكر إلى المناهج النقدية، وليس لديه منهج خاص، ولكنه يمتلك قدرات ثقافية، ولغة أدبية متميزة تعينه على تلمس طريقه، وطرح أفكاره، وهو، مع ذلك، أمين لمرحلته وجيله، في تبني المواقف الأيديولوجية، التي ترى أن الأدب أداة من أدوات التعبير عن قضايا الشعوب المصرية. مع ذلك لا يقتحم هذا المواقف اقتحاماً، كيفما اتفق له، لميله إلى التمرد، وغلبة النزعة الذاتية على لغته النقدية، لهذا فان نقده ينمو ويتحرك باستمرار تحت ظلال المقالة الأدبية ولا ينفصل عنها.
الهوامش
(1) مقالات في النقد الأدبي : حسين مردان (بغداد، 1955م) : ص11 – 12.
(2) نفسه : ص 28.
(3) نفسه : ص 33.
(4) نفسه : ص 41 – 42.
(5) نفسه : ص 60.
(6) الأزهار تورق داخل الصاعقة : حسين مردان، وزارة الإعلام- دار الحرية للطباعة (بغداد، 1972م) : ص90.
(7) نفسه : ص 108.
(8) نفسه : ص 120.
(9) نفسه : ص 180.
(10) من يفرك الصدأ؟ : حسين مردان، تقديم وإعداد: د. علي جواد الطاهر، دار الشؤون الثقافية العامة (بغداد، 1988م) : ص 106.
الاتجاه القصصي فـي
شعر حسين مردان وكتاباته
علي خيون
ناقد من العراق.
كنت شاباً مهووسا بفن القصة، حين رأيت حسين مردان أول مرة، كنت أظنه كاتب قصة لأن ما يكتبه كان ـ في تقديري يومئذ ـ سردا قصصيا وليس «نثرا مركزا» كما كان يسميه، كان ذلك اللقاء في نادي اتحاد الأدباء والكتاب في العراق، يجلس بملابس رثة ويحتسي الخمر، والطريف أنني توجست منه خيفة، فنهضت وجلست أتأمله من مكان بعيد، وقد صدق حدسي، إذ سرعان ما تشاجر مع احدهم وطوح بزجاجة الخمر بعد دقائق من مغادرتي مكاني الأول.
ثم إذا هدأ، تشجعت ودنوت منه، فقد أردت أن اسلم عليه، واعرفه بنفسي، لكن احد المتطفلين صاح يحذره من التفاح الأبيض الصغير الحجم الذي كان حسين يقضمه بسرعة فقد كان ممتلئا بالدود :
ـ « حسين دير بالك من الدود !»
فرد حسين غاضبا :
ـ « خلي الدود يدير باله مني !»
قررت بعد تلك الحادثة أن أتأمل كتابات حسين مردان من دون الاقتراب منه، فقد وجدته شخصا غريب الأطوار، فهل كان شعره وكتاباته مطابقا لكلماته ؟!
نعم، كان حسين مردان، ظاهرة فاجأت الجميع كما فاجأني، فقد فوجئت الأوساط الأدبية في بغداد بفتى في العشرين يغادر مدينته ويتسكع في المقاهي مفلسا حزينا، يكتب شعرا متمردا، وشعاره أن يصل الى «القمة عن طريق الحضيض».
واكتشفت ان الرجل ليس بسهل، وانه ذكي، وان ما يفعله كان مقصودا ومخططا له، ومع ان الكثيرين لم يشاطرونني الرأي لكنني تأكدت منه حين قرأت له الكلمات التالية التي صدر بها احد كتبه :
ـ (أيها القارئ المحترم.. إنك لا تفضلني على الرغم من قذارتي وانحطاطي وتفسخي إلا بشيء واحد، وهو أني أحيا عاريا بينما تحيا ساترا ذاتك، فنصيحة مني الا تقدم على قراءة هذا الديوان اذا كنت تخشى حقيقتك وتخاف رؤية الحيوان الرابض في أعماقك).
هذه الكلمات هي تحريض على القراءة، وهي من جانب آخر، صياغة قصصية لفكرة داخلية تعتمل في نفس الشاعر وهي أنه شخص يمكن أن يصل الى مبتغاه عبر طريق غير مألوف أو كما قال من الحضيض الى الذروة.
وهو لا يمضي في هذا الطريق الذي يضع الشعر في اطار من السرد إلا عبر خطة محكمة قوامها ثلاثة عناصر كما يذكرها هو :(النشوة كبديل عن مهزلة الايام، الجنس كمبدأ وأساس لبناء الشخصية الانسانية، الحب كمهرب من الموت وجواب عليه).
ويرى الناقد العراقي عبد الجبار عباس، أن أهم صفات أدب حسين مردان هي الجرأة والوضوح والبراءة ومزاعم الاطفال البيضاء، من هنا، ندرك لماذا جاءت أعماله الادبية ذات مبنى سردي قصصي بسيط لأن ذلك يساعده على البوح وايصال الفكرة فكان نتاجه في معظمه اعترافات وخواطر وبيانات شخصية يطلقها شاعر يعتز بفرديته قدر اعتزازه بشعبه وجماهير البائسين منه، لكن السرد القصصي كان ضعيفا في اغلب قصائده التي تعتمد قصصا شعرية قصيرة مثل «تجربة مع راقصة، عشيقة قبيحة،مغازلة فتاة في درب عتيق).
