صدر ديوان الشاعرة الجزائرية زينب الأعوج «عطب الروح»، مؤخرا عن دار الصدى، تكتب فيه الشاعرة إيديولوجيتها ونظرتها للواقع العربي والإنساني في بيان فني يرتقي أحيانا ويفتر أحيانا تبعا لغموض الإيديولوجية وانكشافها، وتؤرخ فيه لتداعيات الواقع على الذات الشاعرة والجماعية ورؤيتها للزمن والمكان حيث الهشاشة والانكسار والموت. تفتتح الشاعرة عملها بكلام يحتل الصفحة التاسعة بكاملها لا هو بمقدمة ولا بإهداء، بأسلوب تقريري مباشر يكاد يختنق فيه النفس الشعري المعروف بحرارته وغليانه، ينهض على التقابل بين معجم الحرب والدمار ( القنابل-القذائف-المدافع- موت من السماء) ومعجم الطبيعة الجميلة النافعة (زرعا- بذورا-أشجارا-ثمارا-نخيلا-قمحا-شعيرا-عطرا-ماء زلالا…)، ورغم كون الهيمنة للنافع والجميل إلا أن الحضور الفعلي للدمار لأن الجدوى حلم والدمار واقع. ولا ندري تحديدا ما وظيفة هاته «الافتتاحية» ؟ أهي لتذليل كثافة النص وإضاءته ؟ فالديوان ليس عصيا لدرجة استدعاء مفاتيح من خارجه، أم يراد بها حمل القارئ على تحسس مواطئ قدميه لإزالة الألغام المحاذية له؟.
إذا استعرنا لغة الناقد كمال أبو ديب أمكننا القول إن الديوان وإن كان متعدد الشرائح فإنه تيار وحيد البعد ** لأن الديوان لا ينتقل بالقارئ من مضمون إلى آخر، بل يلتف حول دلالة واحدة يشتغل عليها بطريقة لولبية وأحيانا تكرارية ومعادة، فكأن الديوان طعام واحد في صحون متنوعة: إنه محاولة تنويع على إيقاع واحد، إيقاع الهزيمة والسكون والشلل والفراغ في انتفاء إرادة الفعل والإبداع والإنجاز والحضور. حيثما وليت وجهك في ثنايا الديوان تجد رمادا بلا جمر ونعوشا ودموعا في أجواء رثائية وفجائعية، لذلك كل محاولات الذات في رفع شعارالرفض والتمرد والفعل تبوء بالفشل ليخلو المجال لصوت واحد هو صوت الموت. الكل بائس: ذات الشاعرة مهزومة يائسة والجماعة صنعت مقبرتها بايدي افرادها في طقوس جنائزية باردة، والمكان قحط لا ينتظر منه حصاد واعد، و الزمن راكد لا حركة ترجى منه.
