تقوم قصيدة الحداثة عند الشاعر السوري نوري الجراح في إطار الرؤية الجديدة التي تقدمها للذات والعالم واللغة على قاعدتين أساسيتين، أولهما التفاعل مع المنجزات الأساسية التي حققتها التجربة الشعرية في أكثر نسخها أهمية، لاسيما الأناشيد وآليات التقنع في القصائد الملحمية والمسرح القديم، وثانيهما إعادة بناء اللغة والصورة الشعريتين على نحو مغاير، يقوم على علاقات الانزياح التي تولدها مخيلة شعرية منطلقة، وقد تحررت من معطيات التجربة الحسية المباشرة، في محاولة ثرية بلغتها وبلاغتها لكتابة قصيدة جديدة تقوم على لغة الرمز والإيحاء، وتهجس بأسئلة الوجود العميقة والغائر في عمق الوجدان الإنساني وفي تاريخ كينونته. في قصيدته المطولة الأيام السبعة للوقت، يحقق الشاعر نوري الجراح انزياحا واضحا على مستوى تلك الكتابة الشعرية، يتجلى في جملة من الخصائص البنيوية والأسلوبية والجمالية، التي تشكل خيارا حدائيا واضحا للشاعر، ينتقل باللغة وأدواتها التعبيرية من مستوى التعبير المباشر إلى المستوى الرمزي والإيحائي والتكثيف المركز، والعلاقات العابرة للحواس، التي تربط بين عناصر الصورة الشعرية الاستعارية، من خلال علاقات الانزياح القائمة على أكثر من مستوى، على صعيد البنية التركيبية للصورة، واللغة المشحونة بكثافة حسية عالية الدلالة والرمز.
تحمل القصيدة عنوان الأيام السبعة للوقت، وهو عنوان يتألف على مستوى بنيته النحوية من جملة اسمية، مستمدة من داخل النص، يحيل في معناه على مرجعية خارجية، يستمد منها بعضا من دلالالته، وذلك بحكم موقعه في صدارة القصيدة، في الوقت الذي يحيل فيه على النص الذي يتوجه بحكم وظيفته الشعرية، فالأيام السبعة للوقت تقيم تناصها مع حكاية الخلق التوراتية، التي تتحدث عن خلق الله للعالم في ستة أيام وفي اليوم السابع استراح، لكن تناصه مع القصيدة التي يحيل عليها بقدر ما هي تحيل عليه، يكسبه معنى إضافيا جديدا نابعا من طبيعة الحدث الذي تحاول القصيدة أن تتمثل أبعاده الإنسانية ومعانيه ودلالاته، كما تجلى في ظاهرة المسيرات السلمية التي كانت تنطلق كل جمعة في أغلب الأرياف والمدن السورية للمطالبة بالحرية والكرامة، وإسقاط نظام الاستبداد، حتى غدت الحدث الأيقونة، الذي بات يعبر عن الحراك السلمي الشعبي في وجه البطش والعنف الأعمى للنظام. وكما كانت الأيام السبعة للوقت بمثابة خلق جديد للعالم، فإن الثورة السورية من خلال هذه الرمزية الدالة تتقاطع مع هذا المعنى، من حيث كونها إعادة خلق للحياة والإنسان والواقع الحر الجديد. إن أهمية هذا العنوان تكمن في كونه مفتاحا تأويليا، يقوم بمهمة ربط القارئ بنسيج النص الداخلي والخارجي، كما يقول إمبرتو إيكو، وذلك من خلال وظيفته التي يقوم بها في التعبير عن العمل رمزيا ودلاليا.
يستخدم الشاعر تقنية القناع، التي تظهر عبر انقسام الذات على ذاتها، في الخطاب وتشظيها إلى شخصيتين اثنتين، شخصية القناع وشخصية الشاعر، الأمر الذي ينجم عنه قيام منولوج بين شخصية القناع والشخصية الأخرى للشاعر، والتي تمثل الذات العميقة المكتسبة لشخصية القناع، بحيث ينتقل الخطاب في القصيدة، من المستوى الذاتي إلى المستوى الآخر الموضوعي، والكثافة الرمزية، التي تحاول أن تنفي المطابقة بين ذات الشاعر وأناه الأخرى، في هذه القصيدة. إن هذا الخطاب المقنع الذي يأتي في مستهل أغلب مقاطع القصيدة الطويلة، على غرار ما كان يحدث في مستهل القصائد الملحمية الكبرى، ينتقل بالقصيدة من أفقها الذاتي إلى الأفق الموضوعي، ومن لغتها المطابقة للغة، إلى لغة الإيحاء ذات الكثافة الرمزية، والبنية الاستعارية للصورة الشعرية القائمة على علاقات الانزياح بين عناصرها ومكوناتها المختلفة، سواء على مستوى الصفات، أو البنية النحوية، أو المعطيات الحسية للتجربة الشعورية. وبقدر ما تتأكد وظيفة هذا التكرار في نفي المطابقة بين أنا القناع، التي تتولى وظيفة الكلام في هذا الخطاب، وأنا الشاعر التي يتوجه إليها هذا الخطاب- النشيد، فإنه يتوسل من خلال وظيفة التكرار تحقيق بؤرة توتر وتشخيص درامي وغنائي، عبر تلك العلاقة الجدلية القائمة بين أنا القناع وأنا الشاعر، بغية إشراك المتلقي منذ البداية في تلك الحالة الشعورية المسيطرة، التي تعمل على تكثيف مدلولاتها الرمزية والحسية، من خلال هذه العلاقة القائمة على التوحد بين القصيدة والدم، أو بين أنا الشاعر وأنا الجماعة في هذا النشيد العميق، الذي يسعى إلى وضع المتلقي منذ البداية في أفق التجربة الدامي، التي تتوحد لغة الشاعر بها، دون أن تسميها:
