الحمامة
كان أتونابشتم يتأمل الأفق وحيدا، فوق السفينة، عندما عادت الحمامةُ، الحمامة البيضاء، حمامة الطوفان، عادت بعد قرون طويلة من الطيران فوق المشانق والقتلى .
حامت حول رأسه عدة مرات، ثم ضمّتْ جناحيها إلى بعضيهما، وبسرعة خاطفة رمتْ بنفسها إلى السفينة، وسقطتْ ميتة بين قدميه .
مخطوطة الأعشاب الغامضة
مثل نبي جُنَّ من مقالب شعبه، أقطعُ الليل جيئة وذهابا، رغم أني كتبتُ ما قد رأيتُ: هي رؤيا تجلّت لي وحدي، في لحظة نادرة، فأخلصتُ لها.
الطوفانُ نثر، وهو يقتربُ، والهروب شِعر، وما من مَهرب إلا الخيال: لا غابة أو بستان في هذه البلدة، وأنا لم أجمع خشبا لبناء السفينة .
– « إذهبْ إلى الجحيم أنتَ والشِعر والطوفان، أما نحن فسنعتصم بالجبل».
وما من جبل، وهذا ما يجعلُ الأمر محيّرا:
لم أدّعِ الشِعر، فأنا عادة لا أخبر أحدا عمّا أكتبُ، مع ذلك فهم يخنقون الاشراقة، و يؤدون أدوارهم بإتقان يبعثُ على الجنون .
ـ « لماذا تفعل بي هذا، يا إلهي؟»
صرختُ به في معابد « شروباك» لكن لا يبدو عليه أنه كان يسمع، وسط سيل من الحجارة: ينبجسُ من مَسام الجدران، من النوافذ، وأنا راكعٌ أمام تمثاله الضخم، فخرجتُ حزينا ويائسا إلى البيت، وهناك جلستُ القرفصاء في زاوية نفسي .
استغرقتُ طويلا في التحديق إلى مخطوطة هذه القصيدة . ربما توغلتُ عميقا في داخلها: حفرتُ الليلَ والنهارَ، ومشيتُ محاطا بقبائل الأرق، حيث لا أرض هناك ولا سماء، حتى خـُيـّل إلي أني قد اخترقتُ العصور، فرأيتُ ما رأيتُ: جلجامش، في الأخير، منهوش القلب، يطرق بابي، بحثا عن سرّ الخلود .
مَن يفهمني ؟!
إن الأمر ليس سوى تلك الأعشاب الغامضة في أقاصي الباطن، تنمو فتأخذ شكل قصيدة .
آه ، مَن يقنع هذا المجنون أن الفنان مثل ربان يتخلى عن معرفته بالبحر، طلبا لمتاهته الخاصة ؟
مَن يقنعه أن أكتاف الشاعر هزيلة، يلقي عليها الشِعرُ أمتعة ثقيلة جدا، قبل أن يمنحه موهبة العبور فوق مياه الأبدية، وحيدا ؟!
أخبار المرأة التي سكنتْ
الطابق الأعلى من البيت
المرأة التي سكنتْ الطابق الأعلى من البيت، التي لجأتْ إليّ هربا من الطوفان، والتي قالت موضحة، بعد أن شاركتني قنينة الفودكا، وأنهتها بجرعةٍ واحدةٍ: «لا تهمني النجاة، ولا الغرق: يهمّني هذا» وأشارتْ إلى قلبها، الذي سمعته يخفقُ بالمطر، ويضخُّ عاصفته، رياحَه، في كل الاتجاهات ..
كانت مسافرة على مركب أتونابشتم، لكن سجائرها نفدتْ هناك، إضافة إلى أنها رأت الناي، الذي حفرتْ ثقوبه بدموعها الحارة، طافيا فوق المياه، فألقتْ بنفسها، عارية، إلى لجّة الموسيقى التي لا يمكن أن يسمعها المتألم ، إلا بأن نسي أنه متألم لا لشيء بعينه، لكن ألمه لا يمكن أن يُنسى إلا بهذا، إلا بالقفز إلى قعر الألم بقوة، لأن ذلك مما يجعله بعيدا عن التداول، حتى وصلتْ إلى هذه البلدة المحروسة باليأس، وبأسوار من ذكريات غير واضحة، حتى بالنسبة لي: أنا الذي عمّرتُ ضواحيها، غسلتُ سواقيها بأحلامي، وعانقتها بشدة، كعاهة لا شفاء منها إلا باعتناقها كمذهب أو كديانة .
