فـي الذكرى الخامسة لغيابه:
(غسان كنفاني، ناجي العلي، ياسر عرفات، توفيق زياد، ممدوح عدوان، محمد الماغوط، إميل حبيبي، إدوارد سعيد، جوزيف سماحة، إسماعيل شموط، جورج حبش، ماجد أبو شرار، عز الدين قلق، راشد حسين، إبراهيم مرزوق، خليل حاوي، سمير درويش، أمل دنقل، سليمان النجاب، نزار قباني).
كتابات محمود درويش، التي يضمها هذا الكتاب، تحرير وتقديم سمير الزبن، (الصادر حديثا في دار كنعان- دمشق، في الذكرى الخامسة لرحيل درويش)، معروفة وسبق لنا أن قرأناها، مُنَجّمةً، هنا وهناك من منابر الصحافة العربية، أو في مجموعاته الشعرية وكتاباته النثرية. لكن الجديد في هذا الكتاب، هو «الروح الرثائية» التي تسود فيه، روح الفَقد والخسران التي تسكن هذه النصوص مجتمعةً، لتظهر هذه السمة في «أدب درويش» كما لم تظهر لدى شاعر سواه ربما، ما يمنحها أبعادا جديدة تعمّق «الرؤية» المأسوية إلى مصائر الشخصيات التي رثاها، وكان يجد فيها ما يشترك به معها من سمات المأساة، ومن مقدرة على مواجهة الموت بالإبداع.
بعض من رثاهم درويش، حضر في كتاباته حضورا شعريا، أي في هذه القصيدة أو تلك، لكن البعض الآخر، أي الأغلبية تقريبا، خصّهم درويش بكتابة خاصة بهم، شعرا أو نثرا، حيث نرى صورهم بتفاصيلها التي يعرفها الشاعر ويمحّص جوهرها العميق، حتى أنه يعيد صياغة شخوصهم ضمن مشروع ثقافي أو سياسي، أو كلا المشروعين في تمازجهما وتداخلها، وهو ما نجده في رثاء شخصيات ذات حضور وتأثير كبيرين، مثل غسان كنفاني وماجد أبو شرار وإدوارد سعيد وإميل حبيبي وراشد حسين وياسر عرفات وجورج حبش، وسواهم ممن ربطته بهم علاقات عمل يومي في الساحتين الثقافية والسياسية.
وفي هذه «المراثي»، نجح درويش في تجاوز الخاص/ الفردي إلى العام/ الجماعي، أو بالأحرى في المزج بين المستويين، على صعيد البحث في ما هو وطني/ سياسي، عبر الثقافي المتعلق بتجذير الهوية والمآلات التي تتحكم ببنائها وتحولاتها. لذا فنحن لسنا أمام حالات رثاء بالمعنى البكائيّ المألوف للمصطلح، كما أننا لسنا أمام حالات وداع لأشخاص، بقدر ما نقف على «وداعيّات» لرؤى وأفكار وتجارب تتعلق بالحالة الفلسطينية ثقافيا وسياسيا.
يبدو ذلك جليّا في وداع كنفاني، مثلا، وهو يخاطبه بهذه اللغة الباحثة عن المصير «نذهب إلى فلسطين ونُعزّيها. هي المفجوعةُ. هي الثَّكلى. نُعزّيها أم نهنِّئها؟ لا أدري. فهي التي سترتب عظامكَ، هي التي ستعيد تكوينك من جديد. ونحن هنا، سنموت كثيرا. كثيرا نموت، إلى أن نصبحَ فلسطينيين حقيقيين، وعربا حقيقيين”.
وكذلك الأمر بخصوص مشروع إميل حبيبي “السَّلاميّ” بين شعبين على أرض واحدة، إذ يخاطبه “لقد شاءت طبيعة التطور التاريخيR38; R36;فيR38; R36;تقاطع المصائر الإنسانية أن تجعل هذه الأرض المقدسة بلدًا لشعبين،R38; R36;بعدما تعرض شعبها الفلسطينيR38; R36;إلى المصير التراجيديR38; R36;المعاصر وبذل تضحيات تفوق طاقة البشر لتثبيت هويته الوطنية،R38; R36;وحقه فيR38; R36;الاستقلالR38;. R36;وكنت أنت منذ البداية وحتى هذه اللحظة،R38; R36;أحد المنابر المتحرِّكة الأقوى والأعلى،R38; R36;الداعية إلى سلام الشعوب بحق الشعوب»R38;. R36;
وحتى في وداعيته إلى ناجي العلي، الذي اعتُبر أحد خصومه، منذ رسم ناجي لوحته الشهيرة “محمود خيبتنا الأخيرة”، يخاطبه درويش “فهذا الشهيد الذي كان شاهدا علينا هو شهيد ثقافتنا، شهيد الطرق المتعددة إلى الوطن.. وهو أحد رموز الرأي المغاير داخل الحالة الفلسطينية المغايرة لما يحيط بنا من قمع”، ويضيف ولأنه يحس بأن فلسطين ملكيته الخاصة التي لا يحق لأحد إن يجتهد في تفسير ديانتها، فهي لن تعود بالتقسيط، لن تعود إلا مرة واحدة.. مرة واحدة من النهر إلى البحر.. وإلا، فلن يغفر لأحد، ولن ينجو أحد من تهمة التفريط”.
