«أغلب الفنانين الغربيين الذين زاروا المغرب كانوا يتحاشون الاهتمام بإشكاليته الثقافية المعاصرة، كما لو كان هذا الموضوع تافها، وغير ذا معنى؛ لكنهم في المقابل، كانوا يبحثون عن فرضيات خالصة لما هو تقليدي».
-MARAINI Toni: « Ecrits sur l’Art : choix de textes – Maroc 1967 – 1989 », éd : Al kalam – Collection Zellige – Mohammadia, 1990. P : 19
شكلت الفترة الممتدة من سنة 1832، تاريخ وصول الفنان الفرنسي فرديناند فيكتور أوجين دولاكروا Eugène Delacroix إلى المغرب، وحتى تاريخ وفاته سنة 1863، مرحلة فارقة ليس فقط في مسار هذا الفنان الرومانسي الحالم، وإنما أيضا في سيرورة الفن الفرنسي والغربي عامة.
ذلك أن الساحة الفنية الأوروبية كانت تعيش، خلال هذه الفترة، مرحلة اتسمت، ضمن ما اتسمت به، ببداية انغلاق أفق الإبداع الفني وانحساره في دائرة الأساليب المدرسية التقليدية، وضيق مساحات التجديد في مناهجه التعليمية، وعدم قدرة تجاربه المكرسة على استيعاب مختلف الإضافات التجريبية، التي كانت تتأسس عليها الموجات الفنية الجديدة.
ولعل هذا الوضع هو ما سيفسر، في وقت لاحق، تلك الهجرة الجماعية التي انخرط فيها عدد من الفنانين الفرنسيين صوب جغرافيات أخرى من العالم، طمعا في تجريب موضوعات وممارسات تقنية وفنية مغايرة لما كان سائدا. ويمكننا، في هذا الإطار، أن نسوق، على سبيل المثال لا الحصر، أسماء بعض هؤلاء، أمثال هنري ماتيس وجاك ماجوريل (المغرب)، بول غوغان (جزر هايتي)، كلود موني (إسبانيا) وأوغيست رونوار (الجزائر)… وغيرهم كثير.
وبالعودة إلى بعض الكتابات التاريخية ذات الصلة بتجربة دولاكروا المغربية، نقرأ أن هذا الفنان حل بالمغرب، أو ما كان يعرف آنذاك بـ«المملكة الشريفة» أو «الإيالة الشريفة»، سنتين فقط على احتلال فرنسا للجزائر، وبالضبط في يوم 25 يناير من سنة 1832، قادما إليه رفقة «بعثة دبلوماسية» كان قد أرسلها لويس فيليب – Louis Philippe ملك فرنسا آنئذ، لاكتشاف المغرب ورصد أحواله الداخلية وطبيعة ساكنيه، من جهة، ولكسب ود السلطان المولى عبدالرحمن، على خلفية تنويم الجبهة المغربية المهابة الجانب آنذاك، حتى يتسنى للجيوش الفرنسية مواجهة أجواء الاضطرابات التي كانت قد رافقت، وسترافق فيما بعد، الإجهاز على استقلال الجزائر من جهة ثانية.
هذه البعثة الاستخباراتية، وهي التسمية الأقرب إلى حقيقة هذه المبادرة الفرنسية، التي كان يرأسها الكونت شارل دو مورناي –Charles de Mornay ، كان مقدرا لأعضائها قضاء أسابيع معدودة في المغرب، لكن سرعان ما ستمتد إقامتهم، لأسباب يعتبرها البعض دبلوماسية، لتصل – حسب بعض الباحثين – إلى أربعة أشهر وعشرة أيام ( والبعض الآخر يجعلها ستة أشهر )، وهي الفترة التي تعرف خلالها هذا الفنان – الذي جيء به لنقل صورة بصرية مشخصة عن المغرب للسلطات الفرنسية المركزية – على مناطق متفرقة من المغرب، خاصة مدينة طنجة، ومنها سينقل الخطوط العريضة للوحاته – Esquisses وتخطيطات رسوماته – Croquis التي لم تخل، بعد إنجازها لدى عودته إلى فرنسا لاحقا، من ذلك الملمس الغرائبي الاستشراقي، الذي كان مهيمنا على العقلية الفنية الغربية آنذاك في علاقتها بالشرق وسحره، هذا السحر الذي أريد له أن يكون هلاميا وغامضا، رغم الانبهار الصريح الذي ما فتئ يعبر عنه هذا الفنان جراء اكتشافه للمغرب؛ ساكنة وطبيعة وتقاليد، باعتباره عالما بكرا لم يصبه بعد جذام الرأسمالية الغربية التي كانت نشطة آنئذ في غزو العالم، إن اقتصاديا أو ثقافيا أو عسكريا.