الشاعرة تتحاشى النفس الملحمي وتختار المناورة في مسابح ضيقة مكشوفة مستعينة بترديد عبارة «يا جدتي العتيقة» في رؤوس الصفحات كلها تقريبا (استعملت الشاعرة العبارة المذكورة أربعا وتسعين 94 مرة ) وهي عبارة مثقلة بدلالة المكان، ويأتي النداء بالحرف «يا» الدال على البعيد غالبا لتشق مسافة بين الشاعرة وجدتها، رغم محاولات لاهثة من الشاعرة للتوحد و الاستغاثة بها ، لكن العجز والشلل ينتصران فيخنقان كل محاولة للأمل والحبو والانطلاق. وما عسى جدة الشاعرة أن تفعل في مناخ موحش كل ما فيه يبعث على الموت و النهاية؟
ترسم الشاعرة للزمن صورة قاسية مظلمة:
هذا الزمن الأعزل
لم يتوقف بعد
لا عن النواح ولا عن العويل (ص 11)
ولا نظن أن الشاعرة تحتلف معنا لو قلنا بلسانها إن زمننا ليس أعزل من السلاح، فالألغام تغشى المكان كله، ولكنه أعزل من القيم الإنسانية والحضور الدافئ للمضمون الإنساني، فصار زمنا ليس أهلا للثقة:
بين يدي مسيلمة الكذاب
فإلى متى أنت ساهر
على كل هذا الخراب
وهذا الخراب (ص12)
وهو زمن مكرور مقرور متعب:
الفصول متعبة
والعمر المر
تزاحمت عليه المسافات (ص16)
وهو زمن كئيب وعبوس وجامد بطيء الحركة لا يمشي واثق الخطى، بل يحبو بخطى هرمة وئيدة نحو الانطفاء. تقول الشاعرة في بيان شعري ساحر:
متى
نعلن ولاءنا للفرح
متى
يتربع النور عرشه
قبل أن تصدأ فيه العيون (ص19)
وهو زمن عاق كبير البطن بطعام الخيانة لأنه يأكل أبناءه:
هذا الزمن المنتفخ بطنه بأشلائنا
المحتقن قلبه بأفراحنا وجراحنا
يتبجح بالعرض والطول
يحتفي بالمهرجين الواقفين
على قمة جمجمته (ص164)
وهو زمن كالشبح مخيف يفرغ الذوات من الحركة ونوايا الفعل والعطاء:
هذا الزمن
يتعقبنا بكل انكساراته
وبضجيج صمتنا الرهيب
يغرس فينا المسامير
والأوتاد
يوصد أبوابه (ص32)
وهو زمن بائس لأن ذلك نتيجة حتمية للتقصير الجماعي في حمايته وتعهده، فقد كان يمكن إنقاذه لو تكاتفت الجهود:
هذا الزمن
لا أحد لاطفه
ولا أحد جبر بخاطره
ولا أحد هدهد حلمه
ولا أحد ضمد جرحه (ص 31)
وهو زمن آلي لا إنساني متوقف لا يفتح شبابيكه على نور الصباح، لهذا فهو يغتال الأحلام والتطلعات:
وينام
دون أن يحلم بأي صباح (ص33)
وهو زمن رمادي ضبابي مظلم معلق خارج المكان و الزمان الحقيقيين:
هذا الزمن لاجئ
لا أراضي له ولا سماوات
لا تواريخ معلنة له (ص49)
وهو زمن لقيط لا يملك شجرة عائلة يعتز بها، كالقبر لا حياة فيه:
هذا الزمن يتيم
لا أم لا أب
لا من يعيل
هذا الزمن اللامبالي
مسجى
حيث لا أديم لا قبر ولا ثرى
حيث لا ماء
ولا هواء (ص50)
وليس المكان بأحسن حالا من الزمن فـ«الهنا» بتعبير الشاعرة فضاء موحش:
هنا
لا تمر ولا جمر
هنا
لا ثدي يؤوي أوجاعنا المتعبة (ص16)
وهو مكان لا خصوبة فيه ولا يصلح لاستنبات الأحلام، وبئره مهجورة وعيونه ناشفة وماؤه راكد آسن تنبعث منه رائحة النتانة والقذارة،لأن الموت أورق فيه وأثمر أشلاء ودماء:
هنا الأزهار تشرب نخب عرسها
تجمع الدم
تجمع الأشلاء
تجمع الأرواح
تجمع الأنفاس
على مرأى قمر
رفع كأسا في آخر السماء
ليشرب نخب النزيف
قبل أن تطاله المذبحة (ص 82).
