أكيد أن الكل يعلم مدى معاناة المرأة عامة، والمرأة العربية خاصة، في الماضي والحاضر، مع غياب إنسانيتها في البيت والحياة، تحت حجر تقاليد مجحفة، كرست خلال عهود الانحطاط، الوضعية المختلة لواقعها في البيت والمجتمع. ورغم ما حققته راهنا من بعض الحقوق، نتيجة نضالها وفرض جدارتها في المنزل والعمل والفكر والإبداع بصورة بطولية، قدمت من أجلها كثيرا من التضحيات الجسيمة؛ فإنها ما فتئت بعد تئن تحت وطأة ترسانة من القوانين الظالمة، والممارسات الذكورية الشرقية المتسلطة. وأكيد أنه ما زال أمامها زمن مديد من الكفاح والنضال والاحتجاج في وجه واقعها البئيس، وأشواط طويلة من الصعوبات والإحباطات، وفق ما تشرحه خالدة سعيد :
«ما لم تتحقق للمرأة المساواة التامة على الصعيدين القانوني والواقعي، وما لم يتحرر الناس (رجالا ونساء) من الأفكار المسبقة عن المرأة ـ وهي أفكار تكونت على مر العصور، من خرافات وتصورات غير علمية، ومركبات نقص أو استعلاء، وما لم تصبح البنى الاجتماعية مهيأة لانطلاق شخصية المرأة وتفتحها في مناخ من الحرية ومن احترام الشخص الإنساني، بعيدا عن كل تمييز واضطهاد بسبب الجنس أو العرق كما جاء في بيان حقوق الإنسان، ما لم يتحقق هذا كله، ستبقى هذه القضية مفتوحة.»(1).
فالمرأة العربية اليوم دائبة على بذل قصارى جهدها، لاستعادة إنسانيتها بالكامل، من خلال انخراطها بفاعلية في حركة الحياة اليومية، عبر الجمعيات والاتحادات والأندية النسائية والنقابات والأحزاب السياسية، بل وتصدرها المواجهات العنيفة مع السلطة الغاشمة. ألم نرها تتقدم المظاهرات والاعتصامات المعارضة للنظم المتهاوية، خلال انتفاضة الربيع العربي، وتقدّم الأسيرات والسجينات والمعذبات والمغتصبات، بل والشهيدات الواحدة تلو الأخرى، في مختلف المواجهات الاحتجاجية والفدائية بعدد من الأقطار العربية اللاديموقراطية، بما في ذلك تضحياتها البطولية التي يضرب بها المثل في فلسطين الحبيبة؟. فضلا عن وقوف رموز نسائية في عدد من الأقطار العربية، مثل نوال السعداوي ولطيفة الزيات ورضوى عاشور في مصر، وفاطمة المرنيسي في المغرب، وخالدة سعيد في لبنان وسحر خليفة الفلسطينية وغيرهن، بشجاعة نادرة لمواجهة العقليات المتحجرة التي تقف في وجه رغبة المرأة في تحررها مما علق بها من ظلم وخنق لفاعليتها، في تحد صريح لكثير من التابوهات المحبطة للمرأة والمعيقة لتحررها، من أجل تحسين وضعيتها ورفعها إلى مكانة اعتبارية مستحقة. وقطعا ليس على حساب الرجل، بل توقا لأن تصبح عنصرا موازيا له بمعنى الكلمة، داخل المجتمع والبيت، باعتبارهما أساس النهوض بحركة الحياة اجتماعيا وتربويا واقتصاديا، على ركائز سليمة ووعي إنساني ديموقراطي، لا يسمح لطرف أن يسود على الطرف الثاني. وهو ما يرهص به هذا الجدل الواسع الدائر بين النخب المثقفة، على طول الوطن العربي، حول مسألة المرأة وسبل تحررها، وكذا ما تقدمه المرأة العربية بنفس طويل مستميت من إنجازات ناجحة في مختلف الميادين، وتصدرها لبعض المراكز العليا في الوظائف والأحزاب وجمعيات المجتمع المدني.
والحقيقة، إن تغيير وضعية المرأة العربية من واقعها المزري المسكوت عنه، إلى واقع إنساني أفضل، مرهون بخرق ثقافة الجمود وخلخلة إيديولوجية السيطرة والاستعباد، وإحلال ثقافة التغيير والتطوير الشاملة محلها. فالمرأة ما انفكت تشكل «موضوعا سجاليا في مستوى التغيير الاجتماعي لأي مجتمع، على اعتبار أن تغيير الصور الثابتة حولها من شأنه أن يحرر الذاكرة، ويهيئ التفكير لتقبل واستقبال صور غير مألوفة»(2)، لاسيما لدى الرجل. إذ لابد من تغيير وعيه بقضية المرأة، واستضاءته بالمواقف التحررية، ليكف عن محاصرتها، وليستبعد تبرمه بنضالها من أجل قضيتها، على أساس اعتبار قضيتها قضيته هو أيضا، بل إنها قضية الجميع. فإن تحرر المرأة من منظومات العلائق الاستبدادية، هو من تحرر الإنسان والوطن العربيين، لكون المجتمع العربي المعاق لن يتحرر تحررا تاما، ولن يتقدم إلى الأمام، ما لم تتم معالجة قضية المرأة بفعل جذري.
من هنا، يفرض سؤال التغيير نفسه على المرأة والرجل معا، ويحملهما مسؤولية التضحية من أجل استبدال واقع ظالم ضحيته الرجل والمرأة كلاهما، بمجتمع ديمقراطي، وواقع آخر مفترض قوامه الحرية والعدل والمساواة، من شأنه أن يساعد على تغير المجتمع وتطور الأمة نحو الأفضل. وإن أي تعويم للقضية في صراعات هامشية، خصوصا تلك المفتعلة بين الرجل والمرأة، لمن شأنه أن يسيء بطريقة أو أخرى إليهما معا، ويؤخر تحقيق الحلول الناجعة لقضية المرأة تخصيصا، أو كما يذهب د. مصطفى يعلى:
«إن فهما يختزل الإشكالية في ثنائية رجل / امرأة، لهو فهم مغلوط في أحسن الأحوال، أو مغرض هدفه إبعاد المرأة عن جوهر الصراع الحقيقي وتوريطها في إشكالات جانبية من شأنها تبديد جهدها وتنكيص مصداقيتها، ولا يساعدها بالتالي على استبصار مخرج حقيقي لأزمتها التاريخية، زد على هذا نتيجة عكسية أخرى تتمثل في إمكانية انزلاق المرأة في هوة أصولية نسائية ليست في صالح أحد كما لاحظ عن حق المرحوم د. شكري عياد؛ لكون ذلك يعني الانحصار داخل أفق مسدود لا بارقة ضوء ترى في ظلمته.»(3).
فكيف عبرت الكاتبات العربيات عن هذا الصراع الأزلي، في أفق تحرير المرأة عامة من جميع أشكال القمع، وهيمنة الرجل، وإغلاق أبواب التحرر في وجهها؟. وما هي التابوهات التي اقتحمتها في خطابها الإبداعي من أجل تحقيق ذلك، وإسماع صوتها المتحدي حول قضيتها؟
ونظرا لإكراهات الوقت، ارتأينا أن نحصر الورقة في محاولة الحفر عن الأجوبة في الكتابات النسائية العربية، الساعية إلى تحقيق تحرر المرأة وتغيير صورتها التقليدية المحبطة، بصورة ضدية ملؤها الحرية والجدارة والعدل، داخل حقل إبداعي عينه هو حقل السرد، وبالضبط في مجال القصة القصيرة، للأسباب التالية:
معالجة القصة القصيرة، من لدن عدد مهم من الكاتبات العربيات، على طول جغرافية الوطن العربي، قد أضحت في السنوات القليلة الماضية ظاهرة مميزة، لفتت الانتباه إليها سواء لدى النقاد والباحثين أم لدى المتلقي.
الاحتفاء بها في المؤتمرات والندوات واللقاءات الثقافية المختلفة والملفات الخاصة ببعض المجلات الأدبية، خصوصا وأن موضوع المرأة، لاسيما على مستوى الجنس في الرواية العربية، كرواية (الحي اللاتيني) لسهيل إدريس، (وموسم الهجرة إلى الشمال) للطيب صالح، و(الزمن الموحش) لحيدر حيدر، و(ذاكرة الجسد) لأحلام مستغانمي، قد حظي بعدد مهم من الدراسات الوازنة، لدى نقاد من عيار علي الراعي وجورج طرابيشي ومحيي الدين صبحي ورجاء النقاش وخالدة سعيد وإلياس خوري وغيرهم؛ بخلاف الأمر بالنسبة للقصة النسائية القصيرة.
