ما زلت أتذكر ذلك اليوم..ليس تماما.. تغيب عني الكثير من التفاصيل ولكني أتذكر ولو قليلاً أن ثمة شيئاً حدث أدى بالنتيجة إلى تغيير ملامح حياتي،لو لم يحدث ما حدث لكانت أمور كثيرة جدا لم تحدث ولكانت تفاصيل دقيقة جدا تغيرت.
كان يوما مشمساً وكنت طفلة لم تتجاوز حينها الثلاث سنوات،كنت ارتدي فستانا زهرياً جميلا يصل إلى ركبتي وجوارب بيضاء قصيرة مطوقة باللون الزهري أيضا، بينما كان شعري الأسود القصير متروكاً لينسدل
على كتفي، لم أكن لأتذكر هذه التفاصيل الدقيقة لولا الصورة التي التقطت لي ذلك اليوم وما زلت احتفظ بها إلى الآن.
لا أتذكر لماذا خرجت من المنزل رغم أنه كان يوماً شديد الحرارة ولكني أتذكر أن ثمة رجلا سألني سؤالا لا أتذكره ..فجأة اقتربت سيارة سوداء اللون وبسرعة غريبة احتضني ذلك الرجل وصعد بي إلى السيارة.
لم ابكى ربما من الفزع والخوف الشديدين انتابتني صدمة ولكني سألت الرجل إلى أين سنذهب فرد ضاحكاً إلى المستقبل.
……………………………
إذا ما فتش كل فرد منا جيدا في حياته سيجد شخصا ما قد يكون قريباً أو جاراً أو له علاقة ما بنا ،هذا الشخص يكون حاضرا في حياتنا بطريقة قوية ليس لأننا نراه كل يوم أو يظهر لنا اهتمامه الزائد بشكل فج وملفت، وإنما لأننا بوجوده نشعر بأن الحياة تمضي بنا بشكل طبيعي،مجرد الشعور بأن ثمة من يهتم بنا يشعرنا بالطمأنينة والأمان ، شخص قد يكون الأب أو الصديق أو الشقيق أو الحبيب والزوج أو حتى ابن الجيران،ولقد كان في حياتي عماد ليس كصديق أو جار أو شقيق أو أب لقد كان خليطا فريدا من نوعه أهداه الله لي رحمة وكرما ليكون لي كل الأقارب وكل الأصدقاء ليكون لي العون والظهر الذي اشد نفسي به لقد كان العائلة التي لسبب ما اقتلعوني من جذعها.
تعلقت به لأن ليس لي غيره، تشبثت بحياته لأن حياته هي الوعاء الذي يحتوي حياتي،لم يكن لدي خيارا آخر سوى أن أكون معه لكي استمر ولا أضيع أو اخٌتطف كما حدث ذات يوما بعيد.
……………………………..
لسبب ما قرر صاحب السيارة سوداء اللون وصديقه الذي أخذني عنوة أن يتركاني ربما لأنهما آمنا أنه لا جدوى مني تركاني في شارع غريب ،كانت الشمس قد بدأت في المغيب وكانت الرياح قوية محملة بالغبار وكان الجو لا يزال حاراً.
أنزلني الرجل من السيارة قائلا اذهبي لعلك تكوني نافعة لشخص ما هنا فأنت ستجلبين لنا المشاكل.
ذهبت السيارة بسرعة فائقة وكأنها تهرب من هول الجريمة التي ارتكبها صاحبها.
وجدت نفسي في مكان خال سوى من بضعة منازل حديثة ،وكان الشارع نظيفا جدا ليس كشارع منزلنا.لم يمنع الخوف الذي لون عيني حينها نظراتي من البحث عن شخص ما قد يساعدني،يدخلني داره يسألني عن اسمي ويمسك يدي ليأخذني إلى والدي..ولكن لا أحد في الشارع وكأنني في مكان مهجور سوى من المنازل الموزعة بطريقة هندسية بديعة.
بدأ الظلام يشق الفضاء وبدأت بالبكاء ثم البكاء وجدت نفسي وحيدة ..ماذا لو لم يكن احد يسكن هذه البيوت ؟ماذا لو جاء قطيع من الكلاب والتهمتني ..أسندت ظهري إلى عمود كهرباء بدأت إنارته تضيء بخجل غطيت وجهي بكفي وصرت ابكي بخوف وجزع وفجأة وضع احدهم يده على كتفي.
…………………………………………
يظل الإنسان حبيس فكرة ما أو ذكرى معينة تأبى أن تغادره ويتقاعس هو في إخراجها من مخيلته.
