فـي الذكرى العاشرة لوفاته
ظل كل شيء في حياة وإبداع هذا الكاتب يؤشر بقوة على المفارقة، فقد واصل حياته إلى الرمق الأخير وهو يعيش على إيقاع المفارقات ويخترق القواعد المألوفة في السلوك والتفكير والتعبير، منتهكا التابوهات الاجتماعية والمحظورات الأدبية، وعابرا بغير استئذان الردهات المحرمة للمسكوت عنه أخلاقيا وإبداعيا..
ويبدأ مسار المفارقات هذا مع شكري منذ البداية، أي عمليا منذ لحظات تلك الطفولة المنبوذة التي عانى فيها طويلا من الإقصاء والتهميش والاحتقار بسبب لهجته الريفية وأصوله غير المجيدة، ثم تواصل مع حرمانه من التعليم إلى سن متأخرة من اليفاعة التي قضاها فريسة الجهل والرعونة والمبيت في المقاهي..وياللمفارقة الكبرى فقد توّج هذا المسار أخيرا بالانخراط في الكتابة والنشر بدون سعي منه إلى الشهرة أو الارتقاء الاجتماعي، ولكن فقط كسبيل لاستعادة الاعتبار وكسب احترام الآخرين ومنازلة المصادفات الأرضية التي كانت تتربص به عند كل منعطف..
على مستوى التمظهر الأدبي والجمالي الذي يعنينا هنا أكثر من غيره، تتشخص المفارقة في مغادرة شكري منطقة الأدب المهذب إلى مجرة الإبداع المتمرد والمناهض والإنقلابي..ولذلك نجده يترك جانبا الموضوعات الوطنية والأطروحات القومية التي شغلت مجايليه من الكتاب وينزل عميقا إلى أحشاء المغرب الآخر المنسي والمهمل واللامفكر فيه، مغرب المهمشين والمنبوذين والرعاع وأبناء السبيل، أولئك الذين لا صوت لهم ليجعل أدبه ناطقا باسمهم في السراء والمسغبة، وهؤلاء هم الذين صرنا نصادفهم في نصوصه، كما في زوايا الأزقة والحارات، وهم يتقلبون في ألوان من الشقاء ومصاعب المعيشة وقساوة الوجود الذي لا يحتمل، ثم يتحولون بفضل ما يمحضهم إياه من إحساسه ووجدانه وأريحيته الدافقة إلى كائنات أثيرية تنأى عن مباءتها السحيقة وترفل في المطلق الإنساني بكامل عنفوانها وانطلاقها..
لقد ألف شكري أن يستضيف في رواياته وقصصه تلك الطينة النوعية من الشخوص التي تعيش على النبذ والتشرد والحاجة القاهرة، وتعوّد أن يعرض أمامنا أطيافا مختلطة من المجانين والمهربين والعاطلين والمحتالين وصغار الباعة وماسحي الأحذية والعاهرات والشواذ من كل نوع..وسوى هؤلاء ممن تحبل بهم وبهن فضاءاته الأطوبيوغرافية والتخييلية..أي تلك الطينة بالذات التي يضيق بها الواقع الاجتماعي المسكون بالرياء الأخلاقي، ويأنف الأدب السائر من استضافتها في متونه..لغاية آثمة في نفسه.
ومكانيا، استبدلت نصوصه الفضاء المخملي الذي يحتفي بالجميل والأنيق والحميمي بالفضاء التحتي والهامشي أي فضاء العتبة والقبو والشارع، حيث تمرح شخوصه في ذلك الحضيض الطوبوغرافي والاجتماعي الذي تفتقد فيه شروط الحياة الإنسانية الكريمة وتصبح نتيجة ذلك فريسة التمييز والحجز والموت المؤجل..وهكذا تتضاعف أزمة الإنسان من جراء تأثير المكان الموبوء وتحتشد بمظاهر الانحدار الحثيث نحو درك التشيؤ والاستلاب المفروض بسلطة شبه قدرية من الصعب مقاومتها أو حتى الوقوف في مواجهتها..
