يقيم بين رحيلين ، غير انه لايعرف الاقامة الحقيقية الا بين دفتي الكتب حيث ينتمي بثبات فهي الوطن الوحيد الذي لايجيد نفيه ، وفيها تمتد جذوره المعرفية الضاربة في العمق والأصالة ، وعلى جسد القصيدة يرمي بظلاله ويفرغ ذاكرته المأهولة بالوجوه والحكايا ليقول مايود ان يقوله في عالم لايتسع الا للضجيج.. هو الناقد الدكتور حاتم الصكر الذي التقيناه في هذا الحوار لنقترب اكثر من فضائه المعرفي ولنسمع صوته عن كثب وسط ضجيج التغييرات التي تعصف بالمنطقة على كل الأصعدة.
سنبدأ من هجرتك الأخيرة.. مكانك الشاغر في جامعة صنعاء وفي قلوب طلبتك وأصدقائك ومحبيك ، هل تشبه هذه الهجرة هجرتك من بغداد؟
لا أجازف بالمقارنة رغم أن لصنعاء في قلبي وضميري كثير مما لبغداد التي ولدت ودرست وعشت فيها، وغادرتها مدمى القلب أحسب أن فراقها سيكون قصيراً. كان ذلك منتصف التسعينيات التي تأزم فيها كل شيء، وتصاعدت المشكلات حتى قلت وقتها إن إبرة العيش ضاقت بخيط الحياة الكريمة. هجرتي الأخيرة من صنعاء التي أحببتها ، وبادلتني المحبة ورممتْ كثيرا من جراح روحي وصار لي فيها أحبة واصدقاء وأهل ،مختلفة ، فيها قسوة ايضا لانها رمتني وراء البحار والقارات، وتخيلت نفسي أوغل بالمعنى الحَرْفي للكلمة في رمال الغربة المتحركة دوما ، والتي جذبتني وخدعت صبري وجلَدي وأحلامي ؛ فكنت ضحية نداءاتها ولم أفعل ما فعله بحّارة السندباد ورفقة عوليس عندما غنت السيرينيات ليجذبنهم؛ لكنهم سدّوا آذانهم بقوة وقاوموا..
كتب الشاعر اليمني احمد النجار ما يشبه البكائية علّقها في غيابك مستنطقا الأمكنة التي مررت بها.. فقال: رباه دلني كيف تجفف عبرات مبنى كلية الإعلام.. كيف نرشو بوابة الجامعة لكي تفتح أحداقها ثانيةً,وترى.. ) ، هل تحتاج لتبرير غيابك ام تبرير وجودك في صنعاء ؟
كلاهما حاضر في وعيي وضميري .وجودي هناك واختياري العمل في اليمن دون سواها وفراقي الاضطراري لها.سأفضي لكِ بأمر : قبل حادثة اختطاف ابني في الشهر العاشر من عام 2006 غرب العراق لم اكن افكر بالهجرة.كل شيء كان معدّا لحياة بين الأهل ببغداد أو صنعاء .لكنني طُعنت عميقا بغياب ولدي بلا مبرر. وأحسست بجحود رهيب وتساءلت عن حق الآخرين في تغييب حياة البشر هكذا في لحظة . الوجود لا يعود ملك خالق أو أب أو مسؤول بل بمشيئة إرهابي يشد حزامه حول ثوبه القصير كضميره، ويطلق حقده الطويل كلحيته ، ولا يفهم سوى العنف والكراهية. أنا نفسي أحسست بما احس به تلميذي وصديقي الشاعر احمد النجار وصرت أهرب من صور بوابة الجامعة وساحاتها التي بكيد وقسوة صارت تحتل الشاشات وتلاحقني في مغتربي القصي. . لكنني ضعفت وذعنت وحسبتها خلاصا مؤقتا لسواي بالمناسبة وتلك قصة تتداعى من اختطاف الولد وتركته الاسرية بعده.لكن أصدقك القول : ليس المبرر كافيا موضوعيا لكن معاناتي كان لها طابع الجبر ولا اختيار.