وعلى الرغم من كون هذه الزيارة كانت ذات أبعاد استخباراتية، أي شروع فرنسا في تكييف مسببات احتلالها للمغرب في وقت لاحق، إلا أنها ستشكل، على صعيد آخر، محطة هامة في مسار دولاكرا الفني كما أسلفنا، كما ستدشن، في نفس الوقت، لميلاد مرحلة جديدة من تاريخ المغرب وتاريخ مدينة طنجة على وجه الخصوص. إذ ستتحول هذه المدينة، في الفترة ما بين سنتي 1832 و1960، إلى فضاء كوسموبوليتي يقصده عدد من الفنانين من مختلف الآفاق والجنسيات، كما ستشكل بوتقة للبحث في مجال التصوير بمختلف تياراته ومدارسه.
لذلك، يمكن اعتبار رحلة دولاكروا المغربية، وقبلها الجزائرية، ذات أهمية فارقة في مسار هذا الفنان التصويري، حيث أفادته في اكتشاف معان أخرى لعدد من التقنيات والمقومات والموضوعات الفنية التي كانت مكرسة لديه اكثر من ذي قبل، وعليها تبلورت كثير من قناعاته الجمالية والنظرية الجديدة. ومن ذلك انبهاره بضوء – La lumière المغرب المختلف عن نظيره « الرمادي « الأوربي، وبسحر الأصباغ الطبيعية المحلية – Les pigments، وبطبيعة ساكنيه؛ طريقة لباسها، ونوعية جمالها وعلاقتها بالفضاء الذي تسكنه، وبالطبيعة العذراء التي كانت تحتضنه.
وفي هذا الإطار، يؤكد مؤرخ الفن الفرنسي والمدير السابق لمدرسة الفنون الجميلة بمدينة الدار البيضاء، موريس أراما Maurice Arama، صاحب كتاب « مغرب دولاكروا – Le Maroc de Delacroix «، أن دولاكروا ظل مشدودا، طوال زيارته لمدينة طنجة، إلى ذلك النبل الذي يميز الحياة المغربية، وإلى طابع البلد القديم، كما أدهشه تعدد الاثنيات داخله، وذلك الانسجام والتعايش اللذين كانا يطبعان العلاقات اليومية بين مختلف مكونات ساكنته، من مسلمين ويهود وجاليات أخرى أجنبية.
هذه الخصوصية التي كانت تميز مغرب مطلع القرن التاسع عشر، بتداعياتها الجمالية المتنوعة، الأصيلة، وبما كانت تتسم به من روح البساطة والتلقائية والعمق، هي ما حاول دولاكروا استثماره صباغيا في إعادة صياغة كثير من قناعاته الجمالية، إن في ارتباط بالشق الموضوعاتي أو التقني، وهي الشحنة التي كان لها تأثير كبير وواضح على جانب هام من خبرته الجمالية وأفكاره النظرية، لا سيما تلك المرتبطة باستعمالات عنصر اللون وكيميائه، وفق تصور جديد توصل من خلاله إلى تأسيس قاعدة « تكامل الألوان «، التي أسهمت في إلهام جيل رواد الاتجاه الانطباعي – Impressionnistes Les ، الذي ظهرت بوادره في نهاية القرن التاسع عشر.
وهكذا، ساهمت هذه المشاهدات والآراء والأفكار التي كونها دولاكروا عن المغرب، والتي قام بتوظيفها لاحقا في أعماله الصباغية «المغربية»، إلى جانب ما جاء في مذكراته الفنية التي عكستها كنانيش رسوماته التحضيرية، وكذا الرسائل الحالمة التي كان يبعث بها إلى أصدقائه من الكتاب ومن الفنانين الفرنسيين، كل ذلك ساهم في رسم صورة جذابة ومغرية عن مدينة طنجة – وعن المغرب عامة، باعتباره فردوسا ووجهة خلاص لكل الذين أصبحوا يذيقون ذرعا بغلو الحضارة الغربية وماديتها. حيث، صارت مدينة طنجة، ابتداء من هذا التاريخ، محطة استقطاب لعدد من الفنانين الغربيين الفارين من جحيم الرأسمالية الغربية، ومن قيمها الجديدة، التي كانت تزحف، دونما وازع أخلاقي، على كل القيم الإنسانية النبيلة، فيما اعتبر، في حينه، بداية تجريد للإنسان من روحانياته ومن كل ما كان يشده إلى الطبيعة وإلى البساطة وإلى الحياة؛ أي إلى جوهره.
