تمهيد
ليست الموضوعية بداهة لا في الفلسفة ولا في الإبستمولوجيا ولا في العلوم، ناهيك عن خطاب يعتمد اللغة الطبيعية كالخطاب الصحفي. إن حالة التجرد التي تُبنى في شكل مطلب يتحمَّل مسؤوليته الصحفي، تؤول إلى رغبة مستحيلة التحقق في خلق خطاب يصف ويؤول وقائع العالم بلغة طبيعية وفي نفس الوقت مجردة من أي حضور للذات.
إنها (أي حالة التجرد) تحيل إلى رغبة في تعطيل الذات. أي أن يتحول الصحفي إلى عين وأذن بدون وعي منظم يرسي تفضيلات معينة ويقوم بخيارات خاصة ويضفي أشكالا من المعنى. وهي نفس الوضعية التي سبق لميشال فوكو أن انتقدها واستكثرها على العلوم الإنسانية نفسها. «فالباحث لم يعد المشاهد المتجرد الذي يراقب نصب الخطاب الصامت»،(1) بل هو متورط في الممارسات الاجتماعية التي يدرسها ومُنتَج إلى حد كبير من قبلها.
تبدو الموضوعية كدَين تجاه القارئ ينبغي سداده من قبل الصحافة، كما لو كانت هذه الأخيرة تقع في أفق جماعي للمعنى الذي ينبغي إدراكه بنفس الصيغة والشكل والمضمون. في حين أن كل ما ينتزع من الخطاب الذي تبنيه الصحافة سواء كان معنى أو قيمة يتحدد من خلال ممارسات مركبة لا يضبطها فقط منطق اللغة ولا تحركها إرادة الصدق لوحدها؛ أي تلك الإرادة التي تجعل القول فعلا أخلاقيا، بغض النظر عن الوساطات المعقدة التي تُبنَى على طاقة تحويلية تُصيِّر الحدث الخام إلى خبر ذي معنى قابل للتسويق في أذهان الناس.
تمنحنا المقارنة بين الخبر في علوم العربية (خاصة البلاغة) والخبر في الصحافة فرصة تعميق رؤيتنا لسؤال الموضوعية في الخطاب الصحفي، إذ من خلال ذلك يمكن اختبار مفهوم الموضوعية بالنظر إلى مفهوم الصدق. وزيادة على ذلك فهي تتيح مراجعة مفهوم «الوصف» الذي تقوم عليه المهمة الأساسية لصياغة الخبر الصحفي بالنظر إلى خلفية مكونة من ممارسات وعلاقات بالعالم لا باعتباره موضوعات جامدة قابلة للتثبيت في الزمن، وإنما باعتباره أحداثا تسيل وتُنجز نفسها بشكل معقد، ومن الصعب السيطرة على بدايتها ونهايتها بدون تعسف أو اختزال. وذلك بالضبط ما سنعكف على تحليله في المباحث اللاحقة.
1 ـ الخبر في البلاغة و الصحافة : سؤال مشترك
أ ـ المنظور البلاغي للخبر وسؤال الصدق :
معجميا تدور لفظة الخبر في القواميس العربية حول معنى الإعلام، فخبر بالشيء علمه بحقيقته وكنهه. وخبره بالشيء أعلمه إياه وأنبأه به. ويقال أخبره خبره، أي أنبأه بما عنده، وتخبر الأمر علمه بحقيقته، والإخباري من يدون الأخبار ويسردها.(2)
ويستنتج طلحة جبريل من التعريف المعجمي في القواميس العربية تعريفا مكثفا للخبر هو «إضافة معلومة جديدة للقارئ».(3)
وهو ما يعني أن هناك قيمة تحايث الخبر وتحكم رواجه وتداوله هي قيمة الجِدة. ومن ثمة فورود معلومة قديمة سبق تداولها لا يعتبر خبرا. بالطبع هذا التحديد يعيّن تموقع الخبر في الحقل الصحفي ؛ وإذا ما وضعناه في مقارنة مع تحديده البلاغي فذلك يمكننا من خلال رصد الاختلافات بينهما من إفراز إشكاليات تكتسب أهمية كبيرة بالنسبة لسؤال الموضوعية.
في المنظور الذي بلورته البلاغة العربية للخبر(مبحث المعاني) ترتسم القابلية للتصديق والتكذيب باعتباره القيمة الأساسية لتمييز الخبر عما ليس إياه (الإنشاء).
فالخبر هو ما يحتمل الصدق والكذب، وهو «مالا يتوقف صدقه على النطق به» ( المراغي «علوم البيان و المعاني و البديع» ص43) .
ويرى السكاكي ( المتوفى في 626 هـ) في مفتاح العلوم أن التعريف الذي يحدد الخبر بما يحتمل الصدق والكذب يقع في الدور لكونه يحدد الصدق بالخبر الذي يخبر بالشيء كما هو، ويحدد الخبر بما يحتمل الصدق والكذب. إذ يقول «أما ترى الحد الأول حين عرف صاحبه الصدق بأنه الخبر عن الشيء على ما هو به، والكذب بأنه الخبر عن الشيء لا على ما هو به، كيف دار فخرج عن كونه معرفا، ومن ترك الصدق والكذب إلى التصديق والتكذيب ما زاد على أن وسع الدائرة» ورغم ذلك فإن السكاكي يعود ليؤكد أن احتمال الصدق والكذب هو لازم الخبر بلا منازع «إما النزاع في أن يكون حدا».(4)
وحسب التحديد البلاغي المشار إليه فللخبر نسبتان:الأولى : تفهم من الخبر ويدل عليها الكلام، وتسمى النسبة الكلامية, والثانية : تعرف من الخارج والواقع بقطع النظر عن الخبر وتسمى بالنسبة الخارجية.
الخبر بهذا عبارة تتوجه إلى واقع تعتبر مطابقته شرط صدقها، وعدم مطابقته دليل كذبها. فإذا قلنا الشمس طالعة وكانت هي في الواقع والخارج كذلك سمي الكلام صدقا، وإن لم تكن طالعة سمي الكلام كذبا.(5) وإذا كان من الجلي أن الخبر ـ كما يظهر من خلال هذا التعريف يتكون أساس تميزه عن الإنشاء من خلال مهمته الوصفية التي تتوجه إلى عالم الأشياء، فمن الواضح أن هذا العالم لا يتكون من أشياء ثابتة أو موضوعات جامدة فقط وإنما يضم أحداثا متغيرة تتم وتنتهي في الزمان، ومنها كيانات نفسية متحولة لا تلبث على حال.
وخالف المتكلم إبراهيم النظام (القرن الثالث للهجرة) رأي الجمهور بخصوص صدق الخبر، فاتحا بذلك بعدا آخر في مفهوم الصدق الذي تكرس في مستوى العلاقة ما بين الكلام والواقع الذي يحيل إليه. فإذا به يوجه هذه العلاقة إلى الذات.
فالنظام يرى أن صدق الخبر هو «مطابقته لاعتقاد المخبر ولو كان خطأ غير مطابق للواقع وكذبه عدمها. فإذا قال قائل : الشمس أصغر حجما من الأرض معتقدا ذلك كان صدقا، وإذا قال الشمس أكبر من الأرض وكان غير معتقد ذلك كان كذبا».(6)
يترتب عن هذا البعد الجديد في العلاقة المزدوجة للخبر بالذات المخبرة من جهة أولى وبالواقع الذي يحيل عليه من جهة ثانية إفراز قيمتين اثنتين مضافتين إلى قيمتي الصدق والكذب هما الصواب والخطأ. فالخبر الذي يطابق الواقع خبر صائب وليس صادقا.
ولا يكون كذلك إلا عندما يطابق اعتقاد المتكلم. والخبر الذي لا يطابق الواقع ليس كاذبا وإنما خاطئا، وقد يكون صادقا حتى لو كان كذلك إذا ما طابق اعتقاد المخبر به.
وحسب هذا المربع القيمي الذي يتقابل فيه الصدق والكذب والصواب والخطأ يكون الخبر مدرجا في الأحوال الآتـية :
صادق صائب.
صادق خاطئ.
كاذب صائب.
وبخلفيته الفكرية كمتكلم، يسوق عن ذلك إبراهيم النظام حججا ذات مضمون عقائدي. فمن اعتقد أمرا فأخبر به ثم ظهر خبره مخالفا للواقع فإنه يقال له ما كذب وإنما أخطأ، حيث روي عن عائشة (زوجة الرسول) أنها قالت فيمن شأنه كذلك «ما كذب ولكنه وهم».( ذكره المراغي ص:44 )
ومن حججه أيضا الآية القرآنية : «باسم الله الرحمن الرحيم إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون» [سورة المنافقون (7)، إذ يرى النظام أن الله كذبهم في قولهم «إنك لرسول الله» وإن كان ذلك مطابقا للواقع لأنهم لم يعتقدوه.
واعتبر الجاحظ تلميذ النظام أن هناك حالة وسطى بين الصدق والكذب «لأن الحكم إن طابق الواقع مع اعتقاد المخبر بأنه مطابق فهو صدق، وإن لم يطابق الواقع مع اعتقاده أنه غير مطابق فهو كذب، وغير هذين ليس بصدق ولا بكذب».(8)
يتيح منظور إبراهيم النظام إعادة موقعة الخبر ما بين الذات والموضوع، فتُحدد قيمته بالنظر إلى نسبته إلى أحديهما : بالنظر إلى الذات فالخبر ينقل اعتقادا وبالنظر إلى الموضوع فهو يصف واقعا خارجيا. إذ تحاول الموضوعية في الصحافة تعطيل المستوى الأول (الذات) لفائدة الموضوع حيث ينبغي أن تخلي الذات من حيث هي اعتقادات وقيم وتفضيلات المجال لموضوع ينعكس بشفافية في خبر هو عبارة عن كيان لغوي واصف يلغي نفسه لحساب ظهور الأشياء.
لكن ما يذكرنا به إبراهيم النظام هو أن الخبر حتى وهو يطابق الواقع الذي يحيل إليه فهو ينقل اعتقادا يعود للذات. وإذا ما طبقنا ذلك على الخبر في الصحافة سنجد أنه ينقل اعتقاد الصحفي في وقوع الحدث الذي يصفه الخبر. ومن ثمة فتنقية الخطاب الإعلامي من أي حضور للذات، يبدو مستحيلا على الأقل في هذه الحدود التي ترسمها البلاغة التي توسعت في إظهار أوجه حضور الذات في الخبر من خلال الإمكانات التي تتيحها اللغة كما هو الشأن مثلا بخصوص التوكيد الذي هو موقف من الذات المخبرة يضاف إلى الحكم المتضمن في الخبر ليدفع تردد المخاطب في قبوله «لأن التوكيد تمكين الشيء في النفس وتقويته، لإزالة الشكوك وإماطة الشبهات عما أنت بصدد الإخبار عنه».(9)
ويؤكد عبد القاهر الجرجاني أن الخبر ينطوي على ما يمكن أن نسميه بِنِيَّة الإثبات التي تعود إلى المخبر، بإثباته أو نفيه للمعنى بخبر المبتدأ للمبتدأ أو بالفعل للفاعل.(10) كما يوضح ذلك قائلا : «…ومن الثابت في العقول والقائم في النفوس أنه لا يكون خبر حتى يكون مخبرُ به ومخبر عنه، لأنه ينقسم إلى إثبات ونفي: فلو حاولت أن تتصور إثبات معنى أو نفيه من دون أن يكون هناك مثبت له ومنفي عنه، حاولت مالا يصح في عقل ولا يقع في وهم…»(11) إذ الخبر معنى لا يُتصور إلا بين شيئين، يكون أحدهما مثبتا، والآخر مثبتا له أو يكون أحدهما منفيا والآخر منفيا عنه. وهكذا لا يمكن تصور مُثبَت من غير مثبت له ومنفي من غير منفي عنه.
