يُعدّ لويس بونويل (1900 بإسبانيا ـ 1983 بالمكسيك) أول مخرج طليعي تجريبي درامي سورياليّ. وقد أخرج أول أفلامه «كلب أندلسيّ» الذي نال به مصداقية فنية عام 1928. ودام نشاطه السينمائي حتى وفاته قرابة نصف قرن، وتركّز في كلّ من: موطنه الأم إسبانيا، المكسيك، فرنسا، أمريكا. ويعتبره نقّاد السينما من أكبر المخرجين في مجال السينما بالعالم حيث تعاملت أولى تجاربه السينمائية مع الأحلام والجنون في حياة الإنسان.
أسّس السينما السوريالية، وهو أستاذ السينما الصامتة والمسموعة، والتسجيلية والروائية، لكن أفلامه لم تكن كلها سوريالية، بل كان بعضها درامياً واقعياً أو تمثل الواقعية الجديدة. وتتمثّل أهدافه في: السخرية من الثقافة البورجوازية والاشتراكية والفاشية والكنيسة، حيث قال مرة «لقد ميّز التعليم الدينيّ والسوريالية أهم معالم حياتي».
وقد تعاون مع الفنان الإسبانيّ سلفادور دالي في كتابة سيناريو فيلمه الأول «كلب أندلسيّ» (باسم ديوان بونويل الأول) الذي اعتبره سلاحاً سوريالياً لصدمة البورجوازية وانتقاد الفنّ الطليعيّ. ثم تعاون مع دالي مرة أخيرة في فيلم بعنوان «العصر الذهبيّ»، ثم هجر صناعة السينما حوالي عشرين عاماً، حتى انتهت الحرب العالمية الثانية، ثم انتقل إلى المكسيك، وتابع إلى أمريكا، فأنتج كوميديات تجارية كان يعيش عليها في أواخر أيامه. من أهم أفلامه: أرض بلا خبز، المنسيّ، هذه العاطفة الغريبة، سوزان، الصعود إلى الزنزانة، أسفار وهمية بالسيارة، النهر والموت، يوميات خادمة، سمعان الصحراويّ، تريستانا، شبح الحرية، غاية الرغبة الغامضة.
أما سلفادور دالي (1904 ـ 1989) فيُعدّ من كبار الرسامين السورياليين، وهو ظاهرة في حدّ ذاته أكبر أحياناً من قيمته كفنان، فقد سعى للكلام عن نفسه على مراحل يمرّ بها، كان آخرها قبل وفاته: دالي المقدّس. ومرّ دالي بعدّة مدارس في حياته الفنية: التكعيبية، المستقبلية، الميتافيزيقية، السوريالية، ولمهارته في الدعاية الذاتية، صار أشهر ممثلي الحركة الأخيرة على الإطلاق (ظهر بأول معارضه في لباس الغطس). سافر من إسبانيا إلى فرنسا، ثم إيطاليا، ثم أمريكا، وعاد 1955 إلى فرنسا وظلّ بها حتى وفاته.
أنشأ دالي نظرية «البارانويا النقدية»، حيث ينادي بأن ينمّي المرء نوعاً من الفِصام الحقيقيّ بينما يحتفظ بعقله منضبطاً في مؤخّر رأسه، وقال بإمكان ممارسة هذا في الشعر والفنّ، بل وفي الحياة اليومية أيضاً. وكان يوظّف في فنه بعض التقنيات، بالإضافة إلى بُعد الحلم غير الواقعيّ الذي يخلّق شخصيات لوحاته الغريبة، قائلاً «هي صور من واقع يد الأحلام» من قبيل: البشر الخارجين من الأدراج، الزرافات المحترقة، الساعات السائلة كأنها من شمع ذائب. وغير الرسام، كان دالي نحاتاً وفنان حفر ومصمّم كتب ومجوهرات وديكور مسرحيّ. وكتب رواية «وجوه خفية»، وساعد هيتشكوك في سيناريو فيلم «الدائخ»، 1945.