كنتُ أنتظرها لأن أسمها كان مذكورا في بطاقة الدعوة إلى الحياة: عندما تجد الجميع في انتظارك إلا حياتكَ، كما أن اسمها كان مكتوبا على الأسوار، مثل نبوءة . كان اسمها مكتوبا، ولا أحد يقرأ، لأن اسمها لم يكن مكتوبا لكن الكل يقرأ، غير أنني لم أتوقعها جميلة وبسيطة، كأول فجر عاشته الخليقة . لم أتوقعها حقيقية جدا، كما قلم الرصاص الذي كان طافيا، هو الآخر، فوق طوفان دموعي ، حاملا في صلبه فكرتي عنها، فكرتي التي لا يمكن أن تتجلى واضحة إلا إذا كسرتُ القلمَ وطردتُ، من رأسه، جَمالها الذي يتجاوزها كفكرة، ويمضي بعيدا، وصولا إلى اللا فكرة، فبعض الأشياء المستحيلة، لا تأخذ زينتها ولن تتحقق إلا إذا ألغيتها تماما، أو إلا إذا تبنيتها كحماقة ترتكبها بإتقان يضمن لكَ أن لا تكون رابحا أو خاسرا، لكنها يجب أن تحدث ـ كبطاقة دعوتكَ إلى الحياة ـ، في لحظة سُكر، في لحظة شعورية محضة، ثم تندم عليها طوال حياتك، التي مهما حاولت بعد ذلك، فلن تكون حياتكَ، لأن حياتك هناك، في اللا فكرة التي طالما حاولتَ أن تكون الجوهر من حياتك .
كنت بحاجة إليها وأنتظرها لنتشارك العوم في جسدينا حتى آخر رعشة، قبل أن تصطدم بالجدار ونكتشف أننا غارقان لا محالة، لكنها لم تكفّ، هذه المرأة، عن الغناء، ولا عن ضرب الأرض بقدميها، وهي ترقصُ عارية، أو تبكي من فرط الحنين على أشياء لم أفهمها، حتى فكرتُ أن أطردها، لأنها تخالف إيقاعي في تفجير المأزق، أو تحجزني داخل سجن فكرتي عنها، فلا أجرؤ على أن أرتكب حماقة، حماقة صغيرة، تؤكدني غير عابيء بما يحصل على ظهر هذا الكوكب، الذي فقد مغزى دورانه حول نفسه منذ آلاف السنوات، بل هي تجبرني على أن أمشي على حبل الأمل، كالبهلوان، في نفس اللحظة التي اقتلع فيها الطوفانُ كل شيء من جذوره، كما أنها كانت متأهبة للطيران في متاهة أطوارها المتقلبة، أو للقفز من النافذة، ومستعدة لأن تحزم حقائبها وترحل بإشارة مني، لكنني لم أفعل ذلك: لم أطردها، إذ لا بيت لي، لا طابق أعلى، لا قبو ، وأعيشُ وحيدا، مع مصيري، في العراء .
أنبتُ ورودا بين أقدام تماثيلكِ
كان أتونابشتم يلعنني، وهو يجمع الأخشاب، من غابة الخيال، ليصنع السفينة، وكنتِ تمسحين دموعي كلما فكّرتُ في التوبة، لأنني أكلتُ كلَّ تفاحاتكِ، ولأنكِ كنتِ سخية بما يكفي لأن ينصرف الشيطانُ إلى أعمال أخرى، كما أنكِ كنتِ وقحة، طفلة وقحة، بما يكفي لأن يتوقف الملاكُ عن ملاحقة ما يفيضُ به جسدكِ من حرائق مباركة .
تّوقعتُ أن أسقطَ، لأن أتونا بشتم كان غاضبا .
كان ساخطا كأي صياد نبيل، مزّقتْ شِباك أفكاره سمكةٌ طائشة، وكلما فكـّرت في العودة إلى أحضانه، كنتِ تفكين أزرار رغبتكِ، فيندلع القميصُ، وتفيضُ الأنهارُ، الترانيمُ، والمشاعلُ ..