هذا هو المشروع الثقافي/ السياسي الذي جمع درويش بألوان الطيف الفلسطيني.
كلمة الناشر سعيد البرغوثي للكِتاب جاءت ملامسة حميميّة تُبرز الجانب العاطفي لغياب درويش وحضور مراثيه، والكلمة التي حملت عنوان “الموت على شبّاك الفلسطيني!»، جاء فيها «خفيفا باردا يأتي، لا يطرق الباب، لا يسأل عن حال مضيفه، ولا يشرب القهوة عنده. وغالباً ما يأتي قبل موعده بلا استئذان، واضحاً كالفجيعة، وغامضاً كالأساطير. إنه الموت وسادة رأس الجميع، وخط النهاية الأخير، لا شيء يوقفه ولا شيء يثنيه، كصياد يعرف طريدته، يترصدها واثقا من فوزه، أو كظل يساير صاحبه ذات اليمين وذات الشمال، ومن الأمام والخلف، وكثيرا ما لا يُرى. لكن له على شباك الفلسطيني طعما آخر، وشكلا آخر. يعرّش في البيت كدالية العنب، يسيل على الطرقات كوخزة المنعطف القادم، أو كتنهيدة آخر الزقاق قبل الوصول، ويأخذ شكل السؤال عن الحياة، وعن سر تجددها في رماد الفينيق إلى كبد بروميثيوس الذي ينهشه الطائر ويلتئم كل مساء. على شباك الفلسطيني نجد الموت مجدولا بحبل السرّة منذ ولادته، في أرضه المحتلة وفي منفاه. لهذا في الموت لديه يمتزج الملحمي بالعادي، يتناغمان ويسيران معا، واضحين كالشهيق، وأليفين كتحية الصباح عند خبز الإعاشة المغموس بزيت الذاكرة المقهورة.
من قامة الشعر العالية، ومن شرفتها المطلّة على عرش السؤال ومملكة الروح، ينشب درويش أظافره في وجه الموت، كفلسطيني وكإنسان، يتحداه دفاعا عن الحياة، ودفاعا عن أصدقائه الذين يتركون الطاولة في أول الحفل. ولمّا تنتهِ كؤوسهم بعد، ودفاعا عن حقه في الخلود أيضا. أليس حرِيّا بالموت أن يتركهم ليقطفوا لحبيباتهم وردة أخرى من ورد سياج البيت؟ وردة أخرى فقط!! أو سنة أخرى فقط! هكذا مع الموت وجها لوجه ونِدّا لنِد، هو يدرك أنه لن يتغلّب عليه كليّا، لكنه لن يسمح للموت أيضا أن يظفر تماما، ولن يستسلم أمام عبثيته وفائض شهوته التي لا تنتهي. يدرك ذلك، لكنه ينظر في عين الموت ويخاطبه، يا سيد العدم أنا سيد الوجود!! أنت الفاني، وأنا الباقي هنا على هذه الأرض، باق، وباقية خطواتي، وذكريات جارتنا، وعين الغريبة، والناي الذي أبكى شجرة الزنزلخت في دار العجوز، وفسحة الشمس التي تكفي لحبيبين، والأمل الذي يرفعنا رغم جراحنا لمصاف الأنبياء. لك أسطورتك أيها الموت ولي أسطورتي، ربما أخادعك قليلاً، لكن آثاري وحروفي باقية نقشاً على جدار الزمن. لم يبتدع درويش المراثي، إنها قديمة قدم الحزن، لكنه خرج من بكائيتها إلى رمزيتها، ومن صدمتها إلى معناها، ففي الموت تتخذ الهوية شكلاً آخر، وتزدحم الأسئلة لتمسك الوجود من معصمه، وتقيس عمر الفراشة بين ضوءين، لتبدو الحياة سؤالاً بحجم الفجيعة، إضافة إلى كونها على ميثاق من شهوات عناصرها، ونهر اندفاعها المتهوّر وصولاً إلى وشوشاتها الخارجة للتو من أزرار قمصان الآخرين. وفي ذروة اشتباكه المحتدم مع الزمن أدرك درويش أن الموت لص يسطو على الذاكرة، على ذاكرتنا باقتطاع الآخرين منها واحداً واحداً، فاستبسل في ترميم حائطها، وأودع في مراثيه ما يجعل الموت خائباً، كثيراً أو قليلاً، أمامها. إذاً هو الموت يقلّم شجرة الذاكرة غصناً فغصناً، ليحتطبها في النهاية، ويرميها في موقد النسيان. هكذا رآه درويش، فأصر على اخضرارها الدائم بشاعريته التي خلقت نسغاً جديداً لتلك الشجرة الواقفة على ناصية الزمن.