وعلى خلفية التصور الذي يدافع عنه والذي تمثل فكرة «الكلام النفسي» الأشعرية دعامته يحدد الجرجاني العنصر الأساسي في الخبر مرجعا إياه إلى الذات المخبرة، حيث يقول «وإذا عرفت أنه لا يتصور الخبر إلا فيما بين شيئين : مخبر به ومخبر عنه، فينبغي أن تعلم أنه يحتاج من هذين البعدين إلى ثالث. وذلك أنه كما لا يتصور أن يكون هاهنا خبر حتى يكون مخبر به ومخبر عنه، كذلك لا يتصور أن يكون خبر حتى يكون له «مخبر» «يصدر عنه ويحصل من جهته».(12) ونفس الفكرة بشير إليها السكاكي في تحديده لما يسميه بمرجع الخبرية في قوله : اعلم أن مرجع الخبرية، واحتمال الصدق والكذب إلى حكم المخبر الذي بحكمه في خبره بمفهوم لمفهوم»(13)، حيث يكون المخبر هو مجال الإسناد الخبري أي «الحكم بمفهوم لمفهوم»(14)، ويكون السبب في كون الخبر محتملا للصدق والكذب هو إمكان تحقيق ذلك الحكم.
لكن الجرجاني الذي يصف الخبر بأنه أعظم المعاني النحوية شأنا(15) يمنح الذات المخبرة قوة أكبر. إذ لا خبر يتصور إلا بوجود مخبر يعود إليه الخبر «ويكون له نسبة إليه، وتعود فيه التبعة عليه، فيكون هو الموصوف بالصدق إن كان صادقا، وبالكذب إن كان كذبا».(16)
يرجع الجرجاني هنا صفة الصدق والكذب إلى المخبر، ففيه ينعقد الإسناد الخبري إثباتا ونفيا «لأن الخبر وجميع الكلام، معان ينشئها الإنسان في نفسه ويصرفها في فكره ويناجي بها قلبه، ويراجع عقله، وتوصف بأنها مقاصد وأغراض، فكل نفي وإثبات يفترض مثبت وناف هو مصدرهما، وإذ يجعل كل خبر متعلق بمخبر هو مصدره. فهو يفسح المجال للذات باعتبارها المكان الذي ينعقد فيه معنى الخبر من حيث هو حكم ووإذا أردنا أن نستعمل لغة الفلسفة الحديثة فهو يمنح للذات وضعا تأسيسيا هو الذي يتيح إمكان الخبر من حيث هو إثبات محمول لموضوع أو نفيه عنه.
وبالطبع، فصاحب «دلائل الإعجاز» ينطلق في ذلك من دفاعه عن موقف أشعري أخذ شكله النظري من خلال فكرة «الكلام النفسي» المتعلقة بالإشكالية التي أثارها المتكلمون حول كلام الله «واعتباره مكونا من كلمات مرتبة في علم الله الأزلي ترتيبا خارجا عن تصورنا، لا يلزم منه أن تتعاقب الكلمات. ومن ثمة لا يلزم من ترتيبها في الأزل أن تكون حادثة.(17) وذلك مقابل المنظور الاعتزالي الذي تصور النظم في اللغة والقرآن واقعا في الكلام المؤلف من الأصوات وأن موضوعه هو الصياغة اللفظية مبلورين نظرة لفظية للفصاحة(18). وهو ما كان عبدالقاهر الجرجاني يدحضه موجها كلامه لمن يسميهم «أصحاب اللفظ»، منتقدا تصورهم للخبر بكونه صفة للفظ ناعتا إياه بالتوهم، حيث قال : «توهموا في الخبر أنه صفة للفظ، وأن المعنى في كونه إثباتا ، إنه لفظ يدل على وجود المعنى من الشيء أو فيه، وفي كونه نفيا أنه لفظ يدل على عدمه وانتفائه عن الشيء، وهو شيء قد لزمهم. وسرى في عروقهم وامتزج بطباعهم حتى صار الظن بأكثرهم أن القول لا ينجع فيهم»(19).
يقرر الجرجاني في رده عليهم بأن مدلول اللفظ ليس وجود المعنى أو عدمه، ولكن الحكم بوجود المعنى أو عدمه لأنه لو كان معنى الخبر في حالة الإثبات أنه لفظ موضوع ليدل على وجود المعنى المخبر به من المخبر عنه أو فيه «لوجب أن يكون كذلك أبدا، وأن لا يصح أن يقال : «ضرب زيد»، إلا إذا كان الضرب قد وجد من زيد. وكذلك يجب في النفي أن لا يصح أن يقال : «ما ضرب زيد» إلا إذا كان الضرب لم يوجد منه»(20)، لأن ذلك يتبع أن تجويز القول «ضرب زيد» دون أن يكون الضرب قد حدث منه، يوجب إخلاء اللفظ من معناه الذي وضع ليدل عليه, وهو ما يقطع الجرجاني بفساده. لأن معنى اللفظ يظل هو نفسه في قول الكاذب وقول الصادق.(21) وذلك ما يسوق عبد القاهر دليلا عليه قائلا : «والدليل على أن اللفظ من قول الكاذب يدل على نفس ما يدل عليه من قول الصادق، أنهم جعلوا خاص وصف الخبر أنه يحتمل الصدق والكذب، فلولا أن حقيقته فيهما حقيقة واحدة لما كان لأحدهم هذا المعنى».(22).
وينعكس على ذلك تقدير قيمة الصدق والكذب، فأصحاب اللفظ (كما يسميهم الجرجاني) يرون أن الكاذب يدل على وجود ما ليس بموجود، وعلى عدم ما ليس بمعدوم، وهو ما يعتبره صاحب دلائل الإعجاز تهافتا ودخول في اللغو من القول(23)، في حين أن الأصوب في نظره أن الكاذب يحكم بالوجود فيما ليس بموجود، وبالعدم فيما ليس بمعدوم.
كما يرفض اعتبار الكاذب من يأتي بالعبارة على خلاف المعبر عنه، لأن ذلك يقال لمن له إرادة في قول شيء فيعبر عنه بلفظ لا يصلح لما أراد أي أنه شخص خانت عبارتُه إرادتَه في القول. وهو ما لا ينطبق على الكاذب بأي وجه من الأوجه.(24).
بقي أن نشير إلى أن تحديد الخبر من منظور البلاغيين كان ـ من حيث هو ما يحتمل الصدق والكذب ـ مشدودا إلى غاية إفادة المخاطب. فكما قال الجرجاني «إن الناس إنما يكلم بعضهم بعضا ليعرف السامع غرض المتكلم ومقصوده، فينبغي أن ينظر إلى مقصود المخبر من خبره، ما هو ؟ (25).
وبالنظر إلى هذه الغاية تشكلت الفنون الخبرية كما صنفها صاحب مفتاح العلوم ويعود أولها إلى اعتبارات الإسناد الخبري، وثانيها إلى اعتبارات المسند إليه، وثالثها إلى اعتبارات المسند، ورابعها إلى اعتبارات الفصل والوصل والإيجاز والإطناب.(26) بل تعمق بعضهم في أشكال تداخل الخبر بالطلب كما فعل محمد القاسم الأنصاري السجلماسي (من نقاد القرن الثامن للهجرة بالمغرب) في كتابه «المنزع البديع في تجنيس أساليب البديع»، واصفا وضع شكل الخبر موضع شكل الطلب، ووضع شكل الطلب موضع شكل الخبر.(27) وميزوا ما بين الخبر الناقل لمعلومة يجهلها المخاطب وما بين الخبر الناقل لعلم المتكلم بالمعلومة فسميت الأولى فائدة الخبر والثانية لازم فائدة الخبر.(28)
ب ـ الخبر الصحفي : عدم كفاية النموذج البلاغي
لا يعتبر التحديد البلاغي للخبر من حيث هو ما يحتمل الصدق والكذب، كافيا لإشباع متطلبات الخبر في الصحافة، فعبارة «الطاولة السوداء»، تعتبر خبرا في البلاغة لأنها تحتمل الصدق والكذب. لكنها لا ترقى لتكون خبرا صحفيا. ذلك ما تعمل الأدبيات الصحفية على تحديده، فقد سبقت الإشارة إلى أن الخبر في الصحافة تحايثه قيمة «الجدة»، لأنه ما يحمل معلومة جديدة.
بل ذهب عبد العزيز الغنام في كتابه مدخل في علم الصحافة إلى اعتبار حداثة الخبر وارتباطه بالآنية(actualité) مكونا أساسيا في تعريف الصحافة. بل أن اسم الصحيفة باللغات الأجنبية يحدد الدلالة الأساسية لأهمية هذه السمة. «إذ أنها تحتوي دائما على أشد الأحداث التزاما بالآنية: وأكثرها أهمية بالنسبة للجمهور».(29)
فاسم «نيوز» (News) باللغة الإنجليزية يدل على الجديد، واسم «تزايتونغ» الألمانية (Zeitung) يدل على طابع الزمنية، وكلمة «جورنال» الفرنسية (Journal) تدل على اليومي.
يستمد الخبر الصحفي إذن كيانه من هذا الارتباط بالآنية التي تغدو معه شكلا لتجربة يخوضها العالم مع نفسه كتدفق من الأحداث التي تعلن عن جدتها كانقطاع في صلب الفضاء الإدراكي للقارئ، إنها تكسر نمطية مابات معهودا من المعلومات، خالقة نتوءا جديدا يحمله الحدث المستجد الذي يستحق أن يتحول إلى خبر.
وبفعل التطور التكنولوجي وما وفره من سعة في التقاط وبث وتوزيع الأخبار، أضحت الآنية ليست مصدرا للاشتغال الصحفي، بل نتيجة له، فكما سجل ذلك سيريل لوميو (Cyril le mieux) في كتابه: «الصحافة الرديئة، سوسيولوجيا متفهمة للعمل الصحافي وانتقاداته» أن الآنية هي حصيلة عمل مشترك يساهم في خلقه الصحفي.(30) إنه يحدد محتوى ما يعتبره الإنسان حاضرا، ويصوغ بالنسبة لهذا الكائن معنى الآنية التي تحمل شكل تزامن مع العالم الذي يوجد فيه، حتى أن الفيلسوف الألماني شوبنهاور سمى الصحافة بأنها «عقرب الثواني للأحداث العالمية»(31) .لأن الآنية هي ما يجعل للخبر قيمة في الوقت الذي ينشر فيه . واعتبرت جيرالدين مولمان (Géraldine Muhlman) في كتابها الهام الصادر سنة 2004 بعنوان «بصدد الصحافة في الديمقراطية» أن الكتابة الصحفية تواجه مشكلا مزدوجا هو ذلك المتعلق بزمنيتها (Temporalité) أي الحاضر، وفي نفس الوقت ذاك المتعلق باختراق هذه الكتابة للواقع وولوجها إليه . فرغم أن بعض الاستنتاجات المتسرعة ترى أن إكراه الحاضر يحرم هذه الكتابة من الوصول إلى قلب الواقع، إلا أن هناك أنماط من الواقع تستدعي كتابة في الحاضر(32)، تخلق تآنيا ما بين الكتابة والمعيش (le vecu). إن الصحافة تتحمل مهمة منح الجمهور حضور العالم.(33) وتحوك علاقته باللحظة التي يوجد فيها، ويمتد بامتدادها ، وتجعله جزءا من هذا العالم . وهو ما عبّرت عنه حنا أرنت (Hannah Arendt) : «بدون ما يقوم به الصحفيون لا يمكن أن نعثر على موقعنا في عالم متغير بشكل دائم، وبالمعنى الأكثر أدبية، ولن نعرف أبدا أين توجد» (33) ، إذ ليس العالم اليوم سوى مركب الأخبار التي تصلنا كل لحظة.
