« يا جماعة هذا الوضع لا يمكن أن يستمر..»
كلما يتفوه بهذه العبارة أدرِكُ أن الفودكا قد بلغت مداها وبدأت تلعب برأسه الأصلع.. من العبث طبعاً أن تسأل ماذا يقصد.. مجرد فقاعة هلامية.. رفيقنا الجديد (معز) الذي لا يزال في العشرينات من عمره بدا على وجهه تساؤل لم أستغربه، فهو لم يعتد على العبارة بعد..
أما أنا فلم أكن أنتظر إجابة.. أي شخص يجلس مع (الحاج) لهذه الفترة الطويلة لن ينتظر إجابة.. هو في الواقع لا يملك رداً على السؤال المتكرر كأنها مجرد جملة تطرأ على ذهنه كما قلت معلنة ذروة الجلسة..
لعله كان يقصد أن بقاءه في بلجيكا لا يجب أن يستمر، أو أن حال السودان يجب أن يتغير، أو ربما كان يقصد شيئاً آخر يعلمه وحده..
حينما تشرب تنسى لكن أحياناً تنسى أنك قد شربت لتنسى فتتوالى عليك الأفكار..!
(معز) قام بتفسير عبارته بشكل سياسي وربطها بما كنا نناقشه حول موجة الغلاء الحادة في السودان وحالة الكساد مما جعله يعلق قائلاً:
– ربما لو تغير الحال في السودان ووجد مثل هذا المكان وهذا الكأس فلن يعود هناك سبب لوجودك هنا..
لا أعلم إن كان جاداً في عبارته، فرغم ارتباط (الحاج) الكبير بالكأس وبهذا المكان الذي ظللنا نتردد عليه لعقود من الزمن إلا أنني أرى من غير المنطقي أن يكون هذا سبب بقائه الوحيد هنا خاصة أن ذلك لم يكن سبب مكوثه كل تلك السنوات.. بل مر على السودان وعليه وقت كان فيه الشراب متاحاً هناك وكان هو هنا..
لكن رفيقنا الجديد بدا جاداً وهو يردف:
– لا أعتقد أن ثمة شيئاً مستبعداً في عالم اليوم.. التغيير قدر الحياة..
هذا الشاب المتحمس يذكرني (الحاج) نفسه قبل عشرين عاماً وكيف كان يصدع رأسنا بكلمة «التغيير» الثورية، لاشك أن أوباما مدين له بها، ضحكت وأنا أفكر بذلك قبل أن أسمع عبارة (الحاج) الذي نهرني قائلاً:
– ما الذي يضحكك أيها البدين..؟
– لماذا لا أضحك.. قلت.. ألسنا هنا لنتسلى..
حاول (معز) أن يعيدنا إلى النقاش السياسي لكن (الحاج) بدا غير متحمس.. فعلاً هو ليس نفس الشخص القديم الذي كان ينشط ضمن الروابط السياسية والثقافية بشعر (بوب مارلي) وقمصان (جيفارا) .. أصابه الوهن.. تلك الحالة من الفتور والإحباط التي لا تجعلك تحلم بشيء.. تلك الحالة التي صنعت منا الكثير من الضحايا الذين باتوا يوقنون أن السودان لن يتغير وأنهم لن يعودوا..
رغم عدم حماسي للنقاش كنت أرى (معز) ينظر إلي قائلاً وكأنه يقرأ أفكاري:
– أنتما تظنان أن الحال في السودان لن يتغير.. لكن لماذا؟ لماذا كتب علينا أن نعيش ضمن وضع قاس لا يتغير..؟
لهجته الخطابية جعلتني أحس بالجوع.. لا أعلم ما الارتباط لكن الخطابة والحديث في السياسة كثيراً ما كانا يحفزان شعوري بالجوع.. ربما لأنني أتذكر أيام المسيرات التي كنا نخرج فيها مؤيدين للرئيس (النميري) حين كنا نمضي ساعات تحت الشمس حتى نحس بالجوع والعطش..
