مقدمة:
تستعرض هذه الورقة البحثية نظرية وجهة النظر في السرد الروائي في مراحل نشأتها وتطورها وتبلورها من فكرة أدبية نجمت من الممارسة والتجريب لدى الروائي (هنري جيمس)؛ إلى أن اكتملت وصارت مفهوماً نقدياً راسخاً يحمل بين طياته الكثير من القيم الأدبية التي لا يمكن أن يتجاوزه الناقد المحترف مهما علا شأنه، ولعل الملاحظات التي ظل يبديها النقاد في سياق اطلاعهم على التجارب الروائية اللاحقة ؛ هي التي أسهمت بشكل فعال في الكشف عن هوية وجهة النظر أو بالأحرى وضوح مغزاها الدلالي ، فمن المفارقات التي اكتنفت تشكل المفهوم النقدي لهذا المصطلح هي التغير وعدم الثبات أو التجدد إذا صح التعبير ، فكلما ظهرت تجربة روائية جديدة جديرة بالاطلاع ؛ كلما تشعب المصطلح وعبر عن أبعاد جديدة ، أو بالأحرى حملت التجربة في طياتها ما من شأنه أن يضيف لمفهومه ويعمق دلالته أو يعقد طبيعته ، وذلك تبعاً لتعدد القراءات والاستنتاجات المترشحة عن النص.
1ـــ1: وجهة النظر .. السياق المنهجي والمرجعيات:
1ـــ1ـــ1/هنري جيمس:
يرى معظم النقاد أن الملاحظات التي دونها الكاتب الروائي هنري جيمس حول الراوي هي الأساس النظرى الأول حول وجهة النظر(1) ، إذ بشر في كتاباته النقدية عن الراوي الـذي لا يفصح عن وجوده في الرواية داعياً لتبني هذا الشكل الروائي الجديد ، مؤمناً على حقيقة مفادها : أن وقائع القصة ينبغي أن تعرض عرضاً مشهدياً ، وهي بذلك تحقق استقلالية ذاتية وتتوافر على وحدة ذهنية ووجدانية . وقد استخدم جيمس التعبير الإنجليزي (Point of view) للاصطلاح علي فكرته ، وقد ترجمه النقاد إلى (وجهة نظر) ، ورغم عدم دقة هذه الترجمة إلا انها الأكثر قرباً في التعبير عن المصطلح الأصلي في اللغة الإنجليزية ؛ بالمقارنة مع المصطلحات العربية الأخرى التي استعملت من قبل النقاد مثل (الرؤية ، البؤرة ، زاوية الرؤية ، التبئير ، …. الخ) ، وقد يخرج مصطلح وجهة النظر للدلالة على الموقف العقلي أو السياسي ، أو الإتجاه الديني أو الإجتماعي للكاتب ، ولم تفلح كل المحاولات التي سعت لاستبدال هذا المصطلح بمسيات أخرى أكثر دقة مثل (بؤرة السرد) (Focus of narration).
عاب جيمس على الراوي نظرته الفوقية لعالم الرواية ، كما سخر من الدور الذي يلعبه في تحريك عناصر القصة مُطلقاً عليه (محرك الدمي) ، ودعا إلى ضرورة عرض الأحداث بدلاً من سردها ، أي أن تحكي القصة نفسها بنفسها دون حاجة إلى من يحيكها ويتحكم في عناصرها الفنية كما يفعل الراوي التقليدي الذي يلعب دور المؤرخ في النظر إلى الوقائع والأحداث.
1ــــ1ــــ2/ برسي لوبوك:
يعد برسي لوبوك ـــــ صاحب كتاب « صنعة الرواية « ــــــ أول من عرض لوجهة النظر في سياق منهجي ، وقد عالج في كتابه هذا آراء هنري جيمس وتطبيقاته العملية في رواياته التـي حرص على جعلها حقلاً تجريبياً تتبلور فيه نظريته التي أطلقها، وقد ربط لوبوك بين ما بلوره جيمس وبين أنماط العرض المعروفة – في نظريات النقد القديمة – التي يستعملها الأدباء في كتاباتهم الأدبية أبرزها التقديم المباشر وغير المباشر(2)؛حينما ذكر أن القصة لا تبدأ إلا بعد أن تكتمل في ذهن مؤلفها وتعرض فيه وهكذا تحكي القصة نفسها دون أن يحكيها هو. ولما كانت عملية الصدق مسألة ضرورية في القصة وهي لا تتحقق بمجرد زعم يطلقه المؤلف بل يتمظهر بشكله العملي ؛ فإن المؤلف الذي يتحدث عن شخصياته ويتحكم في مصائرها من أجل خلق جوٍّ من الإيهام بالحقيقة يكون قد وضع حاجزاً جديداً بينه وبين متلقيه بمجرد ظهوره في السياق ، لذا عليه أن يخفي صوته قدر الإمكان ، وقد درس الناقد – من خلال هذه الرؤية التي طرحها – قصة «مدام بوفاري» للكاتب الفرنسي «جوستاف فلوبير» ، وخلص إلى أن هناك طريقتين لتقديم الأحداث : الأول: مشهدي ذو بعد درامي والثاني: بانورامي ذو طبيعة تصويرية . وقد انحاز لوبوك لجيمس في تفضيله للراوي «الممسرح» الذي يندمج في القصة على غيره من الرواة ، ذلك لأن القارئ يجد نفسه داخلها إذا ما اطلع على الأحداث مباشرة من ذهن الراوي «الممسرح» لحظة تداعي الأحداث وتسلسلها في حاضر السرد ، فتظهر كل المعطيات والوقائع بصورة موضوعية محضة على عكس مايبدو في السرد التتابعي ، وبناءً على هذا التمييز يستخلص لوبوك ثلاث وجهات نظر هي :
أ. في التقديم السردي المتسلسل «البانورامي» يتوافر الراوي على معرفة مطلقة تتجاوز موضوعه ويدفع بها للقارئ .
ب. في التقديم المشهدي يغيب الراوي ويحصل المتلقي على الأحداث مباشرة.