ومثل ابن الريب مالك رأى نفسه في مرآته أوضح، واستوقفه غياب القادم، فأحب أن يرسم ذاته بذاته في صحن الغياب. غير أنه خلافاً لابن الريب عاين هذا الغياب في غيبوبة المشفى، وأطلَّ فيها على برزخ ما بعد الرحيل، فاشتعلت جداريته، واستيقظ فيها الخفي، وتبدّى له مكر الموت الفاتك جلياً وبدا هذا الموت جباناً أنانياً لا يعرف الرحمة، عبثياً بمقاصده وأساليبه، فحاوره بكل ما أوتي من رغبات، وخادعه ما استطاع، وعرّاه كما يليق بهذا الجبان الآثم، وتحداه بنقش الاسم على لوح الذاكرة، تحداه بالكلمة التي لا تموت، وبالمعنى المحروس بسياج الفتنة الشعري.
هزمتك يا موت الفنون جميعها!
وبهذا لم تكن مراثي درويش حزناً أو بكائيات على راحلين، بقدر ما كانت طقساً احتفالياً مضمراً لنفس وثّابة تبحث عن براءتها واندفاعها، خارج خيبتها وفيها، عن حقها في التحاف المطلق، ساحبة في طريقها إليه، كل ما يحتويه الطريق إلى المطلق من نمنمات آسرة، وكل ما تستحقه الحياة في الطريق إلى المطلق.
على هذه الأرض ما يستحق الحياة».
أما التقديم الذي يضعه سمير الزبن لهذا الكتاب، فيُعتبر قراءة معمّقة في هذا الجانب من الشعر والإبداع الدرويشيين، إذ يغوص الزبن عميقا في هذا العالم التراجيدي، وتعد مقاربته من المقاربات النادرة لهذا البعد في كتابة درويش، يرى الزبن أنه «من حسن حظّ التجربة الملحمية الفلسطينية ـ إذا كان للمآسي حظّ ـ أنْ وَجدتْ مُنشدَها وراويَها في محمود درويش». إذ «لم يُتح للتجربة الفلسطينية أن تجد راويَها في ديوان العصر..»، لأسباب فرضت «على درويش أن يحمل المهمةَ شعرًا، وأن يروي التجربة شعرًا، وأن يضيف إلى فلسطين بعدًا جماليّا لهويتها، ما كانت لتكون دونه». وعليه فإن الكتاب كلّه هو «رثاءُ الذات في أجمل صوره الممكنة وأنصعها، يصوِّر الرحلةَ النهائية إلى العدم. إنها البيان الشعري الملحمي الختامي لدرويش الذي طلب في نهايتها قبرًا، وقبرًا فقط».
ثم يرى الزبن أن درويش «تأمّل الموت، وتأمّل موته الشخصي، الذي كان دائمًا قريبًا منه. ورثى الكثيرين من أصدقائه على مدى تجربته الطويلة، وخاف أن لا يجد من يرثيه رثاءً لائقًا، فرثى ذاته قبل أن يموت! وقد رثى درويش «نفسه بكلماته قبل موته، ورسم «جداريتـ»ـه الكاملة. ولأنّ أحدًا لا يستحق كلماته أكثر منه، فقد نظر إلى نفسه «في حضرة الغياب»، ليكتب نصّه المطلق، النصَّ الأعلى». هذا التأمل العميق للتجربة مع الموت جعل الشاعر ينتصر على الموت بالفن، أو بمراوغته وترويضه».
كما أن شعر درويش، بحسب الزبن «ليس احتفالا بالموت. على العكس: إنه احتفال بالحياة، وسخرية من الموت. يقول درويش في أمسيته الأخيرة في حيفا: فماذا يفعل الشعر في زمن المحنة الطويل؟ ويجيب: إنّ الشعر هو المرافعة النوعيّة المجانية للدفاع عن الحياة وعن حقّنا في أن نحيا حياتنا كما نريدها، ببداهة وحرية وسلام. وهو دفاع عن الروح والذاكرة الجمعية والهويّة، دفاع عن الحبّ والجمال وعمّا في أعماقنا من موسيقى خفيّة وفرح. وهو مقاومةٌ لكلّ ما يجعل الحياة عبئًا على الأحياء، ومقاومةٌ لكلّ ما يعيق حرية الإنسان وتطبيع علاقته مع ذاته ومع وجوده الإنسانيّ. إنه البحث عن الأمل، أو هو اختراع الأمل». هذه وظيفة الشعر كما جاءت في بيانه الشعري في زيارته الأخيرة لحيفا. الشعر ليس مترفّعًا عن الحياة، أو موازيًا لها، بل قادمٌ منها ومجبولٌ بها، وصاعدٌ جماليّاً من آلام البشر وأوجاع الحياة.