ما نستنتجه مما ورد أعلاه هو أن الخبر في الصحافة لا يتحدد فقط بالنظر الى احتمال صدقه أو كذبه، وإنما أيضا وبشكل أساسي بالنظر إلى ارتباطه بالزمن، أنه «يُصَفّي» الجديد والمهم من العالم المتغير ويمنحه كيان الأقرب إلى زمن القارئ والمتلقي.
لذلك فمعلومة متقادمة لا يمكن أن تكون خبرا في الصحافة لأنها لا تنتمي للآنية. فقد تساءل عبدالله العروي في كتابه «مفهوم التاريخ» : «كيف ينشأ الخبر لدى الصحفيين ؟ تحدث حوادث ووقائع في كل لحظة وفي كل مكان، ولا يذكر في نشرات الأخبار إلا ما شاهده أو سمع به مخبر، مبعوث خاص أو مراسل مقيم.»(34) هناك فرز ما بين المهم الذي يستحق أن يبث وأن ينشر والثانوي الذي يُهمل. لكن هذا الحكم يظل مؤقتا قابلا للاستدراك كما يشير المفكر المغربي إلى ذلك، فالآنية قد تقلب ما كان تافها إلى الحدث الأهم بالنظر إلى ما ترتب عنه.
وقد دفع الاهتمام المشترك بالخبر إلى تشبيه عمل الصحفي بالمؤرخ. فالأول مؤرخ اللحظة والثاني مؤرخ الماضي(35) . لكن عبد الله العروي يرفض هذا التشبيه، فالتشابه «ليس بين الصحافي والمؤرخ مطلقا، بل بين الصحافي والإخباري الذي يسمى أحيانا كاتب الحوليات. كلاهما يسجل الحدث عند حدوثه، يؤرخ للحاضر (لا يؤرخ التاريخ ـ الحاضر)، بل يحل الزمان كله في اللحظة ،إذ يعتبر أن اللحظة وجود فعلي… والحدث هو لحظة حدوثه. مفصولا عن كل شيء سواه، معناه ينحصر في حدوثه»(36) ويدفع العروي بهذا التمحور للخبر الصحافي حول الحاضر إلى حدوده القصوى باعتباره هذا الاهتمام بالحدث عند حدوثه انغماسا في حاضر دائم، وفي خصوصية اللحظة العابرة.(37).
يمكننا أن نفهم بناء على ما سبق لماذا لا تشكل عبارة مثل الطاولة «سوداء» خبرا صحفيا ،رغم أنها تصنف خبرا من الناحية البلاغية لأنها تحتمل الصدق والكذب،.
يعود ذلك لكونها ليس لها وقع بالنسبة للآنية، إنها لا تشكل انقطاعا في متصل ما. «الشمس تشرق غدا» لا تعد خبرا في منطقة تعرف صيفا حارا يتوالى فيه شروق الشمس شهورا متعاقبة. لكنها تشكل خبرا قويا ومؤثرا إذا ما جاءت في متصل توالت فيه أسابيع من الثلج والبرد والسماء الغائمة. تحولها إلى خبر صحفي هنا متأت بالأساس من قيمة الانقطاع الذي تحدثه في متصل زمني ، وهو ما يجعل من الواقعة التي يصفها الخبر حدثا. وهذه الخاصية هي التي تمنحه إثارته الخاصة لدى الجمهور. إنه يشكل جزءا من آنيتهم بل ويعدلها . وانطلاقا من قيمة الانقطاع هذه فعبدالله العربي يرادفه بالطارئة.
وإذا كان الخبر الصحفي يتحدد بالنظر إلى الزمن وإلى وقع الآنية، فإنه يستلزم عناصر أخرى تمثل شروطا أساسية لاستيفاء هذا المفهوم، إذ يمكننا صياغة تعريف لهذا الجنس من الكتابة الصحفية رابطين إياه بشبكة الممارسات التي تتيحه، فقد أشار جاك موريكان في كتابه الذي يحمل عنوان «الكتابة الصحفية» أن التمييز بين الخبر والقصة يمثل صلب النقاش الذي يدور ما بين الكتابة الصحفية والأدب، ففي الوقت الذي تقوم فيه الكتابة الصحفية على تقديم الواقع مع حرصها على نقله بأمانة، يمثل التحرر من واجب الأمانة هذا امتياز الكتابة الأدبية، كما أن التزام الصحفي بعدم التدخل في الواقع الذي يصفه والتجرد منه : تقابله حرية أكبر لدى كاتب الأدب في إثارة مشاعر القارئ وتغيير الواقع قليلا، بل وتحريفه.(38)
إن الأخبار التي قال عنها سلامة موسى أنا الصلة الروحية التي تربط بيننا وبين الوطن الذي ننتمي إليه، كما بيننا وبين العالم(39)، تستمد مقومات وجودها من الحدث .وانطلاقا من هذا المفهوم يمكن تقدير ماهيته، بل وأكثر من ذلك، تحديد الإمكانات المتاحة أمامه ليكون موضوعيا. فبالنسبة لعبدالعزيز غنام، فالخبر «حادث تهتم به الجماهير، ويمتاز بالآنية ويؤثر في الرأي العام(40)، إنه سرد لشيء قد حدث. وبذلك يمكن التفرقة بينه وبين القصص الخيالية. لكن عندما نستدعي خصائصه اللغوية سنجد أن هناك صياغة نظرية ممكنة تستوعب الخبر الصحفي بكل أصنافه. إنه لغة تحيل على الواقع. ومن ثمة فهو وصف لغوي موضوعه حدث، وتحدد قيمة الخبر من حيث هو كيان لغوي بالنظر إلى الواقع الذي يصفه. فخبر يتحدث عن «حادثة سير» وقعت في الطريق السيار لا يكتسب معناه ودلالته إلا بالنظر للواقع الذي يتشكل من مركب من الأحداث التي تتجمع تحت عبارة حادثة سير، ومن ثمة فالخبر الصحفي لا ينجز نفسه إلا باسم واقع حدث فعلا، حتى في حالة الكذب. ويستلزم ذلك عناصر تأسيسية يفرضها منطق الحدث، تبعده عن كونه ابتكارا شخصيا للصحفي، وإنما نتيجة موضوعية للحدث نفسه. كما لو كانت كل الأخبار التي تنشر في الصحف وتبث في الإذاعة والتلفزيون، أو في شبكة الأنترنيت، تبنى على عبارة ضمنية تقول : «هذا ما وقع»، أي ما سميناه في ما سبق بنية الإثبات.
وتسمى هذه العناصر التأسيسية للخبر بالأخوات الست أو الأسئلة الستة التي قال جاك موريكان أن الصحفي يتقاضى أجره مقابل الإجابة عنها.(41) ويستلزمها منطق الحدث الذي يفرض أن يكون لحدوثه زمن ومكان، وكيفية الحدوث، وطرف يقع عليه الحدث وسبب وأخيرا الحدث نفسه، ولخصتها بعض الأدبيات الصحفية في مستلزمات الإجابة عن سؤال ما القضية ؟ تترجم هذه العناصر من خلال الأسئلة: من ؟ ماذا ؟ أين ؟ كيف ؟ لماذا ؟ متى ؟ والنص الذي يُسَوَّقُ باسم الخبر الصحافي ولا تتوفر فيه هذه العناصر، لا يخرج فقط من جنس الخبر وإنما يصبح أقرب إلى التلميح.» فالقارئ الذي يقرأ نصا يجيب على القليل جدا من هذه الأسئلة، يشعر بالانزعاج ويراوده الشك أحيانا إزاء شرعية الكاتب، هنا يصبح النص أقرب إلى الشائعة».(42) إن ذلك يمكننا من تحديد الأسباب التي لا تجعل عبارة «الطاولة سوداء» رغم كونها تحتمل الصدق والكذب خبرا صحفيا. إذ لا تتكامل فيها العناصر الواردة أعلاه.
وبغياب بعضها تصبح المادة الخبرية فيها محكومة بثغرة تضعف علاقتها بالقيم الأساسية التي تمنح للخبر الصحفي كيانه.
فغياب عنصر الزمن يفقد هذه العبارة وقعها بالنسبة للآنية ، وكذلك الأمر بالنسبة لعنصر المكان والكيفية وغيرها … وهذا الغياب يحرمها من عنصر الانقطاع الذي يخلق منها حدثا .إذ هي تدل على متصل ما في الزمن وفي الإدراك وليس على تحول له وقع الجدة.
يؤطر الخبر الصحفي بكامله في العناصر الستة، بل إن بعض الخبراء يرى أن استيفاءها هو المثل الأعلى الذي ينبغي للصحفي التطلع إليه، مبرر ذلك يعود بالدرجة الأولى إلى عنصر السببية المعبر عنه في سؤال : لماذا ؟ الذي ليس من السهل الإجابة عنه أو تحديده بدقة عندما يتعلق الأمر بالحدث.(43) فإذا كان الحدث هو مقتل شخص في انفجار قنينة غاز في زمن ومكان محددين، فإن سبب ذلك لا يمكن ضبطه بيسر بل يمكن أن يفتح الخبر على سلسلة سببية : مثل السبب يرجع إلى تسرب غازي ، سببه من قام بتركيب القنينة والذي لم يغلق مفتاحه جيدا، أو خلل أصلي في صنع القنينة وهكذا… وأكثر من ذلك فتحديد السبب يحايثه إلحاق أخلاقي وقانوني بالطرف الذي يتحمل مسؤولية الحدث، وهي ليست بالضرورة مهمة الصحفي وإنما مهمة مؤسسات أخرى تكفل المحاكمة وإنفاذ القانون(44). حيث أن ذلك يثير مسألة هل ينبغي للصحفي وصف الحدث من خلال خبره مع المرور إلى مستوى تحميل المسؤولية لجهة أو طرف معين المتضمن في الإجابة عن سؤال لماذا ؟ متخليا بذلك عن الموضوعية المفترضة في تدخله لبناء الخبر بشكل يظل وصفا لحدث معين وليس تأويلا له. في حين أن الإصرار على إظهار الحدث في نسقه السببي وهو الإصرار على استبقاء العنصر السادس من الخبر، يدخل عمل الصحفي إلى مجال التأويل المتمثل في إلحاقه ما كان ظاهرا منه بخلفية ظلت خفية انطلاقا منها يصير الحدث مفهوما. إنه بذلك يقطع المسافة الفاصلة ما بين الوصف وخلق المعنى وما يترتب عنه من إضفاء للقيمة.