ج. في الصور واللوحات تظهر الأحداث في ذهن الراوي أو الشخصية وتتداعي حسب نفسية السارد ولا تخضع لمنطق آخر.
ذكر لوبوك أن جيمس لم يكن أول من استحدث هذا الأمر ، محيلاً قضية اكتشاف وجهة النظر إلى أرسطو الذي التفت إلى ذلك في كلامه عن القصة عند هوميروس ، وقد أثنى على طريقة هذا الأخير في عدم تدخل الراوي في خطابها تاركاً الأمر للشخصيات ، ثم جاء بعده «فلوبير» ، وقد ذهب صاحب كتاب «صنعة الرواية» ، إلى أن جيمس قد استوحى منه هذا المفهوم ، بعد أن اطلع على مراسلاته التي تحدث في إحداها عن الراوي الطاغية الذي يتحكم في عناصر قصته ولا يظهر فيها.(3)
تؤكد ملاحظات «لوبوك» حول نظرية «جيمس» أن المظاهر الأدبية والمعطيات الفنية في الأجناس الإبداعية تتحقق بصور مختلفة ، وتحتاج إلى فكر نقدي ثاقب يدقق فيها ويستطبن مظانها ثم يُكشف عنها في سياق منهجي ، وهذا ما فعله جيمس فظفر بمشروعية الريادة الفنية ، أمَّا الريادة التاريخية فترجع – غالباً – للنصوص الإبداعية التي تحتضن المظاهر الفنية تلك قبل الكشف عن جوهرها ، فالعديد من العناصر الحكائية موجودة أصلاً في أية عملية قص ، غير أن الريادة تكمن في إبراز أهميتها وتجلية خصوصيتها ، وهذا ماوقع فعلاً مع هذا العنصر الذي كان لجيمس ومن بعده لوبوك القدح المعلى في تشخيصه وإبراز أهميته .
1ـــ2/نورمان فردمان … تجانس السمات الفنية والموضوعية:
لخص نورمان فردمان الآراء التي سبقته في موضوع «وجهة النظر» ، وسعى بشكل خاص لتكثيف الرؤية حول معطيين أساسيين هما : السرد والعرض ، بوصفهما وسيلة لتحديد ماتقدمها الرواية من قيم ومواقف ، وما يسعى المؤلف لاستبطانه من رؤي مختلفة ، تحتاج إلى وسيط يقوم جسراً بين القيم الفنية داخل الرواية والموضوعية ذات البعد الفكري التي يعمل الكاتب على حقن النص بها(4) ، وقد اتسم تصنيفه بالانتظام والوضوح مقارنة مع سابقيه ، ترشح عن ذلك عدة أشكال لوجهة النظر ، راعى فيها الموقع الذي يحتله الراوي بالنظر إلى القصة وعلاقته بالعناصر الخارجية ، «كالمؤلف» مثلاً ؛ والداخلية «الشخوص» ؛ وأسلوب السرد الذي يستخدمه ، وأثر الضمير في تحديد الأسلوب ، إلى جانب الاهتمام بأساليب العرض – عرض الأحداث – والخصائص الأخرى التي يحقق للراوي وجوده الفني ، وقد حصر وجهات النظر فيما يلي :
أ/ المعرفة المطلقة للراوي المرسِل: هذا الراوي لا تنفصل وجهة نظره عن المؤلف ، بقدراته غير المحدودة وتدخله في القصة .
ب/ المعرفة المحايدة: إن الراوي في هذه الرؤية يلزم الحياد ولا يتدخلو لكن الأحداث تعرض من وجهة نظر لا تأثير للشخصيات فيها.
ج/ الأنا الشاهد: يتولى الراوي سرد القصة ، ولا يأخذ موقع الشخصيات لكنه يستخدم ضمير المتكلم في إيصال الأحداث للمتلقي .
د/ الأنا المشارك: يكون الراوي شخصية محورية في القصة .
ن/ المعرفة المتعددة: تتعدد فيها الرواة وتعرض القصة من وجهة نظر الشخصيات.
و/ المعرفة الأحادية: يحضر فيها الرواة ، غير أنه يصب اهتمامه على شخصية محورية.
هـ/ النمط الدرامي: وفيه تعرض أفعال الشخصيات وأقوالها ، ويتم استيحاء أفكارها وعواطفها من خلال ما تتلفظ بها.
ي/ الكاميرا: وهي أن يعمل الراوي على نقل تفاصيل حياة الشخصيات وعرضها دون مراعاة للترتيب والتسلسل ، والمنطق الداخلي هو الذي يربطها في سياق القصة.
ولعل الفروق القليلة التي تميز أنماط الرواة ، أدت إلى زيادة الأشكال التي صنفها «فردمان» ، وقد انطوى تصنيفه على قدر كبير من الدقة ، في تمييز وجهات النظر تبعاً لخصائص الرواة(5) وهو بذلك قد وافق على كل الرؤى التي أثارها جيمس دون تحفظ على أي تصور.
1ـــ3/ جان بويون : الرؤية الفنية وسياقات علم النفس:
ضَّمن دراسته لوجهة النظر في كتابه : «الزمن والرؤية» ، التي تعد من أهم الدراسات التي عرضت لهذا المفهوم وقد اتسم عمله بالتركيز الشديد مما أكسبه الشهرة في مجال الدراسات السردية ، وقلما توجد دراسة عرضت لوجهة النظر أغفلت أو أهملت الجهد الذي قام به هذا الناقد ، حيث اعتمده أكثر من دارس ومحلل وناقد كأحد أفضل التصنيفات الفنية لهذه الفعالية ، إذ أعطى هذا المصطلح أبعاداً جديدة تصدَّر بها آليات تحليل الخطابات القصصية المختلفة.
