شعُرت أن الديكور، تغيّر فجأةً ، لأجد نفسي وحيداً مع ممثلين جُدد وجمهور مختلف ،لا أعرفة وأيضاً لا أفهم لغته، وكلانا يتواصل مع الآخر عبر لغة وسيطة مثل شخصية خرجت من مسرحية تعرفها جيدا، تحفظ دورها بعد أن اعتادت الديكور والممثلين والجمهور، وفجأة دخلت فضاء مسرحيا مختلفاً، بل والشخصية لا تعرف دورها في المسرحية الجديدة، تعرف أنها هنا، أما الدور فما زال مبهما ، كأن تأخذ دورا وليس هناك مسرحية !
-1-
الانتقال من مكان إلى آخر غالباً ما يدخل في إحساس المرء شعوراً مخيفاً بالوحدة، فكل الأشياء التي أعرفها لم أجدها والأمر لا يختلف كثيراً عن ممثل فجأة ترك الفضاء المسرحي الذي يعيشه منذ سنوات إلى فضاء آخر، فماذا سيحدث له ؟ رحت أنظر لملابسي للحذاء والحقيبة وجهاز الحاسوب المحمول لعلي أجد ما يؤنسني، وأجد أقارب لي فهذه الأشياء أعرفها وتعرفني( فهي ما أحمل من إكسسوار الشخصية التي أعيشها وأعرفها ) .. تجولت في الشقة غرفة نوم وأخرى للمكتب وغرفة للمعيشة ، المطبخ يطل على شارع جميل وأشجار، والمكتب وغرفة المعيشة يطلان علي شارع آخر مختلف مع نوافذ زجاجية بحجم الفراغ المحيط بي … ورغم سحر المنظر افتقدت أشيائي التي أعرفها وتعرفنى وأدركت في تلك اللحظة لماذا أحب الأشياء ولماذا أكتب عنها كأنها بشر .. شعرت أنني أفتقد حوائط بيتي في القاهرة ، فالحوائط تعرفني جيداً، فهي ليست صماء ميتة ، والبيوت المجاورة هنا في شارع Hegiachstrasse
لا تعرفني و لا أعرف من فيها.. كل هذا جعلني أشعر بالخوف ، بحثت عن الراديو الترانزستور فلم أجده حين ذهبت للنوم ، فدائما ما أضعه إلى جواري وهي محاولة للعودة إلى الدور الذي يعرفني . في القاهرة لا أتحدث مع جيراني كثيراً، وربما لا أعرف من يسكن في البيت المجاور لي ولكن ثمة تواطؤ بيننا هذا ما أشعر به ، بعضهم أعرفه بالنظر فقط ،ومع بعضهم أتبادل حواراً قصيراً أو تحية عابرة ، ولكن ثمة علاقة خفية بيننا .
نعم ، جئت إلى هنا برغبتي كي أنسحب إلى عقلي وأتجنب كل التفاصيل الأخري التي سئمتها في القاهرة ، أنا هنا كي أختلي إلى عقلي والأدق إلى روحي، هنا في جعبتي الكثير من الوقت ، أنا هنا لمراجعة كل ما أعرف ، لمراجعة نفسي . جئت برغبتي ولست منفياً أو باحثاً عن عمل أو وظيفة أو هارباً ، جئت بكامل رغبتي فلماذا هذا الشعور بالوحشة إذن؟
كنت أشعر أنني في حاجة إلى الآخرين، وهذا نادراً ما يحدث، أشعر أن كل الأشياء التي تحيط بي غريبة أشياء لا أعرفها ، فضاء ساحر، أشجار وغابات وبيوت أنيقة تكسوها الورود وشوارع يشعر من يراها للوهلة الأولى أنه يرغب في النوم هنا، ودائماً في سويسرا حين أشاهد الشوارع وخاصة الصغيرة أتخيل أنني يمكن أن أضع الصالون هنا، وغرفة النوم إلى اليمين ، الشارع نفسه يصلح للحياة ، ومع هذا لازمني الشعور بالخوف أياماً ، أنا لا أعرف هذا الجمال ، وهذا الجمال لا يعرفني ، واكتشفت أنني أشعر بالقلق وأفتقد الأمان كلما غيّرت مكان الإقامة .. حتى ولو في القاهرة .