وهو مكان ملغوم قابل للتشظي في كل لحظة ( هنا الفخاخ. ص100) حيث المنافذ مسدودة والهواء كالطوب، لهذا لا عجب أن يصير مهجورا متخلى عنه ومتبرأ منه. تقول الشاعرة في مقطع شعري بامتياز:
لم يطل أحد من شرفة هذا اليوم
لا ساعي البريد
لا بائعة الورد لا الطفل عاشق العصافير
لا بائعة الخبز
لا بائع الفول ولا الأفريقية بائعة الذرة
مدرسة الحي مغلقة
ولا من صادف موزع الجرائد
لا أحد صلى الفجر في حينا
لحن المؤذن صامت
وحدها اللأحذية الخشنة
سيدة الأمكنة هذا الصباح (ص 114)
وهو مكان مشوه جغرافيا، تنمو فيه الحرائق والأدخنة والنفايات والقبور:
هنا نقطف القحط للأعراس القادمة
وهنا تنتحر الأنغام و الألحان الشجية
هنا تموت الابتسامات
تتكفن في عمق الشفاه الباردة
لا شيء هنا يعلو
على يد الموت البطيء
ولا شيء يطغى على طعم الرماد (ص 134)
أية قدرة تملك الشاعرة على رصد الرضوض وتحسسها وتتبع المواجع ونظم الأناشيد التي ترافق الطقوس الفجائعية والمأتمية؟. ألفاظ الموت والخراب والعجز لا يمكن إحصاؤها لأنها متن النص بامتياز، بل إن كلمة «دم» تكررت في النص حوالي ثلاث وعشرين (23) مرة، ومن النادر العثور على تعابير و كلمات تبعث على الأمل إلا إذا أريد اغتيالها و تفكيكها ( تكررت كلمة الحلم بمشتقاتها حوالي سبع عشرة (17) مرة، وكل ذلك ورد في سياق التبخر والضياع). ويتضافر الزمن الميت والمكان القفر ليخنق الإنسان ويشل فيه القدرة على البقاء والمقاومة، فمهما صمد الإنسان في أجواء كهاته إلا وانهار أخيرا وانطفأ. وفي وضع كهذا لا يحصن الاجتماع الفرد ولا يزيده منعة ومناعة، فمصير الأنا والنحن الحتمي هو الانهيار والاستسلام وكل محاولات المقاومة والتشبث بالحياة تنتهي باليأس ورفع الراية البيضاء:
مازلت
أشتهي صوتا موغلا في الحنين
وأروض أرواحي
على محاذاة النار
هل لي أن أخطف حفنة ابتهالات
أخبئ فيها آخر فسيلة من نخيلي
قبل أن يُسرَقَ قلب شهريار (ص14)
وتدرك الشاعرة بحدسها الإبداعي أن عقبات كأداء تقف في طريقها، فعليها التخلص بداية من جلدها الأنوثي الذي لطخته شهرزاد برجس العبودية منذ أن اختارت التحايل بالحكي لتأجيل ومواجهة الموت، تقول: من يفك رقبتي من قبضة شهرزاد (ص17). وبقليل من الحصافة النقدية يتضح أن الشاعرة لا تمتلك ذاتيا آليات المقاومة والبقاء، فبما أن قبضة شهرزاد ذكورية ومفتولة فهي تدرك ألا قِبَلَ لها بفكها وتفكيكها، لهذا تستنجد بكل من يتطوع نيابة عنها لتحريرها (الاستفهام بـ«من» شائع في الديوان للتدليل على عجزالذات وانبطاحها). وعليها التخلص من أجدادها الذين يرفعون راية الاستسلام عاليا في السماء:
علقت أجدادي
على صخر منحوت من الريح
تدلوا في أعناق نجم تهاوى (ص34)
إن أجداد الشاعرة كالأشباح فقدوا دورهم على مسرح التاريخ وما عليهم سوى مغادرة الخشبة بروح رياضية:
التاريخ شاخ
لكنهم لم يشيخوا (ص35)
وهنا تلجأ الشاعرة إلى الإبداع الشعري المدجج بالحس النقدي الثاقب والتقدمي لتشرح الدواعي التي جعلت هؤلاء الأجداد لا يستحقون دمعة واحدة تراق أسى عليهم:
لا أحد هرب القرطاس
ولا أحد هرب أقلام القصب
ولا أحد خبأ الصلصال الزكي
فمن يخط الرمل
إذا
ومن يحفر الوشم في جسد اللوح (ص37)