لكنني كمتأثر بالظاهراتية ونظرتهم الجمالية للأمكنة والأشياء والنصوص كلها أعتقد ان المكان لا يغادرني.. أعيد تشكيله بوعيي وإدراكي وشعوري، وأستحضره عما بقي من جذور لي هناك.. وأحس وراء غيم الغربة أن شمس العودة واللقاء ليست بعيدة الشروق!
تعاتبك ميسون الارياني : ما زلت أتمنى لو أنه ودعنا وسمح لنا بالتعبير عن مدى شكرنا وتقديرنا له كإنسان ومعلم أيضا.
لأصدقائي وطلابي بصنعاء الحق كله.كان غيابي خجولا؛ فهو ليس عودة للوطن بل هجرة قاسية نحو البعيد. تزامن ذلك بصدفة قدرية مع بدء الثورة الشبابية في اليمن ومن الجامعة التي اعمل فيها وأسكن . كان الجميع مشغولين بيومياتها ومفرداتها. ولم يتسن لأحد ان يرتب وداعا.أخبرت القريبين بقراري.. وتواطأت مع نفسي كي لا أثير مزيدا من الشجن.وذكريات حياة امتدت أكثر من خمسة عشر عاما.. لكن ما وصلني وما كتبه الاصدقاء والطلاب كان كافيا لوداع حميم .وأقول لك صراحة أنا لا أحب ككثير من الناس مشاهد الوداع.. وأختزلها بأقل ما يمكن من الكلمات دوما ، رغم أنها تغور في داخلي ، وتشكل منبع حزن لي كلما تذكرتها ،وانا كما يعرف اصدقائي شديد التذكر، واتخذه آلية دفاعية للعيش.احلم كثيرا واقيم عالمي في داخلي وأغلبه تؤثثه الذكرى ، حتى صرت مؤخرا أدعو لقراءة استعادية او تذكارية للنصوص؛ لرؤيتها مجددا بوعي متغير وجديد.. فيبدو لها وجود آخر غير ما وقر في النفس عند لقائها الأول..
من صنعاء الى النقد وسؤال يحضرني دائما لماذا يكاد ينحسر النقد على الأسماء الكبيرة ، هل يعود ذلك الى شحّة المواهب الجديدة ام عدم ارتقاء أعمالها لمستوى النقد ؟
هذا خلل استراتيجي في تكوين عقلنا أصلا .عقلنا النقدي الممتد من وعينا المتكون بعوامل متعددة.القبيلة والحزب والنظام في الاسرة وكل شيء هنا يرشح لتقديس الكبير ضمن منظومة مقدسات كالماضي والثوابت وسواها مما يمتلك سلطة على الوعي لا يراد ان تراجع أو يتم التخفيف حتى من سطوتها .
– هذا جانب قصور في النقد نفسه، لكن هناك أيضا عوامل خارجية، سياقية تتصل بهيمنة الانظمة وتكريسها لكتابها وشعرائها ولهامش الحرية المعدوم أصلا في حياتنا الثقافية. وسأحكي لك ما حصل معي كمحرر لا كاتب؛ فقد نشرنا في مجلة الأقلام عندما كنت أعمل في رئاسة تحريرها خبرا عن مواد العدد القادم في المجلة نفسها تشويقا للقراء؛ فذكرنا أسماء شعراء العدد القادم. بعد النشر هاتفني شاعر أحبه لكنه ذو مسؤولية إدارية مهمة في الوزارة والحزب يلومنا بغضب قريب من المحاسبة عن سبب حشر اسمه مع هؤلاء!! وقاصة صديقة رفضت بصنعاء أن تقرأ مع شباب من القاصين الجيدين في الامسية نفسها ، لأنهم شباب وحسب!!. هذان مثالان يفيدان في تفحص المشكلة فهي لا تتصل بالنقد ذاته . أحيانا تتراكم الأسباب كما ترين.