حاولت تأخير رغبتي في جلب قطعة كعك أصبر بها نفسي فالشاب المتحمس كان يريد مني تعليقاً.. بالنسبة لشاب قادم للتو من أرض الوطن كان الجدل السياسي مفيداً فهو يحتفظ ولا يزال بتلك الحرارة والاندفاع والرغبة في النقاش، أما بالنسبة لي فقد قمت بارتشاف ما تبقى من كأس «فودكتي» قائلاً بعد أن اعتدلت في جلستي محاولاً ترتيب أفكاري:
– في الواقع يا عزيزي..
لكن عبارتي لم تكتمل.. قطعتها حينما مرت من أمامي فتاة سمراء.. دوماً تلفتني السمراوات رغم أننا في بلد أبيض..
– ماذا تود أن تقول..؟
حينما طاردني (معز) بالسؤال وددت لو أقول له لماذا لا تسكت قليلاً، لكنني اكتفيت بتجاهله وأنا أتابع بعيني هذه الفتاة التي شقت طريقها بثبات لتجلس على طاولة فارغة..
لم أعد أذكر ما كنت أريد قوله.. هذه الفتاة بعثرت أفكاري..
(الحاج) أجاب عوضاً عني قائلاً:
– دعك منه إنه سلبي طوال عمره.. أنت معك كل الحق.. على السودان أن يتغير..
لم أكن لأكترث لهذا الحوار.. بالتأكيد فإن التغيير المنشود لن يحدث بمجرد تصويتي على نعم في هذه الجلسة..
الفتاة بدت وكأنها تنتظر أحداً، في حين كنت أسرح في مكان بعيد حتى انتبهت لصوت (الحاج):
– من حقي أن أشرب هذا الكأس في قلب الخرطوم.. بل في ميدان «أبو جنزير»..
العبارة أجبرت (معز) على أن يخرج من سياق الجدية قائلاً بوجه ضاحك:
– لماذا لا تتوقف عن هذه الدراما.. أنت تكرر هذه العبارة منذ عامين..
– فعلاً..؟ قال (الحاج)..
ضحكنا.. (الحاج) كانت لديه طريقة مسرحية في التعبير كنت أحبها.. هي ربما ما كان يصبرني على نقاشاته المكرورة.. كانت طريقة تجعلني أحب الحياة وتخفف عني كثيراً.. يكفي أن تعرف أنه يكرر هذه العبارة الأخيرة منذ ما يقارب الربع قرن..!
ولم أستطع هنا أن أمنع نفسي من التعليق:
– بالمناسبة، حسب ما علمت فقد تم إلغاء ميدان «أبو جنزير» الذي تتحدث عنه.. حتى ترتاح..
– بالله..؟ تم إلغاء أبوجنزير..؟ تم إلغاء الميدان الكبير..؟ كيف؟..
– هكذا.. تمت إزالته من أجل الاستفادة من المكان..
لم يكن (الحاج) جاداً في تأثره وهو يقول:
– معالم المدينة تتغير.. كأنهم يحاولون إلغاء ذكرياتي..
– الخرطوم تتغير فعلاً يا صديقي.. قلت.. تصبح أكثر عصرية وحداثة وتحل فيها المباني الشاهقة مكان أسواق الخرطوم وساحاتها القديمة..
عبارتي لم تعجبه فالتفت إلي قائلاً:
– ومالك تتحدث هكذا بكل حماس كأنك تريد أن تعود لتجد الخرطوم أصبحت مدينة جديدة بالكامل..؟
كان (الحاج) يحب أن يسير عكس التاريخ.. أن يرفض حقيقة أنه قد مر علينا وقت طويل هنا.. وقت كفيل ليس فقط بتغيير معالم المكان، بل تغيير البشر أيضاً..
كان يصر على ترديد قصصه عن الخرطوم القديمة.. عن الأسواق والترماي والبارات التي كان يملكها الخواجات وشكل الأزقة والشوارع.. كان يحكي عن تفاصيل الستينيات والسبعينيات كأنه يحكي عن اليوم أو الأمس القريب.. ينساب الحنين من بين شفتيه في كل مرة..