سنوات طويلة جدا وما زالت تفاصيل معينة في ذاكرتي ربما تكون مفيدة ولكنها حتما لم تكن مفيدة بدرجة كبيرة لأن ما هو أهم هو اسمي واسم أبي أو عنوان منزلنا أو رقم هاتف لأحد أقاربنا كان من المحال أن يختزن في ذاكرة طفلة لم تتجاوز الثلاث سنوات.
لماذا حدث ما حدث؟لست أدري.!من هو الشخص الذي اختطفني؟لا أعلم!هل ولماذا وأين وكل مفاتيح الأسئلة لم أجد لها أي جواب وكان من الطبيعي وفقا لجهلي بكل شيء أن يتغير كل شيء.
عندما شعرت باليد على كتفي شعرت لوهلة بأن كل شيء سينتهي،سأعود إلى البيت لأرتمي في حضن أمي ليداعب أبي شعري،وليعطيني شقيقي الشوكلاتة التي أحبها ولكن شيئا من هذا لم يحدث.
كانت يد الطفل الذي لم يتجاوز حينها العشر سنوات هي اليد التي انتشلتني من الضياع وعندما أقول الضياع فأنا أعي تماما هذه الكلمة واعنيها.
كان يرتدي ملابس أنيقة ونظيفة وبيده كيس فيه بعض الأشياء تذكرت حين رأيتها أنني لم آكل شيئا وبمجرد أن لاح هذا الخاطر بذهني حتى بدأت الشعور بالجوع..ولكني لم اطلبه شيئا ولكنه فتح الكيس واعطاني عصيرا.سألني من أنا ولماذا ابكي ولكني بكيت واستمررت في البكاء .
ذهب بي ذلك الطفل إلى والديه وكانا في منزل قريب لقد كان منزلاً أنيقا وكانا في غاية اللطف معي.
عندما لم يستطيعا أن يفهما أي شيء مني قام والد الصبي ودخل إلى غرفة جانبية ثم خرج وبيده كاميرا صغيرة والتقط لي صورة وهي الصورة التي مازلت احتفظ بها إلى اليوم وبعدها خرج من المنزل بينما قامت السيدة أم الطفل بإحضار بعض الأطعمة وأطعمتني،وبينما كانت بانتظار والد الطفل عرفتني بنفسها وبابنها هو عماد ليس لديها أبناء غيره وهي أمه واسمها أسمهان وذاك وأشارت إلى صورة الرجل الذي التقط لي الصورة زوجها والد عماد اسمه هاشم.
عندما عاد الرجل إلى المنزل كان محملا ببعض الأكياس فرحت كثيرا عندما كان ما في الأكياس ملابس وأغراض لي. شيء ما بداخلي اخبرني بأن هذه عائلتي الجديدة.
ما حدث بعد ذلك لا يحتاج إلى شرح أو سرد تفاصيل ولكن ما حدث لاحقا هو ما يحتاج إلى شرح وتفاصيل.
عندما تزوجت بعماد في سن مبكرة كان هو في الرابعة والعشرين من العمر وأنا في سن السابعة عشرة، عندما تزوجته شعرت بأنني انفصلت تماما عن الماضي الذي كان برغم أن والدّي عماد اتخذاني كابنة لهما ولا سيما بعد أن استنفذا كل الوسائل للوصول إلى أهلي التي خطفت منهم وأنا طفلة ولضرورة سافر والدي عماد للعمل في إحدى السفارات خارج البلاد أصبحت ببضعة ريالات دفعت للجهات المعنية ابنة شقيق السيدة أسمهان صرت حسب الوثائق الرسمية ابنة أخيها وذلك طبعا بعد موافقته لسبب ما اعتقد انه راجع لعمل السيد هاشم في الخارجية جعله يسجل اسمي باسم شقيق زوجته، ولكن هذا لا يعني أن يتركاني مع هذا الأخ حيث اصطحباني معهما إلى محل إقامتهم الجديد وهو لندن.
بعد هذه السنوات الطويلة أتذكر تفاصيل يوم زفافي إلى عماد أتذكر ما قالته والدته التي صارت منذ أن دخلت منزلها والدتي أنا أيضا قالت لي مبتسمة : «أن رجال عائلة هاشم لا يتركون زوجاتهم ولا يفتحون قلوبهم لامرأة أخرى، فهم أوفياء ومخلصون وهذه صفة نادرة».
رحمة الله عليها لقد كانت أما بمعنى الكلمة وأفاضت عليّ من حنانها هي وزوجها السيد هاشم،كانا برغم يأسي من عثوري على عائلتي دائما البحث ولم يكونا ليفوتا أي فرصة للتقصي عن عائلة رغما عني ظلت في مخيلتي فقط تؤطرها الأسئلة المشروخة.