لم يكن حسين مردان ليعرف من الجميع ويذيع صيته، لولا الضجة التي رافقت ظهور ديوانه (قصائد عارية)، وهو الكتاب الذي قاده الى المحاكمة، ولم يجد محامي الدفاع الذي توكل عنه سوى القول : «انه اراد ان يفهم الناس ماهية الرذيلة «. لكن الشاعر كان يفسر ذلك النهج في قصائده بالقول: «حاولت في قصائدي الاولى ان اكشط الجلد وارفع جميع طبقات اللحم مخترقا صلابة العظام للوصول الى حركة الدم لمعرفة العلاقات التي تربط المرأة بالرجل، وكنت اريد مساعدة المرأة الشرقية المعاصرة على الخروج من اقبية وسراديب ذلك العالم».
هذا الاهتمام والمعرفة بموضوعه، جعلا حسين مردان يصبح واحدا من كتاب الحب والشوق في النثر العربي المعاصر، ولا أقول الشعر، فقد اتخذت كتاباته طريقة النثر المركز ولكنها في الواقع قصائد سردية ذات منحى قصصي واضح.
ويمكن التوصل الى الاستنتاج الذي توصل اليه معظم النقاد الذين درسوه وهو ان حسين مردان في الجيد من نثره الفني اهم منه في الغالب السائد من شعره.
لقد كنت اتمنى لو ان حسين مردان اتخذ من القصة القصيرة طريقة للتعبير، اذن لقدم لنا ادبا راقيا، فهو لا يقدم مادته دون فكر ودون معاناة، وهذا ما نجده في الكثير من سردياته، ومن امثلة ذلك هذا النص المختار من كتابه (الازهار تورق داخل الصاعقة):
ـ «منذ الصباح وانا اتجول في قلبي، بحثا عن ذكرى او شبح، عن رجفة حارة او لوعة، لا شيء غير قالب من جليد وظل غزالة تبتعد وتغيب في عتمة الاعماق، وكلما ارسلت كفي ليحفر في داخلي ويمسك بعطر اغنية او لمعة ضوء عاد وامتلأ بالغبار والطين، فالى اين ذهبت تلك الوجوه والمناظر والكؤوس المترعة، واين اختفت غابات الريحان والطيور وجداول الضحك، لقد اكلت نصف العالم ولم ازل فارغ العينين».
لقد كان السرد القصصي يساعده في بث ما يشاء من المتناقضات التي تمور فيها داخله، هذا اضافة الى توصيل ما يشاء من الرسائل السياسية المبطنة، فهو رجل يدرك ان جزءا كبيرا من مأساته يتحملها الواقع المزري، ويمكن تلمس ذلك في نصوصه التي يبدو فيها وكأنه فقد الوعي وبدأ يرسل صورا برقية عاجلة :
ـ «سيقان عارية ـ أرداف بيض ـ نهود مقطوعة ـ وجوه مشوهة تطل من كل مكان ـ رؤوس بلا اجسام ـ تدور حولها قطط ملتهبة العيون ـ وتحلق فوقها طيور بلا مناقير».
وهو يتخذ من السرد طريقة للتأمل في الاعماق، وهو تأمل يائس وغريب :
ـ «وتزأر العاصفة ـ ويتساقط حولي الرعد ـ واظل اركض فوق البحار لاسقط في النهاية ـ وراء حدود الارض ـ حيث لا موت ولا حياة ـ ولا زمان ولا مكان ـ هنا اغوص في الاعماق ـ واحملق في ذاتي ـ فلا ارى غير الظلام ـ هناك على صدر المطلق ـ اتقلص في اعماقي واتلاشى كعمود من دخان ـ واضيع..اضيع في اللاشئ».
يبقى ان نشير الى ان لغة حسن مردان واسلوبه ظل بسيطا، مناسبا لما يطرح من فكر مريض ومحروم وبائس، ولم يكن مدرك لأدوات السرد القصصي واشتراطاته، لذا فهو مجرب شجاع في مجاله، اختط لنفسه الطريق التي يراها مناسبة، وهي طريقة تشبه المرآة، مرآة نفسه هو، تلك النفس التي ترعبه هو ذاته، كما في هذا النص الصريح :
ـ «وفي كهف عريض طليت جدرانه بشحم البشر رأيت الشيطان على عرش من اللحم، وبين قرع الطبول ورفيف الجن اقتربيت من اله الشر، وماكدت انظر الى وجهه حتى رأيت نفسي فصرخت برعب: انه أنا، انه أنا، وعلا الضجيج».
لقد افاد حسين مردان من النثر لخدمة شعره، فجعله قصصا قصيرة متحللة من ضوابط الحبكة المتقنة ليغمر عبابها بحرية، لكنها رفعته ضمن العقود التي كتب فيها الى ان يكون عن جدارة واحدا من اعلام النثر في ادبنا الحديث.