أنا أيضاً كنت أحب أن أترك نفسي للحنين أحياناً.. أن أسمح لصوت المراكبية على النيل بالتردد على أذني.. صدى المجاديف وأصوات الباعة المتجولين ونغمات الأغاني القديمة من عود أبي.. طعم «الكسرة» و«الملاح» وجلسات السمر ورائحة القهوة التي تصنعها أمي.. ياااااه..
«لا يمكن أن تعود بعد ثلاثين سنة لتجد كل شيء على حاله»..
أبى (معز) إلا أن يبدد ذكرياتنا بهذه العبارة.. ذكرتني كلمة لأحد قدامى المقيمين.. سألته كيف احتمل كل تلك السنوات فأجاب إجابة لم أنسها:
«كثرة الحنين تتعب القلب»..
كان (معز) يتحدث بنفس المنطق.. إما هنا أو هناك.. ورنت عبارته لبرهة في فضاء المكان:
– مشكلتنا أننا نريد أن نعيش خارج السودان وأن نعود لنجد الناس والأماكن كلها كما تركناها..
كانت تلك مشكلتنا فعلاً.. ليست فقط مشكلة (الحاج) بل مشكلتي أيضاً، لذلك ربما نرفض العودة.. لأننا نرى البلد قد صارت فعلاً وطناً مختلفاً.. لم نعد نفهم فيه حتى حديث الناس في الشوارع ولغة السوق.. بل لم نعد نعرف الشوارع.. فقدنا ذلك الإحساس فصرنا كالغريب.. أو السائح.. أو الشخص الذي فقد ذاكرته فجأة..
(الحاج) أيضاً كان غارقاً في ذكريات بعيدة.. في تلك اللحظة تبددت كل آثار وجهه الضاحك وبدا وكأننا أيقظناه من حلم ما..
بعد تردد قال مخاطباً (معز):
– دعني أحكي لك شيئاً..
* * *
شرع (الحاج) في قص حكايته:
«حينما خرجت من السودان كانت منحة دراسية للاتحاد السوفييتي.. في ذلك الوقت كنا معجبين جداً بهذه الدولة القوية الصاعدة التي لا تهزم.. هنالك بدأ عشقي للثورة والفودكا ولـ(هيلين) حبيبتي ورفيقة مسيرتي التي وفر علي حبها كثيراً من الوقت في سبيل تعلم اللغة الروسية وفهم المجتمع هناك..
الغريب أنه رغم كون (هيلين) روسية بالميلاد إلا أنني كنت أكثر إيماناً منها بالاشتراكية.. كنت واقعاً تحت تأثير الدعاية السوفييتية في حين كانت تحاول أن تناقشني قائلة أن سلبيات هذا النظام كثيرة رغم أنها قد لا تظهر لطالب زائر منبهر مثلي.. بل كانت تذهب أبعد من ذلك لتقول أن الشيوعيين لم يقوموا بالثورة في روسيا وأنهم فقط استغلوها للاستيلاء على السلطة.. أي أنهم سرقوا ثورة الشعب..»
غمغم (معز) قائلاً وهو يحرك رأسه في تدبر:
– وجهة نظر..!
أكمل (الحاج):
– المهم، بعد إلحاحها وافقت على السفر إلى أوروبا الغربية بعد إكمال دراستي.. وهنالك جذبني هذا العالم الجديد الذي بدا لي أكثر اتساعاً من المكان الذي جئت منه.. وجدنا أنفسنا ننتقل عبر عدة مدن حتى «استقرينا» في بروكسل.. أقول الآن «استقرينا» رغم أنني كنت دائماً أرفض استخدام الكلمة.. لم أكن أتوقع أن أبقى كل هذه السنوات أو أن أستقر هنا.. كنت أقول إنها مجرد فترة أعود بعدها لوطني.. تصدق أنني كنت أزهد حتى في الحصول على الجنسية البلجيكية..؟
قالها ملتفتاً إلى (معز).. طبعاً من الصعب على شاب من الأجيال الجديدة أن يتخيل أن هناك من لا يسعى للحصول على جنسية أوروبية.. لكنها كانت الحقيقة التي تكررت مع عدد أكبر من المهاجرين.. أنا نفسي حدث معي ذلك ولم أقدم على الجنسية إلا قبل عدة سنوات فقط رغم استحقاقي لها..