وعندما هبّ مصيري، كما إعصار، وجرفَ الطوفانُ كلَّ شيء: عندما ارتفعتْ درجة ُ حرارة الظلام في العالم، كنتِ عارية، عارية جدا، بما يكفي لأن ينفجر البرقُ في داخلي، لكنني كنتُ هشا: كنتُ هشا بما يكفي لأن أكون إنسانا، لان أموتَ غرقا في الحب، ولأن أذوبَ شيئا فشيئا، ثم أترسبُ مع الغريّن، هنا وهناك، حيث سأعودُ ثانية، لأنبتَ ورودا، لا شكلَ لها، بين أقدام تماثيلكِ ..
كيف تفوز بوردة ؟!
عندما فتحتَ البابَ: دخلتَ بأحمالكَ، بما معكَ من أهوال، من متاهات ومن عواصف، وبما في جيوبكَ من غبار، وفوجئتَ أنكَ نفسكَ مازلتَ في غرفتكَ: لم تغادرها قط، مستلقيا على خرائط البلدان التي رأيتَ ، في سفركَ الطويل ..!
قصيدة نثر عن الطوفان الأخير
من صنبور مياه، في الفندق، سمعتُ صرخة اتونابشتم، فهززتُ رأسي بيأس: نظرتُ بحزن، من النافذة، ورأيته منهمكا بتحطيم أشجار الحديقة بفأسه الضخم، ثم تذكرتُ أن دوري في القصة هو أن اعتصم بجبل، عندما يفور التنور، فلم أجد بدا من الصعود إلى سطح البناية، والجلوس بانتظار إشارة من المُخرج، كي أموت غرقا ..
اعترف أنني مللتُ من هذا، لكن ماذا أفعل .. كي أنجو من الإفلاس، من شعوري بالخزي نتيجة خيانات عشتار المتكررة مع أصدقائي،
وكيف أتخلص من ثقل الزمن ؟!
كيف تصنع أسطورتك الشخصية ؟!
كان أتونابشتم يجلسُ بهدوء إلى جواري في الحانة، عندما دبّتْ فيه النشوة: فتح الخمرُ نوافذَ خياله، وبدأ بسردَ قصة الطوفان، فهطل المطرُ فجأة، وهبّت العاصفةُ من جميع الجهات، فجرفت كل شيء، لكنه ظلّ رابط الجأش ممسكا بقنينة الخمر، غير آبه بالمياه، التي ارتفعتْ إلى السقف، وارتفعتْ معها أحلامُ العالم .
كنتُ أبحثُ عن مَخرج من تلك الورطة، وكلما حاولت الخروج إلى الشارع كان يسحبني من ياقتي إلى الخلف، مواصلا سرد القصة، وعندما، أخيرا، أوقعه السُكرُ بالضربة القاضية، رأيتُ نداء حزينا في عينيه، ولم أتردد، فعانقته وصعدنا إلى السطح، فيما هو لا يزال مصرّا على مواصلة السرد .
لا أتذكرُ ماذا حصل بعد ذلك، لأنني فقدتُ الوعي من شدة الإنهاك، ولمّا استيقظتُ وجدته ينظرُ إلى الأفق الملبد بالغيوم، من خلف إحدى النوافذ، مثل ممثل يترقبُ، بقلق، متى ينطلق إلى العلن من خلف الستارة، حتى حانت اللحظة الذهبية، آه .. تلك اللحظة الخاصة جدا في حياة كل فنان: حلَّ أزرار قميصه، وأخرج من تحته حمامة: نظرَ إليها بحنو، قبّل ما بين عينيها ثم أطلقها، والتفتْ إلي، وهو يلوّح بقنينة الخمر الفارغة :
ـ لن أسمح لكَ بالخروج من الحانة، حتى أعرفُ أخبار الحمامة .
هذا هو دوري في مسرحية العالم :
هكذا تُصنع الأساطير: بالعرق وبالدموع .. يا صديقي !
* أتونابشتم: نوح البابلي، بطل اسطورة الطوفان، والنصوص أعلاه مختارات من مخطوطة شعرية قيد الانجاز تحمل نفس العنوان، عدا قصيدة ( انبتُ ورودا بين أقدام تماثيلك ) فهي مختارة من مجموعة ( الحب، حسب التقويم السومري ) التي ستصدر عن دار الجمل قريبا.