انطلق جان بويون من مباحث علم النفس ليستنتج ثلاث وجهات نظر ، علماً بأنه استخدم مصطلح رؤية للإشارة إليها ومرجعيتها في ذلك هي العلاقة المتينة التي تربط الرواية بعلم النفس ، فعالم النفس يستبطن نفسية الإنسان ويكشف عن مكنوناتها تماماً كما يعمل المؤلف حينما يتحدث عن شخصياته ويحلل جوانبها ويستكنه سريرتها عبر الراوي الخارجي ، أما عندما تطلع شخصية فنية على أمر السرد فإنها تعمل على خلق تصور إدراكي للأشياء تنطلق من ذاته وتتجه نحو المتلقي . يتم كل ذلك في عالم متخيل ومادة متخيلة ، فالمرتكز الذاتي للأحداث تعطيها طابع السيرة وهي أقرب إلى علم النفس، غير أن الخيال يكون حائلاً دون تطابق الأحداث مع الواقع وتشكلها في صورة الحقائق.
انطلاقا من هذه المفاهيم صنف بويون وجهة النظر في الآتي:
أولاً: الرؤية مع: وتكون فيها شخصية الراوي محورية ، ولا يعني محورية من منطلق البطولة بل لأنها في مركز يتيح للمتلقي أن يرى الشخصيات من خلالها ويقف على سلوكها ، يمسك بها كما يمسك بالراوي ، وهكذا يكون العالم القصصي فضاءً ذاتياً متخيلاً يرتبط به في زمان ومكان ما ، دون الوقوف على حقيقته المجردة «الموضوعية»، حيث تنعكس الأحداث على صفحة وعيه الداخلي ، وقد صارت وجهة النظر هذه سمة عامة طبعت العديد من الروايات الحديثة .
ثانياً: الرؤية من الخلف : وقد اصطلح عليها بعض النقاد بــــــ «الرؤية من الوراء»(6) ، ومفادها أن الراوي ينظر إلى شخصياته في حياتها ونفسياتها ومواقفها نظرة موضوعية مباشرة ، فهو لا ينفصل عنها ولا عن عالمها الفني بل يشرف عليه ويتحكم فيه تحكماً مطلقاً ، وتتجلى هذه الرؤية بشكل واضح في روايات «ديستويفسكي»(7) حيث تصبح تدخلاته الفنية المباشرة جزءاً أصيلاً من سياق الأحداث ، فهو يضع شخصياته في مواجهة بعضها البعض غير انه يتولى وصف السلوك الخارجي الذي يقود بدروه إلى الكشف عن الجوانب الخفية فيها ، وقد عيبت هذه الطريقة لأنها تؤدي إلى تفكك الأحداث وعدم تناسق بنيتها العامة .
ثالثاً: الرؤية من الخارج : وهي طريقة القص الكلاسيكي ، حيث ينزع الراوي إلى النظرة الخارجية لفضاء القصة والشخصية ، عاجزاً عن الغوض في الجوانب العميقة للشخصيات مكتفياً بالمظاهر الخارجية التي يدركها بحواسه ، ولا يتجاوز ذلك إلا في إطار تحليل ما أدركه بالخبرة الحسية .
1ـــ4/ واين بوث … فرضية تغييب السارد:
كتب الناقد واين بوث مبحثاً كاملاً أطلق عليه «البعد ووجهة النظر»(8)، افتتحه بقوله «لقد أثبت مفهوم وجهة النظر كما هو الحال مع المفاهيم الأخرى المستخدمة في الحديـث عن الرواية ، أنه أقل فائدة مما توقع له النقاد الذين جاءوا به إلى دائرة اهتمامنا « . وقد اعترض الناقد على فكرة وجهة النظر ، وذكر أنها تهتم بالوصف والتصنيف ؛ وهما بمثابة خطوة تمهيدية ، كما أشار إلى أن «برسي لوبوك» ؛ عندما بدأ يعمل في عرض الفكرة بشكل منهجي لم يكن يتوقع بأن يأتي من يعترض عليها كما فعل أ.م. فورستر، ويرى بوث أن مسألة ظهور الراوي أو مشاركته ، أو إحصاء عدد المرات التي يذكرفيها كلمة «أنا» إنما هي مساعٍ لتكوين مبادئ لا تعد أن تكون مساعٍ افتراضية وغير ذات جدوى بالنسبة للقارئ أو للروائي.مضيفاً أن «هنري جيمس» نفسه يعلم جيداً – حينما أثار قضية وجهة النظر – أن هناك أكثر من خمسة ملايين طريقة لرواية قصة ما ، رغم الاهتمام الكبير الذي أولاه النقاد بموضوع العرض «مسرحة الحدث» وتفضيله على السرد واتخاذ هذا المبدأ وسيلة لكيل الإطراء لقصة دون أخرى .
يؤمِّن بوث على المعطيات التي تحكم وجهة النظرمن حيث أنها مسألة فنية ، وهي جانب تقني يوظفه الكاتب للتأثير على متلقيه قائلاً : «إن الأسلوب هو طريقة الفنان لاكتشاف المعنى الفني الخاص به أو طريقة جعل إرادته مؤثرة في جمهوره فإننا لانزال نحكم عليه بضوء النتائج أو المعاني الأكبر التي صمم لكي يؤديها»(9) رغم ماتفرضه ــــــ المعايير المأخوذة من أشكال أخرى ـــــ من قيود على الكاتب ، فالروايات العظيمة ويقصد بها الأعمال الروائية الكبيرة التي سبقت قضية وجهة النظر لم تكن معروضة عرضاً مسرحياً كما هو الحال في كثير من المسرحيات التي ينبغي أن يكون طابعها الأساسي العرض ، أما الأحداث فلا تصلح كلها للعرض إذ بينها ما يناسبها السرد ، ويلاحظ أن المصطلحات النقدية التي توصف بها الظاهرة لاتستطيع أن تفي أشكال الروايات المختلفة ، كما لا تستطيع أن تساعد على تمييز الروايات الجيدة.
حاول بوث بعد استعراض طويل لكل أوجه نظرية وجهة النظر أن يضع تصوره الخاص حول هذا الأمر ، وقد ركز على مميزات الراوي محيلاً وجهة النظر عليها أكثر من الاعتماد على الضمائر في عملية التصنيف ، ذلك لقناعته التامة أن ضمير المتكلم قد يشكل عائقاً كبيراً في ذلك ، كما يمكن أن تدرج كل الروايات في مجموعتين أو ثلاث حسب الضمائر المتاحة « المتكلم ، الغائب ، الجمع المتكلم» ، ورغم كل هذه المحترزات التي يذكرها يستدرك الناقد قائلاً : «ولانكاد نتوقع أن نجد معايير نافعة في تصنيف يضع كل الروايات في مجموعتين أو ثلاث في الأغلب «(10) ويصنف الرواة إلى ثلاثة هم : الرواة الممسرحون ، الرواة غير الممسرحين ، المؤلف الضمني.