-2-
شعرت أن نفسي تنتظر في مكان آخر وأنا هنا جسد عاجز عن الحياة ، وانتابتني مشاعر مبهمة وغريبة كأن يكون نصف جسدي حزينا ونصفه مبتهجاً ،وأشعر أن نفسي تنقسم إلى شطرين ،أحدنا عاجز عن التعبير والآخر عاجز عن الإدراك ، وربما نصف يؤدي دوراً والنصف الآخر يقوم بدور المتفرج !
– 3-
كان الأمر صعباً وغريباً، أن تستقبلك امراة في المطار تبتسم وتخبرك أننا الآن في الطريق إلى بيتك ،وتستخدم ضمير الملكية وتحكي عنه في القطار، وفي الترام رقم 3 ، هذا يذهب إلى بيتك
your homeوفجأة أجد شخصاً آخر يقف أمام البيت الذي هو بيتي ، يبتسم ويسلم علي ويقول أهلا بك في بيتك ، يشير إلى اسمى علي الباب ، ثم إلى اسمى علي صندوق البريد ، ونصعد لأجد اسمي علي باب الشقة ، يفتح ، ويشير هذا بيتك ويمنحني المفتاح ، يبتسم ويذهب مع المرأة وأظل وحيداً عندي بيت ومفتاح ،وأنا في بيتي ! ولا أعرف أحداً ولا شيئاً في هذه المدينة ، ولا حتى اللغة التي يتحدثها الأهالي ، فقط أعرف ملابسي وكتبي؟ في الصباح أضع المفتاح في جيبي بعد أن أغلق البيت – الذي هو بيتي – وأتحسس جيبي في كل لحظة ، فهذا هو الحبل السُري الذي يربط بيني وبين الحياة في هذه المدينة لا أعرف سواه هذا المفتاح والطريق إلى البيت ، وظني أن هذا الإحساس لا يشي أنني في عرض مسرحي بل في مسرحية عبثية .. أو قل أصبحت ممثلاً ومتفرجاً في مسرحية مرتجلة ،أشارك وأتفرج في آنٍ .
-4-
بعد أن حدث نوع من التقارب ولو قليلا بيني وبين الطبيعة ، بيني وبين الأشياء، أو هكذا توهمت وبدأت أقدامي تخطو دون رفيق أو خوف في الشوارع، أعرف المحطات وعربات الترام ، أقدامي تستطيع التجول في السوبر ماركت ، يبدو أن التسوق نوع من المعرفة والتقارب مع المدن ، كل يوم أتجول واتسوّق ولو أشياء قليلة، وأيضاً أنفقت وقتاً طويلاً في المطبخ وهذا جعلني أشعر بألفة مع البيت ، كنت في الأيام الأولي دائم النظر من النوافذ والشرفات أتأمل ما هو قريب وبعيد وكأنني أهمس في أذن البيوت والأشجار والشوارع وجيراني الذين لا أعرف أحداً منهم، وحتى الجبال البعيدة أنا هنا جرجس شكري، شاعر مصري في منحة للكتابة، وعندي يقين أن كل هذه الأشياء ستعرفني . وكنت أسأل نفسي هذه الأشياء التي أشاهدها وأعيش معها هنا .. معي أم ضدي ، وصرت أسألها وكانت أيضاً تسألني!