ثم هناك المنجز. لا يمكن إهمال شعراء كشوقي والسياب والجواهري والبياتي والشابي ونازك وادونيس ونزار وسعدي والبريكان وسركون وغيرهم لأنهم مكرسون ، بينما نتاجهم متجدد ويعيش عصره بجدارة ، ولا أذهب بعيدا لأذكر المتنبي والمعري وأبا تمام والمتصوفة وغيرهم من مكرَّسي التراث وكباره. وأنا معك في أن الدم الجديد والخلايا الطالعة الحيوية في الجسد الشعري بحاجة للالتفات والتعريف والقراءة.. ولكن ذلك يحصل بكيفيات أخرى، كفحص منجز الجيل أو المتغير الأسلوبي والجمالي في الكتابة الشعرية وغير ذلك مما يخدم وجود نصوصهم بصورة من الصور. .فيما يتعذر استقصاء نصوصهم كلهم بسبب كثرتهم وقلة النتاج المؤهل للفحص والفاعلية القرائية. وأحسب أن التفاتنا لشعراء الأجيال اللاحقة قد حصل في مناسبات نقدية كثيرة ، ويمكن مراجعة إصداراتنا لتأكيد ذلك فضلا عما قدمناه عبر المنابر الاعلامية التي اشتغلنا فيها..
الا تشعر ان مسؤوليتكم كنقاد هو التصحيح والتقويم خصوصا ونحن نشهد توزيعا مجانيا للألقاب مثل شاعر وقاص وروائي وغيره من التصنيفات ؟
المشهد الشعري شهد تراجعا ذوقيا لا سيما على مستوى التقبل، وانزوت النصوص المنتمية للحداثة بسبب ذلك.عادت موجات الشعر المناسباتي بشدة، وكذلك القصائد الشعبوية التي تجامل ذوق المتلقي ولا تقوده لتغيير أفقه وتتخذ من السياسة مناسبة لعودة الخطابية والمباشرة والتهريج الصوتي في الشعر المؤقت الفاعلية والذي يزاح بعد زوال الحدث.وشاعت عادات ثقافية كانت قد اختفت من الوسط المستهلك للشعر كحمى المسابقات والجوائز، وهذه المؤسسات التي تحمل لافتة الشعر وتقاوم تجدده وتطوره بضراوة وتقوم بتجهيل المتلقي وفرض أمية شعرية على المجتمع . وهذا هو الخطر وليس إسباغ وصف شاعر او كاتب على من لا يستحق؛ فالكتابة لا ينفذ من اختبارها إلا المؤهل لها بمؤهلاته لا بشفاعات منبر أو حزب أو سلطة أو حتى تبريكات ناقد أو صحيفة.
ودعيني أخالفك الرأي بصدد مهمة الناقد أو مسؤوليته ؛ فهي لا تكمن اليوم في التصويب والتصحيح ولا الحكم القيمي المطلق.مهمة النقد اليوم تتجه إلى النص لا الشاعر؛ وهذا يكفي لتجاهل النصوص التي لا تضيف أو تعدل أو تؤثر.
اذن ماهي مسؤولية الناقد تجاه الأدب ؟
هذا السؤال كبير لا تستوعبه مقابلة! لكن هي مسألة وعي بخطورة الكتابة النقدية نفسها. والامم المتقدمة فقط تعول على النقد؛ لانها تستوعب الآخر كيانا وفكراً.نحن نعاني من تهميش للنقد وليس العكس. شكوى المبدعين غير مبررة برأيي ؛فالنقد الأدبي العربي انجز الكثير ولأجيال متعاقبة ،وارسى المصطلح ومهّد للتجديد والتحديث ،ونافح عن التغيير الاسلوبي وهدم التقليد ونبذ الجمود.لكن البعض لا يرى ذلك لأنه لا يمس نصه ذاته، وإن صبَّ في صف نوعه وتوجهه.
اسمحي لي أن أعدل السؤال ليكون: ما مسؤولية الناقد تجاه النص. هنا يمكن الحديث دون عقد او تبادل تهم! ويمكن الإجابة بالقيام بتقديمه محللا أو منوها به ؛لبيان ما أضافه أو ساهم في تكريسه باتجاه التحول في الخطاب نفسه، وكذلك لإسقاط فاعليات القراءة المتنوعة عليه، كصلته بسواه من النصوص ، أو موضوعه، وكيفية تقديمه ، او لغته وشكله ،والمهيمنات الفاعلة فيه ،وصلته باللحظة الراهنة وسوى ذلك من المقتربات الممكنة.