كنت أفهمه.. فعلاً.. من أقرب لمهاجر عجوز من مهاجر مثله؟ كثيراً ما حدثني بندم عن (هيلين) التي كان يحبها والتي لم تكن تشجعه على العودة للبلاد.. كان دائماً يقول إنها تقريباً خيرته بين وطنه وبينها.. فاختارها..
– لكن رهاني كان خاسراً.. (هيلين) هجرتني.. رغم وجود ابن بيننا وعشرين عاماً.. وأموالي ضاعت.. قبل تركها لي ضاعت عليها وعلى نفقاتها وبعد مغادرتها ضاعت على الشراب وعلى «نشاطات» كنت أقوم بها نكاية بها أو انتقاماً من نفسي.. الخلاصة أنني صرت لا أملك شيئاً لا هنا، ولا في السودان سوى غرفة متواضعة قديمة في بيت العائلة أخبروني أنها نصيبي من الإرث..
وزادت مرارته وهو يردد:
– أنا شخص بلا هوية لا ينتمي لأي مكان.. شخص فاشل..
الصمت المؤلم عاد من جديد.. لم أكن أنوي الانجراف معهما في هذا التيار الحزين.. من العبث السؤال عن لماذا لم يعد إلى السودان ويعمل بهذه الشهادات التي حصل عليها.. أو لماذا أصر على بعثرة نقوده.. الذي حصل على أية حال.. من العبث محاكمة الماضي..
* * *
– يا للنكد والتعاسة.. يعني لو بقيت في البيت لكان أفضل..
هكذا قلت محاولاً تبديد سحابة الحزن الداكنة قبل أن أنشغل من جديد بوجه تلك الفتاة وبملامحها الإفريقية الصافية.. هذه المرة انتبهت لنظراتي.. ارتبكت وأبعدت نظري، ثم وجدت نفسي أستأذن لأقوم متوجهاً إلى تواليت الرجال.. مرة أخرى مررت بها ونظرت إليها من قريب..
خرجت من التواليت.. وقفت قليلاً أمام البار لأطلب كأساً إضافياً.. أخبرت الساقي أنني أريد مزيجاً لا يكون شديد القوة وقطعة كيك.. شعرت بعطرها يقترب ثم سمعت اللكنة الإفريقية:
– أنا أيضاً أريد نفس الطلب..
التفتت إلي وألقت علي تحية غير متكلفة، رددت عليها بالمثل قبل أن أسمع سؤالها:
– هل من خطب..؟
– ماذا تقصدين..؟
– أعني أنك كنت تنظر إلي.. هل من شيء..؟
– آسف لإزعاجك.. لم أقصد أن أضايقك..
قلت ذلك ببساطة في حين لم يكن يبدو عليها الضيق حتى أنها قالت بمرح:
– لا عليك.. في هذا الجو الجميل والنادر لن أسمح لشيء بأن يضايقني..
– فكرة حلوة أن نستطيع السيطرة على الضيق..
هكذا قلت وقد أسعدني مرحها.. كنت مؤمناً بأنني ما زلت أحتفظ بجاذبيتي وقدرتي على لفت انتباه الفتيات.. ذلك ما يسمونه غرور الخمسينات.. ذكرت لها اسمي وذكرت لي اسمها، لكن بدا لي أنني أفسدت الأمر حين ذكرت السبب الرئيسي لاهتمامي:
– لقد ذكرتني بحبيبة قديمة.. كأنها نفس الملامح..