-5-
أمنا الطبيعة هنا تختلف عن أمنا الطبيعة في مصر، في أوروبا ترتدي أمنا الطبيعة أجمل ملابسها ، أشجار، غابات ،ورود، سحب أمطار وشوارع جميلة ، المباني تقف أنيقة مبتسمة وكل مبنى يراعي المباني المجاورة يترك لها فسحةً ، مجالاً للحرية وللتنفس ، ثمة تسامح بين الأشياء ، ولهذا تكافئ الطبيعة الجميع . فالعلاقة مع الطبيعة عميقة تفيض بالمحبة والتسامح بين الطرفين ، فالطبيعة لا تبخل بشيء مما تملك من جماليات علي البشر والبشر يحترمونها ويحبونها … بل وكلاهما يسامح الآخر غفران المحبين لبعضهما البعض …. والعلاقة تبدو غرامية فالبشر يحتفلون بالطبيعة يقيمون لها الأعراس وكأنه لا تأتي سوى يوم واحد كل عام ، ثمة جهر بهذه المحبة ، فإذا أشرقت الشمس هرع الناس من مختلف الأعمار والطبقات والاجناس إلى الشوارع تخففوا من ملابسهم ، وكأنهم يقدمون أجسادهم العارية قرباناً للشمس، وكأنها إله من آلهة الأساطير ،إذ كنت محظوظاً فقد أشرقت الشمس بقوة هنا في زيورخ ،و كل من ألتقاني قال لي :
you brought the sun from Egypt
, a lot of thanks
تجمع أهالي المدينة والأجانب حول البحيرة الشهيرة في زيورخ وتحول الشاطئ إلى كرنفال حفل كبير افترش الجميع الأرض خلعوا ملابسهم ورحبوا بالشمس وهم في ملابس البحر ،في مشهد لابد أن أتذكر معه أجداد هؤلاء ، الإغريق قبل الميلاد وهم يحملون سلال طعامهم ونبيذهم وأطفالهم ، ويذهبون فجراً إلى المسرح ، مشهد يتكرر في زيورخ وربما في كل المدن السويسرية إذ يمارس المواطنون عادة تناول الطعام في كل وقت وفي كل مكان علي شاطئ البحيرة ، في القطار ، في الترام ، في الشارع ، الطعام يصلح لكل زمان ومكان ، وظني أنهم لا يخرجون من منازلهم وهم يحملون سلال طعامهم مثل الإغريق قبل الميلاد والذي اختلف فقط أنه يبتاعونه من المحلات ، يأكلون ويشربون طيلة الوقت ، فالطعام إحتفال ، يحتفلون بالطعام ، وإذا تأملت المطاعم ستجد أنها تخترع أشكالاً وألواناً في الأطباق والكئوس وأنواع الطعام والشراب.. في الشوارع والحانات وعلى شاطئ البحيرة وعلي الأرصفة وفي وسائل المواصلات الجميع سواسية ، مشعوذون بملابس تنكرية ، مبشرون في ملابس سوداء، شواذ وعاهرات ومثقفون ، يتعايشون معا في تسامح ومحبة .
وهذا ليس غريباً في مجتمع وصفوا نظامه الديموقراطي بأنه يسير على وقع دقات الساعة السويسرية الاختراع، فثمة تناغم بينهما عنوانه التسامح ، ثقافة العمل، الاستقلالية، الاعتراف بالآخر ، التنازل، التسوية، المصلحة العامة، رفض اللجوء للقوة، منهج سياسي قائم على البناء من أسفل إلى أعلى، فكان مزيجا من الفيدرالية والديمقراطية المباشرة وتقاسم السلطة السياسية الإبداع الأبرز للديمقراطية السويسرية وهذا يتجلى بوضوح في الشارع ، في كل مفردات الحياة .
-6-
بعيداً عن الفرق الموسيقية الصغيرة التي يمكن أن تشاهدها في الشارع،تعزف وتنتظر ما تجود به أيدي المحسنين من المتذوقين يمكن أن تشاهد فرقة زيورخ السمفونية (أوهكذا أطلقت عليها ) تعزف في الشارع ، حيث اختارت الفرقة مكاناً في ميدان في وسط المدينة يرتاده السياح وراحت تقدم أعمالها وكأنها في دار الأوبرا ، والجمهور كأنه أيضاً في دار الأوبرا وسوف تجد نفس الفرقة بعد أيام علي الشاطئ تعزف بكامل ملابسها الرسمية . أحياناً يختلط الأمر وأشعر ان الشارع بيتاً أو دار أوبرا أو مطبخ، الشارع ليس غريباً بمثابة البيت، لا يخاف المرء في الشارع ، لا يخجل ، بل يأكل ويحب ويسكر ويعزف الموسيقي ويستمع إليها ، يحتضن الرجل حبيبته ، يقبلها تقبله ، وتنام في حضنه ويغمضان أعينهما في سلام ودون خوف ودون حسد ،بعيداً عن أفعال الشيطان ومؤامرة الناس الأشرار ، وظني أنه ليس هنا أشرار ، أما الشيطان فلن يجد ما يفعله .
