يكمن سر خلف كل شيء كمون النواة داخل الثمرة، والموت أكثر الأسرار التباسا وغموضا، يشخص أمامي، حين اضطجاعي، في صورة فتاة فاتنة، تخطر مزهوة بامتلائها واكتمالها، في خفة ريشة، ثم تنزلق بجانبي تحت الغطاء انزلاق سمكة، تلامس أناملها جسدي ثم تمد سبابتها مطبقة جفني فأهوي خفيفا شفافا، محمولا في ما يشبه هبة نسيم، سعيدا بدنوي من ميناء تتلألأ أضواؤه…
أدركني الكبر وأمست مفاصلي تطقطق كدولاب مفكوك المسامير فاستفحل الأمر عندما تقاعدت إذا تمزقت أطر العلاقات المألوفة، كان علي التكيف مع وضع جديد، وهو ما لم أستطعه، فرفاق العمل كانوا بالنسبة لي على مسافة مديدة، وتواصلنا مقتضب: كلمات صماء كمقطع غيار. كانت ذئاب البراري تعوي بداخلي، ولم أكن لأستطيب رؤية الناس لاعتكار مزاجي جراء ما قاسيته من ريائهم، لدا لا أبالي بخيوط نظاراتهم المتقاطعة المصوبة نحوي، والتي أعلق فيها علوق فراشة في بيت عنكبوت، وما تمجه أفواههم الذي يمتزج في كلماتها الورع والفجور، ذات الألسن الشديدة المضاء كسكاكين حديدة، لذلك أوصيت بأن أقبر في هذا الخلاء حيث يمكن أن أزهو لرؤية الغسق والشفق، وحومان الطيور ونضارة العشب، والأصوات الغريبة للكائنات الليلية مدهما بشعور بالرضى الوفير بأن هذا الكون النائي عن الصخب والعنف خلق من أجلي، من أجل إسعادي …عالم شيد وفق توليف موسيقي. أقبر في منزل متواضع، شيدته سواعد بناة من الفلاحين، يلاعب في نفوسهم المكر الطيبة ملاعبة القط للفأر.
قبل سنوات قر عزمي على شراء حيازة بالبادية، نائية عن السكان،ترفل في غنى الوحدة كصوفي متبتل منتش في فلك استعلائه، كان المكان معزولا، بعيدا عن السكان، لا أحد يرتاد جواره غير راعية عنيدة، ذات جرأة، تسلك بأغنامها الطريق الخاص بي، خارقة العرف فتتكفل كلابي الثلاثة المهتاجة المندفعة كالسهام بتشتيت القطيع الذي يفر مذعورا، مما يجبر الراعية على الجري لاهثة للملمته والإضراب عن المجيء محنقة لأيام، وهو ما يوفر لي التمتع بفيض من السكينة المبتغاة … كنت أحيانا أنام على هدير الساقية كأن يد أم حانية تهدهدني، وأتابع بشغف تبدلات الفصول … التفتح الوئيد للأزهار والنباتات على أديم الأرض المتضوعة برائحة التراب المبتل… هنا يمكن للوجود الإنساني أن يصل أقصى معناه، والتلألؤ الألوهي المخبوء داخل صدفة الجسد الانبعاث كأشعة موشورية ، غامرا الكائنات كافة ، كما تبزغ رقة اللمسات الخلاقة التي صيرت
كل شيء جميلا ومختلفا : تشكيل الفأر المماثل لخنيزر مذنب ) خنوص ( بعينيه البراقتين، وبداهته الاستثنائية، وغبائه المميت، والسحالي الراقصة زحفا كما لو تسبح في الماء، والفراشات المهومة في استعراض اسر فوق كؤوس الأزهار، والطيور المنزلقة في الفضاء محدثة مسارات سلسة، راسمة بانسياباتها على قماش هوائي أشكالا غير منظورة. هذا الاكتفاء الباذخ عزائي الوحيد عندما وهبتني الشيخوخة صميميتي المكنوزة بعد رحلة شاقة لوجود حاف، ففي زمن بعيد ريق الصبا ، فجرت صاعقة جمجمتي ، وتخلخل العالم كله وبدأ يهوي من حولي ، فقدت الاحساس والإدراك معا وبدوت لنفسي كما لو أنني فراغ في الفراغ ….