ملاءمة القصة القصيرة للموضوع، فهي تؤثر معالجة حالات الغربة الفردية الناتجة عن الضغوط الاجتماعية والاقتصادية، وأوضاع الشخصيات المهمشة المالكة لوعي حاد بالاستيحاش. فكما يؤكد فرانك أوكونور، إن شخصيات القصة القصيرة شخصيات مغمورة تهيم على حواف المجتمع غالبا و«تعامل على أنها منبوذة، ومنفردة متوحدة»(4).
لقد أضحت الكتابة من ضمن نوافذ التعبير عن الذات الأنثوية، والدفاع عن قضيتها العادلة، بتبليغ رؤيتها الخاصة لوضعها التاريخي الظالم، واقتراح سبل خروجها منه، في مواجهة أصبحت ناقمة صراحة على العقلية الماضوية السائدة، وممارسة حريتها في لمس كثير من مكامن القهر، وتسليط الأضواء الكاشفة عليها، من أجل توصيل رسائلها الاحتجاجية عبر العوالم التخييلية التي ترسمها بحسها الأنثوي، وتغيير صورة المرأة التقليدية ببسط النماذج المتقدمة لصورة المرأة الجديدة، أمام المتلقي بهدف كسبه إلى صفها.
فقد تكوّن لدى المرأة العربية وعي حاد، مستحصل من تجاربها المريرة مع الواقع المعيش، بكون قدرها أن تحارب وحدها من أجل قضيتها، عملا بمبدأ المثل القائل (ما حك جلدك إلا ظفرك). فأدركت أن الكل يقف ضدها، خاصة على مستوى القوانين المجحفة والإعلام المغرض والعادات والتقاليد البالية. وربما ساهم وعيها بسلب المجتمع كل الأسلحة من بين يديها، على الصورة المأساوية المعروفة، في اضطرار بعض النساء العربيات المتعلمات والموهوبات، إلى اللجوء فيما التجأن إليه من جبهات المواجهة، نحو عالم الكتابة باعتباره ممارسة فردية متاحة ضد قوى قمعها وتهميشها وتكريس صورتها النمطية البئيسة، رغم ما يمكن أن تواجهه هنا أيضا من صعوبات، بل وما يمكن أن تؤديه من ضريبة التعبير الحر الموجعة، على حساب استقرارها الأسري وموقعها الوظيفي ومكانتها الاجتماعية.
ولعل مثال المبدعة اللبنانية ليلى بعلبكي، وما عانته بسبب كتابتها، بلغ حد المحاكمة القضائية مطلع ستينيات القرن العشرين، مما اضطرها إلى هجر الوطن والكتابة معا؛ يصلح شاهدا بليغا على ذلك، رغم مرور ما ينيف على نصف قرن من الزمن على الحادث. بل إن ما يحز في النفس كون مثل هذه الممارسات التضييقية على كتابة المرأة، سادرة في غيها حتى الآن، كما يشهد حدث مقاضاة الكاتبة الكويتية ليلى العثمان، بدعوى مشاركة كتاباتها في نشر الفساد والفجور، وقد أدانتها المحكمة بألف دينار كويتي، ومتى؟، في خاتمة القرن العشرين (1999)، الذي سمي قرن الحداثة والتحرر والديمقراطية!. فما أشبه اليوم بالأمس.
إن دوافع الكتابة الإبداعية لدى المرأة العربية، هي نفس دوافع ممارستها لدى الرجل، إلا أن استبعاد الدافع النضالي الذاتي لانطلاقتها لن يكون مجديا. فقد جاءت تلك الكتابة في معظمها، بمثابة رد فعل على استبداد الرجل بكل شيء، بما فيه إنتاج الأدب بأنواعه وأجناسه المختلفة، «إن أدب المرأة هو عبارة عن ردود فعل، ومن حق المرأة أن ترد الفعل، وذلك لأنها في موقع المفعولية، هذا هو الواقع. ومهما بادرت، ومهما فعلت، فإنها لن تتصرف باعتبارها عائشة أو فاطمة أو دلال..ولكن باعتبارها أولا وقبل كل شيء امرأة، أو أنثى، إنها مضطرة إذن لأن ترد الفعل»(5).
وقد تمحورت هذه الكتابة، على التنديد بتهميش المرأة العربية، وباستمرار الضغوط الرجعية عليها، وعلى طرح الصورة الإنسانية البديلة لها، من أجل تغيير وجهة النظر المضادة تجاهها. فكيف رسمت الكاتبات العربيات صورة جنسها في الشرق العربي، على مستوى إبداع قصتها القصيرة ؟ . وما هي التابوهات التي تجرأت على اختراقها ؟ . ثم ما هي البدائل التي اجترحتها من أجل تغيير تلك الصورة ؟.
وتنبغي الإشارة، قبل الإجابة عن هذه الأسئلة، إلى طبيعة المرحلة، التي شرع فيها تمرد المرأة يعلن عن نفسه من خلال الكتابة. فمعروف أن الأمر يتعلق بمرحلتين اثنتين متتابعتين ومتداخلتين في الآن نفسه ففي المرحلة الأولى؛ وخاصة زمن الاستعمار، كانت المرأة أمية أو شبه أمية، عبارة عن سلعة تباع وتشترى تحت عنوان الزواج الشرعي، وتحبس في البيت لإمتاع الرجل وتفريخ النسل، بينما جميع حقوقها العلنية والسرية مهضومة. أما في المرحلة الثانية، لاسيما بعد حصول استقلالات الأقطار العربية الواحد تلو الآخر، أواخر خمسينات ومطلع ستينات القرن الماضي، فقد شرعت المجتمعات العربية تأخذ طريقها نحو بعض التطور، مما أتاح الفرصة للمرأة أن تتعلم وتخرج إلى الحياة والعمل، وترفع الصوت مطالبة بحقوقها، وإن ظلت التقاليد والأعراف والقوانين القديمة، تحكم العلاقة بين الرجل والمرأة حتى الآن ، خضوعا للعقلية الشرقية التقليدية.
إن الكتابات النسائية المبكرة، كانت قد لامست في معالجاتها السردية، صورة المرأة المشدودة إلى الواقع القمعي المتخلف، الذي تضيع فيه كل حقوقها، وتحبط كل إمكاناتها الإبداعية، وتعاق محاولاتها الرامية إلى المساهمة في دورة الحياة العملية. لكن تلك المعالجات جاءت في المرحلة الأولى لوعي المرأة بقضيتها مهادنة هينة، قصاراها أن تصف هواجس بطلات القصص النفسية، وتجسد معاناتهن المريرة، بحس تحليلي أنثوي مرهف، داخل فضاءات مغلقة قاتمة، دون أن تلمس المشكل بصورة متمردة ملؤها التحدي والسير بالتمرد إلى آخر أشواطه. فقد تم فيها التركيز على التجسيد التخييلي لوضعية المرأة وسكونيتها، في رضوخ واستسلام للواقع المتخلف بعاداته وتقاليده وأعرافه البالية، مع بعض التململ المحتشم وغير الجذري. فما كان في إمكان المبدعات العربيات أن يتجاوزن في تلك المرحلة الخطوط الحمراء أكثر من اللازم، خصوصا وأنهن كن جزءا من القضية، وعشبا نابتا في صميم الواقع الحاضن للمعطيات السلبية، المغذية للممارسات الظالمة في حق المرأة.
ففي قصة (نصيب)(6) للقاصة الفلسطينية سميرة عزام، يتواجه عالمان ومفهومان يختلفان في وجهة النظر تجاه الحياة، وفي مسألة الزواج تخصيصا، باعتباره مصير المرأة المحتوم لحياتها، حيث تقع البطلة في حيرة أمام صفقة زواج فرضت عليها فرضا، عملا بالقول المأثور (قسمة ونصيب). ومن هنا دلالة استعمال أسلوب الاستفهام ضمن الصياغة اللغوية الجميلة المنسابة للقصة. فرغم أن البطلة متعلمة، وقفت مسلوبة الإرادة أمام عرض زواج تقليدي على طريقة أمها وجدّتها، تكفلت فيه أم العريس باختيار العروس لابنها، دون أن يتم التعارف بين الخطيبين من قبل، بينما باركه أبوها الذي يفهم الحياة فهما عتيقا، وكذا أمها وصويحباتها اللائي تزوجن بنفس الطريقة التقليدية هذه. وحدها البطلة وقفت منه موقفا سلبيا بينها وبين نفسها. «يالحيرتها هنا بين (نعم) و(لا) ويالضآلتها أمام قوة غريبة اصطلحت أمها وصويحبات أمها من النسوة على تسميتها بالنصيب. وكانت قبلا ترفض ـ وهي بنت المدارس ـ من أن تعترف بكلمة رجعية في قاموسها، كلمة ملأت رأس أمها وجدّتها من قبل أما هي فليست من مدرسة النصيب هذه. فالنصيب مخدر مسلوبي الإرادة وما هي، ما هي منهم.