الأرصفة والساحات تكتظ بالموائد التي خرجت من المطاعم في نظام صارم بحيث لا يعيق حركة المشاه ، في أحيان كثيرة أشعر أن الطاولات نفسها ومعها الكراسي ، كلاهما يرفض أن يخالف القانون ، يأكل الزبائن وكأنهم في منازلهم ، حتى إنهم يجلسون بأريحية وكأن الرجل أو المرأة في بيته ،ثمة شعور بالأمان والراحة والطمأنينة ؟ بالنسبة لي الأمر مدهش ، فأنا آت من القاهرة ؟ فما بين البيت والشارع ما بين السماء والأرض . الخوف والخجل والحرص، فالشارع وسلوك الناس ناتج حضاري ، بل أحد أهم تجليات الحضارة .
فليس سهلاً أن تحب كما ترغب في أي لحظة، فأنا آتٍ من مجتمعٍ يؤجل فيه الناس مشاعرهم ورغباتهم لأجلٍ غير مُسمّى، وكأنه لزام علينا أن نحمل منظماً للمشاعر ، لا يختلف كثيراً عن منظّم الغاز! لأنه ليس مسموحاً بالتعبير عن المشاعر في أي لحظة ، فعلينا أن نحتفظ بمشاعرنا ورغباتنا حتى نجد الوقت والمكان المناسبين! ولأن المشاعر لأ يمكن تأجيلها أو حفظها في الثلاجة ، فغالباً ما تموت أو تتحول إلى أشياء أخري .
-7-
المدينة بكل مفرداتها مسرح يؤدي فيه الناس أدواراً متباينة، فما أشبه المدينة بالمسرح، والمسرح بالمدينة، ليس فقط لأن زمن المسرح جزءٌ مستقطع من الحياة اليومية للمدينة بل وأيضاً لأن ما يحدث من أفعال علي خشبة المسرح هو انعكاس حقيقي للمدينة،وفي زيورخ كما شعرت أنني في عرض ارتجالي كانت المدينة بالنسبة لي مسرحاً ولكن ليس للدراما الكلاسيكية ، ربما مسرح ما بعد حداثي، علي الرغم من الفضاء الكلاسيكي للكنائس والعمارة التقليدية مسرح بصري ، مسرح صورة ، ولهذا كان من الطبيعي أن أشعر أن الديكور تغير بالكامل ، وأنني أعيش في عرض مسرحي لا أعرف عنه شيئاً.
بعد شهر تقريباً وأنا أتأمل هذه الصور ، هذا الجمال المفرط تذكرت رولان بارت وحديثه عن أمراض الزي المسرحي حين اعتبر أن التصفيق للأزياء في المسرح يثير القلق ، وبرر ذلك بأنه ليس مهمة الزيّ أن يغوي العين بل يدهشها ، حيث إن للزيّ المسرحي (الملابس) أمراضا ، مثله مثل الإنسان ، فهو يمرض إلى حد العجز عن قيامه بمهامه الأساسية ، والمدهش أن أخطر هذه الأمراض الجمالية ، حين يتضخم الجمال الشكلي بمعزلٍ عن العرض المسرحي . ويقيني أن هذا الرأي لا يطالب بإهمال القيم التشكيلية أو الحد من جماليات المنظر المسرحي ، ولكنه يرفض ويحذر من خطورة أن تغدو القيم التشكيلية هدفاً بذاتها ، لأنها سوف تتحول إلى جمالية مزيفة ، وإذا شئنا الدقة مجانية حيث تغدو بلا معنى ، ناهيك عن أنها تشتت انتباه المشاهد بعيداً عن العرض المسرحي ، وتحيل تركيزه إلى ما هو مصطنع ( المنظر المجاني للملابس ) الذي يغدو متطفلاً على المسرح ووظيفته الأساسية ، والنتيجة أننا نحظى بمسرحٍ غير إنساني يحمل من الزيف والكذب قدراً كافياً سوف يعيق الحقيقة ، أو قل سوف يقصيها عن العملية المسرحية . والشارع في زيورخ يفرط في الزينة ، زينة مجتمع ما بعد الحداثة ( كأي مدينة أوروبية ) الشارع عرض للأزياء المفرطة في الجمال والحرية .ليس زيفاً كما يسميه بارت في المسرح بقدر ما هو مفرط في جماليته ، إفراط يجعل المشاهد لا يري سوى الصورة ، جمال النساء وتقاليع الشباب في الملابس ، الصورة المدهشة والثرية تجعل المشاهد في الشارع لا يفكر إلا في الصور ولا يبحث أبعد منها، ولكن كما ذكرت ليس زيفاً كما يحدث في الملابس المسرحية ، بل في أحيان كثيرة أزياء فكرية وفلسفية .إذ كنت أشعر أنها ليست المدينة بل صورة المدينة !