لديك قراءات في الفن التشكيلي تكللت بكتابك (المرئي والمكتوب دراسات في التشكيل العربي المعاصر) وغيرها ، هل تعتبر الكتابة عن الفنون ممارسة مكملة لعملك كناقد ام تجاوزا على ارض مجاورة لاشتغالك ؟
منذ بداية وعيي بالكتابة كنت أحس بالحاجة للاقتراض أو التنافذ بين الفنون المختلفة ؛لان مشكلاتها واحدة جماليا على مستوى التلقي، وكذلك في مشكلتها النصية اي هيئتها وأسلوبها وحداثتها .في الرسم ثمة مقاومة مستمرة كما يحصل في الشعر لكل الاساليب التجريبية او الرمزية التي لا تعتمد التشخيص والمطابقة بين المادة خارج العمل وداخله.وبالنسبة لجيلي الستيني كان الرسم خاصة والفن التشكيلي عامة واحداً من الاهتمامات المكملة تداوليا أيضا ،بمعنى أنه كان واحدا من روافد التكوين الثقافي تشجع عليه أجواء العراق الثقافية، المتنوعة والحيوية.وقد امتد أثرها لعقود متأخرة من القرن الماضي، ومثال ذلك كثرة قاعات العرض وظهور المنابر المتخصصة بالفن التشكيلي. وهذا شجّع على الالتفات للتشكيل والمساهمة في قضاياه الجمالية لا التقنية بالمعنى الضيق.وهذا كان دافعي في كتابة مواد ومفردات كتابيَّ (المرئي والمكتوب) الصادر عام 2007و(اقوال النور) الذي صدر عام 2010
يرى عز الدين المناصرة ان قصيدة النثر قصيدة (خنثى) ، كما يرى البعض انها ليست الا تقهقرا الى النثر وهي شعر من لاشعر له؟
الفرنسيون انفسهم الذين أطلقوا التسمية لم يطمئنوا لها. ومن الكتب المترجمة حديثا عن قصيدة النثر لميشيل ساندرا يؤكد ذلك. وسوزان برنار كأول منظّره أكاديمية لها أعلنت عن قلقها من المصطلح .وربما كان هذا سببا في ادعاء هجنتها أو اتهامها بالاختلاط الذي تعتمده قاصدة ، لكن ليس على سبيل الإضافة: نثر + شعر = قصيدة نثر بل على سبيل الانصهار والإفادة من انسيابية النثر والإيقاعات المتولدة من إيقاعه وموسيقاه. هنا نختلف لان ثمة من لا يرى الموسيقى إلا خارجية: وزنا خليليا متعددا (حر) التفعيلات عدديا أو بالقافية النسقية أو المتباعدة في القصيدة.بينما يخبئ النثر إيقاعاته الخاصة به بأنواع مختلفة، كالتكرار والتضاد وسواها،وهو ما يجعل النصوص الصوفية المشرقة نثرا بروح الشعر ، وما خيّل للعرب انه شعر في القرآن وهمْ أدرى بالأوزان وموسيقاها؛ فلماذا توهموه شعرا؟لأن أثره يشتغل في تلك المنطقة لا قصدَه.ولو قيض لنظرية الأثر أي عدّ ما له مفعول الشعر وأثره في النفوس شعرا- لتغيرت أفكار كثيرة حول موسيقى الشعر ،ولانتفت تهمة الخنثى والتهجين وهما يعبران عن فكر ذكوري بالمناسبة!-
هل تؤمن بفكرة انصهار النص الأدبي مع نصوص أخرى وخروجه عن إطار التجنيس؟
نعم. وقد كتبت كثيرا عن تهديم حدود الأجناس والأنواع ، وهو ما يحصل في الفنون كلها : الرسم يستعير الخط والصورة والحركة والصوت أحيانا، والقصة تقترض من المسرح، والمسرح من الشعر والسيرة منها كلها! ولا أشك أن النص بمفهومه الفني والجمالي سيتسع لمثل هذه الاقتراضات.لكنني أتحفظ قليلا على مسخ هوية النص. وأرى أن التجنيس أحد موجهات القراءة ومحدد أفقها، وهو تعارف أو تقديم للقارئ. فالاصح أن تصب الاستعانات كلها لصالحه.