وإذن، نحن أمام فاصل تاريخي أتاح لدولاكروا، وللفن الغربي بعده، إمكانية تجديد دمائه. وفي ذلك، كتب، وهو يوجه خطابه لأولئك الذين كانت ما تزال تستهويهم فكرة مركزية روما الفنية، يقول: « إن التأثير التركي أقل درجة هنا (في المغرب)، أما الرومان والإغريق فهم موجودون عند بابي. ولقد سخرت كثيرا من إغريق الرسام دافيد. إن روما لم تعد في روما «. وعن المغرب دائما، يضيف: « في كل خطوة تجد لوحات كاملة جاهزة من شأنها أن تُغني وتشهر عشرين جيلا من الرسامين..».
وكما أسلفنا، فبالرغم من الأهمية التي حازتها هذه الزيارة في خلخلة بعض ثوابت الممارسة الفنية، إن لدى دولاكروا أو لدى غيره من الفنانين الغربيين ممن جاؤوا بعده، إلا أنها، وللمفارقة العجيبة، لم تستطع أن تؤسس لممارسة هذا النوع من الفن داخل المغرب، كما لم تكن ذات تأثير آني في إغراء الشباب المغربي على ارتياد عتبات هذا العالم الملون. بل على العكس من ذلك تماما، أصبح، في وقت لاحق، مجرد معاينة فنان غربي منهمك في الرسم أمام حاملة في الشارع العام، تثير الدهشة والاستغراب الملفوفين بغير قليل من الغموض لدى البعض، وقد يصل الأمر أحيانا إلى إيقاظ مشاعر الارتياب والسخط وعدم الرضا لدى البعض الآخر.
ويرجع سبب ذلك في ظننا، من جهة، إلى طبيعة المهمة التي جاء من أجلها دولاكروا إلى المغرب، وهي مهمة استخباراتية بالأساس، قبل أن تتحول إلى افتتان واستثمار جماليين، وظفهما هذا الفنان في أفق تطوير تجربته الشخصية وإغناء ذائقته الفنية، دون أن يتجاوز الأمر ذلك. ولعل في ذلك ما كان يوسع من تلك الهوة الفاصلة بين دولاكروا أو سواه من الفنانين الغربيين، على الأقل في تلك المرحلة، وبين الأهالي. ومن جهة ثانية، يمكننا تفسير هذا الحياد السلبي، من جانب النخبة المغربية بالخصوص، انطلاقا من علاقة بعض مكوناتها المعبر عنها صراحة بالفن عموما، سواء كان موسيقى أو غناء أو رقصا أو ما إلى ذلك، مما جرت العادة على إدراجه في باب «الملهيات». وإذا ما استحضرنا، إضافة إلى ذلك، كون الرسم عموما والمجسم منه تحديدا، ولأسباب تاريخية ودينية معروفة، لم يكن يقع في أنفسهم موقع الرضا والاطمئنان، أمكننا تأطير طبيعة تلك العلاقة الصدامية التي كانت تشوب تعامل النخبة المغربية مع هذه «الملهيات» ومع سائر أشكال الفرجة خاصة الشعبية منها، وهي العلاقة التي كانت تبدأ بالتبخيس تارة لتصل إلى التحريم والمنع تارة أخرى. إذ تكفي الإشارة هنا إلى أن دولاكروا نفسه، وعلى الرغم من العناية والتغطية الرسميتين اللتين كان يحظى بهما أثناء تنقلاته في بعض جهات المغرب، لم يكن بإمكانه نصب حامله في الهواء الطلق لإنجاز لوحاته بكل حرية، وكل ما أنجزه كان عبارة عن تخطيطات قام بنقلها في خلسة من الأهالي مخافة التنكيل والفتك به. وكثيرة هي الكتابات التاريخية، ذات الصلة، التي تذهب إلى تأكيد هذا الأمر.