في عملها الهام الذي وظفت فيه خبرتها وتخصصها المتعدد كمبرزة في الصحافة وكممارسة لها وكمبرزة في الفلسفة وفي العلوم السياسية، تؤكد جيرالدين مولمان أن السؤال الحيوي المطروح على الصحافة هو كيف علينا أن نكتب لنجعل هذا العالم الذي نعيش فيه يحدثنا ؟ (45)، حيث عملت على تكوين ماهية الخبر الصحافي بكامله انطلاقا من المهمة الأساسية التي يتحمل مسؤولية القيام بها وتسميها بـ« Faire voir ». إذ للخبر الصحافي والمكتوب بالدرجة الأولى مهمة جوهرية هي فتح حقل بصري لتمكين العالم من الظهور. والعبارات المكتوبة التي تنتظم لتكون نصا يسمى بالخبر الصحفي، والتي تكمن مهمتها في الوصف، تخلق فضاء للرؤية. «فليس التلفزيون وحده الذي يجعل العالم مرئيا بل إن الجريدة والإذاعة تساهم في ذلك…»(46)
إن الانطلاق من كون الخبر الصحفي يصف يعني أنه يكوِّن فضاء للرؤية العمومية (regard Public)، أي تلك الرؤية التي تجعل حدثا ما مسيطرا عليه في الفضاء المفتوح أمام العين. ليست هي عين خاصة بهذا الشخص أو ذلك، وإنما هي عين عمومية، عين كل الناس (Tout le monde).
إنه فضاء للرؤية يفتح باسم إدراك عمومي يسمح بصياغة عمومية للحقيقة ذلك الذي يكونه الخبر الصحفي. فمن خلال الكلمات التي يقرأها في الخبر المنشور في الجريدة, فالقارئ يرى الواقع، أي ينفذ إليه بصريا. وبالنسبة لجيرالدين مولمان فذلك يرتبط بالوظيفة السياسية لمفهوم المشاهد الذي يضع في الكلمات نظرته من أجل تقاسمها مع المتفرجين الآخرين. إنه يخلق مجالا بينذاتي (Intersubjectif) لنظرة مشتركة متخلصة من الاستثناءات التي تفرضها كل ذاتية. حيث كل واحد يرى من خلال نفس العين (عين عمومية) ذات الشيء . أكثر من ذلك فجرالدين مولمان لا ترى في الصورة ـ سواء منها الثابتة أو المتحركة ـ سوى توسيع لفضاء الرؤية الذي تخلقه الكتابة الصحفية، فمن المؤكد أن الخبر لا ينجز ولا يسوق نفسه باسم إدراك ذاتي، وإنما يتحدث باسم تلك العين العمومية التي تُظهر ما يجب أن يراه كل الناس. لذلك فما ينتظر منه هو أن يكون كتابة من دون ذات، كتابة تتخلى عن نفسها لتفسح المجال للأحداث لكي تغدو مرئية في كامل شفافيتها، وتفسح المجال للعين المتحررة من أية خصوصية تجعلها محكومة باستثناء الزاوية وذاتية النظرة ، للنفاذ إليها.
2ـ الخطأ و الكذب و موضوعية الخبر :
يرى هربرت .أ. شيللر في كتابه «المتلاعبون بالعقول» أن فعالية التضليل الإعلامي تجد مستند نجاحها في مبدأ الحياد الذي يخفي شواهد وجود التضليل بالشكل الذي يكون فيه الناس مقتنعين بأن الأشياء هي ما عليه من الوجهة الطبيعية والحتمية(47). بل أكثر من ذلك فهو يسمي الحياد بالأسطورة محللا تصوره هذا من خلال اشتغال النظام الأمريكي ومؤسساته ومنها الإعلام. إذ من المفترض أن أجهزة الإعلام تتسم بالحياد. لكن الصحافة عندما تعترف بأن العديد من تحقيقاها لا يتوخى الموضوعية فهي «تؤكد لنا على أنها نتيجة للخطأ الإنساني ولا يمكن أن تفسر على أنها عيوب جوهرية في نظام نشر المعلومات بصفة أساسية».48 كما أن حقيقة تبعية وسائل الإعلام للوبي المصالح الناتج عن كونها مشاريع تجارية مدخولها الأساسي من الاستغلال التجاري لمساحاتها الزمنية أو المكانية لمصلحة الإعلانات، لا تثير أية مشكلة بالنسبة لهؤلاء الذين يدافعون عن موضوعية ونزاهة الهيئات العاملة في حقل الإعلام .فهناك خلفية مكونة من مضمرات موجهة تضبط اشتغال آلية الإعلام وفق منظور «اقتصادي» يُرجع حرية التعبير إلى حرية الملكية الفردية فيغدو مجال رواج الأفكار إلى «سوق للأفكار «بمعناه الاقتصادي، وكذلك الشأن بالنسبة للأخبار التي تتحول إلى سوق للأخبار لتي تؤسس بدورها «لسوق الحقيقة» المحكومة بمبدأ المنافسة وحاجيات الزبون ومردودية البيع والشراء.
وإذا كان منظرو الإعلام يرون أن الفارق الدقيق الذي يفصل ما بين الخبر والتعليق يعود إلى النقل الموضوعي للواقع الذي يؤمنه الخبر ، والمعالجة الذاتية التي تشكل قوام التعليق الذي يقوم كجنس في الكتابة الصحفية على انتساب شرعي معترف به للذات. إلا أنهم يقرون أن «الموضوعية الكاملة لا يمكن تحقيقها. فمهما حاول الصحافي الوصول إلهيا فسوف تظهر بعض العناصر والاتجاهات الفردية»(49)، ومع ذلك فإنها تظل التزاما بالنسبة للصحافي إذ أن القول بأن الموضوعية كلشيه خدّاع ، هو في حد ذاته تقدير غير موضوعي لمهمة الصحافي.(50)
ويشير جان كلود برتراند إلى أن الأمريكيين قد توصلوا «بالإجماع تقريبا إلى استنتاج أن الصحافة غير موضوعية وبأن أفرادا وتنظيمات ذات نفوذ قادرة على حذف الأخبار وتوجيهها»(51). وهي إشارة دقيقة إلى أن الموضوعية الخبر ورهينة بممارسات أخرى خارج الخبر نفسه، كحذف أخبار معينة والدفع بأخرى إلى الصدارة أو توجيه الخبر ليؤكد معنى لا يتضمنه بالضرورة فيتحول إلى مقدمة لاستنتاج شيء آخر غيره. إن ذلك يعني أن الانحراف عن الموضوعية في الخبر لا يساوي تضمنه معلومة خاطئة، وإنما تعمد توجيه القارئ لبناء رأي محدد تجاه الموضوع في الخبر.
إن الخطأ لا يُستغرق بكامله في شرط غياب الموضوعية، لأن ذلك يفترض تصميما ذاتيا لتحريف الحقيقة .ومرد ذلك إلى الطبيعة المركبة للخبر الذي يصف معلومات متعددة مشكلة لكيان الحدث الموصوف كالزمان والمكان والأطراف المتدخلة في حدوثه والكيفية والأسباب.. والتي قد لا يكون أحدها دقيقا ومع ذلك لا يمس بموضعية الخبر.
يشير خبر ما إلى حادثة سير وقعت في السابعة مساء على بعد 25 كلم من مراكش، في حين أنها وقعت فعلا في الخامسة مساء على بعد 12 كلم. إلا أن ذلك لا يعتبر انحرافا عن الموضوعية لأنه لا ينطوي على تحيز ذاتي مسبق.
إن الخطأ في الخبر الصحفي لا يتحول إلى كذب إلا عندما يكون مدعوما بنية تحريف الواقع، التي تقوم على معرفة المعلومة الصحيحة وتعمد تحريفها، إنها النية التي تفتح منفذا للذاتية في صلب الخبر، وتجعل الموضوعي مسكونا بالذاتي وموجها من قبله.
وكما أن الخطأ لا يحسب ضد الموضوعية، فإن الصحة لا تحسب لصالحها. فالخبر الصحيح ليس بالضرورة خبرا موضوعيا إنه يكف أن يكون كذلك رغم صحة معلوماته عندما ينطوي على تسريب شحنة عاطفية مصاحبة لتلقي الحدث أو موجهة لاستنتاج معنى محدد أو حكم … يمكننا أن نبين ذلك من خلال المقارنة بين هذين العبارتين «وقع حادث» و«وقع حادث مؤسف». فإضافة كلمة مؤسف تخرج الخبر من الوصف إلى الانفعال الذاتي ، إنه ينقل شحنة عاطفية للقارئ لا علاقة لها أصلا بالحدث الخام تتحول إلى موقف منه ينطوي على حكم قيمة مفاده : إن ما وقع هو شيء مؤسف. وذلك يعادل ما تسميه جيرالدين مولمان بخلق «عاطفة الحدث (sentiment de l’événement)(52)، وهي نفس المهمة التي تضطلع بها صيغ المبالغة التي تدس عمدا في أخبار مبنية من معلومات دقيقة وصحيحة، ورغم ذلك مطبوعة بالذاتية بفعل هذه الصيغ . لكن الانحراف عن الموضوعية لا يتوقف عند حدود مضمون الخبر بل يتعداه إلى بنائه الشكلي من خلال الموتيفات السيميائية التي تخلق دلالة أهميته كموقع في وسيلة النشر (الصفحة الأولى، أو في صدارة نشرة الأخبار التلفزيونية أو الإذاعة في النشرة الرئيسية أو في النشرات المكملة…)، وحجم الحروف ولونها، وحجم العنوان، وعدد الأعمدة … مثلما يتعلق بممارسات أخرى لغوية تظهر من خلال نتائجها فقط. وهو ما سنعود إليه لاحقا.
في نص شهير نشره الكسندر كويري (A. Koyré) بنيويورك سنة 1942 بعنوان «الوظيفة السياسية للكذب المعاصر» يظهر الكذب باعتباره المفعول الأساسي لاتساع وتطور وسائل الإعلام. «إذ لم يسبق لنا أن كذبنا مثل أيامنا هذه، بطريقة نسقية وثابتة»(53). بالطبع حسب رؤية الفيلسوف، فالكذب قديم قدم الإنسان، والكذب السياسي ولد مع المدينة، أو حتى أن الكذب خصيصة ملازمة للإنسان أكثر من الضحك ،لأن الإنسان معروف بالكلام وهذا الأخير يستتبع إمكانية الكذب، وذلك ما يوافق عليه كويري قائلا : «مما لا نقاش فيه أن الإنسان كان دائما يكذب. يكذب على نفسه وعلى الآخرين. كذب من أجل متعته الشخصية أي متعة ممارسة قدرته المذهلة في قول ما ليس موجودا. وابتكر من خلال كلامه عالما جديدا هو وحده خالقه والمسؤول عنه. كذب أيضا دفاعا عن نفسه، لأن الكذب سلاح آخر. السلاح المفضل للأدنى والضعيف الذي من خلال خداعه لخصمه يثبت نفسه وينتقم من عدوه».(54) لكن الجديد هو أن عصرنا وفر الوسيلة الأكثر فعالية لإضفاء طابع نسقي على الكذب وتسويقه بشكل متقن ومكثف وشامل في الفضاء العمومي وهو الإعلام. وهكذا يوما بعد يوم وساعة بعد ساعة، وثانية بعد ثانية، أمواج من الكذب تتدفق على العالم في الجرائد والإذاعات وكل التقدم التكنولوجي وضع في خدمة الكذب. إن الإنسان المعاصر يسبح في الكذب ويتنفسه ويخضع له في كل لحظات حياته»(55).
يتحدث ألكسندر كويري هنا من خلال نقده اللاذع ، عن تحول الكذب إلى اشتغال عمومي يحتل الفضاء العام ويباشر عبره تأثيره من خلال الطابع النسقي الذي وفرته وسائل الإعلام. لأن الكذب المعاصر يصنع من خلال الجمهور ويتوجه إليه. إنه باسم الحقيقة يُسوِّق الكذب.