كتب دالي مع المخرج السورياليّ بونويل سيناريوَي فيلمين: كلب أندلسيّ والعصر الذهبيّ، ويُعتبران أولى الأفلام السوريالية في العالم. لكنه انفصل عن بونويل سريعاً، وعاش كلٌ لفنه، فصار دالي أشهر الشخصيات الفنية في القرن 20، وصار بونويل من كبار المخرجين الذين يتميّزون بحسّ عال وخيال غرائبيّ في طريقة صنع أفلامه، وكتابتها أحياناً.
ونترجم هنا نصّ سيناريو الفيلم الطليعيّ التجريبيّ «كلب أندلسيّ» الصادر ضمن كتاب «خيانة لا تُوصف: كتابات مختارة من لويس بونويل»:
مفتتح
كان يا ما كان…
شرفة ليلاً.
رجل يقف جنب نافذة، يشحذ موسى. يتطلّع إلى السماء فيرى سحابةً تتحرك نحو قمر بدر.
وبينما تمرّ السحابة عبر وجه القمر، تقطع شفرة الموسى عين امرأة شابة.
نهاية المفتتح.
بعد ثماني سنوات
شارع مقفر. والدنيا تمطر.
يبدو رجل مرتدياً بدلة رمادية داكنة وهو يركب دراجة. رأسه وظهره ومنطقة العانة مزيّنة بكشكشة من كتّان أبيض. علبة مستطيلة بشرائط سوداء وبيضاء مائلة مربوطة إلى صدره بحزام. يبدّل الرجل قدميه بصورة آلية من دون أن يمسك مِقْودَي الدراجة، بينما ترتاح يداه على رُكبتيه.
يُرى الشخص من الوراء مائلاً على فخذيه بلقطة متوسّطة، يركب بطوله نازلاً الشارع وهو يقود الدرّاجة، بظهره إلى الكاميرا.
يتحرك الشخص ناحية الكاميرا حتى تبدو العلبة المربوطة في لقطة مقرّبة.
غرفة عادية بالدور الثالث في الشارع نفسه. امرأة شابة تلبس رداءً بألوان فاقعة، تجلس بمنتصف الغرفة منتبهة وهي تقرأ كتاباً. يتشتّت انتباهها فجأة عن القراءة. تُنصت بفضول، قبل أن تُحرّر نفسها من الكتاب بأن تلقيه نحو أقرب أريكة. يظلّ الكتاب مفتوحاً مع نسخة من لوحة فيرمير «المطرّزة» على إحدى الصفحات المقلوبة لأعلى. تقتنع المرأة الشابة الآن أن شيئاً غريباً يحدث: فتنهض، وبنصف دورة تسير بخطو سريع إلى النافذة.
الشخص الذي ذكرناه من قبل توقّف في هذه اللحظة، تحت بالشارع. بدون أن يطرح أدنى مقاومة، ومن غير كسل، ينزل بالدرّاجة في مصرف، وسط كومة من الطين.
تسرع المرأة الشابة للنزول على السلالم، وتبدو مستاءة غاضبة، ثم تخرج للشارع.
لقطة مقرّبة للشخص وأطرافه مترامية أرضاً، بتعبير جامد، وضعه شبيه بلحظة سقوطه.
تخرج الشابة من المنزل، وتلقي بنفسها على راكب الدرّاجة، فتقبّله بجنون في فمه، وعينيه وأنفه. يصبح المطر أغزر حدّ أنه يلطّخ المشهد السابق.
تذوب شرائط العلبة المربوطة بسبب المطر. تتجهّز اليدان بمفتاح صغير لفتح العلبة، ونزع ربطة العنق الملفوفة بورق شفّاف. يُؤخذ في الحُسبان أن المطر والعلبة والورق الشفّاف وربطة العنق ستُبدي كلّها الشرائط المائلة، بقياساتها المتفاوتة وحدها.
الغرفة نفسها.