حدث هذا وياليته لم يحدث ، فقد توهج شعشعان الحب في قلبي ، وعقب بوحي للفتاة التي أحببتها ، وأنا أضع يدي على كتفيها ، متأملا تقاسيم وجهها الصغير الفاتن الذي يتوج جسدا باهرا إذ بوالدها يفاجئني ، واقفا خانقا متكدرا، وقد بدا لي من شدة اضطرابي وهلعي أنه سد علي كل منافذ الهرب، وكسر بيضة الحلم، صاح وهو يمسك بخناقي ، وقد تحلق حولنا أطفال ونساء ورجال ( بلغت بك الوقاحة أيها اللقيط ، ابن الزنا ، أن تجرؤ على ابنتي ) . إثرها شاعت الحكاية الأليمة التي أفقدتني الهدى، وأضلتني ، ومزقت نفسي شعاعا …..حكاية الطفل الذي كنته، والذي سلمته ، رجاء الخلاص، طفلة غريرة ، سقط ثمرة حب من أحشائها لوالدتي المفترضة مليكة.
وقتما تأكدت من أنني أطفو على سطح غدير كالفطر ، صببت جام غضبي ولعناتي على المرأة التي أوقعتني في الخديعة ، تعاطيت كلما يمكن أن يغرقني في النسيان ، وغادرت إلى زقاق مجاور ، مفترشا ركنا في صابة ، متعيشا على ما يوجد به الراقون لحالي ، المتأسون على مآلي ، وسط الصهد والقر والعجاج والمطر، وبعض النظرات الأشبه بنظرة الثعلب إلى خم الدجاج . لم أكن أعي ما أصبحت عليه وكأن حشدا شيطانيا غير مرئي يدفعني بعشرات الأيادي نحو حب عميق، أما الأم فقد غادرت ، على حين غرة، إلى وجهة ما، ومثلما أوقعتني الصدفة في يد من أوهمتني بأمومتها، كان نداء الأم المضيعة هو الذي أخرجني من مستنقع الضياع الموحل، وكما يرى قمر في عز الظهيرة، جاءت امرأة كاملة الأوصاف ، يبدو أنها على ثراء تحوطها غيمة شفيفة أشبه بعجاج ضوئي، أمدتني بمفتاح، وقالت ( افتح الباب وادخل) ولم أنتبه إلى أن خلفها باب إلا بعد انصرافها كبرق خلب . كان الباب يفضي إلى حديقة غناء، تنفث فواراتها المياه، ويمرح صبيان وصبيات عراة فوق بسط من العشب الأخضر تتوسطها دوائر من الأزهار والورود …. أيقظني هذا الحلم مجلو الخاطر ، مستضاء الرؤية، ودخلت الحياة، بعد أن لملمت أناي الاخرى وكومتها داخل بطن كفي وألقيت بها بعيدا كورقة خطاب غير مستحب، على صهوة فرس الامل. انبسطت السنوات طيعة … ودارت آلة الزمن وكأن نسرا يتعقب سعادتي ملتقطا إياها حبة حبة . انتهيت إلى ما أنا عليه شيخا الآن عليه شيخا أحس بدوار بارتخاء بانقباض شديد بابتراد قد يكون ربما إنها النها ……………
أحسست و أنا أقرأ الوريقات الثلاث بنوع من الشجن، وهذا ما أغراني بكشف هذا البوح الغنائي الحزين حيث عثر على ثلاث وريقات بجانب جثة بدأت في التحلل ، بعد أن أخبرت راعية دأبت على تعمد المرور بجوار ضيعة صغيرة أهل دوارها بانبعاث رائحة كريهة من منزل بها ، وبتكاثر الذباب ، وتداعي الكلاب.