الايزعجك ان تراقب خطواتك على جسد القصيدة بعين النقد؟ الايفقدها شيئا من تلقائيتها ؟
هذا تشخيص سليم واستبطان لحالتي شخصيا مع القصيدة. موازنة العفوية المطلوبة لكتابتها اولا ثم الشغل عليها تختل وتتفاوت الزمنية. فيغلب النقد كتفكير ورؤية على ما تتطلبه القصيدة من الخيال الحر واللغة والإيقاعات والتراكيب.وربما كان هذا وراء ضعف صلتي بكتابة الشعر مقارنة بالكتابة عنه وقراءته وتحليله.
في الوقت الذي تحتفي به المحافل الأدبية بالشعر، يصرّح الكثير من الأدباء بأنه زمن الرواية؟
ليس للزمن أفق واحد كي تحتله سلطة الرواية أو الشعر. هذا القول كان أشبه بمجازفة صادمة شاعت ونوقشت في حينها ،بل ذهب كتاب ظرفاء إلى القول إنه زمن الكاسيت! لا الأدب إذا ما احتكمنا إلى التداولية وأرقام البيع والشهرة.لكن من الضروري الالتفات إلى ثلاث ظواهر هنا هي اتساع رقعة كتابة الرواية العربية في العقود الأخيرة ، واهتمام القراء المتزايد بها، وجاذبيتها حتى للشعراء أنفسهم وشروع كثيرين منهم بكتابة رواية! كما ان الهفو والحنين للحرية يتيح للرواية أن تتسع لتمثيل ذلك خذي مثلا كتابات الروائيات السعوديات اللافتة عددا وجرأة!-
يرى محمد براده ان الرواية العربية لم تخرج من الأنساق التقليدية الا بفعل أحداث سياسية أضرمت فيها ثورة التجديد ، هل تؤثر الأحداث الخارجية على بنية الكون الروائي او العمل الأدبي الى حد هدمه وإعادة تكوينه من جديد؟
الرواية ذات حظ وافر في شعريتها أي النظم المتحكمة في طبيعتها السردية ؛ فهي بقدر ما تأخذ من الخيال تتسع للوقائع والأحداث الخارجية وتنتزعها كما يرى الشكلانيون الروس وباختين خاصة من متوالية الحياة أي وجودها الخارجي؛ ليعطيها الروائي حياة جديدة ضمن متوالية كتابية جديدة ، وتخضع لإعادة تكوين وخلق تغري بالقراءة ؛لان إعادة تمثيل الوقائع في الروايات الاجتماعية والتاريخية تجري بشفافية وبزاوية نظر ذاتية في الرواية الحديثة، ما يعطيها هذا الاقتراب من عصرها ولحظة الحدث الذي يجري تمثيله ، كالثورات والتبدلات الاجتماعية والتغييرات . وهنا عمل نجيب محفوظ وفي هذه المنطقة بالذات ليصنع مجده السردي؛ وحذا عبدالرحمن منيف حذوه ايضا بزاوية نظر اكثر حداثة وليبرالية . وفي العراق فعل الرواد كالتكرلي وغائب طعمه فرمان الشيء ذاته، حبن احتكوا بتحولات التاريخ السياسي والاجتماعي في العراق. وهو ما يفعله روائيون معاصرون ايضا بعد اللحظة التاريخية التي شهدها العراق.