تقف المرأة الشابة جنب الفراش، تتطلّع في قطع الملابس تلك التي أبلاها الشخص ـ الكشكشة، العلبة، والياقة المنشّاة بربطة العنق السوداء السادة ـ موضوعة كلّها كأن شخصاً على الفِراش أبلاها. تقرّر المرأة الشابة أخيراً التقاط الياقة، وتنزع ربطة العنق السادة لتضعها محلّها مع تلك المقلّمة التي أخرجتها تواً من العلبة. ترجعها للمحلّ نفسه، ثم تجلس جنب الفراش بوضعية شخص يراقب ميتاً من علٍ.
(ملاحظة: الفِراش، أو بالأحرى مفرش السرير والمخدّة، مجعّدة قليلاً ومتهدّلة كأن جسماً بشرياً كان راقداً هناك فعلاً)
تحسّ المرأة أن أحداً يقف خلفها فتستدير لترى من هو. دون أدنى مفاجأة، ترى الشخص، وهو الآن من غير كمالياته السابقة، لكنه يتطلّع منتبهاً إلى شيء براحته اليمنى. ويفضح هذا الاستغراق الكبير سرّ القلق الكبير.
تدنو المرأة لترى بدورها ما يضعه في يده. لقطة مقرّبة لليد، وسطها زاخر بنمل يخرج مزدحماً من ثَقب أسود.
نقترب من شَعر إبط امرأة شابة تسترخي على الرمل في شاطئ مشمس. نقترب من قنفذ بحريّ تترقرق أشواكه طفيفاً. نقترب من رأس المرأة الشابة بلقطة من فوق الرأس قوية في إطار زهرة سوسن. تتفتّح زهرة السوسن لتكشف المرأة الشابة ضمن حشد من الناس يحاولون تحطيم حاجز للشرطة.
تمسك المرأة الشابة، بمنتصف هذه الدائرة، عصا، وتحاول التقاط يد مقطوعة بأظافر ملوّنة كانت راقدة على الأرض. يقترب منها شرطيّ، يؤنّبها بشدّة؛ ثم يميل ليلتقط اليد ويلفّها في حرص ليضعها في العلبة التي كان يحملها راكب الدرّاجة. يسلّمها للمرأة الشابة، ثم يُحيّيها بطريقة عسكرية ريثما هي تشكره.
بينما يسلّمها الشرطيّ العلبة، يغلبها انفعال فوق العادة يعزلها عن كلّ ما حولها. كأنها مأسورة ضمن أصداء موسيقى دينية بعيدة؛ قد تكون موسيقى سمعتها في بواكير طفولتها.
لدى تشبّع فضولهم، يبدأ المارة التفرّق في جميع الاتجاهات.
سيرى هذا المشهد الشخصان اللذان تركناهما في غرفة الطابق الثالث. فنراهما بين ألواح نافذة الشرفة التي تتّضح بنهاية المشهد الموصوف أعلاه. حين يُسلّم الشرطيّ العلبة للمرأة الشابة، يظهر بالشرفة الشخصان مغلوبين بالانفعال نفسه حدّ الدمع أيضاً. يتمايل رأساهما كمن يتتبّع إيقاع تلك الموسيقى غير المحسوس.
يتطلّع الرجل إلى المرأة الشابة بإيماء من يقول: «أرأيتِ؟ ألم أخبرك بهذا؟» فتُخفض بصرها ثانيةً نحو المرأة الشابة التي في الشارع وقد صارت وحدها الآن تماماً، وكأنها مسمّرة إلى البقعة، في حالة من الكبت الكلّي. تمرّ العربات من حولها بسرعات خاطفة. وفجأة تصدمها إحدى هذه العربات فتُخلّفها هناك مشوّهة بشكل مرعب.
يمضي الرجل، حينذاك، بحسم رجل يعرف حقوقه جيداً، إلى رفيقته، ولدى تحديقه مباشرةً في عينيها بشكل فاسق، يقبض على ثديَيها من فستانها. لقطة مقرّبة لليدين الملتذّتَين فوق الثديَين. يبدوان عاريَين بينما يختفي الفستان. تعبير مفزع من عذاب مميت بوجه الرجل، ثم يسيل لعاب مشوب بالدم من فمه ينقّط فوق الثديَين العاريَين للمرأة الشابة.