هكذا يقدم بوث رؤيته حول وجهة النظر محاولاً التقليل من الزوبعة التي أثيرت حول هذا الفرضية من خلال ملاحظاته الذكية فيما يتعلق بجدوى الأوصاف والإشارات – أنا، هو- وقدرتها على بلورة شيء نافع، وهو يرمي بذلك إلى المصطلحات غير الدقيقة التي تم اجتراحها، وقد أفلح في ذلك لكنه لم يستطع أن يقدم تصوراً نقدياً بديلاً رغم محاولاته التي انصبت في تصنيف الرواة وذكر سماتهم إذ لم يكن محورها «وجهة النظر» ، ولو اكتفى بمعارضة «هنري جيمس» وأتباعه – دون أن يقحم نفسه في قضية تصنيف وجهات النظر من خلال الرواة ؛ لكانت ملاحظاته أكثر قيمة مما هي عليه ، ولكانت جديرة بأن ترسم منهجاً – لوجهة النظر- موازياً لما قام به أتباع جيمس .
1ـــ5/ تودوروف …. ثنائية المتن والمبنى:
ضَّمن الناقد البلغاري تزفيطان تودوروف رؤيته لموضوع وجهة النظر في مبحث مطول بعنوان: «مقولات السرد الأدبي»(11) منطلقاً من مفهومين مهمين هما: « القصة والخطاب» إذ يرى أنهما مظهران أساسيان من مظاهر العمل الأدبي وهما يتقابلان مع ـ «المتن الحكائي والمبنى الحكائي» الفعاليتين اللتين أثارهما الشكلانيون الروس ، فالمتن يحيل إلى الأحداث في الحياة الفعلية قبل أن تنتظم في سياق قصصي يعرضه تبعاً لرؤية معينة ، أما المبني فإنه يحيل للأحداث المتشكلة في الخطاب السردي، حيث يقول: « إن العمل الأدبي خطاب في الوقت نفسه ، فهناك سارد يحكي القصة ، أمامه يوجد قارئ يدركها. وعلى هذا المستوى ليست الأحداث التي يتم نقلها هي التي تحكم ، إنما الكيفية التي اطلعنا بها السارد على تلك الأحداث» (12)، ويبرر ما ذهب إليه بأن القصة ليست عنصراً فنياً لأن أحداثها لا تعدو أن تكون مادة موجودة مسبقاً في الحياة ، بينما الخطاب هو البناء الجمالي بالنسبة لها وهو المحك.
يعرض الناقد للقصة في مستوى الأحداث ، ويحدد النسق الذي تنتظم وفقها مااصطلح عليه بـ«الأفعال الروائية» ، ويرمي بذلك إلى أنها تأخذ بمنطق التسلسل التتابعي في مبدأ الزمن ، ولو كان الأمر كذلك لتم ذكر التفاصيل الكاملة المتعلقة بأية شخصية فنية دون انقطاع وبعد ذلك تأتي الشخصية التي تليها ، هذا الأمر سيفقد القصة قيمتها وجماليتها أيضاً ، وبناءً على هذه النتيجة فإن القصة تعتمد على مظاهر فنية مثل التوازي)*(: التكرار)*( كمنطق داخلي يرصف الأحداث ولا يتم ذلك اعتباطاً بل يخضع لمشروع منهجي جاد ودقيق ، ويخلص إلى أن معرفة مثل هذه التقنيات الموظفة من قبل المؤلف ضرورية لفهم العمل الأدبي .
يعرج الناقد لكل مامن شأنه أن يساعد في تحليل الخطاب القصصي ، فيعرض لعنصر الشخصية – في طريقه للحديث عن وجهة النظر – ويرى أنها تتحدد وفقاً لعلاقاتها ، إلى جانب عنصر الزمن الذي يحمل بعدين اثنين : خارجي ، وداخلي تبعاً لتقسيم العمل الأدبي لخطاب وقصة ، حيث يستقل كل قسم بزمن معين فزمن الخطاب يسير بشكل مستقيم بينما يتشعب زمن القصة وتتعدد أبعاده ، فقد يبدأ بالحاضر ولكنه ريثما يعود إلى الماضي ثم يقفز إلى المستقبل ، وقد تحدث عن بعض المظاهر التي تنتج عن تغير صيغة الزمن وتؤثر على الأحداث مبيناً دلالة بعض المصطلحات كالتناوب ،والتضمـين ، والتسلسـل ، وغير ذلك من قيمٍ فنية.
يصطلح تودوروف على وجهة النظر بـ «مظاهر السرد» ، ويقصد بها طرائق إدراك العمل الأدبي المتخيل : فإدراك المتلقي ، وإدراك الراوي ، وإدراك المؤلف والشخصية يجملها في : « إدراكات» وهي تحيل إلى « الرؤية أوالنظرة» ولكنه يفضل استخدام مصطلح مظهر ، لأنهــــــــ كما يزعم – « يعكس العلاقة بين ضمير الغائب «هو» في القصة ، وضمير المتكلم «أنا» في الخطاب ، أي العلاقة بين الشخصية الروائية وبين السارد».(13)وهكذا يحتفـظ الناقد بتصنيف جان بوين لوجهة النظر ، مع إجراء بعض التعديلات عليه .
أ) الرؤية من الخلف: ويشير إليها بـ«السارد < الشخصية الروائية» مستخدماً الرمز الرياضي أكبر من ( < ) ، والمقصود بذلك أن الراوي يكون أكبر من الشخصية الروائية ، ويرى أن هذه الطريقة مستخدمة في القصص الكلاسيكي ويتصف راويها بالمعرفة التي تفوق معرفة الشخصيات ، فلا يشرح رغم اطلاعه المطلق على كل الأمور التي تجري حتى السريةَّ منها ، أي بمعنى أن الأحداث تتشكل بصورتها النهائية في وعيه فقط ولايمكن لشخصية فنية أن تحظى بذلك.