هل تتوقع ان يمتد مايسمى بـ(الربيع العربي) الى جسد الأدب ويحدث فيه انقلابا ما ؟
هذا الرهان بحاجة لوقت أطول. الدكتاتوريات كما نعلم تترك ميراثا ضخما من التخلف والظلم والألم الإنساني، وتداعيتها تستمر زمنا كأي مرض أو عارض طبيعي مدمر.فقط نحن نخشى أن تكون المناسبة التغييرية الكبيرة والفريد هذه فرصة للاتجاه إلى الوراء. الشعوب في منطقتنا لم تتعود السلم الاجتماعي والديمقراطية ولم تتح لها الأنظمة ان تشكل حتى معارضاتها الوطنية البديلة، وتحتل عقولها ثوابت دينية وقبلية وعرقية ومذهبية ضيقة الأفق قد تضر إذا ما تسلطت حتى عبر الانتخاب.. وحتى يصل التغيير إلى جسد الأدب – والثقافة عموما يلزمنا التحرر أولا- في مهب التحول التاريخي الذي نعيش من النظر التقليدي لدور الأدب ومهمته في الحياة وحاجته للحرية التي لا نريد لها أن تصادر مجددا تحت لافتات الأنظمة البديلة ذات التصورات الضيقة.
هل يمكن ان يكون لهذه الثورات دور فاعل في جسد الثقافة العربي ؟
ستستفيد الثقافة العربية حتما من التغيير الحاد في الأنظمة والمؤسسات. ستفيد من هواء الحرية الذي لن يعود بإمكان أحد مصادرته أو محاصرة فضائه.يقول ماركيز إن الديكتاتور يعتبر الوطن بيته وحده يغلق أبوابه متى شاء ويطرد منه من يشاء.الآن لن يعود بإمكان أحد أن يسد فضاءها وهذا كمين مفخخ لعقلية الإسلاميين الذين يتصدرون البرلمانات العربية اليوم او يتسلمون السلطة – فلا الفتاوى ولا الاوامر ولا المحاكمات والمصادرات توقف عشق الحرية والكلام والكتابة بل حرية الخيال الذي اعتدوا عليه حتى باثر رجعي أنا أشير هنا لدعاواهم المقامة ضد ناشري ألف ليلة وليلة مثلا!!-
في احد حواراتك تطالب بقراءة الأدب الصهيوني الا يمكن اعتبار ذلك نوعا من التطبيع؟
كان قولي بضرورة قراءة الأدب العرقي لهدف محدد هو التعرف على مشغلاته وأنساقه وحتى ما يكتب ضمن عقيديات ورؤى مضادة لكشفها وعرض ما يخفى أو يترمز منها .لا تخيفنا قراءة الأدب الصهيوني إلا لهشاشة شعور بعضنا أن الآخر مادام ملغى من ذاكراتهم فهو منهزم إذن. أؤمن كثير أن فهم الآخر إن كان خصما كالمؤسسة الصهيونية ضروري لكشف خطابه وعناصره ورؤاه. وهذا ما فعله الشهيد غسان كنفاني مبكرا في كتابه عن الادب الصهيوني قبل عقود وكان وقتها في قلب حركة المقاومة وتصديها للاحتلال.
الاترى ان القصيدة سلسلة مترابطة يشكل القارئ إحدى حلقاتها المهمة وهي سلسلة تكاد تكون مقطوعة في الوقت الحاضر لعدم وجود قارئ حقيقي معرفي ؟
أعلم أن إجابتي ستكون تجريدية بصدد القارئ ؛ لأنني أتحدث دوما عن القراءة كفعل معرفي مؤثر في تشكيل النصوص وإعادة تمثلها حية رغم بعدها الزمني أحيانا. والقارئ مستودع للنصوص المتجاوزة والمتقدمة ولديه سجل افتراضي يتيح التهيؤ للتغير والتحديث . ولا يجب أن يحبطنا انصراف القراء وشح الإصدارات قياسا لما يجري في العالم ، فثمة دوما ما ينعش المشهد الثقافي لعل معارض الكتب ووجود القراء مهما كانت دوافعهم ونوع الكتب التي يبحثون عنها..
هل ان انحيازك لفترة الستينات واعتبارها الفترة الأجمل والأكثر ازدهارا دليل على فقر الحاضر؟
هذا صحيح للأسف، نتذكر الستينيات ببهائها الشامل على مستوى الكتابة والفن والتلقي والحراك الصحفي والسياسي والوعي بالزمن والصلة بالعالم.هذا ما عشناه كشهود على المرحلة .ولم يستجد ما يدحض تصورنا. وكلما أفضنا في تأمل الحاضر الثقافي ازددنا تمثلا لتلك المرحلة الخصبة من حياة المجتمع وثقافته.