لذلك، سوف ننتظر حتى حدود سنة 1922، أي ما يقارن قرنا من الزمن على زيارة دولاكروا لمدينة طنجة، لنحظى، كمغاربة، بأول معرض لفنان مغربي احتضنه قصر المامونية بالرباط، ويتعلق الأمر بمعرض الفنان الرائد محمد بن علي الرباطي ( 1861 – 1939 )، الذي يعتبر معرضه هذا أولى اللبنات الحقيقية في مسار تاريخ الفن الحديث في المغرب. وما يزيد في تأكيد عدم تأثر الفنانين المغاربة الأوائل، أمثال الرباطي ومولاي أحمد الإدريسي (1924 – 1973) ومحمد بن علال) 1924 – 1995 وأحمد الورديغي ( 1928 – 1974) وسواهم..، المباشر إن بدولاكروا أو بغيره من الفنانين الأجانب، كون القوات الاستعمارية لم تقم، لحسن الحظ، بإنشاء معاهد عليا أو أكاديميات فنية، على غرار ما قامت به فرنسا في تونس والجزائر مثلا، وهو ما اعتبره بعض نقاد الفن ودارسوه ـ في وقت لاحق ـ نعمة، كرست لنقمة فنية تابعة، كانت لا تبتعد كثيرا عن تلك اللمسة التصويرية الاستشراقية المغرقة في العنف والشهوة والغرائبية، إلا لتعود إليها في تكرار ممل وغير مجدد، مما ساهم في تغريب الروح الفنية داخل هذين البلدين الشقيقين لسنوات طويلة.
هذا الفراغ الأكاديمي المدرسي، هو ما جعل أعمال جيل الفنانين المغاربة الرواد التجسيدية الصباغية تأتي استجابة لميولاتهم الفطرية، ولاستيهاماتهم الشخصية، وإلى رغبتهم الملحة في ارتياد عالم الفن، الذي ظلت النخبة المغربية، حتى مطلع منتصف القرن العشرين، تنظر إليه نظرة دونية تبخيسية، إن لم تكن نظرة شك وارتياب. ومن هنا أيضا نفهم ذلك الجواب التلقائي العميق الذي رد به الفنان الإنجليزي السير جون ليفري على الفنان بن علي الرباطي الذي طلب منه أن يعلمه قواعد الرسم، فما كان من السير ليفري إلا أن خاطبه قائلا: « لا أستطيع أن أعلمك شيئا، فأنت خلقت رساما وعليك أن تبقى على حالك «، أي على سجيتك. وهذا يؤكد ما ذهبت إليه كذلك الباحثة الإيطالية كوني مارايني، في وقت لاحق، حين خلصت إلى أن « الرسام المغربي لم يكن في حاجة للتعلم من الفنان الأجنبي، بقدر ما كان يتخذه كشاهد على موهبته الخاصة».
والأكيد أن هذه التلقائية، وما تتسم به من روح خلاقة ومن غرائبية طبيعية غير مفتعلة، إن في الموضوعات أو في اللمسة الفنية أو التقنية..، هي ما جعل أعمال هذا الجيل من الرواد تلقى إقبالا كبيرا خارج المغرب، كما جعلها تغري طموح وتطلعات بعض الفنانين الغربيين آنذاك بارتياد قارات إبداعية كانت في عداد المهمل والساذج، بما يفتح أمامهم آفاقا جديدة قوامها التجريب والمغايرة، وما تقتضيانه من استحضار لروح المغامرة الحالمة التي تسعى وراء المختلف والطارئ والجديد، وهو الطموح الذي جربه ذات يوم الفنان أوجين دولاكروا، ونجح من خلاله في خلخلة يقين الفن الغربي، من خلال أعماله المغربية الخالدة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تنبيه: استأنسنا في كتابة هذه المقالة بدراسة أنجزها الفنان المغربي محمد الفقيه الركراكي تحت عنوان: «معطيات تاريخية عن حركة التشكيل بمدينة طنجة»، وبمقال قصير للباحث الفرنسي موريس أراما بعنوان: Tanger : décennies d’une mémoire picturale الصادرين في كتاب «طنجة في الآداب والفنون» ضمن منشور مشترك بين كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط ومدرسة الملك فهد للترجمة بطنجة سنة 1992.