ب) الرؤية مع : (السارد = الشخصية الروائية) : أي أن تتساوي معرفة الراوي بمعرفة الشخصية الفنية ، و ينتشر هذا المظهر في السرد الحديثإذ لا يستطيع الراوي– وفقاً لمعرفته – ان يمد الشخصية بتفسير للأحداث ، مع إمكانية استخدام ضمائر سردية مختلفة متكلم أو غائب ، جمع أو مفرد ، بحسب موقع الراوي من الحدث. وكلمة الراوي هنا مطلقة ؛ لأن أية شخصية قد تضطلع بأمر الرواية بغض النظر عن موقعها أو أهميتها ، هذا الأمر قد يتيح الفرصة للتنقل مابين المشاهد والشخصيات والأحداث وبالتالي يخلق رؤى متمـايزة للموقف الواحد ، فتتعدد عملية الإدراك مع تعقد الظاهرة التي يتم وصفها .
ج) الرؤية من الخارج : «السارد < الشخصية» : في هذا المظهر يكون الراوي أصغر من الشخصية الفنية وتقل معرفته عنها ، فلا يستطيع أن ينفذ إلى أي ضمير ليقص للمتلقي مايعرفه من أحداث ، ويعلق الناقد على هذا الأمر قائلاً : « إن هذه النزعة الحسية الخالصة لا تعدو أن تكون مواضعة ، ذلك لأن سرداً ينحصر في مستوى مثل هذا الوصف الحسي الخارجي غير معقول ولكنه موجود كنموذج لضرب من ضروب الكتابة»(14).
بهذه الرؤى يكمل تودوروف تصنيفه لوجهة النظر ، وأهم مايميز تصنيفه هو رصد الظواهر الفنية المختلفة المتعلقة بالسرد القصصي وتحديد مستوياتها ، حيث قسم الإبداع القصصي إلى: قص ، وخطاب ، وأورد المظاهر الفنية المتعلقة بهما ، ثم تناول العناصر الداخلية للعمل الفني والخارجية منها من عوامل «شخصيات» ومؤلف ومتلق ، مروراً بالنظام التركيبي للعمل الإبداعي الذي ينتظم وفقه الأحداث كالتوازي والتكرار ، وقد ميز ما بين الضمائر الخطابية التي يستخدمها الراوي في التقديم ؛ ومابين طرائق العرض كالتمثيل والسرد الخالص دون أن يكون لها ذلك الدور الفاعل في تحديد وجهة النظر ، وهو أمر شديد التعقيد لكثرة الفعاليات التي تشترك فيه ، وما يمكن استنتاجه من عمل تودوروف كما يؤكد ذلك سعيد يقطين : «أن مفهوم الرؤية» بدأ يأخذ كامل أبعاده في تحليل الخطاب الروائي ، وهو بدوره يشدد على هذا العنصر ويؤكد على أهميته وحضوره الفاعل في التحليل»(15).
1ـــ6/ بوريس أوسبنسكي ومبدأ التآلف:
وهو عضو جماعة البنائيين الروس ، حيث ظهرت نظريته حول وجهة النظر في كتابه : « نظرية الصياغة»(16) التي كان لها تأثير طيب ، وقد جعل من مبدأ «التآلف» الذي تحققه وجهة النظر في العمل الفني منطلقاً منهجياً ، لأنه يتيح للمؤلف فرصة استخدام رؤى متنوعة في داخل العمل ، وفكرة التآلف أو «التوليف» ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالمؤلف ، ولذلك فإن وجهة النظر تنشأ من موقعه الذي ينتج منه الخطاب السردي ، من خلال أربعة مستويات كما يرى(17): أ/ المستوى الآيديولوجي ب/ المستوى التعبيري ج/ المستوى المكاني والزماني د/ المستوى السيكولوجي.
يربط الناقد هذه المستويات بعناصر داخل العمل الأدبي ، ليقابل كل مستوى خارجي مركزه المؤلف ببؤرة داخلية على سبيل «الثنائيات» ، ويوظف هذه المستويات للإشارة إلى وجهة النظر ، أو إلى تحديد عمق الرؤية السردية للمظهر الداخلي أو الخارجي .
يتم التركيز في المستوى الآيديولوجي عند أوسبنسكي على من موقع خارجي متعلق بالكاتب ، أو من خلال رؤية شخصية موجودة في داخل العمل الفني ، وينجم عن الوضع الأول ؛ أن يكون الراوي خارجياً : خارج القصة ـ بينما يصبح شخصية مشاركة في الوضع الثاني . أما في المستوى التعبيري فيركز الباحث على العلاقات التي يقيمها الراوي مع خطاب الشخصيات ، ويتخذ موقعاً يقدم منه ملاحظات الشخصيات بصورة موضوعية ، دون أن يَسِمها بطابعه الذاتي وفي هذه الحالة تكون الرؤية خارجية ، أما إذا تبنى موقعاً داخلياً مشاركاً فهو يقدم رؤية داخلية .
ما يتعلق بالمستوى المكاني والزماني ، فإنه يبدو من خلال موقع الراوي ـ زمانياً ومكانياً ـ من الشخصيات لتترشح وجهة النظر إلى داخلية وخارجية . هذا الأمر ينطبق على المستوى السيكولوجي ، فوجهة النظر الثابتة هي التي تقدم الأحداث بشكل موضوعي وعبر رؤية واحدة ، أما المتحولة فتنزع إلى استخدام علاقات الشخصـيات لذلك ، فالرؤية تنتقل من زاوية إلى أخرى ، وهذا أيضاً يسمح بتعدد الرؤى ، لأن إدراك كل شخصية فنية تتحدد وفقاً لموقعها ؛ وعلاقاتها بعناصر العمل الفني الداخلية والخارجية (18).