ولكن أكان بإمكانها حقا أن تتمرد على النصيب الذي أوقعها بلا مقاومة مذكورة وبلا أدنى إثبات وجود أو اختيار؟ وأعجب من هذا أو بعض هذا أنها ما قالت «لا».(7).
فبواسطة تقنية الفلاش باك، تمكنت الكاتبة من أن تقدم عبر ضمير الغائب الدال على التهميش وماضوية الحدث، صورة طقوس الخطوبة ومراحلها الدائرة بين الكبار، في مواربة تامة متواطئة ومقصودة من الجميع للمعنية بالأمر، وأن ترسم موقف البطلة منها، وامتناعها عن قبول هذا الزواج الذي لم يراع مشاعرها ولا حرية اختيارها. ورغم تكثيف العبارة الأولى: (خذها، فسلطتي انتهت عند هنا!.) للقصة بأكملها، حيث تنتقل سلطة الرجل على المرأة بطلة القصة، من الأب إلى الزوج، لا تتوانى الكاتبة في رصد التفاصيل الصغيرة لبعض سلوكات البطلة المتمردة، من مثل رفضها استقبال والدة الزوج عند مجيئها للخطبة، وإغضاب أمها برفع صوت الرفض في وجهها، وإعلان إعراضها عن الزواج بهذه الطريقة التقليدية؛ في حين تمتلك هي تصورا آخر مختلفا عن طبيعة الزواج الموفق. فهي لم تهضم عجرفة الزوج المنتظر، بل إنها تؤثر الناس الذين لا تكلف بينها وبينهم، وتستطيع أن تطلق شخصيتها إلى مداها معهم، كما أنها ترغب في الزواج عن حب متبادل بينها وبين زوج المستقبل، كابن عمتها مثلا. فـعكس صورة هذا الخطيب الثقيل المغرور «تحب أن يكون زوجها إنسانا مختلفا بعض الشيء. تريده أكبر قليلا، يحفظ الكثير من القصائد العاطفية، ويحب لوحاتها، ويقبل أن يضع (فوطة) على خاصرته ويشاركها صنع كعكة البرتقال أو عجة البطاطس، ويقبلها مرة كل عشر دقائق هكذا كانت تتمثل (رجلها) ولم تعثر بعد على الإنسان الذي يمكن أن يكون كل هذا إلا ابن عمتها»(8).
وعبر كل هذه الجولة الدائرية بواسطة الفلاش باك، وبمكر سردي تشويقي مقصود، من شأنه أن يجذب المتلقي المفترض، نحو مشاركة البطلة في معاناة حيرتها؛ توحي القصة بكون البطلة ستذهب في رفضها وتمردها إلى الأخير، لكن أفق انتظار هذا المتلقي يخيب، بسبب شروط المرحلة التي تنتصب بمنظومة إحباطاتها وإكراهاتها وإملاءاتها وحماتها، فترغمها على غير ما ترغب فيه، وعلى غير انتظارات المتلقي. وهنا تنثال التبريرات المنطقية الواقعية من داخل القصة ذاتها، وكأنها شهادة على مدى ضيق الأنشوطة العنكبوتية التي كانت تحاصر المرأة من كل جانب. فتستسلم البطلة لإرادة الآخرين وتقبل الزواج، بعد أن اقتنعت أنها تعيش في واقع يمنعها من حق الاختيار، ومن ممارسة إرادتها، مثلما يحصل مع المرأة الشرقية.
ولئن كانت سميرة عزام قد قدمت في قصتها، نموذجا لما كان يتم من بيع وشراء في حق المرأة باسم الزواج، فإن الكاتبة العراقية ديزي الأمير، تقدم في قصتها القصيرة (السجادة الصغيرة)(9)، مثالا استسلاميا مختلفا عن ذلكم النموذج، إذ تستسلم البطلة لواقعها المتخلف ذليلة مرغمة حتى وهي واعية متعلمة، بعد محاولة تمرد فاشلة فشلا مهينا. فمنذ الجملة الأولى في افتتاحية القصة، تطل علينا البطلة وهي في ذروة تمردها ورفضها لواقع وجدت نفسها محشورة فيه دون اختيارها بعد وفاة والديها، واحتضان عمها لها عنوة، وعدم سماحه لها بالسكنى مع أي أقرباء آخرين، ليس محبة فيها وغيرة وحنوا عليها، بل لأنه لا يرضى أن يقال إنه عاجز عن إعالة ابنة أخيه وهو ولي أمرها الشرعي. إنها تعلن بتحد منذ الكلمة الأولى: (لا)، معبرة عن رفضها الذي تساوق وأسلوب النفي المهيمن على الافتتاحية:
«لا لن أعود إلى البيت..لن أعود، وليقل الناس عني ما يريدون..لن أهتم هذه المرة بأقوالهم.. سأحقق ما في نفسي، سأكونها، ولطالما تمنيت أن أكون نفسي كما أريدها أن تكون لا كما يريدها لي الآخرون»(10).
فهي تثور على زوجة عمها، التي تخرّب بقايا أثاث وأشياء أمها وتعبث بها، وخاصة سجادتها الصغيرة، بما في فضاء البيت من رمزية لتدمير روح الاستقرار والاطمئنان والإحساس بالدفء لدى البطلة. وقررت أن تقول لها بأنها (شر ما خلق الله)، ولعمها وولي أمرها (إنه أسوأ عم في الدنيا). ثم تبدأ عملية البحث عمن تشكو له. وبالمناسبة فإن معظم أبطال قصص ديزي الأمير يعانون عادة من مثل هذه الغربة وافتقاد الأمان ومحاولة الفرار والبحث عن طرف آخر يمكن التواصل معه إنسانيا.
وهكذا، فالبطلة التي لا اسم لها، مثلها مثل بطلة قصة سميرة عزام، ربما إمعانا في إعطاء الانطباع بمنتهى ضآلتها وتهميشها؛ تعاني من البحث عمن تشكو له أمرها من الأقرباء والصديقات، وتقعد عنده في بيته أياما. فتفكر في خالتها بنوع من الاستباق لما سيحدث معها (ستروي لها تماما ما تقاسيه)، و(ترتمي على صدرها وتبكي وتبكي). بيد أنها عدلت عن فكرتها لما تذكرت زوج خالتها، فلن يقبل مسؤولية الإنفاق عليها. وفكرت في الذهاب إلى بيت ابنة عمتها، وتصورت عبر نفس تقنية الاستباق باستشرافها المستقبلي، كل ما سيحدث معها، سـ «تفتح لها نفسها وتقول لها كل شيء.. وقد تمكث عندها فترة يحس فيها عمها بتقصيره فيأتي إليها ليصالحها، وستخبره كيف تعاملها زوجته، وسيكون جو بيت ابنة أخته أصلح للتفاهم في هذه الأمور من بيت خالتها الغريبة تماما عن عمها.»(11). مما يهيىء المتلقي لاستقبال الاستجابة الإيجابية لأفق انتظاره. غير أن شيئا من هذا لم يتحقق، إذ عدلت عن الإدلاء برغبتها، لما وجدت في بيت ابنة عمتها عددا من الزائرات يمارسن النميمة على كل من يعرفنهن من الفاشلات، فاضطرت إلى الخروج من البيت دون إخبار ابنة عمتها بما جاءت من أجله. ثم قصدت منزل خالتها، فمنزل إحدى صويحباتها، لكنها كانت تتراجع في اللحظة الأخيرة عن التصريح بالسبب الحقيقي لزيارتها، فلكل مشاغله التي لا تسمح بالإنصات لهمومها. ويذكرنا هذا بحوذي تشيكوف الذي لم يجد أحدا مستعدا لسماع معاناته لفقد ابنه، سوى حصانه.