-8-
الأجساد نفسها بمثابة مشاهد مسرحية متحركة، فبعد شهور أصبح الأمر معتاداً أن أشاهد كائناً ذكراً أو أنثي وقد تحول هو نفسه إلى كرنفال يمشي علي ساقين، يمكن أن تشاهد في الشارع أو محطة الترام، سيدة بيضاء وشعرها أحمر، عارية الذراعين والساقين وقد طبعت عليهما وشماً بأشكال وألوان مختلفة، ناهيك عن الأقراط التي تناثرت في جسدها في الأذنين والفم والأنف والرقبة وهذا ينطبق أيضا علي الرجال، وربما تشاهد سيدة تُبرز الصدر والكتفين بعد أن وشمت الصدر بوردتين وقلبين ورسوم أخري ، وكنت أمشي خلف هؤلاء بحذر ، أتبعهم إلى الحانات والمقاهي في وسط المدينة بعضهم ربما من المتشردين وهؤلاء من أسرفوا في الزينة أو الكرنفالية ، الغالبية من البشر العاديين ولكنهم انحازا إلى الكرنفال. ثمة احتفال خاص بالجسد بكل مفرداته، الأيدي، السيقان ،الوجه، الفم ، الأنف ، النهدان الأرداف ، حتى الأظافر كل هذه الأعضاء تتهيأ وتتزين كأنها في عرض مسرحي ، لكل عضو دوره الذي يحفظه جيداً والملابس والإكسسوار ، فثمة زينة خاصة للثدي الذي تبرزه المرأة ففي ناحية تطبع وشماً وفي الناحية الأخري تكتب شيئاً ، أو تضع أقراطا في أنفها ، وترسم علي ذراعيها أو ساقيها ، أو تلون أظافر يدها أو رجلها وهكذا ؟ فالمرأة هذا الكائن المدهش والغريب ،إذا تخلت عن الإستعراض فهذا يعني أنها فقدت أنوثتها ، وتخلت عن سر وجودها ، فإن لم تستعرض المرأة فماذا تفعل إذن ؟ هذا ما شعرت به في زيورخ في مجتمع يقدس الحرية ، فسمح بازدهار الاستعراض، وكنت أجلس في مقهى علي الشارع وأشاهد هذا الاستعراض المسرحي اليومي ، فهذه تضع ساقاً حلوة فوق الأخري التي هي أحلى منها ، ثم تتراجع إلى الخلف لتبرز صدرها الذي أطل أمامها وأمامنا طبعاً نافراً بعد أن جعلت منه الشمس قطعتين من البرونز اللامع ، ولن تنسي أن تتقدم إلى الأمام لترقص أردافها في رقة مدروسة ، وبالطبع سوف تسحب نفساً غير عميق من سيجارتها التي أشعلتها وهي تبرز صدرها البرونزي ، ليشكّل الدخان سحابة حول وجهها ، فتكتمل عناصر المشهد المسرحي ، وكأن هناك مخرجا رسم الحركة ومصمم ملابس صمم فتحة الصدر وطول الشورت ولون الحذاء ونصح بعدم ارتداء حمالة النهدين ، بل وهناك مصمم ديكور قام ببناء الفضاء المسرحي ، أما نحن الذين نشاهد ، فنحن الجمهور والكورس معاً ، فيغرق جسد المرأة في فضاء مسرحي .. يغلفه دخان السيجارة ، ولن تنتهي هذه من استعراضها ، لتمر أخري بعد أن خلعت حذاءها وعلقته في حقيبة يدها ، وراحت تلهو حافية تتمتع بحرية أقدامها ، وهكذا.
