هي أمامي الآن ، وجهانا متقابلان ، يكاد بريق عينيها يخترق البرقع الأسود لتهلاّ عليّ، وأكاد أخمن أن ابتسامة سخية بيضاء تعاند هذا البرقع الشفاف ، ابتسامة لا أحد غيري من الممكن أن تهديها له بدلا من تحيّة الصباح .
توقعت أنها تعرفني ، ولكنّني خشيت أن أقع في مطب فهؤلاء النسوة المبرقعات لا أحد يعرف مآربهنّ ، ولا كيف يتصرّف معهنّ . هنّ جديدات علينا ، فجأة ظهرن ، كأن حجم الحريّة الذي جاءت به الثورة جعلهنّ ملفعات مبرقعات ، لهنّ من يسندهنّ ، وقد قلبن الدنيا في احدى الكليّات ، اعتصامات واعتداءات وإيقاف سير الدروس .
لكن من المؤكد أن البرقع يحيل على المحافظة وفقا لقراءة دينيّة معيّنة ، وأذكر هنا أن آخر برقع شاهدته كان لجارة لنا وكنت وقتها في السابعة من عمري ، ثمّ أزيحت البراقع التي كان النسوة يسمينها «البوشيّه» وخلعت العباءات في ثورة نسائية اجتاحت العراق امتثالا لما دعا اليه الشاعر الزهاوي ودعوات قاسم أمين في مصر . لكن ها هو البرقع يعود من جديد وبكلّ هذا الصخب الذي رافق عودته يؤججه الموافقون عليه والرافضون له .
نساء يتبرقعن لأنّهن لا يردن إظهار وجوههنّ ويشرعنها سافرة أمام الأنظار ، سواء في الشارع أو أماكن العمل ، وهناك من يسمعهنّ ما تيّسر من قاموس البذاءة الذي يتغذّى بتلّذذ من ذكر الأعضاء التناسلية للمرأة وللرجل .
ثم جاء صوتها حتى أنّني خلتها تتوّجه بالكلام لآخر غيري :
– أما عرفتني ؟
وردّدت عليها مستغربا من سؤالها :
– وكيف أعرفك وأنت تخاطبينني من وراء الستار ؟
سألتها وأنا مندهش ومستغرب، حتّى أنّني تلفتّ لأتأكدّ من أنّني المخاطب ، قالت وكأنّها تريد أن تبعدني عن التكهنّات :
– أنا سامية بن صالح
وصفنت قليلا ، وتساءلت في سرّي ومن هي سامية بن صالح ؟
وكأنّها أدركت ما أنا عليه من حيرة فأوضحت :
– لقد عرفتك ، كنت أنا وهو ، وكنت أنت وهي نلتقي في صيف عام مضى بذلك المطعم المنعزل في حلق الواد ، وكنّا نأكل السمك ونشرب أستغفر الله النبيذ قبل أن ينعم الله عليّ بالتوبة والهداية .
وقلت وأنا أصفق بيدي :
– إذن أنت رفيقة مصطفى الجمعي ؟ !
– نعم ، أنا هي .
وزفرت بارتياح وأنا أرّدد :
– أكاد أتذكّر لقاءاتنا تلك ، بل وأكاد أرى وجهك من وراء البرقع رغم أن ملامحك بعد كلّ هذه السنوات تبدو باهتة في ذاكرتي ، ولا تنسي أن للحياة ايقاعها المتسارع !
قالت :
– لكنّني أعثر عليك غالبا ، صورتك تدعوني لقراءة ما تكتبه في هذه الجريدة أو تلك ، وأنت لا تكف عن مناقشة ما يجري بعد ثورات الربيع العربي ، على فكرة هل أنت مقتنع بهذا المصطلح ؟
وأجبتها :
– أكيد ، هو مصطلح صار متواجدا !