هذا بإيجاز تصنيف أوسبنسكي لوجهة النظر ، وقد أقامها على أساس رؤيتين فقط : داخلية وخارجية ، كما اهتم بالمرتكزات التي تحددها كالمؤلف والراوي والشخصية أكثر من اهتمامه بالبحث في نظرية منهجية تؤصل لقاعدة شاملة لهذا الموضوع ، غير أن إضافته بالنظر إلى النظريات التي استعرضها الباحث تتجلى واضحة فيما يتعلق بالمستويات الأربعة التي انطلق منها وأقام على خلفيتها ثنائية الداخلي والخارجي والزماني والمكاني.
1ـــ7/ الشخصية الفنية والنموذج الإنساني لدىأ. م . فورستر:
عالج أ . م . فورستر وجهة النظر في كتابه «أركان القصة» ، وقد ارتكز في هذه المعالجة على عناصر الشخصية وأنواعها واستعمالها في الفن القصصي ذاكراً نماذج لكل منها ، إلى جانب ذكر الأبطال الذين تحولوا إلى نماذج إنسانية لدى القراء ، مثل شخصيات رواية الحرب والسلام عند تولستوي ، ومدام بوفاري ، وشخصيات أميلي بروتني وغيرها ، وحينما يعرج لقضية وجهة النظرفإنه يعرض لفكرتها الأساسية عند «برسي لوبوك» ، وينقل عنه الآتي : «إن الطريقة في فن القصة وهي المشكلة المعقدة ؛ تحددها في رأيي وجهة النظر إلى الموقف الذي يتخذه الكاتب من القصة»(19) ثم يستعرض الطرائق التي حددها لوبوك لسرد القصة إضافة إلى أخرى لم يذكرها.
يقرر فورستر بأنه لا يستطيع أن يعد بتقديم أسس لوجهة النظر ، ويرى أنها نظرة عامة ، وأن الطريقة المتشابكة المعقدة لا تقدر على معالجتها ، غير أن الكاتب – بحيله وإمكاناته – يستطيع أن يتلاعب على القارئ حتى يقبل مايقوله ، وهذه الحقيقة يعتـرف بها «لوبوك» ، غير أنه يضعها في طرف المشكلة بدلاً من إقحامها في وسطها ، ويسوق مثالاً لهذا الأمر في رواية «المنزل المهجور» «لدكينز» ، ليقول : بالرغم من عدم تماسكها إلا أن كاتبها استطاع أن يتلاعب بالقارئ ، لذلك يصرف هذا الأخير تفكيره عن وجهة النظر .
يعلق الناقد علىاهتمام النقاد بقضايا الرواية ، ويعترف أنهم يريدون لها التطور لذلك يبحثون في مشاكلها قبل أن يتقبلوها كفن ، مما جعهلم يثيرون موضوع وجهة النظر بكل هذا الحماس الزائد الذي يصل إلى درجة المبالغة ، إذ يقول : «وبما أن مشكلة وجهة النظر تخص الرواية قطعاً ، فقد بالغوا في تأكيدها نوعاً ما . وأنا شخصياً لا اعتقد أنها في نفس الدرجة من الأهمية ، مثل التمازج الصحيح بين الشخصيات ، وهي مشكلة تواجه الكاتب المسرحي أيضاً . لذا كان من المحتم أن يتلاعب بنا الروائي»(20) ؛ على هذه الخلفية ينظر فورستر إلى رواية «مزيفي النقود» للكاتب الفرنسي «أندرية جيد» ويقول إنها رواية جيدة رغم تفككهاوخلوها من وجهة النظر ، لأن المهم في الأمر ليس قدرة الروائي على الاهتمام بكشف طريقته الفنية وحيله ، ولوفعل ذلك فلن يكـون إلا كاتباً مسلياً – بحسب ماذهب إليه – لأن الاهتمام بتحليل عقل الشخصيات قد يؤدي إلى هبوط حاد في التوتر العاطفي والإثارة والتشويق ، وهذا الأمر ينطبق على رواية «الحرب والسلام» ؛ التي يجوب راويها «روسيا» من أقصاها إلى أقصاهابواسطة وجهة نظر واحدة لم تتغير ولم تقلل من عظمة الرواية ، فهل من الواجب على الروائي أن يغير وجهة نظره إذا كانت ناجحة ؟ ، وقد ألقى فورستر بهذا السؤال ليخلص إلى أن : القدرة الحقيقية تكمن في تمدد الإدراك وانكماشه ، وأن وجهة النظر ماهي إلا مظهر من مظاهر هذه القدرة ، كما يحق للكاتب أن يبرز وجهة نظره أو يخفيها لأن هذا من مميزات الفن الروائي التي يتيحها للمبدع .
بهذا التصور يكون فورستر قد انطلق من عنصر الشخصية الفنية في معالجته لوجهة النظر وانتهى بها ، ولم يحدد وظيفتها أو موقعها في سياق القصة ، بل ترك الأمر مفتوحاً لاسيما وأنه ميز عنها المؤلف ، وكأنما أقر ضمناً بأن وجهة النظر لا تتحدد إلا مـن خلالها ، رغم أنه لا يراها مسألة ضرورية تميز العمل الفني وتمنحه العظمة .
1ـــ8/ جيرار جنيت العودة إلى نظرية المحاكاة:
يكشف جنيت عن رؤيته للعملية السردية في مقاله الذي هو بعنوان «حدود السرد» منطلقاً من التصور الذي وضعه أرسطو حينما حصر المحاكاة في صيغتين اثنتين ساعياً لتوصيف الأنواع الأدبية كالمسرح ، والشعر. وقد سبقه إفلاطون إلى ذلك وبصورة أكثر عمقاً حينما رصد ظاهرة الأصوات الأدبية في فنون القول ، وكيف يتكلم المؤلف بلسانه أو بلسان غيره مستشهداً بنصوص فنية لهوميروس ، وخلص إلى أن الأدب تمثيل ولكنه لايعرف إلا صيغة واحدة هي : «السرد» ، وهذه الصيغة تقابل المحاكاة (21) .