وهذه المشاهد البصرية المدهشة جعلتني ألتهم بعين شرهة كل ما يصادفني في الشارع ، من أعضاء بشرية استقلت عن أصحابها وتؤدي دورها في مسرح الدهشة ، نظري الفضولي سبب لي حرجاً كبيراً أو هكذا كنت أظن، إذاعتاد أن يتسلل في كل الاتجاهات ويخترق خصوصيات البشر في الشارع والمقهى والحانة والترام ، وهي تتسلل في كل الإتجاهات وكأنها آلة تصوير تلتقط كل هذه الصور وتحفظها . ليشبع نهمه من هذا الاستعراض ، ولم لا؟!، فهو يشاهد مسرحاً ومشاهدة المسرح حق مشروع ، فهم من خرجوا من خصوصيتهم وأصبحوا مسرحاً عاماً انحاوزا إلى الاحتفال وأضحوا كرنفالاً . وأصبحت أشعر أن الترام والسيارات والأشجار والمباني القديمة والحديثة ما هي إلا ديكور مسرحي والناس في الشوارع والبيوت في الشرفات والحانات والمقاهي جوقة كبير / كورس .
-9-
إذا أمطرت اختفي هذا الكرنفال ،وأصبح الفضاء المسرحي موحشاً ، وارتدت الشوارع والطرقات معطف الحزن مع قميص الوحدة ،وانكمشت المطاعم علي نفسها، وتكومت الكراسي والطاولات إلى جوار الحوائط مقيدة بالسلاسل ، وأضحت طيور البحيرة وخاصة البجعات البيضاء خائفة حزينة ، واختفي الممثلون، وأضحت المدينة كأرملة حسناء في خريف العمر !
-10-
في أحيان كثيرة ومن فرط الزينة والإفراط في جمالية الأزياء ، كنت أتوهّم أن أهل هذه المدينة يعملون بالمسرح كلهم ، وإذا جاء الضيوف عليهم أن يدخلوا علي الفور إلى هذا الفضاء المسرحي ويبحثون عن دورهم ، وأن يخلعوا ملابسهم ويرتدوا ملابس المسرح . فهذه الأجساد التي تمشي في الشوارع ترغب في التمثيل ، تستطيع التمثيل هذا ما توحي به حين تشاهدها ، وكأنها تمشي في فضاء مسرحي أو قل هاربة من دراما ما ،فهل يحتاج هؤلاء إلى مخرج ومسرحية ؟ هم أنفسهم المخرج والحكاية . فالبعض يدخل خشبة المسرح ، والبعض يغادر، والبعض يدخل ولا يخرج ، يعيش ويموت متفرجاً .
