صدرت عن دار الجديد، الطبعة الثانية لكتاب (ديوان الحلاج)، معِدّا ومقدِّما إياه الكاتب والشاعر (عبده وازن)، عبر قراءة جديدة تثبت أن النص مهما أوغل في القدم فإنّ قراءته بطريقة عصرية صحيحة لكفيلة بأن تبقيه جديدا لا يشيخ، بل يتناسب مع كلّ زمان ومكان إذا كان أهلا لذلك. . وهكذا استطاع مؤلِّف هذا الكتاب أن يسلط الضوء على شخصية الحلاج ونتاجه الابداعي. تلك الشخصية التاريخية الأكثر اشكالية والأكثر جدلا لدى المؤرخين والفلاسفة والنقاد على مختلف اختلافاتهم وانتماءاتهم غارفا(أي الكاتب)، من معين سابقيه الذين أثارتهم شخصية الحلاج فراحوا يبحثون ويتحرون حول هذه الشخصية المعقّدة في طروحها ومبادئها، معاتبا الباحثين العرب والمسلمين الذين أهملوا حياة الحلاج ونتاجه الابداعي، معترفا ومقرا بجهود المستشرق لويس ماسينيون الذي لولا بحوثه لظلت هذه الشخصية دفينة عصرها لا يعرف عنها الا القلائل، فـ(لو لم يتوفر باحث دؤوب وشغوف بالاسلام والصوفية ووفي للحلاج مثل ماسينيون، لما كان للحلاج أن يخرج من ظلمة المتون والمصادر القديمة، وأن ينفرد بعض آثاره في كتب مستقلة. ص 13-14) بالاضافة الى جهود الباحث العربي كامل الشيبي، حيث يهدي (وازن) عمله هذا الى الباحثينِ الاثنين السالفي الذكر. . .
ورغم أهمية القصائد التي يتشكّل منها ديوان الحلاج، إلا أنّ للتقديم الذي قام به صاحب الكتاب، شأنا مهما، إذ عمل الكاتب على تعريف من لا يعرف الحلاج باشكالية هذه الشخصية، وزوّد من يعرفها بمعلومات اضافية أغنت البحث وأضفت عليه الكثير من المعلومات الثرية التي يحتاجها الباحثون، مستخدما العديد من أنماط النصوص وسائلَ لاخراج عمله في أحسن صورة، خصوصا النمطين التفسيري والبرهاني اللذين جعلا وظائف الكلام تضمر أو تذوب في الوظيفة الكلامية الأكثر انسجاما مع طبيعة هذا العمل وهي الوظيفة المرجعية التثقيفية، إذ نستطيع اعتماد هذا الكتاب مرجعا من المراجع الأساسية لمن يحتاجه من الباحثين والدارسين لا شخصية الحلاج فحسب إنما المرحلة التي ظهرت فيها هذه الشخصية وما كانت عليه من حقبة شهدت تحولات مهمة، بالاضافة الى ما مرت به الأمة في تلك المدة من صراعات وتناقضات ضمن الفضاء الواحد، وقد كانت شخصية الحلاج بحد ذاتها تجسيدا لهذا الصراع والتقاطب في الأفكار والتصرفات، ما أدّى إلى ولادة انقسام حول تلك الشخصية بين مكفّر لها ومؤمن بتطلعاتها وما تروجه من مبادئ ايمانية تنويرية تدعو الى الوحدة بين الأديان والمذاهب التي ليست أكثر من فروع تصب في جوهر واحد. . .
ومن المألوف أنّ النقد الفني يقضي بالفصل بين المؤلّف وابداعه، إلا أن هذا الكتاب يشير الى التلازم بين الحلاج وما قاله من شعر، بحيث أنه كان(يفكرن) الشعر و(يشعرن) الفكر، معتمدا القريض وظيفة ووسيلة وليس غاية، فلم تجرفه تيارات الشعر التي كانت رائجة آنذاك، ولم تغرِه محسنات الشعر وبلاغته، بقدر ما وقف شعره على مدح الله. فكان شعره تعبيرا وترجمة لما يدور في خلده رغم ما ألحق به هذا الاعلان عن مبادئه من عذاب وصولا الى الموت صلبا، فالشعر بالنسبة اليه (شعر معنى وليس شعر مبنى، شعر تجربة وليس شعر شكل، شعر معاناة وليس شعر مناسبة. ص19).