زمنيا، تنتقل نصوص شكري من الزمن النهاري المعتاد إلى الزمن الليلي الاستثنائي في انسجام وتناغم كاملين مع طبيعة الأحداث ونوعية الشخوص، ذلك أن النهار يكشف ويفضح ويعرّي المخبوء..بينما الظلام يواري ويستر ويحقق للكائنات حميميتها المفتقدة في عالم الواقع الأقرب إلى الخيال، ففي ليل السرد يصبح كل فعل واردا ومشروعا وقابلا لأن يتواجد ويتحقق بعيدا عن الرقابات النهارية وأضوائها الكاشفة..ألم يعتبر شكري نفسه كاتبا ليليا لا صلة له أو قرابة تجمعه مع مَن يسمّيهم الكتاب النهاريين؟
بهذا المعنى الاجتماعي والأدبي تتحقق المفارقة في حياة وأدب محمد شكري، تلك المفارقة التي نجح في أن يجعلها علامة مميزة لشخصيته وعموم تجربته، وظل على الدوام يستعين بتفاصيلها لتدبير مساره ككاتب عصامي نادر المثال، وكل ذلك باستعمال مبدأ بسيط بساطة الماء الذي يشربه، إنه مبدأ الحرية في الانتقال غير المتوقع تقريبا بين الأوضاع والأشياء:
– من اللغة الريفية والرطانة الإسبانية إلى اللغة العربية التي استضافته بأريحية مستحقة وردّ عليها بأخرى أحسن منه عندما أبدع ما أبدع من روائع في نطاقها..
– من المحلية الضيقة إلى العالمية الرحيبة عندما أتيح لأدبه أن يتنقل عبر اللغات منذ أن غامر بولز وترجمه إلى الإنجليزية، وتبعه الطاهر بن جلون ونقله إلى الفرنسية، فانفتحت دائرة التواصل مع العالم التي لم وربما لن يقدر لها أن تنغلق..
– من الكتابة المسكوكة والمهادنة التي وجد عليها الأدب المغربي، أو معظمه على الأقل، إلى النص المتحرر والمفتوح بل المشرع على كل الإمكانات التعبيرية من قصة ورواية وسيرة ومطلق الكتابة..
ولعل أم المفارقات هي تلك التي عاشها شكري على مستوى التلقي وجعلت منه حالة خاصة بكل المقاييس في الثقافة العربية، وهي واقع أن كتابات شكري قد استقطبت النخب العربية القارئة من المحيط إلى الخليج وحظيت بالتفاف كاسح ومنقطع النظير وغير مسبوق في الوطن العربي، يدلنا على ذلك عدد طبعات أعماله في المغرب والمشرق بل حتى في أوروبا..والتي كانت تتم أحيانا دون إذن منه ولا حتى علمه..بل إن بعض نصوصه خاصة خبزه الحافي ظل يصوّر ويتداول على نحو شبه سري في عموم المنطقة العربية بما فيها مجتمعات الخليج الطهرانية والمغلقة..
وفي مقابل هذا الالتفاف القرائي العجيب كانت تجري محاصرة كتاباته من طرف الرقابات العربية الأكثر انفتاحا كما في المغرب ومصر المعروفين تاريخيا بالتساهل مع أنماط الكتابات الواردة من الغرب والشرق في نماذجها الأشد راديكالية..فقد منعت الخبز الحافي سنوات الثمانينات في المغرب وأثيرت ضجة حولها في مصر شبيهة بتلك التي قامت حول كتاب العرب الأول ألف ليلة وليلة..وما يزال كثير من الغبار يثار عندما يطبع أحد أعماله هنا أو هناك..
وأما بعد فقد شيّد محمد شكري على مدى العقود الثلاثة التي قضاها معتكفا بكل كدح ومثابرة في معبد الإبداع نموذجا جديدا للحداثة الأدبية بعيدا عن المجرات الإديولوجية والتقليعات الأدبية وجاذبيتها المعلنة والمضمرة، ألم يعلن على الملأ أكثر من مرة عن عدم انتمائه للحساسيات السياسية الرائجة من دون أن يعني بذلك انتسابه لأية نزعة عدمية مقيتة؟ ألم يصرّح أكثر من مرة محاطا باستغراب الجميع بأنه ليس كاتبا مغربيا أو عربيا إلا بمقدار ماهو كاتب كوني؟
غير أن أدب محمد شكري قد عاش ضحية سوء فهم فادح من طرف النخبة المحافظة والإكليروس الثقافي لأنه كان يعكّر عليهم صفو معتقداتهم ويقلق وثوقيتهم، ولابد أن هؤلاء سيظلون على مبعدة منظورة من هذا الأدب على الدوام طالما لم يقتربوا منه ويحاولوا فهمه على أرضيته هو لا على أرضيتهم هم، أي على أديم الواقع الهامشي الذي أنجبه وانخرط في تصويره وليس على أرضية الصالونات المترفة أو الأبراج العاجية التي تظلل وجودهم الهش..