ومثلما فعلت سابقا سميرة عزام في قصة (نصيب)، عمدت الكاتبة ديزي الأمير خلال مسار تشكل صورة البطلة في ذروة أزمتها، إلى بث الأسباب المبررة للفشل الذريع الذي تعرضت له فورة التمرد التي دخلتها البطلة، منثورة هنا وهناك بجسم القصة. وهي أسباب نابعة من طبيعة زمن الحدث وربما زمن كتابة (السجادة الصغيرة) أيضا، ذلك أن البطلة منعت من إتمام دراستها، وممنوعة من الخروج للعمل، ومحرم عليها الإدلاء برأيها في حياتها الشخصية وفي الآخرين «لو كانت تستطيع أن تعمل وتكسب دراهم إذن لأغنتها الدراهم عن كثير من المشاكل التي تلاقيها، ولكن ما ذنبها، إذا كان عمها قد أوقفها عن الدراسة حين توفي والدها ؟ وهي لا تستطيع أن تعمل بائعة في محل أو ما شاكل هذه الأعمال، ومحيطها المتحجب لا يسمح بفكرة القيام بعمل يتنافى مع المحافظة كما يحلو لعمها أن يسمي الرجعية وضيق العقل… ليتها تقدر أن تقول له رأيها فيه وفي كل ما يفكر؟…ليتها…»(12). بل حتى الزواج الذي يعتبر الأمل الوحيد لتخليصها من وضعها المتردي، لا يتيحه واقع المجتمع البئيس الذي تعيش في كنفه؛ فهي تريد زوجا مثقفا ينقذها من وسطها العائلي المختل، وهي لا تريد زوجا يكون نسخة من عمها، ترضى عنه العائلة ولا ترضى هي عنه.
وأمام انغلاق كل السبل في وجه البطلة، للخلاص من حياة التهميش والمهانة، في بيت عمها وتحت رحمة زوجته الفظة، لم تجد أمامها سوى الاستسلام للواقع المهين، في إحباط غير متوقع لأفق انتظار المتلقي، «وعادت تسير وتسير، ترى الناس ولا تراهم، وحين سمعت صوت زوجة عمها يسألها:
ـ أهذا أنت؟
أجابت من غرفتها:
ـ نعم، لقد عدت»(13).
ويؤكد التناقض الحاد بين العبارة الاحتجاجية الصارخة الأولى في افتتاحية القصة (لا لن أعود إلى البيت..) والعبارة الاستسلامية الخافتة الأخيرة في خاتمتها (ـ نعم لقد عدت)، الصورة المأساوية المفعمة بالحيرة والارتباك والقهر والاستسلام وغيرها من مظاهر النيل من شخصية البطلة/المرأة وكرامتها، مما كانت المرأة العربية ترزح تحت وطأته في تلك المرحلة الانتقالية المظلمة.
عكس الصورة المتشائمة لبطلات أمثال القصتين السابقتين، سعت كاتبات عربيات أخريات أكثر جرأة وتحررا في المرحلة التالية، إلى المواجهة وتحدي كل الممنوعات واختراق تابوهات المجتمع المحافظ، وفي مقدمتها مسألة الجنس وسلطة الأب وفضح مستور المجتمع المنغلق من المخازي، وكشف ما تتعرض له المرأة من استغلال في العمل والبيت. فابتداء من ستينات القرن الماضي تقريبا، شرعت المرأة العربية في دخول المدارس والجامعات، والخروج إلى العمل، والاشتراك في التجمعات الحزبية والنقابية والثقافية، وأصبحت تعلن مطالبها بوعي وصراحة ووضوح. وقد ساعد كل هذا على تغيير صورة المرأة المناضلة، من أجل استرجاع حقوقها المسلوبة وكرامتها المهدورة، من مرحلة الاستسلام إلى مرحلة التحدي.
وكان الجنس هو حصان طروادة، الذي سيفتح أبواب المجتمع المحافظ على هول كارثته مع التغيرات الجديدة، ومستجدات الحداثة. فهنا لم تعد صورة المرأة صورة امرأة مسكينة ترضى بالقسمة والنصيب ومستسلمة لإرادة الآخرين، وتنتظر بفارغ الصبر الزوج الموعود الذي سيخلصها ويسترها، وتقبل العيش تحت رحمته مدى الحياة، وتعاني غربة صامتة وانطواء لا يطاق في مجتمع رجولي، ديدنه أن يضيق عليها الخناق، ويمحو شخصيتها النزاعة إلى التحرر. بل إن وجودها في الحياة العامة أصبح ظاهرة مألوفة، وصارت نسبيا تفرض إرادتها وتحقق اختياراتها، وأضحت أكثر جرأة ومواجهة وتحديا للرجل، سواء كان أبا أم زوجا أم أخا أم مطلق رجل. سيما بعد أن اجتاحت المرأة العربية المدارس والجامعات والوظائف وكل ميادين الحياة.
في هكذا مناخ، ظهرت قصاصات عربيات متمكنات من أسرار الحكي، وجريئات غير مباليات بالطقوس والعادات والتقاليد البالية، من عيار ليلى بعلبكي وغادة السمان وليلى العثمان. ويمكننا أن نتوقف في هذا الصدد عند بعض التيمات الأساسية المشتركة بين هؤلاء القصاصات، والتي تصب في امتلاك المرأة لإرادتها وفرض وجهة نظرها على الرجل، فضلا عن فضح نفاق المجتمع وما ينوء به من تدليس وخيانة زوجية. مما نعتبره تغييرا في صورة المرأة وتطورا في نوعية الكتابة النسائية.
وتعتبر ليلى بعلبكي رائدة للموجة الجديدة من جيل الكاتبات العربيات الجريئات، فـ «هي المحرض الرئيسي في الإبداع اللبناني ضد سلطة الأسرة وسطوة وطغيان المجتمع على واقع المرأة، لذا كانت تحاول التخلص من الواقع الاجتماعي السائد، وجو التقاليد الخانق، وتجسد في معظم ما كتبت هذه الرؤية، وتظهر عداء صارخا لطوطم الوالدين، ولأي نظام له سطوة وتسلط الذات على الذات، وقد لعب الجنس في إبداع ليلى بعلبكي دورا حاسما في تجسيد رؤيتها حيال حرية المرأة، حيث اعتبرت أن الحرية الجنسية هي أولى مراحل حصول النساء على سيطرتهن على مصيرهن، وكانت تعتبر الجسد هو المحرك الأول لدى المرأة في نيل حريتها الذاتية»(14).
ففي قصة (سفينة حنان إلى القمر)(15)، تحب البطلة زوجها الذي اختارته بذوقها، لكن هذا الحب يخضع لتصورها هي وليس وفق رغباته هو، رغم ما يبديه أحيانا من عناد وقسوة، الأمر الذي ضاعف قوة شخصية البطلة في القصة، وربما لهذا السبب كان اعتماد ضمير المتكلمة المفرد الذي صيغ به أسلوب القصة أنسب لحكي مجرياتها، حيث يسرد الحدث من وجهة نظرها. فالقصة تنفتح على مشهد الزوجين في غرفة النوم، وهو فضاء منغلق يهيئ المتلقي لاستقبال ما سيلي من انطباعات جنسية. وفعلا كانت الفرصة سانحة لنسج مجموعة من العبارات الجنسية المستفزة للذوق التقليدي العام في المجتمع المحافظ آنئذ، إذ لم يألف ويهضم المتلقي التقليدي مثل العبارات التالية، التي تفوح منها رائحة الجنس، خصوصا من كاتبة امرأة: (ونور الفجر الفضي ينهمر على وجهه وكل جسمه العاري. أحب جسده العاري) و(ناديته أن يرجع ويتمدد قربي: عندي رغبة في أن أقبله) و(كنت ممددة قربه، كان يستسلم لنوم عميق وأنا مفتحة الأجفان، أحفحف وجنتي بذقنه، وأقبل صدره، وأندس تحت ذراعه، أبحث عبثا عن النعاس. هنا صارحته أن [ما] يزعجني فيه سرعة الذهاب في النوم وتركي وحيدة صاحية بجانبه) و(هجمت إلى حضنه أهذي: أحبك. أحبك. أحبك. أحبك. أحبك وهو يهمس في شعري (أنت لؤلؤتي). ثم نشر راحة يده على شفتي، وشدني إليه بيده الأخرى، وأمرني (هيا لنصعد أنا وأنت إلى القمر).
