اليوم تدحرجتْ كرةُ دمعٍ كبيرة على خدِّ طفلٍ ظل يرنو بحزن إلى سيارة الآيسكريم، التي دخلت الحارة منذ مدة، وأضافت إلى سيمفونية الضوضاء صوتاً مزعجاً آخر من موتور ثلاجتها، الذي يطلق الدخان بلا هوادة. كان في الخامسة من العمر… هكذا خمّنتُ وأنا أتأمل وجهه الباكي الذي كان يشتد حزناً كلما اقترب وقت رحيل السيارة. فجأة انفتح بابٌ هلامي في المسافة ما بين الطفل الواقف على الرصيف والسيارة، وهبت منه رياح كونية غريبة! أحسستُ أن الله كان ينظر إلينا في تلك اللحظة. تحركتْ سيارة الآيسكريم مغادرة الحارة، فأجهشَ بالبكاء! وبلا تردُّد، تحركتُ نحوه وأخذته إلى أقرب دكان، واشتريت له ما أراد، قبل أن أعود به إلى المكان نفسه الذي وجدته فيه أول مرة، ومضيت في طريقي وأنا ألتفت بين الحين والآخر إلى الوراء، مستمتعاً بابتسامته لي بعد أن توقف عن البكاء… لكنني، وبعد لحظات قليلة، أصبت برعب شديد وأنا أشاهد الطفل يتلاشى رويداً رويدا قبل أن يختفي تماماً!
* * *
ركضتُ بهلع نحو المنزل… أدركت أن ذلك الطفل هو أنا الذي كنته منذ أربعين عاماً، وأن عربة الآيسكريم هي ذاتها تلك التي بكيتُ بعد رحيلها كثيراً ولم أتوقف عن البكاء إلا بعد أن التقطني والدي من على الرصيف وأخذني إلى دكان قريب. لم تكن عادته أن يعود إلى المنزل في مثل ذلك الوقت… وكنتُ مُحرجاً من دموعي، أحاول مسحها خائفاً أن يراني وأنا أفعل ذلك… اشترى لي أشياء كثيرة، وضعها في كيس بلاستيكي وجعلني أمسكه… حينها أحسستُ أن الله كان ينظر إلينا في تلك اللحظات من ذلك الأربعاء البعيد الذي كان هو نفسه يوم اختفائه الغامض منذ خمسة وثلاثين عاماً… اليوم الذي خلفَّ في قلب أمي ثقوباً سوداء ستبتلع عما قريب الكون وما عليه.