يختفي الثديان ليستحيلا فخذَين يواصل الرجل جَسّهما. يتغيّر تعبير وجهه. تفورُ عيناه بالغلّ والشهوة. فمه الذي كان مفتوحاً على اتساعه يُغلَق الآن كمن زَمّه بالعضلة العاصرة.
تتحرك المرأة الشابة عائدةً لمنتصف الغرفة، يتبعها الرجل وهو لا يزال بالوضع نفسه.
تقوم فجأةً بحركة قوية، تقطع احتضانه لها، فتحرّر نفسها من تمهيداته الغرامية.
يزمّ الرجل فمه مُغضَباً.
تدرك أن مشهداً عنيفاً أو مزعجاً على وشك الحدوث. تستعيد الحركة، خطوةً بعد خطوة، حتى تبلغ ركن الغرفة، حيث تتّخذ وضعاً خلف طاولة صغيرة.
متّخذاً ملامح شرير بميلودراما، يتطلّع الرجل حوله من أجل شيء أو آخر. يرى عند قدميه طرف حبل فيلتقطه بيده اليمنى. تتلمّس يده اليسرى أيضاً، فتمسك حبلاً مماثلاً.
ترقب المرأة الشابة في رعب، وهي ملتصقة بالحائط، حيلة مهاجمها.
يتقدّم الأخير ناحيتها وهو يسحب بجهد بالغ ما كان متّصلاً وراءه بالحبلين.
نرى أمام أعيننا على الشاشة أشياء عابرة: فلّين، أولاً، ثم بطيخة، ثم أخوين من المدارس المسيحية، وفي النهاية بيانوين اثنين ضخمين رائعين. البيانوان مُحمّلان بجُثتَي حمارين متعفنتَين، بأرجلهما، بذيليهما، بمؤخّرتيهما، بالبراز المسكوب على الصندوقَين. بينما يمرّ أحد البيانوين أمام عدسات الكاميرا، يُرى رأس حمار كبير عابراً فوق المفاتيح.
وبينما يشدّ الرجل هذه الحمولة بصعوبة بالغة، ينجذب يائساً نحو المرأة الشابة، فيتخبّط بالكراسي والطاولات ولمبة السقف، إلخ. تنحشر مؤخّرة الحمار في كلّ شيء. ترتطم لمبة معلّقة من السقف بعَظمة مجرّدة، وتظلّ تهتزّ حتى نهاية المشهد.
حين يكون الرجل على وشك بلوغ المرأة الشابة، تراوغه بنطّة ثم تهرب. يترك مهاجمها الحبلَين ويبدأ ملاحقتها. تفتح المرأة الشابة باباً وتختفي في الغرفة المجاورة، لكن من غير السرعة الكافية لأن تغلق الباب خلفها. فتمسك يد الرجل بالرسغ في المدخل، وتأسره.
المرأة الشابة، داخل الغرفة الأخرى، تضغط الباب بشدّة أقوى، وتنظر إلى اليد التي تتوجّع من ألم بحركة بسيطة، بينما يعاود النمل ظهوره محتشداً على الباب.
تُدير المرأة الشابة رأسها بعيداً نحو منتصف الغرفة الجديدة، وهي مطابقة للغرفة السابقة، وعند إضاءة النور تمنح نظرة مختلفة؛ فترى…
رجلاً تمدّد على الفِراش، هو الرجل نفسه ذا اليد الممسكة بالباب. يلبس شيئاً بكشكشة، مع العلبة التي ترتاح على صدره، ولا يبدي أدنى حركة، لكنه راقد هناك، عيناه مفتوحتان على وسعهما، تعبير وجهه الخرافيّ كمن يقول: «هناك شيء فوق العادة على وشك الحدوث الآن فعلاً!»
قرب الثالثة صباحاً
يُرى شخص جديد من الوراء على الرصيف؛ توقّف تواً جنب باب مدخل الشقّة. يرنّ جرس الشقّة حيث تدور الأحداث. لا نرى الجرس ولا المدقّة الكهربية، لكن محلّها، فوق الباب، ثقبان تمرّ من خلالهما يدان ترجّان كأس هزّاز كوكتيل فضياً. أداؤهما لحظيّ، كما بالأفلام العادية، حتى يضغط أحد زِرّ جرس الباب.