إذ يحاول ألكسندر كويري بناء تحليل يصف كيف يغدو الكذب مهارة سياسية للإعلام التي تتحمل مهمة التسويق العمومي للحقيقة فإنه يرصد طبيعة المفارقة التي تجعل الكذب مرفوضا في الأخلاق النظرية وواجبا في الأخلاق المرتبطة بسياق عملي تصير فيه الحقيقة فكرة مزدراة. فقول الحقيقة الذي يظهر كحكم أخلاقي يحدد التزاما تجاه النوع الإنساني كما نجد ذلك في نظرية الأخلاق عند كانط مثلا، يصبح عمليا شيئا غير مقبول في سياقات معينة كالحرب أو داخل جماعة يلفها محيط من الأعداء أو في جماعة سرية (طائفة أو مذهب) حيث يصبح الواجب هو «أن تخفي الحقيقي وتقول ما ليس حقيقا لتصير وظيفة الكلام هي إخفاء ما نعرفه حقا وما نفكر فيه وما نعتقده ،و ليس إظهاره».(56)
في دراسة هامة حول الكذب يؤكد الأستاذ المصباحي على الطابع القصدي للكذب الذي يشكل أحد عناصره الجوهرية و يفرق بينه و بين الخطأ . « فالكاذب ليس هو من يخطئ في القول أو الفهم أو في المعرفة ، و إنما هو من يعرف الحقيقة بوضوح و يميزها عن ضدها ، ومع ذلك يقوم عنوة بتزييفها أو تشويهها لتضليل المتلقي و خداعه و إقناعه بصدق حقيقة ما ليس حقيقة ..» (م. المصباحي : هل يمكن الكلام عن الحق في الكذب في المجال السياسي؟ . منشور بمجلة أوراق فلسفية. القاهرة . عدد 23. 2009)
ويدفعنا اشتغال عنصر القصدية في تحديد ماهية الكذب إلى كشف ثلاث مستويات منه . الأول هو ذاك الذي رصده جمهور البلاغيين باعتباره علاقة فاسدة مابين القول و الواقع ، و الثاني هو الذي أبرزه المتكلم إبراهيم النظام التي يكون فيه الكذب علاقة الفاسدة بين القول و الاعتقاد، و الثالث وهو الذي يفتحنا عليه التطور الفكري الذي حملته معها الفلسفة الحديثة والمعاصرة ، ويمثل عنصرا هاما في كشف بعد آخر في العلاقة مابين الصدق والصحة والموضوعية في الخبر. ويكون فيه الكذب هو الاستعمال المقصود لحقيقة ( دقيقة) وإظهارها بنية (Intention)إخفاء حقيقة أخرى . و يترتب عن هذا البعد الثالث نتيجة جد مؤثرة في موضوع حديثنا ، هي أن قول الحقيقة لا يساوي الصدق .
وحتى إن كان ألكسندر كويري يركز في تحليلاته على الأساس الذي يشتغل من خلاله التوظيف الدعائي للصحافة الذي يهدف إلى التحكم في الجمهور، فإن حجب الحقيقة وعدم التمادي في كشفها يصبح مبررا قانونيا بموجب مبدأ « المصلحة القومية أو المصلحة العليا للدولة «(Raison d’Etat) . فيغدو لمبدأ «قول الحقيقة» المنصوص عليه انطلاقا من الحق الثابت والأساسي في الخبر، نظاما لا تكون فيه دائما الحقيقة مطلوبة. ويتخذ عدم كشفها طابع واجب مرسَّم في القانون. وذلك لا يهم فقط المجتمعات الواقعة تحت قبضة أنظمة شمولية وإنما أيضا في الأنظمة الديمقراطية التي تحتفظ لمبدأ المصلحة العليا للدولة بسيادة مطلقة تفرض منطق الاستثناء على الحق في الخبر وواجب قول الحقيقة وتحد منه. مُفعِّلة بذلك المبدأ الذي يقول : «ليس كل حقيقة جيدة للقول .. وليس لكل الناس»(57) حينها يصبح الخبر مسألة أمنية، وقول الحقيقة خطرا قوميا ينبغي التحكم فيه. فيتأكد الوضع الجوهري للاموضوعية الإعلام التي تعود ليس لما يظهره وينشره وإنما لما يحجبه ويخفيه. حيث تصبح المعلوماتُ الأكثر دقة التي ينشرها، الوجهَ الظاهر لتحريف جوهري استعملت فيه مساحات الأخبار الصحيحة المنشورة كستار لحجبه . بل حتى حرية التعبير تصير بذلك حرية مشروطة. فينطبق عليها ما قاله كلوسوفسكي (Klossowski) من أن مهمة قول الحقيقة تكمن «في جلب النصر والديمومة لنوع من اللاحقيقة»(58).
لقد عمل جان كلود برتراند في كتابه «أدبيات الإعلام» على توضيح هذه المفارقة قائلا : «ففي بعض القوانين تجد جملا مجردة من المعنى أو من التحليل. مثال «دور الصحفي هو قول الحقيقة» لكن ماهي الحقيقة ؟ هل هي في تريليونات الوقائع الحقيقية التي لم تنشر في الواقع أبدا ! مثال آخر : «يحق للجمهور أن يعرف الحقيقة» على أي أساس بني هذا الحق ؟ أو حتى «يحق للجمهور أن يستعلم» هل تحق له مثلا مشاهدة صورة لزوجة الرئيس الأسبق كيندي وهي عارية على شاطئ يوناني ؟»(59) …هناك دائما وفي نفس القانون مقابل الحرية المشروعة المعترف بها للصحافة في نقل الحقيقة وقولها، الحجب المشروع الذي يجعل إرادة قول الحقيقة وكشفها محددة بكاملها انطلاقا مما لا ينبغي كشفه. وهو ما يعني أن الحق في الخبر (المعلومة) ليس مطلقا، وأن الحرية في التعبير عن الحقيقة ليست كاملة، وأن التمسك بالحق في كشف الحقيقة وتسويقها في الفضاء العمومي، يحوِّل الخبر إلى حقل من المقاومة وإرادة الهيمنة ،يجعل الرغبة في الحقيقة التي من المفترض أن تكون المحرك لإنتاج الخبر، غير كافية لضمان الوصول إليها. بمعنى أن الخطاب الصحافي وهو يقدس الحقيقة لا يفلت من المبدأ الذي صاغه فوكو في نظام الخطاب قائلا: «إننا نعرف جيدا أنه ليس لدينا الحق في أن نتحدث عن كل شيء وفي كل ظرف، ونعرف أخيرا ألا أحد يمكنه أن يتحدث عن أي شيء كان».(60)
يمس ذلك تقدير فكرة الموضوعية نفسها التي أضحت مقولة شائخة(61) محكومة بكثير من الادعاء مقولة تحمل في أساسها أسباب إخفاقها الخاص بل حتى استحالتها. لأن طبيعة الصحافة نفسها تضيق بها. إذ أن التأمل في ماهية هذا الخطاب المعمم تحت اسم الصحافة يسمح بالوقوف على شروط هذه الاستحالة، فهو يشكل في آن واحد صناعة وخدمة عامة ومؤسسة سياسية»(62) وطبيعتها المركبة هذه تجعل الخطاب الذي تنتجه حقلا مفتوحا تتواجه فيه سلط متضاربة، وتتجابه فيه قوى متناحرة، يشكل تدافعها «نظام الحقيقة» في الصحافة، أي ما تنتجه وتدبره وتضخه في الفضاء العمومي كحقيقة.
فحياة الحقيقة هنا وانتشارها لا يتوقفان على صدقها المنطقي وإنما على السلط التي تروج لها.(63) وهو ما يجعل الخطاب الصحافي وهو يولد مفعولاته في الواقع لأنه يشحنه بما يعمل كحقيقة، محكوما بصراع جوهري ما بين حرية التملك وحرية التعبير. فمتعهدو الإعلام والمعلنون يرون أن الصحافة والترفيه أدوات يستثمرون بها موردا طبيعيا هو المستهلك «ويجهدون للحفاظ على نظام قائم يوافق مصالحهم.أما المواطنون فيرون أن الإعلام والترفيه سلاح يستخدمونه في نضالهم من أجل السعادة التي يمكنهم بلوغها دون إجراء تغيير في النظام القائم»(64) والصحفي في قلب هذا الصراع يجد نفسه محكوما بمنطلق ذاتي غير موضوعي، فإذا كان محركه في عمله الصحفي هو تلبية ضغط مصادر التمويل (المتعهدين والمعلنين) يكون قد انزاح عن الموضوعية، وإذا استجاب لحاجة قرائه (الذين يتحولون بفعل النظام التجاري الذي يتحكم في الاستثمار الصحافي إلى زبناء) يكون قد انزاح أيضا عن الموضوعية لأن اختياراته مملاة مسبقا، وإذا التزم باختياراته الذاتية فهو بالطبع وبلا لُبس يتحرك في أفق ذاتي محض.
3ـ إرادة الحقيقة
تؤكد الدراسات المنشغلة بتحديد شروط استحالة الموضوعية في الخطاب الصحفي أن قمع حرية التعبير يحد من موضوعية الإعلام ويحول هذا الأخير إلى أداة استغباء عامة. ومع ذلك فالحرية لا تضمن الموضوعية. فضغط التمويل والبحث عن الربح وتوسيع قاعدة القراءة والمشاهدة والاستماع يجعل الإعلام يخضع لموجِّهات قبلية تحد من موضوعيته. ينطوي ذلك على توجيه الخبر والتحكم فيه وحتى في مصدره من أجل توجيه الرأي والتحكم في اختيارات الناس وميولاتهم السياسية والاقتصادية.(65)
إن إرادة الحقيقة تغدو محكومة بإرادة الربح، والمصلحة تتوسط مهمة الإخبار وتوجه مضمونها. ومن ثمة يبدو للصحفي أن مهمته القصوى ليست هي أن يكون موضوعيا وإنما أن يكون أداؤه مربحا. ففي الصحفة يظهر التضارب قويا ما بين السوق( وقانونها المبني على الأولوية للمردودية والمنافسة) وبين الحرية قوام المجتمع الديمقراطي الذي انطلاقا منه تتكرس الصحافة كحق، وبين الموضوعية كمطلب أخلاقي . فاستحواذ السوق على الخبر، أي تدبيره استنادا إلى منطق السوق الناتج عن رسملة المعلومة (إضفاء الطابع الرأسمالي على المعلومة الذي تكرس في القرن العشرين) ورهنها بمنطق التسليع الذي يجعل منها شيئا له كلفة مادية، يباع ويشترى، ويرجى من ورائه ربح مالي مباشر أو مردودية سياسية، هذا الاستحواذ يغير من جوهر التنافس الإعلامي، وينقله من تنافس من أجل الحقيقة الى تنافس حول الحقيقة، أي تنافس حول السيطرة عليها وتدبيرها والتحكم فيها.