فكأني بالكاتبة كانت تتعمد بهذا، أن تحرج ذلكم المجتمع وتضربه في المقتل، وهو ما انعكس أثره على الموقف الصارم للمجتمع، والمترجم على يد السلطة إلى تحقيق ومحاكمة ومصادرة أعمال الكاتبة ليلى بعلبكي روايات ومجموعة قصصية.
بيد أن ما يزيد من قوة شخصية البطلة، وفرض إرادتها إلى الأخير في هذه القصة، هو ما سيحصل من توتر منفعل بين الزوجين وتوتير حاد للمشهد الثاني بجسد القصة. فالبطلة/الزوجة ترفض رفضا باتا أن تحبل من زوجها، رغم غضبه الذي ذهب بعيدا إلى حد اتهامها بكفها عن حبه. لكنها تدافع عن حبها واختيارها بعناد. فهي لا تريد أن تكرر طريقة المجتمع التقليدي في التعامل مع الأطفال منذ ما قبل ولادتهم إلى زواجهم، كما تبين الفقرة الانتقادية الموالية :
«كانوا في القديم يعرفون أين يسقط رأس الطفل، ومن يمكن أن يشبه، وذكر هو أم أنثى، كانوا يغزلون له قمصانا من الصوف وجوارب، وكانوا يطرزون له ذيول الفساتين والجيوب والقبعات بعصافير ملونة وأزهار. وكانوا يجمعون له الهدايا صلبانا من الذهب وما شاء الله وكفوفا مرصعة بحجارة زرقاء وسلاسل حفر عليها اسمه. كانوا يحجزون له الداية ويحددون لها يوم الولادة. وكان يهجم الطفل من الظلام ويرتمي في النور في توقيته الدقيق المنتظم. وكانوا يسجلون باسم الطفل قطعة أرض. وكانوا يستأجرون له بيتا، ويختارون له الرفاق، ويعرفون إلى أي مدرسة يرسلونه، والمهنة التي يتعلمها، والشخص الذي يمكن أن يحبه ويربط مصيره بمصيره. كان هذا من زمان بعيد، في عهد والدك ووالدي»(16).
لذلك، فإن البطلة تعلن بصرامة في وجه الزوج/الرجل، مبررة موقفها: (إنني لا أجرؤ أن أحبل. إنني لن أقترف هذا الخطأ) و(يرعبني مصير طفل نرميه في هذا العالم). والحقيقة أن الكاتبة ربما اختارت موضوع الخلفة لتبني على حلبته إحداثية صراع الإرادات بين الرجل والمرأة. ومن هنا عسكرة المعجم الحربي المنتثر على مساحة المشهد الثاني في القصة، من مثل (الغضب، الصراخ، عدم الاحتمال، التعاسة، الكمد، الرفض، العذاب، التمزق، القساوة، الضياع، الموت، البكاء، الهجوم، المقاطعة، الزعيق، الاستغراب، التوتر، الصواريخ).
وطبعا، فإن إرادة البطلة هي التي ستفرض وتتحقق في النهاية على مستوى التخييل، وليس على مستوى الواقع كما يفرض منطق سنة الحياة، إذ سيستسلم الزوج لإرادة زوجته، وبعد كل غضبه بدا وكأن فورانه لم يكن سوى ثورة في فنجان، حيث انتهت القصة بعبارة (نشر راحة يده على شفتي، وشدني إليه بيده الأخرى، وأمرني (هيا لنصعد أنا وأنت إلى القمر).)، مخيبا انتظارات المتلقي، لأنه كان يتوقع أن ينتهي الأمر إلى الانفصال، مثلما حدث في قصة مشابهة أخرى للكاتبة بعنوان (البطل)(17).
بل إن المرأة في هذه الموجة النسائية المستجدة، مستعدة كما بدا في كثير من الانتاج السردي للكاتبات العربيات الجديدات، للذهاب إلى أقصى الشوط في تحمل التضحيات في سبيل فرض إرادتها. ودون أن نذهب بعيدا، فإن ليلى بعلبكي تجعل في قصتها (البطل)، الصراع بين البطلة وزوجها حول روتين الحياة الزوجية، والضجر الشديد الذي يثقل على نفس البطلة، ورغبتها القوية في التغيير، يبلغ أقصى مداه. الأمر الذي ينتج عنه هذا التوتر المدمر بين الزوجين، الذي جلل كل المشهد الرئيسي في القصة، لم يتقبله الزوج هذه المرة، فلجأ إلى الطلاق، ومع ذلك ظلت البطلة متشبثة بموقفها، وظلت تنتظر نموذجها المفضل من الأزواج، الذي قد يأتي ولا يأتي.
وتمعن كاتبة أخرى من نفس الجيل الجديد، لا تقل شهرة في سياق الصراع مع الرجل الشرقي، وتحديه وفرض إرادتها عليه؛ هي الكاتبة السورية الشهيرة غادة السمان، التي ذهبت داخل أعمالها الإبداعية، في محاولة تغيير صورة المرأة العربية الجديدة أشواطا بعيدة، إلى حد استرجال بطلة قصتها (عيناك قدري)(18)، وتنكرها لطبيعتها الأنثوية، إثباتا لتفوقها الذي لا يقل درجة واحدة عن تفوق الرجل، ودحضا للقناعة الخاطئة الشائعة لدى الرجل المتخلف، عن تفضيل الذكور لاعتبارات قرباتية واقتصادية واجتماعية، أمست واهية في العصر الحديث، ولم تعد ذات جدوى في تفضيل الولد على البنت، بعد أن خرجت المرأة إلى الحياة العامة ونافست الرجل في كثير من الميادين الحيوية المنتجة.
إن هذه القصة توهمنا في مشهدها الأول، بخلوها من أي نزوع نحو تصوير الحالات الجنسية، التي أضحت لصيقة بمعظم الأعمال السردية لأمثال هؤلاء الكاتبات العربيات المتمردات. وبدل ذلك تنخرط في الإيهام بأن معركة المرأة الحقيقية هي المواجهة لإثبات حقيقة تفوق المرأة كأي شاب أو رجل، في العمل والإنتاج. فالبطلة تعلن منذ البداية: «لا.. لا شيء في حياتي سوى عملي..أنا سعيدة..لا شيء ينقصني ..أملك حريتي وقدري كأي رجل في هذه المكاتب..أنا حرة سعيدة»(19). خصوصا وأنها جاءت إلى الحياة بعد أربع أخوات لكون أمها مئناثا، معاكسة رغبة والدها الشديدة في الولد، باعتباره سيكون وريثا لأمجاد دكانه وحلقته على رصيف الشارع ووريثا لنرجلته التي لا يريد لجمرها أن ينطفىء بعد مماته، ويسميه (طلعت)، ولا يضطر لحبسه في الدار بعد الشهادة الابتدائية، ولا يخاف عليه من الانطلاق في الشارع وحده كالبنت، إلى حد أنه قدم خير مثال على عنف الرجل الشرقي الموجه ضد المرأة، حتى ولو لم يكن لها يد في الأمر، حيث هم في رد فعله العدواني إلى حمل السكين ثائرا مرغيا ومزبدا عند ولادتها، يريد إعادتها بالقوة إلى بطن أمها، لولا أن منعوه من ذلك الجنون. واكتفى تأسيا بأن سمى البنت طلعت، وهو اسم ذكر.
وفعلا صارت البطلة مسترجلة في مظهرها الخارجي وتصرفاتها ونفسيتها وتطلعاتها. فهي لدى عودتها من العمل متعبة مساء، تنتقد طعام أمها ثائرة صائحة مثلما يفعل شباب الحي، وهي تجلس مع أبيها كل مساء تتناقش معه في السياسة والمشاريع والدخل القومي، وتدخن نرجيلته. وهو الأمر الذي ارتاح له والدها «أصرت على إتمام دراستها بعناد كان يثير في نفس أبيها سرورا خفيا يفشل في إخفائه.. لم يعد يخاف عليها من السير في الشارع وحدها.. إنها لا تتهادى بدلال.. لا تعتني بمظهرها.. لا تثير اهتمام أحد.. تكره الرجال والشباب. لا.. لا تكرههم.. الكراهية اعتراف بوجود الشيء المكروه وهي لا تحس بوجودهم على الإطلاق.. لا تريد أن تحس بوجودهم.. وإلا فلماذا ترفض الدخول لتحية أية خاطبة شاء لها حظها العاثر أن تدق بابهم؟..»(20).