……………………………
يحدث أن يتعرض المرء لموقف يجعله يمشي على نسق واحد في حياته لا يحيد عنه،قد يكون سلبيا حيال بعض الأمور ولكنه يفضل أن يظل على سلبيته لأن هذه السلبية هي المكان الأكثر أمناً له،ولكن قد يتغير كل شيء في دقائق معدودة لربما تكون بعض الصدمات المؤلمة لأي شخص منا فرصة لنثور على سلبيتنا.
هذه الصدمة يجب أن تكون عنيفة بقدر السنوات التي فضلنا فيها المضي صامتين ساكتين رعبا من أن يحدث ما قد يغير مسار حياتنا المألوف.
صدمة تنزع بقوة وألم كل ذلك الخنوع ،ترفعنا إلى الأعلى لنكتشف مدى سوء البقاء في الأسفل.
أن يرفع المرء رأسه عاليا فهذا يعني أن يغير الكثير من مجريات الأمور أن لا يسكت عن حقه أو يقبل بالظلم،صدمة تعيد للمرء كينونته فيشعر بأن ثمة أخطاء يجب تصحيحها .
عندما سمعت صوت طلقات الرصاص ذلك اليوم شعرت بأنها تخصني ليست كغيرها مما نسمعها كل يوم،لقد كان لها صوت مختلف صوت مرتجف كمن ينبأ بمصيبة..
حينها استجبت للنداء فهرعت مهرولة إلى الشارع وخلفي بناتي الثلاث و ابناي .لم اهتم حينها بشيء ولم يعنيني حينها وضع الحجاب أو الاختباء من البواب أو المارين في الشارع..هذه الطلقات تناديني أنا دون سواي ..نعم تخصني كيف لا تخصني وهي الرصاصات التي اخترقت جسد ابني.
………………………….
رغم أنني لم أجد من عائلتي الجديدة ما يسيء إلا أن ثمة شيئا بداخلي جعلني سلبية في التعاطي مع الأمور كنت أسير حسب ما يخططونه لي من دراستي إلى زواجي حتى وكل تفاصيل حياتي.هذا لا يعني إنني لم أحب عماداً على العكس تماما لقد أحببته منذ أن كنت طفلة وكان هو يحبني ولم يرفض لي طلبا أو يتأخر عني في شيء لقد دللني كما لم يدلل رجل امرأة قط،وأسرف في حبه حتى ظننت أن لا يوجد بين الرجال من أحب امرأة كما أحبني،لقد وفر لي الحياة التي لا تليق إلا بالأميرات ولكن كل هذا الحب والدلال لم يغيرا من شخصيتي السلبية لربما الأمر عائد إلى شعوري بأنه مهما كانت محبة هذا الزوج وعائلته لي فهذا لا يعني أبدا أن أنسى بأنهم ليسوا عائلتي وقد يحدث أن يخرجوني من حياتهم بسهولة كما أدخلوني إليها بسهولة أيضا.
أنجبت من عماد ستة أبناء نصفهم ذكور والنصف الآخر إناث وكنت حريصة أن يكونوا متميزين في دراستهم وحياتهم وشخصياتهم وقد نجحت في ذلك إلى حد كبير.
كانت حياتنا هادئة رغم شهرة عماد كرجل من رجال الدولة واحد ابرز تجارها، لم يؤثر ذلك فينا ،لقد كنا أسرة متماسكة وهادئة محبة للآخرين .
ولكن ما كان لهذا أن يستمر طويلا فلقد كبر الأبناء وصار لكل منهم اتجاهاته وأفكاره ومشاكله وحياته التي ربما يخفي عنا بعض تفاصليها.
………………………..
كنت أهرول نحو الشارع وأنا اصرخ : لطفك يا الله..يا الله لطفك..
لا أتذكر كيف اجتزت المسافة من الصالون إلى الشارع وكيف نزلت من عشرات السلالم وعبرت الحديقة الداخلية لأصل إلى البهو الخارجي ومن ثم البوابة الكبيرة التي تقودنا إلى الشارع..
كان كل ذلك يستغرق مني عادة بضع دقائق ولكن اليوم لربما الآمر كله لم يستغرق دقيقة واحدة ..كان الباب مفتوحا وكان الناس لا يزالون يتوافدون على ذلك الجسد المسجى على الرصيف غارقا في بحيرة من الدماء بينما كانت سيارة حمراء اللون يخيل لي إنها ماركة شفرولية تهرول بسرعة فائقة هاربة بصاحبها صاحب الرصاصات التي أنهت حياة ابني سام ذي الثانية والعشرين عاما..
كنت وكأنني أراقب الوضع وأسجل و أوثق ما يحدث كنت وكأنني فقدت السمع تماما لم أكن اسمع سوى صوت دوي الرصاص ..