صنعت حركة بفمها مدعية الإحباط وهي تقول أنه لو كنت قلت أنها جميلة لكان ذلك أكثر اهتماماً، ثم ما لبثت أن ضحكت قائلة:
– حسناً لا بأس.. إذا كنت أذكرك بحبيبتك فأنا أستحق أن يكون مشروبي على حسابك..
– بالتأكيد، قلت بلا تردد وأنا أخرج النقود من جيبي..
– أنت من أي بلد..؟
– السودان، وأنت؟
– أصولي من إثيوبيا..
– جيراننا.. هذا الشبه الشديد يجعلنا نثق أننا عائلة واحدة..
لن يصدق أحد، حتى أنا لاحقاً، سيل المعلومات التي سردتها خلال الدقائق التالية عن تاريخية العلاقة بين الشعبين الشقيقين، وكنت قد بدأت الحديث عن الممالك الحبشية القديمة حينما قاطعتني وقد بدا عليها اهتمام أو فضول ربما:
– عفواً.. هل أشبهها لهذا الحد..؟..
– وأكثر مما تتخيلين.. ضحكت.. أعني أنك تشبهينها بحسب صورتها المخزنة في ذاكرتي قبل عشرين عاماً..
– لم ترها منذ عشرين عاماً..؟
– هذا محزن ولكنها الحقيقة.. انتهى كل شيء منذ وقت طويل..
ضحكت مرة أخرى قائلة بمرح:
– لا أظن أنه انتهى.. أنت ما زلت تنظر إلي بهيام لمجرد الشبه.. يا لك من وفي..!
مرحها انتقل إليَ فضحكت بدوري.. صحبتها في كل الأحوال أفضل من الجلوس مع رفيقي البائسين..
* * *
«.. أظن أن صاحبنا قد تأخر في جلب طلبه..!»
قالها (الحاج) بخبث لرفيقه الذي ما لبث أن علق بسخرية:
– هو لا يزال محتفظاً ببعض السحر على ما يبدو..
لم أهتم بما كانا يقولانه.. لكنني كنت أشعر بعينهما من خلفي.. كنت أشعر بها تراقب فتاتي.. كنت أهم بقول شيء ما لكن صديقها كان قد وصل.. قبلته قبلة حب قصيرة فابتلعت كلماتي ثم قامت بتعريفنا ولم تنس أن تعلق:
– لقد تعرفت عليه قبل عشر دقائق بالضبط..
– فعلاً..؟ أنتما تبدوان كصديقين قديمين.. قال صديقها..
– ربما لأننا من نفس المكان تقريباً.. قلت محاولاً التبرير..
كان شاباً أبيض مهذباً قال وهو يقترب من الفتاة أكثر:
– الصدف تصنع الصداقات القوية أحياناً..
أما هي فقد التصقت به ليحتضنها بين ذراعيه مردفاً وهو يقبلها قبلة صغيرة أخرى:
– والحب القوي أيضاً.. نحن أيضاً تعارفنا صدفة.. في باص..
– باص؟ قلت متسائلاً..
الشاب ابتسم وهو يقول:
– لا عليك.. إنها قصة طويلة.. كانت حافلة سفرية..
كنت أود أن أعرف القصة لكنني أحسست أنني قد شغلتهما أكثر مما يجب.. استأذنت وأنا أخبرهما أن معي رفاقاً..
– فرصة سعيدة.. قالاها بصوت واحد..
– فرصة سعيدة.. قلت قبل أن أخبرهما أنني آتي هنا مع أصدقائي كل نهاية أسبوع..
– سنلتقي إذاً ربما.. قالت الفتاة..
– أكيد.. قلت وأنا أومئ برأسي..
هكذا عدت إلى مكاني مع وهج الذكريات وأنا أحمل كأسي الجديد.. وقطعة الكعك..
* * *
«..ذوقك غريب فعلاً.. ما الذي أعجبك في هذه الفتاة أيها الدنجوان؟..»