كانت تفعل كل ذلك لترضي والدها، رغم أنها كانت تكرهه داخلها كراهية شفافة لا حقد فيها، ولتثبت له جدارتها، ومساواتها له، ولتنتقم من ضعف والدتها، فلم تكن تريد أن تصير ذليلة مثلها.
بيد أن صورة البطلة في المشهد الرئيسي التالي للقصة، تتغير من الضد إلى الضد، وتنقلب رأسا على عقب، من الاسترجال الخشبي المتكلف والمبالغ فيه، إلى الاستئناث الدافئ الطبيعي، عندما تقابل الرجل المفضل (عماد). وهنا تبرز لغة وأساليب العشق والهيام، ويعود النفس الجنسي يتسلل إلى جسم القصة، وإن كان قد أطل علينا سابقا بصورة محتشمة، حين ضبطت البطلة والدها يغازل الجارة على الدرج، كاشفة عما يجوس في ردهات الحياة الاجتماعية الشرقية الرثة، من خيانة بشعة وتظاهر منافق. وتجدر الإشارة هنا، إلى أن غادة السمان تحمل وعيا صحيا خاصا بالنسبة لمعالجة قضية الجنس في قصصها. إذ تنطلق في هذا من اقتناعها أن «شراكة الفراش بالمعنى الإنساني هي أولا نتيجة للقاء إنسانين على صعيد فكري وروحي قبل أن تكون الغاية من اللقاء مجرد تفقيس أطفال لحفظ البقاء، الأمر الذي يمكن أن يوفره في عصرنا التلقيح الاصطناعي وأنابيب الاختبار دون حاجة إلى استعباد أحد الطرفين لهذه الغاية!»(21)، كما أنها لا تفهم أن تكون الثورة الجنسية معزولة عن ثورة إنسانية شاملة لكل الأصعدة اقتصاديا وفكريا وسياسيا واجتماعيا، فهي جزء من ثورة الفرد العربي على مظاهر الاستلاب لانسانيته(22).
وحين تطور الحدث بشكل جمالي متدرج، بعيدا عن كل هلهلة في بناء القصة، استطاع عماد أن يخرج عملاق الأنوثة من قمقمه لديها، بنموذجيته المتميزة المستجيبة لاختيارات البطلة، والمنسجمة مع نفسيتها وذوقها، الأمر الذي كان مفتقدا في المرحلة السابقة، «نظر إليها.. لم تتجاوزها عيناه المتفرستان كما يفعل الرجال جميعا..ظلتا تتأملانها ببطء ..عينان عميقتان خضراوان تجوسان وجهها كعاصفة عطر مثيرة..وأحست أن نظراتهما تنزع عن وجهها النظارة السوداء..ترمي بها قرب قدمي أخته..تحل ربطة شعرها بحنان وتدغدغ آلام الخصل المشدودة..نظراته تعريها من ألقابها وشهاداتها وردائها.. تزحف برعونة لذيذة فوق ذراعيها..تبعث فيهما دفء شمس لم تلمسهما..تنحط بثقلها على الصدر فيزداد شموخا ويرتعش في حناياه شيء ما ويتخبط..تعصر الخصر فيترنح بلذة عناقيد أثقلها الطيب..رحلة نظراته في مجاهل عوالمها أرهقتها، كشفتها..جعلتها تشعر أنها مضحكة وسخيفة..وأنها ليست الأستاذة طلعت..وأنها ليست سوى ممثلة اكتشفت فجأة أن ثيابها مضحكة وأن دورها مضحك وأنها في حاجة إلى البكاء في صدر ما..»(23). فذاقت حلاوة الحب والحنان، وإن هربت مؤقتا مدفوعة بعنادها المتمرد على حقيقة عواطفها تجاهه، موهمة نفسها بأنها إنما كانت تتسلى مثل أي شاب مراهق «هربت من شفتيه النهمتين وهما تجوسان وجهها في ليالي الصيف..
كان حنانهما يمزق أقنعة برودها..فتتنهد على صدره..تخفي رأسها بين رقبته وكتفه. تدفن دمعة لا تريد له أن يراها»(24).
ثم، دخلت البطلة موجة من الحيرة بين عناد الاسترجال وجاذبية الاستئناث. لكن الاسترجال أخذ يتهاوى، مع تمكن حب عماد منها واستسلامها له. وهنا نؤكد أن الرسالة التي أرادت الكاتبة بعثها عبر خطابها السردي هذا إلى المتلقي، وربما المتلقي الشرقي تحديدا، تتجسد في كون البطلة هي التي اختارت رجلها بذوقها ومزاجها، ولم يفرضه عليها أحد، كما كان يحدث في المرحلة السابقة.
أما الكاتبة الكويتية ليلى العثمان، فإنها تذهب بعيدا في تجنيس تمرد المرأة، والتشنيع على الخيانة الزوجية، التي تقدم دليلا مقززا على نفاق المجتمع الأبوي التقليدي. وطبعا فإن الهدف يتمركز في استفزاز هذا المجتمع الموبوء، وكشف عوراته، لإثبات تراجع صلاحيته المستميتة في استدامة نظام علائقه اللإنسانية، مما يفرض تجاوزه إلى عالم أكثر إنسانية ورحابة وعدلا ونبلا. ففي قصتها (حين تبكي المدن)(25)، ينهض الحدث المركزي على محور جنسي أساسي هو فعل الخيانة، تمتد خيوطه من المقدمة إلى الخاتمة، وتمس كل التفاصيل البانية لعالم القصة.
فمنذ الاستهلال، تصدمنا الحقيقة المرة، من خلال عبارة (أختي هي التي شاهدت ذلك المنظر..). ولننتبه إلى كلمة (هي)، المثقلة بشحنة من الإدانة عالية، إذ تقف الطفلة الصغيرة البريئة مذهولة من هول ما رأته، عندما شاهدت مصادفة، وهي تصعد الدرج إلى السطح، لتلهو ككل يوم في غرفة ألعابها؛ والدها في وضع غريب عليها، مع الجارة أم قاسم (أم قاسم عارية في حجرة أبي.. وأبي يلعب بصدرها الوردي المحموم.. يرضع !).
وقد توفقت الكاتبة في اختيار فضاء الجريمة زمانا ومكانا. ذلك أن وقت القيلولة هو وقت الاسترخاء والهدوء والانتشاء، أي وقت القابلية لممارسة الجنس، وأن مكان الخيانة هو حجرة بداخل منزل الزوجية المقدس، مما يضاعف درجات الجرم. كما أن الكاتبة بتركيزها الضوء الكشاف على (هي)، تريد أن ترفع من سقف الفاجعة وتأثيراتها المدمرة على كل من يحيط بالفاسقين، وبالتالي رفع حجم الإدانة إلى أقصى مداه.
وإمعانا في توظيف الجنس بوصفه أداة تلبس بليغة، لفضح مسلسل الجرائم الجنسية واللاأخلاقية والنفسية، التي يرزح تحت وطأتها المجتمع التقليدي المتخلف، تجعل الكاتبة الطفل بطل القصة وساردها، يتخيل عند تلقفه الخبر من فم أخته المرعوبة، الوضع المشين لوالده مع الجارة أم قاسم، في غير قليل من السخرية، «تخيلت أم قاسم بجثتها القصيرة البيضاء..ووجهها المربع وفمها الذي يشبه فم رقم الثمانية.. حين تضحك وتمد لسانها العريض فتبدو طواحينها العليا من الجانبين، والسفلى وقد اكتست بالذهب الغالي.
تخيلتها عارية في حضن أبي..بصدرها الوردي المحموم الذي يطل شقه الرفيع كمجرى الماء دائما من فستانها ذي الفتحة الواسعة..حتى إنني كدت مرة ألمح حلمتيها عندما انحنت إلى الأرض تلتقط قبقابها ذي الخرزات الملونة ذات الأشكال الطولية المرصوصة بفن وأناقة، وتخيلت أبي طفلا يشد صدرها.. ويعابثه بيد كيد أخي الصغير حين يبحث عن صدر أمي المحروس دائما خلف ثوب مستور من صنع يدها»(26).