شعرت بأن الدم يجف في عروقي ..شعرت بعطش شديد..كأن لوني ينسحب..بدأ المشهد وكأنه بلا ألوان والناس بلا ملامح ..آخر ما سمعته كان صوت احدهن :أمي ..أمي
صار كل شيء اسود تماماً
……………………
ليس ثمة ما هو أسوأ من أن تنهض من غفوة أو رقدة ما لتجد نفسك وقد فقدت نفسك..
أن تشعر وكأنك قد غبت طويلا فتذكرت فجأة أن ثمة شيئا قد حدث..شيء مخيف لا تريد أن تسمعه أو تعرفه ولكنك تسمعه وتعرفه وتعيشه أيضا.
عندما فتحت عيني كنت وحدي في الغرفة ..كان الهدوء سيد الموقف حتى خيل لي أن ما حدث لم يكن سوى كابوس مرعب..ولكن ما هي إلا لحظات حتى دخل عماد إلى الغرفة..أحفظ ملامح وجهه عن ظهر قلب..افهمه قبل أن يتحدث..وكما اختصرت عليه الكثير من الكلمات سابقا فقد فعلت كذلك:
من قتل ابني؟هكذا سألته
حينها جلس بجواري وامسك يدي بكلتا يديه قبل يدي وانخرط بالبكاء..كانت المرة الأولى التي أراه يبكي وشعرت أن وراء هذا البكاء قهر أكثر مما هو حزن..
أخبرته وأنا أبكي بشدة انه لا دفن ولا عزاء حتى نقتص من قاتله وكان هذا القرار هو الذي اخرج المارد الراقد منذ سنوات طويلة بداخلي.
………………………….
ثمة قرارات لا يمكن الرجوع عنها،لأن الرجوع عنها يعني العيش بدون كرامة يعني الاستمرار في الحياة وفي القلب ألم وحسرة،يعني أن يتوقف العقل عن العمل والقلب يعجز عن الحب..باختصار يعني الاستمرار في الحياة بجسد دون روح.
يلتهم الألم والحسرة أيامك كما يلتهم النمل الأبيض الخشب العتيق.يعجز القلب عن الحب وتنقلب وظيفته بدلا من ضخ المحبة يصبح مصنعا للحقد والكراهية،تصير وظيفة العقل الوحيدة هي التفكير في الانتقام تتوقف الحياة ويبدأ مشوار آخر يبعدنا رويدا رويدا عن الإنسانية.
أشيع بأن سبب القتل عائد إلى خلاف وتشاجر حول فتاة لقد تحدثوا عن أخلاق ابني بالباطل من يعرف سام أنكر واستنكر كل تلك الأحاديث فهو شاب من شباب المساجد يحرص على أداء الصلاة في أوقاتها وفي المسجد القريب من البيت ،يشهد له أهل الحي وكل الأقارب والأصدقاء بدماثة الأخلاق ولكن ما سبب القتل ؟ما الذي جعل سام يترجل السيارة وهو على بعد خطوات من المنزل؟
كان يمكن أن اصدق ما قيل عن أي من أبنائي إلا سام،نعم لقد كان دمه حاميا ومتهورا بعض الشيء ولكن أن تصل الأمور أن يتشاجر من اجل فتاة فكان من الصعب أن اصدق،وحتى لو كان الأمر كما يقال هل يعني هذا أن يقتل غدرا؟ هل يعني هذا أن نصفح عن القاتل ونعفيه من القصاص وقد قتله عمدا وعدوانا؟
تتصارع الأسئلة في ذهني أحاول جاهدة إن أجد إجابات شافية لتلك الأسئلة الخبيثة،فتشت في أشيائه علني أجد ما يدل على وجود إحداهن في حياته،سألت أشقاءه وأصدقاءه ولكن الكل يؤكد ان أخلاق سام ارفع من أن تدنس بهكذا أحاديث باطلة.
في خضم الأحداث وقمة الحزن الذي اجتاح حياتنا ومحاولات رجل الدولة الكبيرة عبر وساطة كبيرة عرض الصلح والدية بكرم مبالغ فيه شراء لحياة ولده الذي يقبع في سجن خمس نجوم لحين حل القضية وديا كما يريدون ومحاولتهم إثبات بأن سبب القتل كان بسبب فتاة أراداها القاتل والمقتول كل منهما لنفسه ومحاولتهم الحثيثة إثبات بأن القاتل دافع عن نفسه بحيث انه لو لم يقتل سام لكان قتله ولم يكن من الصعب عليهم إثبات بأن ولدي يحمل مسدساً.بينما كانت الأيام بهذه الضبابية حدث ما لم أتوقعه أبدا ولكن حتما كان له اثر كبير جدا .