قالها الحاج ساخراً، في حين قال (معز):
– ليست المشكلة أن ليس بها شيء مميز ولكنها طلعت مرتبطة أيضاً..
تبادلا القفشات طويلاً حول الموضوع خاصة موقفي حينما دخل علينا حبيبها.. أنا أيضاً كنت أضحك قائلاً أنه لحسن الحظ فهو لم يحس بالغيرة..
– هذه من الفوائد.. لو كنت في بلدك لأخذت علقة ساخنة..
ربما كان سبب عدم الغيرة أنه في زهرة الشباب وأنني بالنسبة لهما لست سوى عم عجوز.. لن أفكر بهذا.. أفضل أن أقنع نفسي بأنه رجل منفتح لا يكترث لمثل هذه التفاصيل..
كنت أحاول أن أذكرهم بأن الأمر ليس كما يتصورون، وأنني لم أقصد المغازلة، لكنهم استمروا في الضحك حتى قلت:
– كل ما في الأمر أنها ذكرتني بـ(حليمة)..
الحاج توقف عن الضحك ليهز رأسه قائلاً بضجر:
ياااااااااه.. ما تزال تذكر هذه القصة القديمة.. ؟ لقد مر عليها عقدان من الزمان..
– حتى لو مر عليها قرنان.. إنها لا تنسى يا صديقي..
(معز) تساءل:
– أنا لا أفهم شيئاً..
تركت (الحاج) ليحكي القصة على طريقته:
– (حليمة) هي حبيبة صاحبي هذا وكان ينوي أن يتزوجها بعد أن يقوم بتوفير بعض المال.. الذي حصل أن إجراءاته هنا تأخرت ولم يستطع أن يرتبط بها.. هي بدورها انتظرته لعامين قبل أن ترضخ لرغبات عائلتها حيث لم تكن الفتيات ينتظرن كثيراً في تلك الأعوام.. حينما استطاع العودة للسودان في أول زيارة كانت قد تزوجت وسافرت مع زوجها للخليج.. كان مغترباً في وقت كان فيه الاغتراب الخليجي يجعل منك عريساً لا يقاوم..
بدا عليَ الحزن دون أن أقصد.. شعرت بالقصة وكأنها تحدث الآن أو حدثت قبل أيام مما جعل (معز) يحاول التخفيف عني قائلاً أن من العبث التفكير بهذه الذكرى القديمة وأنها لاشك صارت أماً الآن ولعل أولادها قد أصبحواً في الجامعات أو كادوا..
لم أرد.. فقط شعرت بحزني يتزايد و(الحاج) يقول بسخريته المعهودة:
– لا أدري ما الذي كان يربطك بها لهذه الدرجة.. حتى اسمها كان قديماً وتقليدياً.. (حليمة)..
لم أكن أستطيع أن أشرح لهم أنها لم تكن مجرد قصة قديمة بل كانت الشيء الذي جعل حياتي كلها تدور بلا هدف.. حينما عدت إلى السودان ووجدتها قد تزوجت أحسست أنه لم يبق لي أحد وأن علي أن أعود من حيث أتيت.. هل علي أن أعمل بجد؟ في تلك الفترة تساءلت.. لماذا علي أن أعمل وأن أبني نفسي.. ولمن..؟
– ولكن الله قد عوضك خيراً ورزقك بأم أيمن.. قال (معز)..
طال صمتي.. لا أعلم إن كانت زوجتي تعويضاً.. لكنني كنت أفهم وجهة نظر الجميع.. ليس من العدل أن أرهن حياتي قبالة شيء لا يستحق وامرأة يمكن أن تكون نسيتني مثلما نسيت كل خطيب عابر.. لكن ذلك لم يكن بيدي..
صمتي انتقل إليهم قبل أن يعود (الحاج) للقول بمرح:
– حسناً يا عزيزي.. نحن آسفون لسخريتنا من ذكرياتك.. لكن تذكر أننا هنا لننسى لا لأن نتذكر..