أبعد من النص:
يرى الكاتب أن الحلاج (لا يمكن أن يُقرأ إلا في سياق العصر العباسي. ص19)، وهذا كلام منطقي وموضوعي إذ لا بد للمؤثرات المحيطة من فرض نفسها على الأدباء بحيث أن الفكر يسهم الواقع في بلورته ووجوده، ولكن ما رأيناه من آراء لهذه الشخصية في هذا الكتاب، قد يدحض هذا الكلام بحيث أن ما طرحه الحلاج وآمن به ولم يتراجع عنه رغم الصلب، (متخذا ابليس وفرعون مثالا للدفاع عن الايمان بالعقيدة، فالأول رغم النار لم يتراجع عن دعواه، والثاني رغم اليمّ لم يتراجع أيضا)، يصلح أن يكون شعارا في أي زمان ومكان، هذا بالاضافة الى أن نظرة الحلاج إلى الحياة والدين التي يمكن أن نستعين بها اليوم في خضم الصراعات المذهبية والطائفية التي أعمت أعين الجميع. فقد دعا الحسين بن منصور الى اتخاذ الأديان وسيلة وليست غايات، وسيلة من أجل الوصول الى الله والاتحاد الروحي به، رافضا التعصب الطائفي والمذهبي منذ تلك الحقبة، ساخطا على من جعلوا الدين شعائر خارجية ولم يسعوا الى الجوهر الأساس للدين، لذلك فإن من يطلع على ما قاله شعرا وفكرا يشعر بانتمائه الى هذا الكلام مهما كان انتماؤه المذهبي، (فمن يقرأ نتاجه ويطلع على مبادئه يحس أنه معني به أيا كان انتماؤه أو مذهبه. ص66)
هذا بالاضافة الى أن الحلاج الذي أودى به ايمانه بأفكار لم تفهم صحيحا في وقتها، يمكن أن يكون حلقة في سلسلة من نماذج تشبهه سابقة لحياته ولاحقة لها. فهذا الرجل جعلته آراؤه غريبا في وطنه كما يقول في قصيدة (لبيك):(أبكي على شجني من فرقتي وطني. . ص79)، كما أنه ثائر ومتمرد رغم طروحه الصوفية والايمانية كغيره من الثائرين الذين يشبههم ويشبهونه، فما وقوفه على الصليب والطلب من ربه أن يغفر لجلاديه الجهلاء الا صورة أخرى من صورة المسيح الذي طلب العفو نفسه من ربه لصالبيه لأنهم لا يدرون ماذا يفعلون، ولم يتراجع عن موته، وهكذا فعل طرفة ابن العبد في العصر الجاهلي، وهكذا هجم على الموت الحسين بن علي. وما حصل معه من تكفير على ما طرحه تعرض له ابن رشد لاحقا الذي الصقت به اتهامات كثيرة، وكذلك حصل على مر العصور مع من قتلوا وعذّبوا لمجرد انهم حملوا لواء التنوير والتجدد والخروج على الماضي. . . فاتهموا وحوسبوا كما حصل مع الحلاج الذي نظر الى دينه ودنياه بطريقة تختلف عن نظرة العامة فكان مصيره الموت وهو القائل:
تركت للناس دنياهم ودينهمُ/شغلا بحبك يا ديني ودنيائي. . . ص105. مؤكدا أن الايمان ليس شعائر خارجية واهتماما بالآخرة فحسب إنما هو شيء روحي.
وأخيرا، يمكننا القول اننا أمام مؤلَّف تضافرت فيه جهود الكاتب وجهود من سبقوه في الاطلالة على شخصية تاريخية تعد معينا لا ينضب للدراسة والبحث. . فهل نهل (وازن) من معين الماضي وسلط ضوءه الكاشف على هذه الشخصية لتكون عبرة لنا نحن اليوم؟ فقد علمنا التاريخ أن أحداثا منه قد تجترّ نفسها وتعيدها أحيانا كثيرة. . .