يدرج بعض الباحثين هذا الوضع في سياق مرتبط بمد كوني يترجم من خلال ظاهرة «راديكالية»(66) تزداد صيغتها في الوجود عمقا واتساعا. تتجلى في ضغط نزعة إضفاء الطابع التجاري على كل ما يوجد.» يمس ذلك المنتوجات والسلع كما الخدمات الإنسانية والاجتماعية والثقافية العمومية والسياسية. وحتى أن القيم والقناعات تنزلق بشكل أكثر وضوحا من عالم المبادئ والمثاليات نحو عالم الاقتصاد والأعمال»(67)، واتخذت هذه النزعة طابعا معياريا ومؤسساتيا يحاكم الواقع الفعلي ويفرض مراجعة الأفكار المكتسبة عن طبيعة خدمة المصلحة العامة الممنوحة للصحافة المكتوبة.» فهالة الإخلاص لقضية المصلحة العامة لا تستطيع أن تصمد أمام إكراهات الحسابات التجارية»(68). وفي ظل هذا الوضع تساءل محمد علي مشيشي عما إذا كان ما زال بإمكاننا أن نعتبر الصحافة المكتوبة كنشاط ثقافي محض أم علينا أن نعترف بها في أخلاقنا المعاصرة كنشاط تجاري مماثل للأنشطة التجارية الأخرى ؟ ألا يجب أن نسجل التحول الواقع في موضوعها الذي أصبح منتوجا تجاريا وقابلا للتسويق شأنه في ذلك شأن كل السلع التي توفرها السوق الاقتصادية . وأكد أن الإجابة عن هذا السؤال تؤدي مباشرة إلى نتائج خطيرة. فإذا انصرفنا إلى الطابع التجاري المحض، فإن ذلك من شأنه أن يحرف كل نقاش وكل خطاب حول القضايا العمومية باختزالها في صف السلع المبتذلة، وبالتشويش على غايتها الإنسانية (Finalité humaine) ومصداقيتها الاجتماعية. وتحويلها إلى مركب من المصالح الأنانية المتضاربة مع الصالح العام جوهر كل مناقشة للقضايا السياسية أو العمومية(69)؛ بل إن الدعائم الفقهية التي كانت تعتمدها المحاكم في التفريق ما بين الممارسة التجارية والإنتاج الثقافي والتي غدت تحتضر أمام الآفاق القانونية الجديدة الظاهرة والضمنية التي تضفي على كل الأنشطة طابعا تجاريا.(70) فتحولت الصحافة إلى شركات محكومة بحساب الربح والخسارة بما يقتضيه من تملق للجمهور والمعلنين، وتحول الصحفي إلى مجرد مأجور خارج أي اعتبار لرسالته الثقافية والاجتماعية، والقارئ إلى مجرد زبون وأصل تجاري (Fond de commerce) ،»ليتم التوقيع على شهادة وفاة الأفكار المتعلقة بالسلطة الرابعة وبحرية الصحافة (71). وإن كانت الجودة تعتبر من ناحية التسويق عنصرا حاسما، فإن هذا العنصر لا يتضمن بالضرورة موضوعية الخبر، بقدر ما يتضمن عناصر أخرى كمجاراة ميولات القارئ الزبون وضغوط المعلنين والتأثيرات التي يطلبونها. وينطوي كل ذلك على مؤدى خطير هو تسليع الحق في المعلومة الذي من المفروض أن تكون موضوعية الخبر استجابة له.
وقد وصف تودوروف(T. Todrov) نتيجة كل ذلك في كتابه «روح الأنوار» حينما اعتبر أن التمييز بين الحقيقة والكذب، وبين الحقيقة والوهم أصبح أمرا ثانويا إزاء مطلبي المنفعة واللياقة ذوي البعد البرجماتي الصرف.72 فقد أضحى بإمكان الإعلام إغراق العالم بحقائق أنتجت في تحرر تام من قيمة الحقيقة نفسها. و بالطبع فبعد إلغاء فكرة الحقيقة ذاتها لم يعد بالإمكان اتهام أحد بالكذب.(73)
ويذهب تودوروف في تحليله لهذا الوضع إلى حدوده القصوى، إذ يرى فيه شكلا من القمع يظهر بطابع قدري يمنع الفرد من توظيف إرادته ويخترق سيادة الدولة ويعطل الإرادة العامة. «فنحن نتخذ قراراتنا بمفردنا تماما فيما نظن. لكن، لما صارت كل وسائل الإعلام الكبرى تكرر على مسامعنا وأعيننا من الصباح إلى المساء، و يوما بعد يوم بما يشبه المطرقة، الخبر نفسه ، أصبحنا لا نملك ما يكفي من الحرية لبلورة آرائنا.»(74) ولا يمكن أن نتمثل دلالة تصور تودوروف دون استحضار بأنه بتحدث عن الفرد في سياق أوروبي ديمقراطي. فوسائل الإعلام والصحافة (راديو، تلفزيون) المنتشرة في كل مكان هي التي تمد الفرد بالمعلومات التي يبني من خلالها قراراته وآراءه. (75) «وهذه المعلومات حتى إن افترضنا كونها غير خاطئة، هي معلومات وقع انتقاؤها وفرزها وتجميعها كي توجهنا نحو هذا الاستنتاج عوضا عن غيره، ومع ذلك فأجهزة الإعلام لا تعبر عن الإرادة العامة … وللأسف لا شيء يضمن حياد هذه المعلومات»(76).
إن الإعلام الذي كان فضاء للحرية أضحى معقل أخطر وصاية التي غدا معها ما كان يُعتقد أنه استقلالية الفرد وإراداته الحرة، نمطا مقنعا من الخضوع. كما أن دقة المعلومات الجزئية وموضوعيتها لا تحميها من التوجيه غير الموضوعي الذي يشتغل من داخل كلية الخطاب الإعلامي، بل إن الفرد بفعل تدفق المعلومات والأخبار يصير مقموعا في إرادته الحرة. مثلما أن هيمنة الشركات الخاصة على الصحف والقنوات التلفزيونية والمواقع الإلكترونية يجعلها تملك سلطة التحكم في ما يفكر فيه مستهلكوها قراء أو مشاهدين أو مستمعين. فهي تدفعهم بفعل الخطاب الذي تضعه في مجالهم الإدراكي إلى التفكير بنفس الأسلوب الذي تريده منهم.» وفي هذه الحالة لم يعد الأمر يتعلق بنظام ديمقراطي بل بالأصح بنظام بلوتوقراطي (Ploutocratie) إذ ليس الشعب هو الذي يملك السلطة عندئذ بل هو المال بكل بساطة»(77) .
ففي عالم واقع تحت السيطرة المستمرة للإعلام، يكون الخبر الموضوعي عندما يؤخذ بعين الاعتبار موقعه في الخطاب الإعلامي ككل غير موضوعي. فحتى في الوسائل الجديدة (الأنترنت) لا يكون الخبر هو الوحيد الذي يفلت من الرقابة بل التلاعب بالخبر أيضا.
إن الإعلام الذي احتكر الفضاء الشخصي للفرد مثلما احتكر الفضاء العمومي، إن لم يكن تحت وصاية الدولة فهو خاضع لنفوذ المال أو تحت سيطرة الاستجابة لميولات الجمهور التي ينبغي التملق إليها لكي يروج بينه.. ومن ثمة فدقة أخباره وصحتها موظفة لخدمة انحياز قبلي لا يترك مجالا للحياد. وهذا الاحتكار يحمل مخاطر كبيرة في تقدير تودوروف بالنسبة لروح الأنوار التي من المفروض ان تسري في المجتمع الديمقراطي. فهو يحول ما كان حرية للرأي إلى تجارة للرأي، ويحول النقد إلى عبث لا طائل من ورائه «ذلك أن الإفراط في النقد يقتل النقد، وفي تقاليد الأنوار كان النقد يمثل المرحلة الأولى من حركة مزدوجة تشمل النقد وإعادة البناء».(78) فالتشكيك المعمم والاستهزاء المنظم ليس لهما من الحكمة إلا المظهر.(79)
4 ـ الذاتية حتمية تقنية مستقلة عن الذات
أ ـ خصوصية الحامل
تحدث جان كلود برتراند عن عوامل متعددة تنسف شروط الموضوعية في الخبر الصحفي منها تزايد الهدف التجاري للصحافة وخلط الإعلام بالدعاية، لكن هناك عوامل أخرى لم ينتبه إليها ج. ك. برتراند وباحثون آخرون تتعلق بخصوصيات الحامل (Support) أو الوسيلة، فقد كان الجاحظ من المنبهين إلى أن الحامل يؤثر في معنى النص حين لاحظ «أن النص لا يلقى الاستجابة نفسها إذا كان مكتوبا على قطعة جلد أو على دفاتر القطني، الورق هش لا يحفظ النص ويصونه، أما الجلد فهو يصبر على «الحك» والتغير. هناك بطبيعة الحال حوامل للنص أبقى على تقليب الأبدي وأكثر صلابة وتحديا للزمن كالحجر والنحاس، ثم هناك حوامل عابرة سيارة تظهر لتزول وتختفي مثل الصحف اليومية، وأخرى أقل سرعة في الاختفاء مثل الأسبوعيات والشهريات والفصليات على أن نصل إلى الكتب التي يبدو أنها تظهر لتبقى»(80). إن الحامل المادي كما كشف ذلك الأستاذ عبد السلام بنعبد العالي ليس مسألة شكلية ولا أمرا عرضيا. إنه يتدخل في المضمون ويخلق قيمته. وبذلك فنفس الخبر منشورا على حامل ورقي لا تكون له نفس القيمة عندما يبث على شاشة التلفزيون أو ذبذبات الإذاعة أو في صفحة إلكترونية. ففي ظل هيمنة المرئي الذي عمقه التطور الكبير الذي عرفه البث التلفزيوني باختراقه للحدود الترابية للدولة من خلال ما يسمى بميديا الصورة، أضحى الحامل الضوئي ـ التلفزيوني ـ محتكرا ليس لقوة الخير وإنما لقيمته، فقد أكدت الدراسات التي أجريت على مستوى مفعول الأخبار المصورة المقدمة في التلفزيون، أن الناس مقتنعون أن الخبر الذي يبث في النشرات المتلفزة هو الخبر الأهم، إن هذا يعني أن الحامل التلفزي يخلق أهمية ما يبثه ويمنحه قيمته.
وهكذا فنفس الخبر وبنفس الصيغة تختلف قيمته عندما يظهر على الورق وعندما يظهر على الشاشة. إن الأمر هنا لا يتوقف عند قيمة الخبر وإنما يتجاوزه إلى قيمة الحدث الذي يصفه الخبر. وأهمية هذا التمييز لا تظهر إلا عند استحضار الأخبار التي تم بثها مقارنة مع الأحداث التي تم تجاهلها وحجبها.
حينها يُفهم أن بث الخبر تلفزيونيا يمثل تعظيما للحدث، وإغفاله تقليصا لأهميته. وفي كلتي الحالتين يتأكد أنه سواء بالبث أو عدم البث يكون الإخبار ممارسة غير موضوعية حتى لو كانت معلوماته دقيقة وحقائقه صادقة.
يتدفق الخبر من خلال الحامل التلفزي، مقرونا بفعالية الإبهار التي تمارسها التقنية التلفزية، ومن ثمة فهو يكف عن أن يكون متنا محايدا لأنه يتدفق على المشاهد ويملأ مجاله الإدراكي بمادة مزدوجة الرسالة. الأولى ظاهرة هي الخبر نفسه والثانية هي الشحنة النفسية التي تولدها وظيفة الإبهار التي تسخر كل التقنيات التلفزية لتأمين فعاليتها. إلى حد أن أحد الباحثين اعتبر أن الواقع بفعل ذلك أصبح صورة شاحبة عن الصورة المتلفزة.(81) حيث أضحى الخبر المتلفز هو الأصل الذي يشتق منه الواقع أهميته.