يحدّق الرجل الراقد بالفِراش أعلاه.
تمضي المرأة الشابة فتفتح الباب.
يمضي الوافد الجديد مباشرة نحو الفِراش، آمراً الرجل بغطرسة أن ينهض. يمتثل الرجل على مضض حتى يُضطر الآخر أن يمسكه من الياقة المكشكشة مجبراً إياه للوقوف على قدميه.
ولدى تمزيقه كشكشة قميصه واحدةً بعد أخرى، يلقي بها الوافد الجديد من النافذة. تتبع العلبة الجولة نفسها وكذلك الشرائط، التي يحاول الرجل يائساً أن ينقذها من الكارثة. ويؤدّي هذا بالوافد الجديد إلى معاقبة الرجل بأن يجعله يمضي فيقف بوجهه ناحية أحد الحوائط.
سيؤدّي الوافد الجديد هذا كلّه وظهره مستدير تماماً ناحية الكاميرا. يستدير في هذه اللحظة للمرة الأولى كي يذهب ويبحث عن شيء في الجانب الآخر من الغرفة.
من ستة عشر عاماً
يصبح التصوير لدى هذه النقطة غائماً. يتحرك الوافد الجديد بحركة بطيئة ونرى ملامحه مطابقة لملامح الآخر؛ فهما واحد وهما الشخص نفسه، لكن، لوجه الحقيقة، يبدو الوافد الجديد أكثر شباباً وأشدّ كآبة، كما كان الآخر من سنين أعقبت.
يمضي الوافد الجديد ناحية ظهر الغرفة تتبعه الكاميرا فتجعله بمنتصف لقطة مقرّبة.
طاولة المدرسة التي يتّجه إليها شخصنا تدخل إطار الصورة. على طاولة المدرسة كتابان، إضافة إلى أشياء مدرسية منوّعة، موضعها ومعناها الأخلاقيّ محدّدان بعناية.
يلتقط الوافد الجديد الكتابين ويستدير ليذهب منضَمّاً إلى الرجل الآخر. ولدى هذه النقطة، يعود كلّ شيء إلى طبيعته، فيختفي الضباب والحركة البطيئة.
لدى وصوله للرجل، يقوم الوافد الجديد بتوجيهه كي يمدّ ذراعيه بوضعية الصليب، واضعاً كتاباً في كلّ يد، ويأمره أن يظلّ هكذا نوعاً من العقاب.
استحالت تعبيرات الشخص المُعاقَب الآن متحمّسةً وغدّارةً. ثم تحوّل ليواجه الوافد الجديد. وتحوّل الكتابان اللذان كان يمسكهما إلى غدّارتين.
يتطلّع فيه الوافد الجديد برقّة، وهو تعبير يتّضح أكثر مع كلّ لحظة عابرة.
أما الآخر، فيهدّد الوافد الجديد بمُسدّسيه غاصباً إياه أن يرفع يديه لأعلى، غير ملتفت إلى إذعان الأخير، ثم يطلق النار عليه من كلا المُسدّسين. لقطة مقرّبة متوسّطة للوافد الجديد وهو يرتمي جريحاً إلى حدّ مميت، تتلوّى ملامحه في عذاب (يُستأنف غموض الصورة، ثم تبدو سقطة الوافد الجديد بحركة بطيئة، بطريقة أشدّ وضوحاً مما سبق).
نرى الرجل الجريح عن بُعد وهو يسقط؛ وهو عموماً لم يعد داخل الغرفة، بل في حديقة. تجلس جنبه امرأة ساكنة بكتفين عاريين، وتُرى من الخلف، وهي تميل طفيفاً للأمام. بينما يسقط الرجل الجريح، يحاول أن يمسك كتفيها ويداعبهما؛ تستدير إحدى يديه، فتهتزّ ناحيته هو؛ أما الأخرى فتمسّ برقّة جلد الكتفين العاري. ثم يسقط في النهاية أرضاً.