هل للمجايلة اثر ما على تقييم العمل الأدبي والكاتب ؟
ذاتيا نعم . فالمتجايلون يحملون العناصر ذاتها من حيث التربية الادبية والمؤثرات والمتغيرات.لكن الناقد يكشف عما لم يتبلور بعد فنيا او يستقر جماليا لا سيما ما يتعلق بالأشكال وجدلها وصراعها .لذا قد يتجاوز مجايليه لينطلق من تجريد نظري يسقطه على النصوص، وصولا إلى القوانين الفاعلة في التحديث .
لماذا يرفض أكثر الكتّاب فكرة تجنيس الأدب ؟
لا أدري كم من الكتاب يرفض التجنيس وأحسبهم قلة ، ربما لجهلهم دلالة التجنيس ؛ لأنها تأتي من اعراف النوع أو الجنس الأدبي ، وتراكم خصاله ومزاياه بتراكم أفراد النصوص. الجهل ايضا بالشعرية وانتظام عناصر النصوص تجعل النظر عندالقراءة قاصرا ،لكن المتلقي يتلقف ما يصله نصا ولا تهمه كثيرا ابتداعاته داخل نوعه.الكاتب بكونه مبدع النص تتركز في ذاته هوية ما للنص ، هي التي ستجدد جنسه مهما اختلط بسواه مستفيدا منه أو معارضا له.
انت الآن خارج العراق كيف تنظر الى المشهد الثقافي العراقي.. هل احتوى التجربة العراقية الصعبة.. وهل تمكن من تمثلها وتجاوز المحنة؟
أحسب أني أجبت ضمنا عن تساؤلك المهم والحيوي هذا.ولا بأس من القول بأن ذلك يتطلب زمنا ورؤية لا يختلط فيها اليومي والعابر والتكتيكي!المشهد الثقافي العراقي متجدد ومتعدد .وثراؤه يكمن في ذلك لا سيما في فضاء من الحرية والصدق.أما عن تجاوز المحنة وعبورها فلا يتم ذلك ثقافيا إلا باعتبار الثقافة ظهرا لما يحدث في اللحظة الحرجة الراهنة. ولهذا علينا ان ننتظر ونمنح الثقافة زمنا يكفي لاحتواء زلزال الحياة وبركان الواقع.ولكن أمام ثقافتنا اليوم مهمة عاجلة هي تجاوز محنتها الخاصة والتخلص من الثنائيات القديمة كالفن والهدف الاجتماعي ، وثقافة الداخل والخارج ،والتقليد والتحديث.. والمباح والمتاح ، وغيرها..
ماذا تقترح على وزارة الثقافة للنهوض بواقع الكاتب العراقي وضمان حقوقه ؟
منذ زمن وبتجربة عملية صرت أؤمن أن الكاتب لا منقذ له سواه! بيديه يشق طريقه ويفتح له افقا وكذلك موقعا في مجتمعه وعالمه.لاحظي أن الثقافة كمؤسسة هي دوما بيئة طاردة لا يتولاها إلا من لا علاقة له بالثقافة جهلا او موقفا.. ويكون التعامل بين هؤلاء والكتاب تعاملا فوقيا يمنحون ويمنعون ويخططون بلا دراية.. ولكن إن كان لابد من أمنية فهي أن نتعلم من أخطاء الأنظمة المتسلطة وثقافتها المعلبة ، وندع العقول والافئدة تبدع بحرية ونقابلها باهتمام يناسب قيمتها الروحية..
تم اختيار بغداد كأسوأ مدينة عربية.. !
أتساءل بأي مقياس؟ خرابها الحاضر بتداعي أزماتها وإهمالها أم بالحكم على وجودها الافتراضي كله؟ عاصمة الشرق والمغرب ودولة العرب والمسلمين لأكثر من خمسة قرون ، ومحفل العلم والشعر والحداثة والجمال بكل معانيه يتم اختيارها لتكون أسوأ مدينة؟ ماذا سنقول إذن عن مدن يصفها البياتي بأنها مدن بلا فجر تنام.. مدن تعلك الروح ولا تعطيك إحساسا بالعراقة أو الهوية.. ملصقات معمارية وهجنة لغوية وبشرية وجفاف! تناظر ممل ومنظور ضيق وأفق رمادي بلا نور أو لون نوراني .