إن الخبر وهو يقرأ على صفحات جريدة ليس هو الخبر مسموعا على أمواج الإذاعة أو مرئيا على شاشة التلفزة، فخصوصية الحامل تفرض بدورها أشكالا من الانحياز القبلي على الخبر الذي نفترض أنه محايد في مادته. في التلفزيون مثلا يُضَخُ الخبر في المجال الإدراكي للمشاهد من خلال إخراج محكم. وقبل مضمون الخبر هناك الوجه الذي يلقيه مطلا من الشاشة، بتقلصاته وملامحه وإيماءاته ونظراته ونبرات الصوت التي تغلف الخبر بمعنى إضافي يستخلص منه بشكل ضمني. والبحث عن موضوعية الخبر هنا يقتضي البحث عن وجه محايد بملامح محايدة لا ترسل إشارات الحزن أو الفرح أو الملل أو الحماس أو الجدية أو الاستهتار. إن ذلك يرادف البحث عن وجه غير إنساني. كما أن تقديم الخبر في نشرة التلفزة لا يتم بشكل تلقائي، بل يخضع لتدبير تقني لا تشكل فيه اللغة سوى جزء بسيط جدا. وهو ما يجعل منه منتوجا سينوغرافيا تشكل فيه الموسيقى والضوء وزاوية التصوير والتقطيع نسقا علاماتيا يدمج المتلقي في منظومة تأويلية للخبر الذي من المفروض أن يكون وصفا للواقع لا تأويلا له.
أما الصور المرافقة فتضع المشاهد تحت قدر اقتطاع أصلي يجتزئ الواقع ويفتته ويختزله. فتكون وظيفة الصورة هي خلق واقع مهمته إخفاء واقع آخر. وعكس ما يُعتقد، يصير مفعول الصورة ليس هوة الكشف وإنما الحجب.
ليس بدعة أن نقول إن الصورة في الخبر التلفزي تشكل العنصر الأساسي بل هي خطاب مهيمن يقلص حضور اللغة.(82) وبما أن كل صورة محكومة بزاوية تصوير تكشف جانبا جزئيا وغير مكتمل من الواقع، فإن الصورة لا تكون وصفا للواقع وإنما تأويلا له. وذلك ما يفسر لماذا نجد حدثا واحدا لكن بمعنيين مختلفين وقيمتين متفاوتتين، كل واحدة تنجز من داخل صورة مستقلة.
فإبان انتفاضة ميدان التحرير بالقاهرة ضد نظام الرئيس المصري محمد حسني مبارك في نهاية يناير وبداية فبراير 2011، وفي أوج اشتداد الاحتجاجات المطالبة برحيله، كان المشاهد يرى واقعين متناقضين بنفس المكان والزمان. ففي الوقت الذي كانت فيه قناة الجزيرة القطرية تنقل صورة من ميدان التحرير وهو آهل بمئات الآلاف من المعتصمين، كانت القناة المصرية الرسمية تنقل صورا من نفس الميدان من زاوية يبدو فيها شبه فارغ إلا من بضعة أشخاص. كل صورة من الاثنتين كانت تدخل في صلب إرادة فرض تأويل معين للحدث وللمكان واللحظة ،بل كانت إجابة بصرية عن واقع ترفضه وتحاول طمسه، أو واقع تعمل على تأييده وتحرض على استمراره وتفاقمه.
كان الفضاء البصري للمشاهد مجال تدافع بين صورتين وتأويلهما للواقع. إنه حقل مخترق بعلاقات قوى بغية الاستحواذ عليه، لجلب النصرة لمعنى صُنع سلفا يرجى منه خلق مفعول معين على أرض الواقع، فيظهر أن ما يشتغل فيه «ليس هو رغبة في المعرفة، بل تجنب المعرفة أو تحاشيها (..) والابتعاد عن كل ما لا نريد أن نراه…»(83).
يتضح أن كل خبر مصور يحمل وصاية قبلية على المشاهد. والكاميرا ليست محايدة لأنها لا تملك إلا أن تخضع لمنطق زاوية التصوير الذي يملي منظورا معينا. وهكذا فمنظورية نتشه هي التي تنتصر على نزعة الوصف الساذجة، حيث الحقيقة منظور، والمعنى تصريف للقوة، والواقع صراع تأويلات. فلا شيء يظهر باستقلال عن المنظور الذي يصوغه، ولا عالم يكشف في الصورة باستقلال عن الزاوية التي تسبطه(84).
بينت أعمال كل من جان بودريار وريجيس دوبريه(85) رغم اختلاف منطلقاتهما ورؤيتهما، بل وحتى نتائجهما، أنه رغم التدفق الهائل للصور الذي يعرفه العالم المعاصر، بفعل تطور تكنولوجيا البث الرقمي والذي يجعل الناس يقتنعون أنهم يرون أكثر من اللازم، فإن ذلك يتأسس على قمع أصلي يوسع وهم سعة اطلاع المشاهد وقوة تملكه لحقيقة الواقع. لكنه في العمق يحد منه.
إن عنف الوصاية التي تمارسها الصورة في الخبر المتلفز يظهر من خلال الفرز الأولي ما بين الصور التي ينبغي إهمالها وتلك التي يجب بإصرار منعها من الظهور حيث يكون لعدم البث معنى سياسيا واضحا. وأكثر من ذلك، هناك ثابت تقني يجعل من الانتقاء قدرا تقنيا لا يمكن تفاديه سواء أثناء عملية التصوير أو أثناء اختيار ما يمكن بثه. ولا يمكن أن نتمثل عمق هذه الحقيقة إلا إذا استحضرنا أن كل انتقاء إقصاء. إذ ما نشرع في انتقاء شيء إلا ونشرع معه في إقصاء أشياء أخرى. حينها يصبح المفعول المباشر للانتقاء هو الإقصاء كقدر تقني تقع الصورة الخبرية تحت نفوذه.
ونتيجة ذلك هي أن التقنية في طابعها الآلي المستقل عن تدخل البشر لا تشكل شرطا منصفا للموضوعية في الإعلام، بل بالعكس تشكل قاعدة قبلية لاستحالتها. وهو ما جعل بعض من انشغلوا بهذا الإشكال يقرون أن الحقيقة في الإعلام أفق غير مكتمل يُبنى بشكل لا متناه من خلال تدخلات مختلف وسائل الإعلام، لكنه أفق يقوم فيه الكذب والخداع بدورهما في إشباع الرغبة في الحقيقة التي تؤول إلى اعتقاد قبلي في تلمك ما هو حقيقي.
حينها يبدو أن التساؤل عن العلاقة التي يعقدها الخبر المصور في التلفزيون مع الواقع الذي يمثله، تساؤلا مشروعا. إذ أن الصورة تمثل في العمق واقعا تبتكره وتفرض سيادته. عندئذ يصبح لقولة جان بودريار «إن الصورة هي قاتلة الواقع»(86) معنى فعليا.
وزيادة في تبيان تأثير الحامل المادي على الموضوعية الخبر من خلال النموذج الذي اخترناه، وهو التلفزيون، نقف قليلا عند مظهر آخر يسميه بعض المنظرين للإعلام بالطابع الاختزالي للخبر المتلفز المحدث للسطحية. فقد أكد عدد من الخبراء أن المحرك الأساسي في الإخبار التلفزيوني هو السرعة والإمتاع. وهكذا يبتعد مفهوم الاختزال الذي يستجيب لهذين المطلبين عن مفهوم التكثيف الذي يدل على تمثيل الطبيعة الجوهرية لموجود ما بشكل يسمح بإدراكه في كليته. في حين أن الاختزال هو تعميم لجزئيات ظاهرة ما وتحويلها إلى جوهر مهيمن ترد إليه الظاهرة بكاملها.
تقنيا، يعرف المهنيون جيدا أن المادة الخبرية في التلفزيون تمثل استغلالا لمساحة زمنية جد ثمينة، ففي الوقت الذي تكون فيه هذه المادة محكومة في الصحافة المكتوبة بصراع مع إكراهات مرتبطة بقيمة المكان، حيث أن الصفحات لا تتسع أبدا لكل ما نريد قوله، فإنها في التلفزيون تكون محكومة بمواجهة مع قيمة الزمن الذي له كلفة باهظة بالمعنى المالي للكلمة. فكثيرا ما يتساءل المرتبطون بحدث معين كندوة علمية مثلا، عن علاقة هذا الحدث الذي عاشوه بما ظهر منه في التغطية الصحفية التي أنجزت حوله في النشرة التلفزيونية. إن أعمالا متراكمة بعشرات من المداخلات والنقاشات ومتن كبير من الأفكار قدمت على مدى يومين تصاغ في الأقصى في روبورتاج إخباري لا يتجاوز دقيقة و15 ثانية. كيف يمكن استخلاص الجوهري في هذا الامتداد الزمني، بتعقيد أحداثه وتلخيصه في حيز ضيق لا يتجاوز 75 ثانية ؟ إن الأمر يؤول إلى انتقاء اضطراري لجزئيات ثانوية تُسوَّق في الخبر على أساس أنها الأهم. عبر عن ذلك جان كلود برتراند قائلا : «لا تأخذ معظم الوسائل الإعلام تعقيد الواقع بعين الاعتبار.فهي تعتقد أنها مضطرة للسرعة والامتناع، وبالتالي الاختصار. مما يفسر الإفراط باستخدام العبارات المكرورة وتحويل الظواهر إلى أفراد حقيقيين والحديث إلى جملة. وتقدم تلك الوسائل بهذه الطريقة صورا ناقصة عن العالم، ويمكن أن تولد مشاعر وسلوكيات محزنة»(87). وإذا ما كان من المفروض في النقل الموضوعي للواقع عدم التدخل فيه، فإن الاختزال يمثل أقصى درجات التدخل والتحريف، لأنه يحول الحدث إلى جزئيات بدون كل، ويجعل من الهامشي والثانوي مبدأ منظِما وموحِدا للحمة الظاهرة المخبر عنها.
وقد دفع ذلك بعض الخبراء إلى التأكيد على عوامل بعينها خارجة عن ذات الصحفي تؤثر في درجة موضوعية عمله. وفي مقدمتها تحول السرعة إلى مبدأ للكتابة، حيث اعتبر هرفي بورخيص(Hervé Bourges) الرئيس السابق للاتحاد الدولي للصحافة الفرنكفونية ،أن تطور التقنية فرض مجموعة من الإكراهات الزمنية على الممارسة الصحفية هي السرعة والاقتضاب والتقادم، لأن الإعلام يشتغل أساسا على الزمان وفيه. وهذه الإكراهات الزمنية ليست ثانوية وإنما هي ذات طابع أساسي(88) فالخبر الصحافي ينجز باسم مبدأ السرعة ويكتب استجابة لها ويبني نفسه على أساسها، وهو ما يعني أن هذا المبدأ يفرض منطقه ويملي شكلا في بناء الخبر.»وفي السنوات الأخيرة ـ يقول بورخيص ـ أصبح هاجس السرعة يغلب على مطلب التثبت من الصحة، كما أضحى البحث عن السبق يلغي واقعية الأحداث نفسها.»(89) والسرعة هنا، تعني أيضا انمحاء الفكر النقدي الديكارتي، أي الاستسلام لخطر انتشار الشائعات، غير المتحقق من صحتها، وتفقير المعلومة بتحويلها إلى إطناب مبسط. «السرعة بالنسبة للصحافة هي خطر الاستسهال المحذق بالإعلام على حساب القواعد الديونتولوجية الأساسية التي تؤسس لقيمة العمل الصحافي»(90)، وهي تفرض منطقا اقتصاديا على الكتابة الصحفية يتجمع بكامله في عملية الاقتضاب الذي لا يمكن أبدا أن يساير الطابع المعقد للأحداث والوقائع. وهذا المنطق ينبني على تقدير لطبيعة القارئ في الصحافة الذي يختلف عن قارئ الأدب بكونه متعجل، يريد أن يعرف كل شيء من البداية ودفعة واحدة، بمعنى أن السرعة لا تحكم الخبر فقط وإنما قارئه أيضا.