منظر من بعيد. عدد من المارة وعديد من حرّاس الحديقة يندفعون لنجدته. يقيمونه بين أذرعهم ثم يحملونه بعيداً عبر غابة الشجر.
يخبو النور بطيئاً، ثم…
نعود إلى الغرفة ذاتها. باب، هو نفسه الذي أمسك باليد من قبل، يُفتح الآن ببطء. تظهر المرأة الشابة التي تعرّفنا إليها سابقاً. تُغلق خلفها الباب ثم تُحدّق بانتباه بالغ في الحائط المواجه حيث يقف القاتل.
لم يعد الرجل هناك. الحائط عارٍ، من دون أثاث أو ديكور. تعطي المرأة الشابة ملمحاً من الغيظ ونفاد الصبر.
يُرى الحائط من جديد؛ بمنتصفه بقعة سوداء صغيرة.
ولدى رؤيتها أقرب، تبدو البقعة الصغيرة كأنها الموت برأس فراشة.
لقطة مقرّبة للفراشة.
رأس الموت على جناحَيْ الفراشة يملأ الشاشة كلّها.
الرجل الذي كان يلبس قميصاً بكشكشة يخرج فجأة للعيان بلقطة متوسّطة، يرفع يده مسرعاً نحو فمه كمن فقد أسنانه.
ترمقه المرأة الشابة بازدراء.
حينما يبعد الرجل يده، نرى فمه وقد اختفى.
تبدو المرأة الشابة كأنها تقول له: «طيب، وماذا بعد؟»، ثم تلمس شفتيها بإصبع روج.
نرى رأس الرجل من جديد. يبدأ الشَعر الاستنبات حيث كان فمه.
لدى رؤيتها هذا، تخنق المرأة صرخةً ثم تفحص إبطها بسرعة، وكان عندئذٍ عارياً تماماً. فتُطلع لسانها باحتقار إليه، ثم تلقي شالاً على كتفيها، وبفتح الباب القريب منها، تمضي إلى الغرفة المجاورة، وكانت عبارة عن شاطئ واسع.
ينتظرها شخص ثالث قرب حافّة الماء. يُحيي كلّ منهما الآخر بودّ بالغ، ثم يتسكّعان معاً على طول خطّ المياه.
لقطة لأرجلهما والموج يتحطّم عند أقدامهما.
تتتبعهما الكاميرا بلقطة ناعمة. يجرف الموج إلى الشطّ برقّة: الشرائط، ثم العلبة المقلّمة، متبوعة بالقميص المكشكش، والدرّاجة أخيراً. تدوم هذه اللقطة لحظة أطول من دون أن ينجرف شيء آخر إلى الشطّ.
يواصلان عملهما على الشطّ، يشحبان قليلاً فقليلاً من المنظر، بينما تظهر بالسماء الكلمات التالية:
في الربيع
كلّ شيء قد تغيّر.
نرى الآن صحراء بلا نهاية. نرى الرجل والمرأة الشابة في المنتصف، يغطسان في الرمال إلى أعلى صدريهما، يعشَى بصرهما، ملابسهما يُرثى لها، تفترسهما الشمس وحشود من الحشرات.
لقطة النهاية.