………………………………….
قد افهم معنى أن يتنازل المرء عن صفقة مربحة مجاملة لشخص ما قد يكون صديقا أو قريبا أو مديرا أو شريكا،وقد أتفهم أن يتنازل حبيب عن حبيبة لسبب أو لآخر ،ليس من هو أكثر مني يتفهم التنازلات .
ولكن أن يتنازل عماد عن دم ابنه فهذا ما لم استطع أن أتفهمه وما لا يمكن أن أوافق عليه، ما الدافع وما الحجة وكيف له أن يقنعني بأن نتنازل عن حق ابني عن حقي عن حق أشقائه وشقيقاته عن حق كل من عرفه وأحبه .
لماذا التنازل هل لأن القاتل ابن مسؤول كبير ابني أيضا ابن مسؤول كبير، هل لأن أباه ثري وله علاقات وطيدة برجال الدولة الكبار ،ابني أيضا له أب ثري جدا وعلاقاته وطيدة مع كل رجال الدولة من رأس السلطة إلى اقل من فيها.ما الإغراءات التي عرضوها على عماد ليتنازل عن دم ابنه البكر.
كيف أقنعوه وكيف تجرأ أن يحدثني ويحاول أن يقنعني بأن اعتبر دم ابني المسفوك على اسفلت شارع منزلنا وكأنه ماء مسكوب على رمال جافة.
هل من المعقول أن تكون القبيلة بأعرافها الغريبة ما زالت تستوطن عقلية عماد برغم تعليمه العالي خارج الوطن وتربيته وتعليمه في مدينة كمدينة لندن..هذا ما لم أتوقعه ولم أتخيله ولم أجده في عماد وتصرفاته طيلة السنوات التي عشتها معه.
……………………………………
بعد الحادثة بأسبوع تقريبا قام احدهم بنشر مقطع فيديو على اليوتيوب صور فيه الجريمة كاملة..
يبدو أن من صور الجريمة بكاميرا هاتفه المحمول توقع حدوث شيء ما فأن يرى احدهم مشهدا لا يبدو طبيعيا يحاول أن يؤرخه بطريقة ما ،فقد صار الكثير يسجلون بكاميرا الهواتف المحمولة الكثير من الأحداث والجرائم.
يظهر المقطع المصور المشهد بداية بصاحب السيارة الشفرولية وهو يحدث الفتاة الماضية على الرصيف هو يمشي بسيارته بمحاذاة الرصيف بينما الفتاة كانت تسرع في خطواتها ويبدو عليها الخوف كون الشارع كان خاليا من المارة فلا تستطيع أن تستنجد بأحد ،فجأة تجري الفتاة بينما ينزل صاحب الشفرولية من سيارته ويجري خلفها ويمسك بها محاولا جرها غصبا إلى السيارة ..في هذه الأثناء تتوقف سيارة بشكل مفاجئ سيارة اعرفها جيدا مرسيدس سوداء اللون ينزل صاحب السيارة الذي اعرفه أكثر مما اعرف نفسي ..أحفظ شكله تماما قامته الطويلة،بشرته الحنطية عينيه الواسعتين انفه شاربه ذقنه الحليق ..هب الشاب الوسيم ليتدخل ويمنع صاحب الشفرولية من جر الفتاة ..كان الفيديو صامت تماما سوى من تعليق من قام بالتصوير الذي كان يعلق قائلا بان صاحب الشفرولية يحاول اختطاف الفتاة وصاحب المرسيدس يحاول أن يخلصها..
بينما كان صاحب المرسيدس (ابني سام) يحاول أن يبعد الفتاة عن الشاب الآخر حتى فرت الفتاة هاربة ، وبينما ترك ابني الشاب ليعود إلى سيارته قام صاحب الشفرولية بدخول سيارته ليخرج منها بسرعة مذهلة حاملا مسدسا وصوبه نحو ابني لتخترق الرصاصات جسده وترديه قتيلا ،صعد صاحب الشفرولية سيارته وفر مسرعا .
كان هذا المقطع المصور كفيلا بأن يبرئ ابني من التهمة التي انتشرت بين الناس بأن الموضوع عبارة عن خلاف حول فتاة..اظهر الفيديو بأن المقتول يحمل قيماً تلاشت وشهامة اندثرت ورجولة ندرت.
……………………………………….
سقطت سهوا في نشوة النصر واعتقدت لوهلة بأن الموضوع حٌسم وأن القاتل لا بد أن ينال العقاب الشرعي والقانوني لجريمته ولكنني كنت واهمة،ففي حين ظننتها النهاية لم تكن سوى البداية.