وأكيد أن لاكتشاف جريمة الخيانة الزوجية امتداداتها السلبية، من حيث التأثير على كل المحيطين بالمسؤولين عنها. فالطفلة الصغيرة البريئة، تجلد من طرف والدها ظلما ودون رحمة. والابن الصغير بطل القصة، ينطبع المشهد أثرا محفورا في ذاكرته، منتظرا لحظة الانتقام عبر السنين المتوالية. وبنت أم قاسم المراهقة تدفع شرفها ثمنا لغلطة أمها، حين يعتدي عليها بطل القصة جنسيا، عندما يصير شابا، انتقاما لأمه من أمها. في حين تقف الزوجة المكافحة، اللامبالية بما يدور حولها، في موقف آخر من يعلم أو لا يعلم أبدا. فهي لسذاجتها وطيبوبتها، لا تعترض على صعود الجارة أم قاسم إلى غرفة القيلولة على سطح المنزل، ولا فكرت في مرافقتها، وتصدق خداعها وكذبها، وتعكف على آلة الخياطة تخيط الملابس، بل إنها لم تسأل حتى لماذا جلد زوجها بقسوة طفلتهما الصغيرة. وهي تقترح على صغيرها بطل القصة إشفاقا وحنوا « قم للنوم..ألا ترى كيف ينام أبوك في القيلولة؟
والقيلولة بالنسبة لأبي أمر مهم..لكنها لا تحلو إلا في غرفة السطح حيث نسمة الهواء الآتية من النوافذ المشرعة.
لكن بعد أن رأت أختي المشهد أدركت أن لغرفة السطح فوائد أخرى غير هوائها المنعش. فهناك يخلو أبي ..يبحث عن جسد يمتد على فراشه غير جسد أمي..وأم قاسم تأتي دائما في القيلولة باكية..شاكية لأمي
ـ أخي .. الكلب.. الحرامي.. سرق أرضي..نهب مالي..ثم تسأل أمي وكأنها لا تدري أين مكان أبي:
ـ «وين أبو سالم الله يعافيك»؟
وتشير أمي باتجاه السطح لكنها تكون قد وصلته قبل أن تكمل أمي إشارتها..»(27). لتشكو له أمرها !. فتزفر الزوجة المخلصة وتنحني على ماكينة الخياطة كالقوس مرددة: (الشكوى لله.. سالفة أم قاسم ما تخلّص).
وليت الأمر يقف عند هذا الحد من التدني، بل إن امتدادات الخيانة الجنسية، تسببت بفضاء القصة، في فضح المزيد مما يتستر عليه هذا المجتمع المريض من قيم منحطة. فقد تمكنت القصة ببراعة، خلال تدرجها مع الحدث، من مشهد الخيانة إلى مشهد الانتقام الرئيسيين، من أن تكتشف الكثير مما يغص به من كذب ونفاق وظلم وخداع واغتصاب وشعوذة وتخلف. على أننا نتساءل هنا نقديا: أية علاقة تربط بين عنوان القصة (حين تبكي المدن) ومضمونها ؟
المهم، أن الكاتبة ليلى العثمان، الثائرة على أوضاع المرأة العربية، قد تمكنت بواسطة خبرة سردية معمقة، من تمثل خبايا المجتمع المرفوض من الجيل الجديد، وبالتالي محاولة إقناعنا بشرعية رفع الورقة الحمراء في وجه المجتمع التقليدي الشرقي، وضرب رأس حربته في محافظته والدفاع عن استمراريته، نقصد الأب وسلطته الغاشمة.
ويبدو أن الكاتبات العربيات، قد وعين بالنسبة لتيمة الصراع مع الأب، أن دكتاتورية الذكورة الشرقية، بعنجهيتها وتسلطها وافتقارها إلى الحس الإنساني تجاه المرأة، إنما تتجسد سلوكيا في رموز قمعية معيشة ذات ارتباط بالعلاقة الدموية في الحياة اليومية داخل البيت بله خارجه، متمثلة في أقرب الناس إلى المرأة: الأب، الأخ، العم وأمثالهم داخل العائلة أو خارجها، ممن يحملون نفس التصور المغلوط عن طبيعة العلاقة بالمرأة، دون استبعاد للأم التي تريد تأبيد نموذجها من خلال بناتها. لذلك نذرن كثيرا من نصوصهن الإبداعية لمواجهة تلك الرموز المؤبدة. وعلى مستوى السرد، لطالما رسمن صور الصراع بين بطلات النصوص القصصية وبين الأب أو الأخ أو العم، في مواقف من التوتر ملؤها الحدة والتحدي للتابو الأبوي وسلطته المتوارثة، تقلب الكفة لصالح البطلات المتمردات في معركة فرض الإرادة.
ولأخذ مجرد فكرة تقريبية عن الموضوع، نود الاستئناس بنموذج واحد فقط، تقدمه لنا الكاتبة المغربية خناتة بنونة، في قصتها القصيرة (ربي إني وضعتها أنثى)(28). وكان بودنا أن نستدعي أيضا، نموذجا ثانيا يتعلق بزنى المحارم، تطرحه الكاتبة المصرية أهداف السويف في قصتها (السخان)(29)، حيث تظلم البنت المثيرة جنسيا لأخيها المتدين دون علمها، بلا ذنب ارتكبته، فقط لدوافع دنيئة لا تعرفها ويعرفها هو. لولا ضيق المجال.
إن خناتة بنونة، بأسلوبها المتدفق عبر التداعي الحر، المتردد بين ضمائر السرد الثلاثة، والمونولوج الداخلي، والديالوج الحاد المتوتر، ترصد في معظم قصص مجموعتها ذات العنوان الاحتجاحي الصارخ والدال (ليسقط الصمت)، وليس في قصة (ربي إني وضعتها أنثى) فقط، صورة المرأة مع قضيتها، ومواجهتها المجتمع التقليدي، وتمردها وغربتها في عالم لا يفهمها، لكونه مقيدا بموروثات عصور الانحطاط، التي فعلت فعلها في قولبة صورة المرأة، في إطار مسكوك لا فكاك لها منه، إن لم تتغير الظروف والعقلية والتعالي الطبقي لدى الرجل والمرأة معا. فبطلة قصة (ضياع) مثلا، تؤمن بـ «إن ببشريتها قدرة متحدية على متابعة العناد.. وهو ليس عنادها وحدها، ولكنه عناد كل هذا الوجود الفارغ لبشريتها.. وهي بذلك ضحية، تقطر جراحاتها وتسير.. تشق دربا لا ينتهي.. لكنها شاءت ذلك عندما رفضت أن تتأطر كالأخريات، في دور تقليدي مريح.. المتشردة في أعماقها رفضت الإطار حينما أرادت لها أن تتسكع في دروب الوجود.. تعلن احتجاج كل نوعها على قدرته العاجز أمام القدرة المكتملة.. والدرب طويل موحش..»(30). ومن هنا، تهيمن على بطلات قصص المجموعة المعالجة لقضية المرأة، سمات الغربة الموحشة والضياع اللامنتمي والرفض الساخط، والاحتجاج الصاخب، في تمرد شامل على كل العلاقات الاجتماعية والطقوس المتوارثة، وعلى كل ما ينتمي إلى المجتمع التقليدي المرفوض. فهن يواجهن بصرامة محاولة الرجل هزم المرأة وامتلاكها وقهرها في اعتداد وأنانية وتسلط، ويتحدين الأب والأم وغيرهما من سدنة مجتمع محنط صار ضريحا رثا محتاجا إلى ترميم جذري. أما عن الزوج، فهن يرفضن أن يتأطر دورهن في مجرد أن يكن أشياء ودميات تؤثث بيت الزوجية لا غير، «فهو يريدني صنما.. أتغير ثلجا بين ذراعيه.. يحولني إلى هيكل ينحني لإشاراته.. لرغباته لنداءاته.. وماذا سيمنحني ؟ طولا.. وأكتافا.. وذراعين تتعلقان بي، يمسكان بي عن الانفلات..لأبقى له..له وحده.. لبيته.. لقيده.. لأبنائه»(31).
وتبلغ بطلات المجموعة ذروة تمردهن، حين يقفن في وجه أعلى سلطة في البيت: الأب برمزيته الاستبدادية وجبروته السلطوي. وهكذا تقدم قصة (ربي إني وضعتها أنثى)، نموذجا سجاليا صريحا لهذه المواجهة. فالأب يستنكر ازدياد أنثى في مملكته الصغيرة، والبنت الأنثى تفرض جدارتها وشخصيتها في هذه المملكة. فتكون المواجهة الحتمية:
« ـ متى كانت المرأة هكذا ؟ !