-11-
أعرف أنها المدينة ذات الجودة الأعلى في العالم والأكثر ملاءمة للعيش ، ولكن أحياناً كنت أسأل نفسي .. هل أعيش في ثلاجة ؟ كثيراً ما كنت أسأل نفسي هذا السؤال فكل مفردات الحياة من أشياء وأفعال مرصوصة بعناية، تحدث بدقة ودون أخطاء كما هو الحال بالنسبة للساعة سويسرية الصنع ، فربما يمر وقت طويل في شارع أو حي ، دون أن يتشاجر أحد أو تصدم سيارة أحد المارة أو يقوم أحدهم بالسطو علي بيت جاره أو قتله أو سرقته ، أو يسكر أحدهم في البار ولا يدفع الحساب .. علي العكس الجميع ملتزم ، ربما السائق يقف للمارة ويشير بيده وتبتسم حتى يعبروا ، والمتسول لا يزعج أحدا يقف يعزف أو يغني أو يضع نفسه في ملابس مسرحية وينتظر أن تعطف عليه ، فمن بين المعايير المستخدمة في تصنيفها الأكثر ملاءمة للعيش ، معدل الجريمة ،والرعاية الصحية ، وعدد ساعات شروق الشمس ومع هذا شعرت انني في ثلاجة ، فهل يعيش السويسريون في ثلاجة كبيرة وأنيقة ؟
-12-
المدينة التي يرجع تاريخها إلى العصر الروماني ما زالت تحتفظ بالماضي في البنايات والعمارة وأبراج الكنائس الكلاسيكية والشوارع الضيقة / الأزقة التي يمر منها حصان وفارسه بالكاد والآن تسع لدراجه وسائقها ، الماضي يعيش في المدينة شامخاً صامتا لا يتكلم أو يتدخل في شيء، الماضي للزينة ، للذكري ، أما البشر فلا يفكرون في ماض أو حتى مستقبل ، الجميع يعيش الحاضر اللحظة التي يحياها البشر الآن . مدينة تحتفظ بعبق التاريخ ، وكذلك بكل مقومات الحداثة وما بعد الحداثة .و نحن في القاهرة نفكر في الماضي ، نحزن من أجل المستقبل أما الحاضر فنفشل فشلاً ذريعاً في أن نعيشه أو نفهمه ، نحن عكس المدينة التي دمرت كل الماضي وأصبحت عشوائية بلا هوية .
فنحن نصنع الموت وهم يصنعون الحياة ، هكذا كنت أفكر وأنا في الشارع وكلما شاهدت الاحتفال الدائم بالحياة في كل مفرداتها وشتى تفاصيلها ، فنحن نبدع في طقوس الحزن ومراسم الموت وفنون البكاء ، وهم يبدعون في فنون الحياة ،يحتفلون بالطبيعة ونحن ندمرها لذلك تعطيهم وتمنحهم جمالها ، وتأخذ منا لأننا لا نستحق .
-13-
إذا دخلت المرأة في مصر عقدها الخامس أو السادس على الأكثر غيرت حياتها الماضية أو قل محتها من الوجود ، وبعد حياة المدنيّة تلف نفسها بالحجاب أو النقاب وإذا كانت مسيحية لجأت إلى الكنيسة تتعبد وتصوم وتجلس إلى جوار بائع القربان علي باب الكنيسة وحزنت وتجهمت … ودائماً ما تقدم وجهاً متحفظاً عبوساً لا يختلف كثيراً عن فردة حذاء قديم ، وظنها أنها بهذه الطريقة تتقرب إلى السماء ، وفي أوروبا إذا دخلت المرأة عقدها السادس فهي تبدأ الحياة ، سلوكنا نحن العرب بشكل عام ناتج من العادات التي يكتسبها الإنسان بصفته عضوا في مجتمع معين ، وعضوية المصري/ العربي في مجتمعه تجعله يفكر في الموت، والأوروبي يفكر في الحياة !
ولأن المدن تشبه أصحابها ، هذا ما حدث للقاهرة ،قررت أنها شاخت، ومعها مدن عربية كثيرة فأحكمت الغطاء حول رأسها وأخفت وجهها وجلست إلى جوار بائع القربان تتقرب من السماء وتنتظر النهاية ، تكره المستقبل ، تخاف منه وتعيش في الماضي ، أما الحاضر فليس هنا ، منذ مائة عام تقريباً كانت القاهرة تعيش أزهى عصورها ، كانت علي الأقل قطعة من أوروبا ، إن لم تكن أجمل من مدن كثيرة فيها ، ففي زيورخ ومدن أوروبية عديدة أتذكر القاهرة في الأفلام المصرية القديمة – أبيض وأسود – كانت هكذا ! وكنا نشبهها .. فماذا حدث ؟
-14-
من نافذتي العالية أطل علي الكلاب الأنيقة التي تعود مع أصحابها مساء وصباحاً، أراقب الكلاب والأشجار والبشر، وأسأل نفسي ، كيف تخلو الشوارع من القطط والكلاب الضالة ؟ وهل تستطيع مدينة رغم إفراطها في الجمال والزينة ودقة الساعة السويسرية أن تعيش دون قطط أوكلاب ضالة، دون خارجين علي القانون ، دون قتلة أو لصوص، فمن يحرسها ويؤنس ليلها الموحش.