بغداد دعكِ رشا حتى من الأدبيات والغنائيات التي تمجدها ذات رنين سحري ، الشعر يعليها والماء والتاريخ وكل مفردة من يومياتها وماضيها. بغداد بستان أبدي لا تيبس أوراق أشجاره . تتجدد وتنشر ظلالها.أكبر من مدينة وأبعد من مكان على الخارطة.
هل يمكن للذاكرة ان تتجاوز وعورة ارضها وتتنصل من جراحها.. وتقرر ان العودة ممكنة.. وان الحلم ممكن؟
الإنسان كائن متفرد في غرابته وإصراره. ضاق به كوكبه فوسعت خطاه الفضاء ليجد كواكب بعيدة وأمكنة عصية على الإحاطة. واتجه للماء يروض أمواجه.. يجعلها طرقا للعيش وطرقات للمسير ولحظات للشعر والتأمل والعبر. هذا هو: الغالب شيخوخته وضعفه، وهازم طغاته وجلاديه، وعروشهم وقصورهم ،وفقره ومرضه.فلماذا لا نحلم مثل ما حلمت السلالة كلها: رأت الطير فحلمت بما يجعلها تطير، والسمك فغاصت سابحة في السطوح والأعماق.الأشياء اليوم كلها من أحلام الأمس.فلنحلم لعلنا نمشي من جديد آمنين في السراي سراي الكتب- ونجلس منتشين بدجلة وشاطئها في أبي نواس الشارع ورؤى النواسي الشاعر تحف بنا وتحرس ساعاتنا المتاخرة برخاء واسترسال.ونرى نصب الحرية والقباب الذهبية والمنائر وأبراج الكنائس ورؤوس النخيل ونوارس الشاطئ ونملأ منها الأعين؟العودة ممكنة والحلم قيد الإمكان أيضا .موجود داخلنا بالقوة ومخفي في الفعل فحسب.يمشي في القصائد والأحلام والكوابيس ايضا!
كيف وجد الشاعر فيك منفاك الجديد.. ام نقول وطنك البديل؟
لا أتفق معك على وصف المنفى بأنه الوطن البديل. كتب الماغوط مرة متهكما عن اوطان يتم تبادلها كالمرافقات في الرقص أو كالأنخاب .ذاك افتراض مزاجي عن لعنة الخلاص من حبيب أو خلية في الجسد.قدريا كانت هجرتي وأنا في عمر متقدم تتكثف فيه الأشجان والعواطف ويصعب التكيف، فضلا عن أنني لا أعدها حلا شخصيا لي كإنسان- ولا للجماعة- كبشر يعانون في اوطانهم صنفا من الغربة التي وصفها التوحيدي بالغربة الغريبة وآعتبرها أشد أنواع الغربة أذى ولوعة. وكثيرا ما رددت قول عوليس لمدن السواحل التي اعاقت طريقه عائدا لإيثاكا: لقد ألقت بنا السفن مرغمين على شواطئك. واليوم أجد تلك الشطآن جزءا من حل. تؤاسينا من حيث جرحتنا الاوطان.سرقت منا الأبناء مخطوفين او قتلى بلا سبب أو معنى.ولم تكافئ ثلاثة عقود من العمل وعمر من الكتابة وتاريخ امكنة وزهو مدن وسلامها وفنونها وشعرها وسحرها وسرها، وأبدلته بخرافة عسيرة على الفهم ،تتداولها أجساد معطلة العقل تلفها كالأكفان الدشاديش القصيرة والعمائم واللحى وتسيرها عمياء خرساء تفاهات الفتاوى والديماغوجية السياسية شديدة النفوذ لدرجة صرنا معها نعتبر كل يوم افضل من سابقه. وتلك علامة سقوط الأمم واضمحلالها منذ كشوفات فكر ابن خلدون حتى تعديلات ميشيل فوكو .