فتبلغه صوتها بلطف:
ـ بل على الأصح: منذ متى لم تكن هكذا؟
فيصر:
ـ إنها محتاجة.. هكذا كانت.. وعرفناها.
ـ كاحتياج أمي إليك !! أليس كذلك؟
ـ …
ـ لم يعد الاحتياج ضرورة..ارتفع بارتفاع مسبباته.
فيدافع:
ـ هذا خرق للتقاليد..»(32).
ولم يسعف الوعي المحافظ الأب، خلال هذه المفارقة المصيرية، لإدراك كون خرق التقاليد هو بيت القصيد في تمرد ابنته، فهي متشبعة بقضيتها هذه إلى مستوى الإيمان «ما أفظع أن أكون أنثى بين قوم لم تتجدد قيمهم بعد.. لكأنني أريد أن أختصر كل النساء في واحدة، لأحطم قيدا جررناه من دهور.. ومع ذلك، فما أعذب أن أكون أنثى بقضية..»(33)، لأنها تحمل في أعماقها نموذجا مختلفا لطبيعة العلاقة بين الجنسين، يسعى الى تغيير صورة علاقتهما إلى مستوى إنساني راق. فهي وإن كانت مشدودة بحبال التقاليد والأعراف البالية إلى (الماضي البشري المغلف بأسطورة جرم المرأة)، إلا أنها تتطلع إلى (الإنسان الأكمل.. الإنسان الإنسان..المرأة الإنسان..). لهذا فهي لا تتورع عن مخاطبة أبيها بنوع من الإدانة: «أذللت وجهي الإنساني ومرغته في وحل عاداتك..وكرهت، كأجدادك خلال القرون الآسنة، أن تتحمل وجودي.. وأردت أن تحشرني كمومياء في صلف رجولة، يبعثرني ضعف وتسلسل خطيئة.. ثم تريد أن تطمس حتى بصري، لئلا أرى بعينيك، سوى التطلعات الرخيصة التي كانت لجدة جدتي….. لتر، كيف أنني تعلمت أن أرفض، وأن أواجه قدركم بما اخترته أن يكون قدري»(34).
ويدخل أخوها على الخط، ليصب مزيدا من التوتر على الموقف المتأزم أصلا، باعتباره صورة مستنسخة ووارثة لقيم والده ومسلماته، من أجل استدامة التسلط الذكوري المتوارث، لكن دون جدوى.
إن قصة (ربي إني وضعتها أنثى)، تقدم القضية وفق معادلة واضحة الأطراف؛ المجتمع التقليدي بقناعاته الماضوية يستميت في فرض نموذجه المهترئ، والبطلة النمطية الأنثى التي تختزل في كينونتها كل النساء، تدافع عن نموذجها الموعود. وقد تساوق ذلك مع تعدد الضمائر (المتكلم، والمخاطب، والغائب)، ربما للإيحاء بأن الجميع معنيون بالبحث عن الحل الناجع للمعادلة المختلة.
وإذا جئنا في الأخير، إلى تركيب كل ما سبق، وجدنا أن قضية المرأة في القصة العربية النسائية القصيرة، قد تمفصلت عبر ثالوث مركزي محدد، هو ثالوث الاستسلام المذل، والجنس المستفز، والأبوية المستبدة. وليس بالضرورة أن يكون هذا الثالوث هو كل شيء في القضية، بل إن لها تمظهرات متعددة أخرى بالتأكيد.
ونعمد هنا إلى تركيز كل ذلك في النقط الموالية:
ـ إن صورة المرأة المعالجة في قصص الكاتبات العربيات، قد تغيرت من وضع المرأة الذليلة المهمشة والمستسلمة لقدرها العاثر، إلى صورة بديلة تقوى فيها المرأة على المواجهة إلى الأخير، بسبب ما استحصلته من مكاسب، وبما تسلحت به من وعي، خصوصا عندما استقلت بشخصيتها تعلما وعملا ومالا.
ـ إن الكاتبات العربيات، هن جزء مباشر من القضية، إلى حد يمكن القول بأن التجربة المعالجة في بعض القصص هي تجارب ذاتية لصاحباتهن، ومن هنا حماسهن وجرأتهن على ارتياد حقل الكتابة بصورة تطورت من الاحترازات الحساسة إلى تخطي كل الخطوط الحمر، بإطلاق العنان للخوض في كل المحرمات، بما فيها الجنس.
ـ لعل مواجهة الرجل الذي يشغل موقع الخصم في أغلب القصص، هي بمثابة ضرب لسلطة الأب في المجتمع الأبيسي، وكذا لباقي التابوهات المقيدة لحرية المرأة.
ـ إن نثر البدائل في طيات القصص، هو تحريض صريح على خلق المناخ الصحي لعيش الرجل والمرأة في مجتمع إنساني سليم.
وإن كل هذا وغيره، ليؤكد حقيقة أن صورة المرأة العربية، قد تغيرت كثيرا فعلا، سواء على المستوى الواقعي أم التخييلي، والبقية ستأتي.
الهوامش
خالدة سعيد: المرأة التحرر الإبداع، نشر الفنك، الدار البيضاء، 1991، ص.67.
د. زهور كرام: خطاب ربات الخدور: مقاربة في القول النسائي العربي والمغربي، رؤية للنشر والتوزيع، القاهرة، ط.1/2009، ص.8.
د.مصطفى يعلى:وظائف المرأة في الحكاية المغربية المرحة، مجلة (المناهل) المغربية، س.25، ع.64 ـ 65، ماي2001، ص.290.
فرانك أوكونور: الصوت المنفرد: مقالات في القصة القصيرة، تر. الدكتور محمود الربيعي، الهيئة العامة للتأليف والنشر، القاهرة، 1969، ص.47.
جورج طرابيشي: ندوة واقع المرأة العربية، مجلة (الوحدة)، ع. 9، س. 1، 1985، ص.91.
من مجموعة «الظل الكبير»، دار الشرق الجديد، بيروت، ط.1 / 1956. صص . 63 ـ 74.
المصدر نفسه، ص. 65.
نفسه، ص. 70.
من مجموعة «البلد البعيد الذي تحب» منشورات دار الآداب، ط. 1 / 1964.
المصدر نفسه، ص.25.
نفسه، ص. 27.
نفسه، ص. 27 ـ 28.
نفسه، ص. 31.
شوقي بدر يوسف: القصة القصيرة النسوية اللبنانية: أنطولوجيا، مؤسسة حورس الدولية، الاسكندرية، 2010 ـ 2011، ص.34.
مجلة (حوار)، ع. 4، س.1، ـ (مايو ـ يونيو)، 1963، صص. 22 ـ 28. وقد نشرت هذه القصة أيضا ضمن المجموعة القصصية الوحيدة لليلى بعلبكي، التي تحمل نفس العنوان، والصادرة عن المؤسسة الوطنية للطباعة والنشر، بمدينة بيروت، سنة 1963.
المصدر نفسه، ص.27.
مجلة (حوار)، س.2، ع. 9، (مارس ـ أبريل)، 1964، صص. 30 ـ 35.
القصة الأولى في المجموعة التي تحمل نفس العنوان ( عيناك قدري)، منشورات غادة السمان، بيروت ـ لبنان، (طبعة إلكترونية بمكتبة الاسكندرية)، ومعلوم أن الطبعة الأولى صدرت سنة 1962.
المصدر نفسه، ص. 8.
نفسه، ص. 9.
غادة السمان: الثورة الجنسية والثورة الشاملة، مجلة (مواقف)، س. 2، ع.12، تشرين الثانيـ كانون الأول 1970، ص.69.
المرجع نفسه، ص. 65.
المصدر السابق، ص. 11 ـ 12.
نفسه، ص. 13.
مجلة (الآداب) البيروتية، س. 29، ع. 1 ـ 2، (يناير ـ فبراير)، 1981، صص 24 ـ 25.
و 27) المصدر نفسه، ص. 24.
28)من مجموعة (ليسقط الصمت)، البوكيلي للطباعة والنشر والتوزيع، القنيطرة، ط. 2 / 2006.
29) من مجموعة (زينة الحياة)، سل. روايات الهلال، ع. 576، ديسمبر 1996.
30) قصة ( ضياع ) من مجموعة (ليسقط الصمت)، ص.35 ـ 36.
31) قصة (المتشردة) من المجموعة نفسها، ص. 122.
32) ص. 75 ـ 76 .
33) و 34) ص. 77.