أجبرت نفسي على الابتسام وأنا أقول:
– فعلا.. نحن هنا لننسى.. حسناً لماذا إذاً كنت تحكي لينا قصة (هيلين) والشاطر حسن قبل قليل..؟
لحسن الحظ فإننا لم نكن لنستسلم للحزن.. لو سلمنا أنفسنا للحزن فلن يبقى منا شيء، ذلك ما قاله (الحاج) قبل أن يحكي نكتة بذيئة كعادته.. ضحكت بقوة بعدها.. لا أعلم إن كان ذلك من أثر النكتة أو لأنني أردت أن أضحك.. لم يضحك (معز) مثلي بل اكتفى بابتسامة مجاملة.. كان يبدو أنه قد غرق في تفكير..
* * *
مضى وقت طويل قبل أن يصارحنا (معز) بقصته.. رغم أنه كان يحاول إقناعنا في البداية أنه مجرد مناضل سياسي إلا أنه سرعان ما تكشفت لنا حقيقة مأساته.. حينما تحب فتاة ويتم رفضك لأنك من منطقة معينة فهذا بلا شك لا علاقة له بالصراع السياسي ولا الحكومة الحالية.. تعلمنا أن ابن الشمال لا يتزوج من الغرب وأن ابن الوسط لا يمكنه الارتباط بجنوبية حتى ولو كانوا بنفس الديانة، بل كان من المتعارف عليه حتى فترة خروجي من البلاد أن لا تخرج البنت من كنف عائلتها لزوج غريب، وتعريف الغريب هنا هو كل من كان من خارج الأسرة الكبيرة أو القبيلة على أكثر تقدير..
كان يحكي لي كيف أن حبه كان مستحيلاً وكنت أمثل دور المتعاطف المنفتح.. كنت منافقاً فأنا يمكنني أن أقبل به كصديق أو نديم لكن يصعب علي القبول به صهراً..
حينما قَصصنا قِصصنا كنت أنظر إليه.. كأنه كان يقول أن لديه أيضاً قصة حب ترك السودان بسببها وانخرط في كل ما من شأنه أن يغير أفكار الناس.. ربما بدأ بالسياسة لأنها أوضح وأسهل لكن طموحه كان دائماً أكبر وغاياته أشمل..
* * *
انتهت جلستنا.. خرج (الحاج) واستقل سيارته الصغيرة متوجهاً لشقته.. حينما وصل وجد صديقته الشقراء بالخارج.. لقد نسي أن لديه موعداً معها..
– أنا هنا منذ ثلاث ساعات..
– آسف جداً.. لقد انشغلت ونسيت..
– نسيتني..؟ يا لك من وغد فعلاً..
– آسف مرة أخرى.. لماذا لم تتصلي بي؟
– لقد اتصلت بك ألف مرة لكنك لم ترد حتى أنني قلقت فعلاً..
بعد أن تحسس جيبه انتبه لأنه قد نسي هاتفي في البيت.. يالها من ليلة!
وسمعها تقول بغضب:
– كل هذا القدر من النسيان.. ماذا حل بك؟
دعاها للدخول متسائلاً:
– ولماذا لم تستخدمي المفتاح الذي معك..؟
قالت بضجر أنها نسيته، وكانت تلك فرصة ليقول لها أن النسيان فعل إنساني وقد يحدث..
دلفت إلى الداخل وعلى وجهها ما تزال نظرة غير راضية:
– أن تنسى مفتاحاً شيء وأن تنسى لقاءك مع حبيبتك شيء آخر..
لم تكن مهمة صعبة أن يسترضيها فرغم أنها قامت بإبعاد يده عنها إلا أنها لم تستطع أن تتابع التمنع وهو يسترسل في عبارات عشقه وغرامه..
حينما نجح في جعلها تبتسم ابتسم هو أيضاً لانتهاء العاصفة قبل أن ينتبه لأنه قد نسي شيئاً أهم من مفتاحه ومفتاحها وهاتفه النقال..
لقد نسي زجاجته..
زجاجة الفودكا..!