وعن تاريخ المراثي في مسيرة الشاعر يقول الزبن إن درويش كتب النص الرثائي البليغ الأول، عندما فُجع باغتيال غسان كنفاني، حيث يقول درويش: والموت دائما رفيق الجمال. جميل أنت في الموت يا غسان. بلغ جمالُك الذروة حين يئس الموت منك وانتحر. لقد انتحر الموت فيك. انفجر الموت فيك لأنك تحمله منذ أكثر من عشرين سنة ولا تسمح له بالولادة. اكتمل الآن بك، واكتملت به. ونحن حملناكم ـ أنت والوطن والموت. حملناكم في كيس ووضعناكم في جنازة رديئة الأناشيد. ولم نعرف من نرثي منكم. فالكل قابل للرثاء.. لا يكون الفلسطيني فلسطينياً إلا في حضرة الموت. قولوا للرجال المقيمين في الشمس أن يترجلوا ويعودا من رحلتهم، لأن غسان كنفاني يبعثر أشلاءه ويتكامل. لقد حقق التطابق النهائي بينه وبين الوطن”.
كذلك وبحسب الزبن “لم يكتب درويش مراثي بكائية، رغم شحنة الألم والحزن القوية التي تختزنها النصوص، كان الموت في تجربة درويش يُلقي ضوءاً كاشفاً على الحياة، فلا يمكن الاحتفال بالموت، الموت الذي يكشف الحياة وينيرها وينير حياتنا وحياة من رحلوا، نراهم بعيون مختلفة عن تلك التي كنا ننظر لهم بها وهم على قيد الحياة ونستطيع الرجوع إليهم بعد حين. أما الموت فهو سفر نهائي لا حوار بعده، بعده نتكلم بلساننا ولسان من ودعنا”.
و”يكتب درويش عن عدد من الذين أثروا في حياته الأولى بعد سنوات طويلة نصوصا ساحرة. كتب راثيا إميل حبيبي: الآن وأنت مسجّـَـى على صوتكR38;. R36;ونحن من حولك،R38; R36;رجوع الصدى من أقاصيك إليكR38;.R36; الآن لا نأخذك إلى أيR38; R36;منفى،R38; R36;ولا تأخذنا إلى أيR38; R36;وطنR38;. R36;ففيR38; R36;هذه الأرض من المعانيR38; R36;والجروح ماR38; R36;يجعل الإنسان قديسًا منذ لحظة الولادة،R38; R36;وشهيدًا حيًّا مضرّجًا بشقائق النعمان من الوريد إلى الوريدR38;.R36;» أما عن توفيق زياد فيكتب عنه: «كان يقود قطيع أحلامه المشتت إلى مرعاه المحاصر بالجفاف. ولكن حفنة من الحلم في قبضة يده كانت كافية لأن يغمض عينيه على ختام النشيد الدامي.. نشيده الطويل.
وفي رثاء غسان كنفاني” يكتب درويش «اكتملت رؤياك، ولن يكتمل جسدك. تبقى شظايا منه ضائعة في الريح، وعلى سطوح منازل الجيران، وفي ملفات التحقيق. ولم يكتمل حضورنا نحن الأحياء ـ طبقا لكل الوثائق. نحن الأحياء مجازا، وأنت الميت ـ طبقا لكل الوثائق، أنت الميت مجازا. نحزنُ من أجلك؟ لا. نبكي من أجلك؟ لا. أخرجتنا من صف المشاهدين دفعة واحدة وصرنا نتشوف الفعل، ولا نفعل.
وعن رحيل الماغوط، يقول “رحل الماغوط، ونقص الشعر، لكنه لم يأخذ شعره معه كما فعل الكثيرون من مجايليه الذين صانوا سلطتهم الشعرية في حياتهم بحرّاس النقد والأحزاب. فهذا الوحيد الخالي من أية حراسة نظرية وتنظيم إعلامي، لم يراهن إلا على شعريّته وحريته، وعلى قارئه المجهول الذي وجد في قصيدته صدى صوته وملامح صورته، بعدما أقامت كلماته المكتوبة بالجمر جسر اللقاء بين الذات والموضوع، وبين الذات وما تزدحم به من آخرين.
وهو الآن في غيابه، أقل موتاً منا، وأكثر منا حياة!