في بلادي لا سيادة للقانون السيادة للمشائخ والمسؤولين في بلادي القانون مغترب تعيس لا كلمة له، لا سلطة له إلا على الفقراء والمساكين والمغلوبين على أمرهم..
ما لم استطع استيعابه هو وقوف زوجي عائقا أمام مجرى القانون محاولاته المتكررة أن التزم الصمت واستسلم لقراره بأن يعفو عن القاتل فقط لأن أب القاتل هو من المشائخ ممن لهم حضور طاغ على الساحة السياسية والاقتصادية وحجته أن الشيخ قدم وساطة ودية كبيرة جدا وانه من العار أن يرده تقديرا له.
تقديرا له ولسلطته ومشيخته يجب أن نتنازل عن حقنا في الحياة لأن تنازلنا عن القصاص هو تنازل عن الحياة هذا كلام الله وليس كلامي،انتفضت على هذا الرأي وثرت على هكذا قرار وقد كلفني كل شيء ولم أأسف أو اندم لأن دم ابني المسفوك في شارع منزلنا اغلى من كل شيء ..
ذلك اليوم اجتمع بديوان منزلنا الشيخ أب القاتل مع بعض من حاشيته وشخص يقولون انه من يقود الوساطة وكان معهم زوجي،وقفت خلف الباب استمع كيف يتم التخطيط لردم القضية وكيف رفض زوجي أي مبلغ معلنا الصفح عن القاتل وكيف سيصيغ حكم الصفح ويسلمه للنائب العام ليتم الإفراج عن القاتل لينعم بحياته وتنعم والدته بقربه وأقرانه برؤيته
حينها طرقت الباب وفتحته قليلا بحيث ظل مواربا وتحدثت مع الشيخ من خلف الباب.
أخبرته باليوم الذي أنجبت فيه سام وكيف حملته وسهرت على تربيته،كيف قاطعت كل المناسبات والزيارات وكل ما هو ترفيهي لكي أظل معه أثناء دراسته ليحصد المراكز الأولى في الدراسة وقد كان فعلا من الأوائل في كل مراحل تعليمه حتى انه كان من أوائل الجمهورية،أخبرته كيف كان اليوم الأول الذي صلى فيه وكيف علمته أن يصلي كل فرض في المسجد،طلبت منه أن يذهب للمسجد على رأس الشارع ليسأل الطريق المؤدية إلى هناك كم عدد خطوات ابني منذ صغره وحتى مات وهو ذاهب إلى المسجد،أخبرته عن اليوم الأول الذي أعطيته مبلغا ليتصدق به على المساكين وكيف كان يوفر من مصروفه ليتصدق على المساكين بعد كل صلاة جمعة، حدثته عن اليوم الأول الذي صام فيه وكان عمره حينها لم يتجاوز الست سنوات وكيف انه لم يفطر يوما، حدثته كيف كان يصوم كل اثنين وخميس منذ أن كان في الثانوية العامة وحتى يوم مقتله لقد كان اليوم السابق لمقتله صائما.
سألته أن يذهب للناس في حينها ويسأل عن سام سيقولون له ما يعرفونه عنه.حينها يقرر هل يستحق هذا الشاب أن يموت هكذا وان يتم العفو عنه قاتله.سألته لو كان هذا الخلق العظيم يكلل سلوكيات ولده القاتل وابني من كان يريد أن يختطف فتاة في الشارع وحدث عكس الواقع هل كان سيعفو ويصفح.
حينها قرر الشيخ أن يترك الأمر للقضاء وأن لم ينصفني سوف ينصفني وينصف دم ابني هو شخصيا.
تنفست الصعداء وشكرته وذهبت تجرني الخطوات إلى غرفة سام شعرت بأنني بحاجة ماسة لأن أشم ملابسه أتحسس المكان الذي كان ينام فيه وبينما أنا كذلك إذ بزوجي يناديني ،التفت إليه وكأني أراه للوهلة الأولى
هذا الشخص الذي حفظت وفهمت كل ما سيقول ويفعل قبل أن يبادر،شعرت بأني لا اعرف هذا الرجل وان لا علاقة لي به..أرعبني هذا الشعور.
………………………………………..
تفرض علينا الحياة معارك لم نخترها ونجد أنفسنا مجبرين على خوضها رغم إننا نعلم بأن الخسائر حينها ستكون فادحة ومع ذلك نستميت في خوضها حتى النهاية.
نجد أنفسنا فجأة وقد تغيرنا صرنا أكثر قوة وصلابة ،صرنا أكثر عندا وجرأة هذه هي المعارك التي ترتبط بحقنا في الأخذ بثأر ابن قتل غدرا .