أما فيما يتعلق بصيغ السرد فإنها لا تختلف عن وظيفة السرد نفسها والتي تتمحور حول نقل خبر أو قص حكاية ، وهي بهذه الصفة لا تنفصل عن الحدث الذي يرى فيه جنيت بيت القصيد ، ويعرف «الصيغ السردية» بأنها: الإخبار السردي الذي ينقل الحكاية للمتلقي بتفاصيل أكثر أو أقل بطريقة مباشرة أو غير مباشرة أي باستخدام حيلة فنية لتنظيم الحكاية الداخلية عبر الشخصيات ، أو عبر شخصية واحدة تتبنى وجهة نظر أو «رؤية» ؛ تتحول بواسطتها الحيل الموظفة أمراً مسوغاً وذلك عبر فرضيتن رئيستين هما : «المسافة ، والتوقع» وقد سبق أن عرض «فردمان» لهذا الأمر لكنه اصطلح عليه بـ «الموقع» ، وقد ساق «جنيت» مثالاً لإيضاحهما ووصفهما بأنهما : «الاحتمالان الكبيران لتنظيم الخبر السردي المدعو «الصيغة» مثل الرؤية التي تتكون لديّ إزاء لوحة حين تعتمد تلك الرؤية على المسافة التي تفصلني عنها ، وبشكل أكثر تجسيماً على موقعي إزاء هذا الحاجز الذي يقوم بيني وبين اللوحة ، والذي يجعل منها «شاشة» بشكل أو آخر»(22).
يشير جنيت إلى الجهد الذي قدمه «إفلاطون» في ما اصطلح عليه بـ «المسافة»، ويبلورها في صيغتين :
الأولى: أن الشاعر يتحدث للمتلقي ولا يجعله يعتقد بأن شخصاً آخر يتحدث إليه.
أما الثانية: فإن الشاعر يتحدث ويوهم المتلقي بأن شخصاً آخر يتحدث وليس هو ، وهذا مايطلق عليه أفلاطون «التقليد».
وهكذا تتحول عملية التقليد أو التمثيل إلى سرد بوساطة الراوي الذي يتولى قضية الإيهام إنابة عن المؤلف ، وينتج ما اصطلح عليه بـ «العرض» أو «التمثيل» لأن الأفعال القصصية تنتج من خلال وسيط ، أما في الصيغة الأولى فإن الحديث من المؤلف إلى المتلقي يكون مباشرة ، وقد أهمل الكلاسيكيون – بحسب جنيت – هذا الموضوع لأنهم كانوا غير عابئين بمشكلات الخطاب ولكنه أثير في نهاية القرن التاسع عشر على يد هنري جيمس وأتباعه .
يؤيد جنيت ماذهب إليه «واين بوث» ؛ في انتقاده لقضية «العرض أو القص أو التمثيل» ، ويرى أن هذه المصلطلحات ، لا تعدُ أن تعرض أو تمثل الأحداث ولكنها تقص واهمة «التقليد» ، ويخلص إلى أن «السرد الشفوي أوالسرد المكتوب هو موضوع لغوي ، وأن وظيفة اللغة هي إعطاء الأشياء معانيها وليست التقليد»(23). هكذا يعرض «جنيت» لوجهة النظر ويقصر الأمر على قضية «السرد» التي هي القضية الأساسية في الإبداع الأدبي محاولاً أن يؤصل للمعرفة الخاصة به ، فحدد مرجعيته التاريخية عند أرسطو وإفلاطون وانطلق منها ليؤكد كل المبادئ المتعلقة بالأدب بعامة والقصة بصفة خاصة ، ثم جعل من مصطلح «المسافة» مرتكزاً أساسياً حدد عبره رؤيته لوجهة النظر ، مضيفاً إلى النتائج التي استنبطها «واين بوث» ، مقللاً مـن قيمة الثورة التي ظن «جيمس» وأتباعه أنهم أحدثوه بالاستناد على مبدأ «وجهة النظر» ، ورغم عمق التحليل الذي قام به إلا أنه صب اهتمامه على طرائق العرض والسرد ، دون أن يسمح لنفسه بالنظر في العلاقات المتشعبة المحيطة بها ، وبالنظر إلى المنطلق النظري المحض الذي جعله خلفية لدراسته فإنه لم يلتفت للعمل الفني وعناصره الداخلية ، ويلاحظ التعقيد الذي يكتنف اللغة في مستواها الدلالي والتعبيري ، والشخوص في تركيبها الفني والموضوعي ، رغم صعوبة الفصل بين هذه المستويات.
خلاصة:
باستعراض الآراء السابقة التي حاولت سبرغور وجهة النظر ، لاحظ الباحث أن هذه القضية ليست بالأمر المستحدث في النقد القصصي ، وهي قديمة قدم الأجناس الأدبية والثقافة الإنسانية بعامة ، وقد ضمنت إشارات إفلاطون وأرسطو ـــــ حول الأصوات في الظاهرة الأدبيةــــ جانباً مهماً من جوانبها ، ولعل الجانب الرئيس في هذا الأمر هو تعامل النقد الكلاسيكي مع هذه الظاهرة كمعطى من معطيات التركيب الأدبي ، لأنه كان منشغلاً بقضايا خارجية تخص العقل والأخلاق وتوظيف الظاهرة الأدبية نفسها في خدمـة مبادئ الإنسان وقيمه ومثله العليا ، أما الجوانب الفنية المتعلقة بالإبداع الأدبي فهي تأتي في المقام الثاني.
إن الثورة التي يزعم جيمس وأتباعه أنهم أحدثوها في قضية وجهة النظر لاتخرج عن نطاق التأطير المنهجي ، إذ لاحظ جيمس طرائق تقديم الخطابات الأدبية عبر السرد والعرض «التمثيل» إلى جانب استخدام الطريقتين معاً ، وربط هذا الأمر بالضمير أوالصوت الذي يقوم بذلك ، وهي مبادئ معروفة ومتحققة في النصوص الكلاسيكية ، مضيفاً إليها القيم الفكرية والاجتماعية أو بمعنى أشمل «الموضوعية» التي يكشف عنها العمل الأدبي بالنظر إلى موقع الأداة التي تتولى تقديم الخطاب القصصي والطريقة التي تتبعها ؛ يدخل ضمنها الصوت السردي والضمائر اللغوية ، وهي رغم كثرتها فإنها تتلخص في شخصية «الراوي»و«المؤلف» ، بوصفهما شخصيتين متمايزتين باعتماد الفوارق الفنية والشكلية أو كشخصية واحدة.