دم من هذا الذي يجري في قصيدتك أيها الشاعر ؟
وإذا كان صوت القناع الذي يفتتح القصيدة بهذا النشيد، مستخدما تلك اللغة الاستعارية القائمة على تشخيص المجرد، وعلاقات انزياح الصفات عن موصوفاتها، بشكل يمنحها تلك الكثافة الدلالية الموحية( قصيدتك عمياء/ وصوتك أعمى)، فإن تلك المساءلة واتهام الذات، الذي تتضمنه تلك العتبة، سرعان ما يبرز المشهد المقابل في تلك الثنائية، بين الشاعر والواقع المُعَبر عنه للانتفاضة، عندما ينتقل خطاب القناع من مستوى اتهام الذات وإدانتها( قصيدتك عمياء…) إلى مشهد بصري متحرك نقيض للأول، تتولى فيه عناصر الطبيعة، في هذا الجناز البالغ الدلالة، من خلال متوالية الصور الاستعارية المكثفة، وظيفة التعبير عن قسوة المشهد المأساوي، ما يجعلها تتحول إلى بؤرة دلالية شديدة الإيحاء، بوصفها مكونا استعاريا ورمزيا قائما على التجسيد والتشخيص، يكسب الخطاب وأدواته التعبيرية قيمة جمالية بالغة التكثيف والدلالة والحيوية، التي تتولد عن استخدام الشاعر للأفعال المضارعة، في هذه المتوالية من حشد التوصيف :
لكن الهواء يهدهد السهل، والعشب يهمس للقتيل/ القمح يتطاول/ ليرى/ ارتجاف الهضبة.
إن القناع الذي يقوم بنفي شخصية الشاعر، إنما يقوم بإبراز الذات العميقة لها، مجسدة في الشخصية المتنكرة أو شخصية القناع، وهنا نلاحظ أن أنا هذه الشخصية تنتقل بالخطاب من مستوى علاقة الالتحام بين اللغة والثورة السورية، إلى مستوى الالتحام بين أنا الشخصية والثورة، حيث ينفتح سؤال المأساة السورية في أبعادها الإنسانية، وبلغة لا تتضمن أية إحالة مباشرة، أو قرينة ما إليها، ليكون سؤال الدَّم الصارخ مفتوح الدلالة على اتساع تلك المأساة التي تتوحد معها أنا القناع:
وفي المتبقي من الزمن شقيقي الذي شقّ الغروب رأسه/ دمه يقطر في ملابسي/ دم من هذا؟/ وظهره الذي تقصَّف جهة الغروب يقطر حمرة وغروبا/ دم من هذا؟/ دم من هذا؟
تتوزع القصيدة على مجموعة من المقاطع المكثفة، والمشاهد ذات البنية المؤلفة من طيف واسع من الصورالاستعارية، القائمة على علاقات التباعد والانزياح بين عناصرها، بصورة تتحرر فيه ومعه لغة الشاعر من مدلولاتها المباشرة والمطابقة للغة، لكي يتم بناءها على مستوى أعلى ومغاير، تتسم معه بطابعها الإيحائي وكثافتها الرمزية والدلالية، وتمثلها الجمالي، لأبعاد الانتفاضة العظيمة إنسانيا وثقافيا وتاريخيا ووجوديا، مستثمرا في ذلك صيغا وأدوات تعبير مختلفة، بدءا من آلية التقنع، وحشد التوصيف القائم على الاستخدام المكثف لصيغة الفعل المضارع، وما تضفيه من طابع الحركة والحيوية والحرارة على المشهد الشعري (المركبات تفح/ المركبات تعوي/ الجنازير الضخمة تترك بصماتها على إسفلت الشارع/ المركبات العمياء ترسل الحمم إلى صور العائلة)، وصولا إلى تقنية التكرار ووظائفها البنائية والإيقاعية والنصية، واستطراد التداعي (دم في غفلة المنعطف، في ممشى الصبي، في ابتسامته المدرسية/ في كتاب المعلم/ في سؤال الصباح/ دم في بحة المراهقة، دم في هسيس الماء/ دم على الأشجار …)، والتناص القائم على استدعاء شخصيات دينية، من خلال الوقائع التي ارتبطت بها، وتناص الخفاء مع روح الأناشيد الدينية والقصص الديني، حيث يجري امتصاص الحكاية وتذويبها في النص الجديد، مع الإبقاء على علامة من علاماتها الدالة (ولما تساقطت الحجب/ رأيت ما رأيت، دم يصرخ في حنجرة مشطورة/ والغراب بجناحين متعاظمين يلطم الشقيق بدم الشقيق- أنا لا أكتب قصيدة لكنني أشم القميص لأبصر). إن الشاعر يحاول الاستفادة من كون تلك الشخصيات والقصص الديني تتمتع بحضور عميق مع دلالاتها الإنسانية والوجودية العميقة في المخيلة والوجدان الجمعي، ما يسهم في تحقيق تفاعل أوسع بين القصيدة والمتلقي.