كان سام هو الاستثمار الحقيقي في حياتي بذلت معه ما لم ابذله مع أشقائه أحببته وكأن ليس لي حبيب سواه، ربيته ليكون لي ذخرا في الدنيا وشفيعاً لي في الآخرة .
ليس ثمة ما يستحق أن اخسر من اجله زوجا أحببته وأحبني وأبناء أخلصت في تربيتهم واخلصوا في طاعتي سوى ابنً رأيت دمه يسفك أمامي،قٌتل غدرا ،كان مقتله مشرفا وقد حافظ على عرض إحداهن،دفع عمره وزهقت روحه من اجل فتاة لا يعرفها لقد مات شهيداً.
…………………………..
كانت بحة صوته عندما لفظ اسمي كمن يلفظ شيئاً عفناً من أحشائه تندر بشيء لم أتوقعه وكانت ملامح وجهه التي لم استطع أن احددها تنبئ بأيام ليست كالأيام وكانت الكلمات التي نطقها تنهي كل شيء وكأنها نقطة نهاية السطر ،نهاية الحكاية،نهاية أسرة ونهاية حياة..
((أنتِ طالق)) هكذا قال وانصرف ، شعرت حينها بذات الشعور الذي تملكني وأنا ابكي طفلة عند عمود الكهرباء في الشارع الأنيق والنظيف، حينما جاء عماد لينتشلني من الضياع ..
شعرت بنفسي طفلة تائهة لا عائلة لي، لا مكان أذهب إليه ولا مال يسند حياتي..اكتشفت بعد كل هذه السنوات أنني منحت ثقتي وحياتي لشخصا واحد لم أفكر في احتمال تركه لي أو أية احتمالات أخرى من شأنها أن تعيدني إلى ماض بعيد جدا.
بقيت صامتة أحاول أن استوعب ما حدث ،هل استحق هذا فقط لأني لم أتنازل عن حقي في قصاص ابني..
هل ما ارتكبته جرما استحق عليه هذه العقوبة ؟إلى أين سأذهب وليس لدي عائلة تحتضني وتؤازرني .
قررت أن اترك كل شيء في منزل عماد لانني ليس لي حق في شيء أخذت بعض الملابس وتركت الذهب حتى الموبايل تركته،فقط وأخذت مفاتيح البيت القديم وذهبت إليه..
كان نظيفا رغم انه مهجور منذ عشرة أعوام تقريبا حين تركناه إلى بيت جديد اكبر يتسع لنا جميعا.
ولأن البيت الجديد لا يبتعد عن البيت القديم فقد كان من السهل أن اهتم به كل حين وكأنه لم يهجر قط ولا سيما وإنني وعماد كنا ننوي أن يكون بيتا لسام بعد أن يتزوج.
ها أنا ادخله كما دخلته أول مرة تائهة لا عائلة لي..ما هي إلا ساعة حتى أرسل عماد إلى البيت من يقوم بصيانة المياه والكهرباء كما أرسل إحدى الخادمات من المنزل والكثير مما يحتاجه المنزل من مصاريف وغيرها..شعرت حينها بأنه لا يزال يحبني وأن الطلاق لا يعني بالضرورة أن تتحول المشاعر إلى النقيض،لقد كان ردة فعل جراء تدخلي في موضوع أراد أن ينهيه بطريقة لم افهمها ولم أستسغها.
جاء الأبناء والبنات إلي وقد خيم الحزن عليهم يسألون ويستغربون هذا الوضع ويستنكرونه
كيف تكون نتيجة حب عرفوه وكبروا على أنغامه وتعلموا من سلوكياته،كيف لنا أن نتجاوز كل تلك المشاعر لتصل بنا الأمور إلى ما وصلت إليه.
……………………………
ما كان للشيخ أن ينفذ عهده بإنصافي في حضرة زوجي الذي أصر على العفو والصلح حتى انه ذهب بنفسه ذلك اليوم إلى النائب العام ليقدم تنازلا رسميا عن حق ابني المقتول غدرا وليخرج القاتل ليرتمي في حضن أمه بينما أنا ابكي واذرف الدموع قهرا .
هاهي الأم تفرح وتطلق الزغاريد فرحا بعودة ولدها القاتل إلى أحضانها ودلالها،بينما أجد نفسي فقدت كل شيء إلا عزمي على أن آخذ بثأر ابني لو لم يكن بالقانون فبالحق الذي املكه وأجازه الله لي.
في اليوم التالي لتنازل عماد عن حقه في دم ولده كان الدفن والعزاء شاهدت الجنازة وأنا احترق حزنا وقهرا كيف سمح عماد أن يلتهمني الألم بمباركة منه.
كانت صور سام في كل مكان على السيارات والجدران وفي القلوب وذاكرة الناس الذين عرفوه وأحبوه.