عمل جيمس في الحقلين معاً «النظري والتطبيقي»، فقدم النظرية أي المنهج والنصوص التي تبرهن عن وجودها كفلسفة أدبية جديدة نشأت في حقل الأدب تريد أن تكتسب بعداً معرفياً ، وسرعان ما تجمَّع حولها العديد من الأنصار والمؤيدين والمشرعين ، أمثال : «برسي لوبوك» و«وارين بيتش» وغيرهم ، ولو كانت هناك حسنة تسجل لصالح «جيمس» فهي قدرته على الإمساك بهذا المظهر الأدبي والتركيز عليه كشيء ذي أهمية ، رغم ماتعرضت له نظريته من نقد وربما سخرية ، حيث استند الفريق المعارض على براهين موضوعية تبرر رفضهم «للزوبعة» – بحد تعبيرهم – التي أثارها موضوع وجهة النظر ، وقد ظل الأدباء يقدمون أعمالاً عظيمة قبل وبعد ظهور هذا الموضوع ، يتضح ذلك في تطبيقات «فورستر» حينما قام بتحليل النصوص الأدبية الخالدة لــ: (تولستوي ، وديكنز ، وأندرية جيد) . وحاول آخرون تقديم نظريات موازية لنظرية جيمس ، كما فعل «واين بوث» ؛ رغم أنه فقد السيطرة على مشروعه النظري حينما حاول معالجة القضية من جوانب كثيرة ، وعني بالتفاصيل التي أفقدته التركيز وصرفته عن موضوعه الرئيس.
أفاد النقاد المحدثون من الخبرات المتراكمة التي صحبت هذه القضية ، وفي السياق ذاته وظفوا نتائج التطور الكبير الذي حدث في حقل الدراسات الإنسانية بصفة عامة والدراسات النقدية بشقيها الأدبي واللغوي بصفة خاصة ، إلى جانب المذاهب الفكرية ، والفلسفية ، والأدبية التي ظهرت في العصر الحديث في الدراسات التطبيقية ، وقد تشكلت المناهج النقدية استناداً على هذه المرجعيات ، وكان حظ الفن القصصي واسعاً من هذه الثورة بداية بظهور المدرسة الشكلية في روسيا ، مروراً بحلقة براغ وجماعة كوبنهاجن ، إلى ظهور التيارات البنيوية في روسيا وألمانيا ، لتكتمل كمدرسة أدبية وفكرية شاملة الرؤية في فرنسا ، يقود دفتها مجموعة من النقاد الذين أسهموا في صياغة نظرياتها ومناهجها النقدية الحديثة مثل : (تودوروف ، ورولان بارط ، وجيرار جنيت) وغيرهم ممن عرض لهم هذا المبحث في سياق الحديث عن وجهة النظر ، داعمين نظريتها بالمباحث المنفصلة والدراسات التطبيقية ، وقد لاحظ الباحث أنهم كانوا يعالجونها في إطار دارستهم لمرتكزات السرد الأدبي وعناصره الفنية نظرياً وتطبيقياً.
الهوامش
1) بناء الرواية – سيزا قاسم– دار التنوير للطباعة– بيروت لبنان – ط1 1983مص 178/ انظر أيضاً: تحليل الخطاب الروائي – سعيد يقطين –المركز الثقافي العربي – بيروت لبنان – ط1 1989مص 285/ وانظر أيضاً: دراسات في الرواية العربية أنجيل بطرس سمعان– الهيأة المصرية العامة للكتاب – 1987مص 90 ومابعدها.
2) صنعة الرواية – برسي لوبوك – ترجمة عبد الستار جواد – منشورات وزارة الثقافة والإعلام – العراق1981م ص 251 وما بعدها.
3) المصدر نفسه ص225 وما بعدها.
4) المصدر نفسه ص 103.
5) تحليل الخطاب الروائي ص 286-287.
6) بناء الرواية ص 182.
7) الأخوة كارامازوف – فيدورديستويفسكي – تعريب عبد العزيز أمين – دار الكتاب العربي –القاهرة – د.ت ص52 وما بعدها.
8) مجلة الثقافة الأجنبية – دار الشؤون الثقافية العامة – السنة 11- العدد الثاني – 1992م ص 43.
9) المصدر نفسه ص 44.
10) المصدر نفسه ص 45.
11) طرائف تحليل السرد الأدبي – رولان بارت وآخرون –منشورات اتحاد كتاب المغرب العربي – الرباط – ط1 1992 مص 39.
12) المصدر نفسه ص 41.
* التوازي : «هو الإتيان بعناصر مماثلة في مواضع مختلفة من العمل الفني ، والتكرار هو أساس الإيقاع بجميع صوره «معجم المصطلحات في اللغة والأدب. ص 17.
13) طرائف تحليل السرد الأدبي ص 58 ومابعدها.
14) الراوي والنص القصصي عبد الرحيم الكردي– دار النشر للجامعات – القاهرة 1996مص 108انظر أيضاً : / طرائق تحليل السرد الأدبي ص 58/ انظر أيضاً : تحليل الخطاب الروائي ص 287.
15) تحليل الخطاب الروائي ص 293.
16) بناء الرواية ص 179.
17) تحليل الخطاب الروائي ص 294.
18) المصدر نفسه ص 294-296.
19) أركان القصة – أ .م. فورستر. ترجمة كمال عياد – الهيئة المصرية العامة للكتاب 2001م ص 105.
20) المصدر نفسه ص 107.
21) طرائق تحليل الخطاب السردي ص 71 وما بعدها
22) مجلة الثقافة الأجنبية – دار الشؤون الثقافية – السنة 11 العدد الثاني 1992 ص55.
23) المصدر نفسه ص 55
فيصل مالك أبكر
ناقد وأكاديمي من السودان