v v v
بين بونويل ودالي ولوركا
يقول الشاعر المكسيكيّ أكتافيو باث «ليست السوريالية مدرسة شعرية، بل حركة للتحرر، طريقة لإعادة استكشاف لغة البراءة، تجديد لميثاق أساسيّ أن الشعر هو النصّ في أصله، قاعدة للنظام البشريّ، السوريالية حركة ثورية لأن فيها عودة إلى بداية البدايات». وفي شقة بمدريد عاش ثلاثة: المخرج لويس بونويل والفنان سلفادور دالي والشاعر جارثيا لوركا عقداً من الزمان (1920 ـ 1930)، أسسوا معاً جماعة شعرية عُرفت باسم «جيل 27»، وقد استلهموا فكرتهم من لوحات بيكاسو التكعيبية، وعملوا أساساً ضدّ الرومانتيكية الشائعة وقتها في إسبانيا. وكتب بونويل ودالي، بإلهام من العلاقة مع لوركا، الشاعر والمسرحيّ، سيناريو فيلم «كلب أندلسيّ»، أتبعاه بفيلم ثانٍ هو «العصر الذهبيّ»، كانا يهتمان فيه بتشريح خطوط جسم الأنثى والعلاقات الغرامية. كما ساعد لوركا دالي في إخراج دراما تاريخية. لكن تأثيرات لوركا كانت بعيدة عن السوريالية. لقد ثبّت لوركا شهرته على أنه «شاعر أندلسيّ» أو «غجريّ»، وحين زار أمريكا اكتشف أصوله الإفريقية. وفي 1930 صار لوركا ودالي غريبين، لبُعد البون بين رؤية كلّ منهما للفنّ. لكن حين سافر لوركا إلى غرناطة في ذروة الحرب الأهلية، قُتل، على يد القوات الفاشية، وصار شهيداً بالنسبة لجيل من الفنانين ورمزاً للتغير في المشهد الفنيّ قرب منتصف القرن العشرين في غرب أوربا. ونترجم هنا قصيدة لوركا «مدينة لا تنام» التي كتبها عام 1929، بعد عودته من نيويورك:
«حذار! كن حذراً حذار!
ممّن يحملون علامات المخلب والعاصفة،
والولد الباكي لأنه لم يسمع باختراع الجسر،
أو الميت الذي لا يملك غير رأسه وفردة حذاء،
علينا بحملهم للجدار حيث تنتظر السحالي والحيّات،
حيث تنتظر أسنان الدبّ،
حيث تنتظر يد الولد المحنّطة،
ويقف شَعر الناقة منتصباً برِعدةٍ مزرقّة عنيفة».
فيلم «العصر الذهبيّ»
بين دالي وبونويل
هو الفيلم الثاني والأخير من ثمار التعاون الفنيّ بين المخرج السورياليّ لويس بونويل والفنان السورياليّ سلفادور دالي، بعد «كلب أندلسيّ»، وقد عُرض فيلم «العصر الذهبيّ» عام 1930، في 60 دقيقة، وهو من أداء: جاستون مودو (الرجل) وليا ليز (المرأة) وماكس إرنست (اللص)، وتكلّف وقتها مليون فرنك. ظلّ هذا الفيلم ممنوعاً فترة طويلة، بعدما ألقت مجموعة فاشية مناهضة للسامية قنبلة مسيلة للدموع في دار سينما باريسية كان يُعرض فيها، كما أحدثوا بها شغباً، حيث ألقوا حبراً وبيضاً فاسداً على الشاشة، وأتلفوا لوحات لمعظم السورياليين كانت في ردهة العرض. عارضته الصحافة المحافظة واعتبرته فيلماً إباحياً، حتى صودرت نسخه من قبل الشرطة، وللأسف دام هذا المنع نصف قرن، ثم أُعيد عرض الفيلم تقديراً له في أمريكا عام 1979. لكنه كان قد فقد ساعتها رونقه وتمرده. والفيلم مبنيّ على رواية «120 يوماً في سدوم»، للروائيّ الفرنسيّ الملعون الماركيز دو ساد. وتدور قصة الفيلم حول عاشقين يعلنان الحرب على المجتمع البورجوازيّ الفرنسيّ. كما يصوّر لحظات سوريالية واحدةً بعد أخرى: شحّاذ يُضرب بعنف، عجوز مهيبة تُصفع، أب يطلق النار على ابنه. ويهدف الفيلم إلى تتبّع اهتمامات زمانه: غراميات محبطة، قهر المجتمع للحسّ الجنسيّ، شيوع قيمة العنف الجسديّ، التهكم على رجال الدين. وقد وصفه المؤرخ السينمائيّ جورج سدول بأنه «فيلم فريد في عنفه، في نقائه، في سُعاره الغنائيّ، وفي إخلاصه التامّ لفنّ السينما». ويُعدّ فيلم «العصر الذهبيّ» اليوم شهادة على القيم البالية للحضارة الغربية.