كنت أشاهد مراسم الدفن والعزاء من نافذة الدور الثاني في البيت القديم،هي ذاتها النافذة التي كنت أراقب منها عماد ونحن صغار وبعد أن تزوجنا،هي ذاتها النافذة التي كنت أراقب منها سام وهو صغير وهو ذاهب إلى المسجد كل صلاة.
النافذة التي أراقب منها اليوم جنازته مرفوعة على أكتاف الرجال الذين خيم عليهم الحزن والألم لمقتل هذا الشاب الذي كان قدوة يحتذى بها.
كانت الدموع التي تذرف لغياب هذا الشاب بتلك الطريقة البشعة كفيله بأن تغرق العالم بأكمله وكان الحزن الذي استوطن قلوب من أحبوه كفيله بأن تكون قوتا لأعوام طويلة، وقودا لا يسمح لنار الألم بأن تنطفئ.
كانت فكرة أن اثأر من قاتل ابني تسيطر على تفكيري بطريقة غريبة وكان دعائي لله لا ينقطع وكان لا بد للحق أن يظهر بجبروته وسطوته وقوته التي لا يستطيع أن يردعها احد لا الشيخ بحضوره وطغيانه ولا زوجي بسلبيته وخضوعه جاء الحق من الله وكانت الإرادة أن يقتل القاتل على يد والده الذي أوفى بوعده وأنصفني..
مساء ذلك اليوم جاء أحدهم ليطلق أعيرة نارية في الهواء أمام المنزل القديم..لقد كانت طلقات تخصني،كما كانت الطلقات التي اخترقت جسد ابني تخصني.
سمعت الطلقات وشعرت بأن الطلقات اكتملت وتوحدت مع الطلقات السابقة لقد أعلن الشيخ بطريقته بأن الموضوع انتهى وان القاتل والمقتول بين يدي رحمة الله.
حينها شعرت براحة غريبة شعرت بنشوة الانتصار ببهجة الحق حين يطل على المظلوم ليعلن إنهاء مظلوميته.
تحررت دموعي وتحرر قلبي وعقلي وكان لا بد أن أنام أن ارتاح أن اذهب إلى سام لأضمه إلى حضني واخبره بأنه لا سواه من جعلني اشعر بأنني لا أشبه أحدا ولا احد يشبهني ،هو وليس سواه من جعلني وكأنني أنا الطفلة التي كان يجب أن تكبر في كنف عائلتها لتكون صاحبة قرار تقول وتفعل ما تريد لأنها بين عائلتها التي لا يمكن أن يخرجوها من بينهم مهما كانت الآراء والأفعال..
اليوم أنا أم الشهيد الذي ما غمضت عيناها ولا انطفأت نيران حرقتها إلا بعد أن هدت كل أوثان التخاذل والاستسلام..
اليوم وقد صرت كما كان يجب أن أكون صرت جديرة بأن أذهب إليك يا حبيب العمر تاركة كل شيء خلفي حتى أنا ..
سأنام ولا يهمني ما الذي سيحدث صباحا لأني حينها سأكون بجوارك أحدثك عني وعنك وعن الحق الذي أنصفني وأنصفك،وعن الحزن الذي كلل رحيلك ومقتلك..
سأحدثك عن الطفلة التي لا تعرف اسمها ولا شكل والدها ولا عدد إخوتها..سأحدثك عن السيارة السوداء التي حملتني إلى عالم جديد ،عن الرجلين اللذين أبعداني عن أسرتي لتكون لي أسرة أنت ثمرتها ..
سأحدثك عن الحب الذي تلاشى فجأة ليحل محله صراع من نوع خاص صراع فريد من نوعه كما كنت أنت فريد من نوعك في طفولتك وشبابك وحتى مقتلك..
سآتي إليك لأحكي لك حكاية الطفلة التي لا تعلم كيف تجاوز والدها أمر غيابها..الطفلة التي كبرت مسالمة خوفا من أن تتخلى عنها أسرتها الجديدة إذا ما عترضت على امر ما..
الطفلة التي كبرت واكتشفت بداخلها مخزن مهول من العند والمكابرة فقط لأنك يا حبيب العمر من نفضت عنه ذلك الغبار العفن ..
سآتي لأحدثك عنك وأنت شهيد وأحدثك عني وانأ أم الشهيد لأحدثك عن قناديل الحزن التي أضاءت دروب الحق وأحدثك عني وأنا أموت كل يوم..
أحدثك عن لهفتي في أن احتضنك كما كنت افعل دائما لتشعر بالدفء والحنان واشعر بالأمان معك فأنت ومن سواك يشعر بأم مكلومة مثلي بالطمأنينة والسلام.