– ولماذا الربيع الآن ؟
وقهقهت بهمس مستدركة :
– رغم أن ثورة تونس وكذلك ثورة مصر قد انطلقتا في الشتاء؟
– الربيع لأنّه فصل اعتدال وربّما لهذا السبب نسبت اليه ثورات بعض بلدان العرب !
– ولكن من صاحب براءة الاختراع في العثور على هذا المصطلح وتعميمه !
وأجبتها :
– أحدهم ، سين من الكتاب أو حتّى جيم أو عين لا فرق !
فعادت تقهقه بنعومة . ثمّ قطعت قهقهتها وهي تعلق :
– أما أنا فلم يأتني الربيع التونسي إلا بهذا البرقع !
وسألتها بشيء من المماحكة :
– كيف ؟
مرّت فترة صمت قبل أن تجيب :
– هذا حديث طويل
– وكيف تدبرين أمورك وتسيّرين شؤونك ؟
– بصعوبة ، الناس لا يتقبّلوننا ، أكاد أقرأ الاستنكار في عيونهم !
– والقبول ألا تجدينه ؟
– من النادر أن أحسّه ، وراحتي الوحيدة عندما أكون برفقة من تحجبن مثلي وهن صديقاتي ، ياسمين، عواطف، سميرة ،درّة .
– تذكرين أسماءهنّ وكأنّني على معرفة بهنّ ؟
– كنّ زميلاتي أيّام الجامعة ، وقد استمرّت علاقتنا بعد أن تخرجنا !
كان المترو يقطع بنا المحطات وكنت أصغي اليها بكثير من الانتباه ، ثمّ قالت بكثير من ألم البوح الكامن في داخلها :
– انتابنا ضجر وكدر وقرف من كلّ ما حولنا ، من البشر ، من العلاقات المجانيّة ، من الجنس لمن مارسته كاملا وعرفت الاجهاض ، من الزواج والطلاق ، وذات جلسة مجنونة أو عاقلة ، سمّها ما شئت اتخذنا قرارنا بأن نتحجّب ونتبرقع ، ونضع بيننا وبين الآخرين ستارا .
كنت أواصل الأصغاء لها وهي تتحدّث :
– تصرفنا التصرّف الممكن الذي لم يخطر ببالنا ، تلفعنا بالأسود ، وانزلت كلّ واحدة ستارة سوداء أصبحت ترى العالم من ورائها !
وسألتها :
– وماذا بعد ؟
ردّت ولكن بصوت تشفّ منه الحيرة :
– لا أدري ! لقد أطلقنا أفراس جنوننا لتجري بسرعتها القصوى !
ثمّ توّقفت لتستدرك :
– ولكن قد تكون هذه أفراس تعقلنا ! أفراس تلافت الخسائر القادمة بالاعتزال والعزلة .
وعادت للسكوت برهة لتقول :
– وها أنا أمامك ، بعد كلّ ذلك الصخب الذي عرفته لفافة سوداء كبيرة ، ألا أبدو لك هكذا ، أنظر ، أنّني أخفي حتى يديّ بقفازين أسودين . أرى الناس وهم لا يرونني ، أغرس الفضول أينما ذهبت !
حديثها جعلني أنسى الطريق الطويل الذي سلكه المترو .
وعندما وصلت لمحطّة «باب الخضراء» استأذنتها وخلفتها ورائي مواصلة طريقها .لكن حكايتها لم تكن غريبة ، ومضيت أحثّ خطاي ، ومعها أحثّ ذاكرتي التي تعاني من تراكمات الوجوه والأحداث حتى تظهر لي ملامح تلك الفتاة السمراء بوضوح أكثر ، ولكنّني لم أستطع العثور على وجه فتاة كان ذلك الصيّاد الداعر مصطفى الجمعي يعدها من بين غنائمه النسوية ، كما يسمّي كلّ امرأة جديدة يتعرف عليها ، وقرّرت أن أهاتفه لأروي له الحكاية ، حكاية تلك البنت التي كان اسمها سامية بن صالح .
و لكنّني تساءلت :
– ماذا لو لم يتذكرها أصلا ؟