لكن الاقتضاب يدل على ممارسة أخطر هي التفقير الشامل للخبر الذي يختزل إلى مجرد محتوى غير محدد وهش، حيث تتلاشى قيمته وتمحى بمحتوى آخر، بدون رابط ولا انسجام.(91) وتطور الأمر مع الطفرة التكنولوجية التي أدت إلى بروز نظام معلوماتي يتغذى شيئا فشيئا من نفسه وبشكل أقل من الحوار مع الواقع والأحداث التي تجري بعيدا عما يسميه هرفي بورخيص بالوعي الديكارتي الذي يجب أن يتصف به الصحفي والمتمثل في الشك القبلي المتبوع بتساؤل مفتوح بدون حكم مسبق.(92)
يُصَرَّف الاقتضاب والاختزال لغويا في شكل من التكرار الدائم لعبارات معينة تملأ الخطاب الذي ينشر باسم الخبر الصحفي. من ذلك ـ مثلا ـ تحويل النقاشات الخِلافية إلى حالة من الإجماع من خلال عبارات تحفل بها قصاصات الأنباء مثل «أجمع المشاركون..» التي عادة ما تُصَدَّرُ بها الأخبار والتغطيات التي تهم المؤتمرات والندوات التي تعرف عددا كبيرا من المشاركين والمتدخلين والمناقشين، وتنوعا أكبر في زوايا التحليل وتعددا لا يستهان به في النتائج. فتصير عبارة «أجمع» الحيلة الصحفية لإفراغ الحدث من تعقيده، وتحويله إلى فراغ معمّم. والحقيقة الماثلة خلف كل ذلك هي أن الخبر يتصرف في الواقع، وطالما أنه يفرغه من تعقيده ويحوله إلى كيان بسيط تحكمه فكرة واحدة وإرادة واحدة ومعنى واحد، فإن النتيجة التي يحصل عليها الجمهور من خلال وساطة المادة الخبرية هي شيء لا علاقة له بما وقع فعلا.
يمكن أن نقدم نموذجا عن ذلك من خلال هذه الحالة. بعد خطاب ملك المغرب في التاسع من مارس 2011 احتضنت الدار البيضاء ندوة حول موضوع الإصلاحات الدستورية شارك فيها ممثلو خمسة أحزاب سياسية وممثلون عن النقابات والجمعيات الحقوقية، وعرفت أشغال الندوة تضاربا صارخا في رؤية المشاركين حول الفصل 19 من الدستور المغربي وصلاحيات الملك ودسترة الأمازيغية كلغة وطنية أو كلغة رسمية وإمارة المؤمنين وغيرها.. لكن الحدث عندما دخل إلى آلة تصنيع الخبر في القناة الثانية (المغربية)(2M) خرج إلى الشاشة من خلال نشرة الأخبار تتصدره هذه العبارة «أجمع المشاركون في ندوة كذا على أهمية وعمق الإصلاحات التي نادى بها الخطاب الملكي السامي لتاسع مارس …»93 فتحول الحدث الذي كان يصوغه منطق تنازعي، إلى كيان بسيط يحكمه منطق الإجماع. بالنسبة للجمهور فالواقع الفعلي للحدث هو ذاك الذي ظهر في الخبر والاستثناء الذي لا حكم له هو ما عاشه المشاركون في الواقعة الخام التي يتحدث عنها الخبر، والذين يتقاسمون لوحدهم قناعة أن الحقيقة المعممة في الفضاء الإدراكي للناس لا علاقة لها بالحدث، حينها يصبح الخبر قتلا فعليا للواقع.
ينظر الصحفيون إلى الاختزال والاقتضاب كنتيجة حتمية للمواجهة المفتوحة بين الأداء الإعلامي والزمن. لكن لذلك كلفة كبيرة تتنافى مع المهمة الأصلية للصحافة وهي تقديم صورة كاملة عن الواقع. تتمثل هذه الكلفة في تحويل العالم أمام عين القارئ أو المشاهد أو المستمع إلى تدفق من الوقائع المشتتة المُبسَّطة إلى حد تبديد فكرة التاريخ نفسه كما عبر عن ذلك جان بودريار( J.Baudrillard). فأمام تدفق المعلومات في وسائل الإعلام فقدنا مفهوم التاريخ ومعناه.إذ هناك إفراط في افتعال الحدثية، ليس لأن الأحداث كثيرة ولكن لأن الحدث الواحد يضاعف نفسه من خلال نشره على أوسع نطاق. والنتيجة هي تبديد التاريخ كحدث من خلال تحويله إلى مشهد خاضع للرؤية الإخراجية لوسائل الإعلام. كما أن الاتصال الزمني ما بين الحاضر والماضي الذي يشكل صيغة في تعريف فكرة التاريخ، لم يعد مضمونا بفعل الطابع التزامني للمعلومات المتدفقة ، حتى أنه لم يعد هناك ما يكفي من الزمن للتاريخ ذاته.(94)
ذلك ما دفع بعض الخبراء إلى إعادة تصحيح تعريف مهمة الصحافي التي لم تعد مقتصرة على إغراق المجال الإدراكي للمتلقي بما يسميه عبدالله العروي بأخبار الآحاد، أي الوقائع الجزئية، لأن الحدث يستمد أهمية من أسبابه ونتائجه. لذلك فتدفق الحدث وتفجيره لا يقدم أي درس بخصوص دلالته أو تبعاته. ومهمة الصحافي لا تكمن في «إغراق الجمهور في طوفان من الوقائع غير المنسجمة، بل تكمن في منح الانسجام لعالم من الأشياء التي تبدو منفصلة ومنفردة، حتى ولو كان لها نفس الأسباب وتساهم في إحداث نفس النتائج»(95). وهذه المهمة تجعل الصحافي في موقف المقاوم لإعادة ترميم الديمومة (La Durée) في كل أبعادها ابتداء من التفكير اللازم في الأحداث ومعناها، وفي الذاكرة لحفظها وتأسيس الانسجام المنطقي في تسلسلها، «وإذا لم يبدل هذا المجهود فإن الصحافة ستفقد معناها، والتواصل يتلف غايته».(96)
ب ـ الانحياز القيمي وحتمية الانتقاء:
يُنجز الخبر الصحفي باسم قيمة الأهمية ويحمل نشره أو بثه حكما قيميا يُفرض على المتلقي. إذ لا يمكن أن يعار الاهتمام اللازم من قبل الصحافي لحدث ما ويحوله إلى خبر مقابل إهمال سلسلة لا متناهية من الأحداث التي تجري في نفس الوقت، إلا إذا اعتبره مهما. يضرب ذلك من الأساس شرط الحياد القيمي والخلو من الأحكام المسبقة الذي تفترضه الموضوعية، فالواقع لا يستسلم للغة الخبر من دون وساطة القيمة، بل إن الخبر يغدو في عمقه استحواذا على الحدث من قبل قيمة الأهمية. فهي ترسي تراتبية في بنية أحداث العالم وتفرض عليها وضعا تفاضليا تلزم به المتلقي. فمن المفعولات المباشرة للصحافة أنها تجعل الفضاء الإدراكي لجمهورها خاضعا لقسمة تفرز الأكثر أهمية من المهم من قليل الأهمية.
والقسمة كما ذكَّرنا بذلك ميشال فوكو هي إحدى إجراءات التحكم في الخطاب وتدبير حدوثه المحتمل. إنها مرتبطة بإرادة الحقيقة التي توجه المواضيع المؤهلة لاستقصائها والذوات القادرة على قولها والشروط والطقوس التي تُلزَم بها للقيام بهذه المهمة.(97) وبذلك فهي تقيم تراتبية بين الذوات والموضوعات وأصناف القول.
تمارس قيمة الأهمية ضغطا كبيرا على صنع الخبر وتربطه بممارسات مؤثرة في مقدمتها «الانتقاء» إذ تشكل موجها حاسما في فرز الحدث وبعده تتدخل في فرز المعلومات المتعلقة به الجدير ذكرها في الخبر.و باسم قيمة «الأهمية» تقصى معلومات كثيرة، فليست كل المعلومات قابلة للإدراج في الخبر وعلى نفس المستوى. ومعنى ذلك أن هذه القيمة تملي منطقا آخر هو منطق التدرج الذي ينطوي كما قال جاك موريكان على حذف الوقائع الثانوية.(98)
تضع قيمة الأهمية الخبر تحت قدر الانتقاء. ومن ثمة، فبمجرد ما يظهر الخبر حتى يكون التدخل الذاتي للصحفي قد أنجز، فهو الذي يقدر أهمية الحدث ويقتطعه من سلسلة أخرى من الأحداث التي يهملها. مثلما يعمل على اختيار المعلومات الأساسية فيه وترجيح كفة تلك التي ينبغي أن تحظى بصفة الأساسي، فتتصدر نص الخبر استجابة لانتظارات المتلقي الذي يحتكم إلى وقت ثمين هو موضع منافسة شرسة ليس فقط ما بين وسائل الإعلام المختلفة وإنما كذلك ما بين المواد المنشورة في المنبر الواحد. الشيء الذي يجعل القراءة حصيلة عملية اقتصادية وليس فقط أدبية.
تجعل قيمة الأهمية من الخبر مصفاة قبلية يتعرض فيها الحدث الخام لعملية اجتزاء التي تعني تحويله إلى جزيئات مفتتة ينتقى بعضها ليستعمل في إعادة بناء هذا الحدث في اللغة فيسمى خبرا. ويتحمل الصحفيون في هذه العملية مسؤولية محرجة تعرضهم لانتقادات لاذعة. إن كل «صحفي» يعي أن إدراكه الشخصي لترتيب العناصر هو الذي يوجه كتابته»(99)، والحصيلة المباشرة هي أن صياغة الخبر محكومة بمنطق ذاتي يجتهد للإتقان فن إخفاء نفسه على المتلقي ومنحه فرصة استهلاك المنتوج الصحافي عبر وساطة وهم الموضوعية.
وأكثر من ذلك فمصفاة الانتقاء التي تفرضها قيمة الأهمية تكشف محدودية الرؤية البلاغية لسؤال الصدق عندما تنطبق على الخبر الصحفي. فقد اجتهد البلاغيون في إثبات معيار الصدق والكذب ولكن من خلال شواهد الجملة الواحدة، ومن اللازم هنا التأكيد على أن الشواهد ليست فقط أمثلة تؤكد صحة القاعدة وإنما هي حقول وجودية لانطباق الفكرة. إن «الطاولة سوداء» قد تكون كافية للتأكد بسهولة من قيمة الصدق ولكن عندما يتعلق الأمر بنص مركب يتضمن مجموعة من العبارات الخبرية القابلة للمقارنة مع الوقائع التي تصفها، فما درجة الصدق في النص بكامله إذا كانت المعلومات الجزئية الواردة فيه صادقة لكن في ظل انتقاص معلومات أخرى ؟ إن الصدق العام للخبر الذي يفترض أن يكون شاملا، يقتضي أن يكون الخبر في كل معلوماته الجزئية مطابقا لجزئيات الواقعة دون إقصاء أية معلومة مهما كانت درجة تفاهتها.
يعادل ذلك الإحاطة الكاملة التي جعل منها جان كلود برتراند واجبا على الصحفي الامتثال إليه. لكن ذلك يفصح عن مفارقة جد دالة جوهرها أن الخبر محصور والواقع متدفق ومن الصعب معرفة أين بالضبط تتوقف جزئيات حدث ما من دون تدخل عنيف للصحفي لحصره محددا كيان الخبر انطلاقا من درجة ما يعلمه. إن المطابقة الضامنة للصدق تغدو نسبة ذاتية تُضفى على الخبر.
تستند قيمة الأهمية التي يعتقد أنها تتمتع بوضوح ظاهري، على خلفية فارغة تملأها ذاتية الصحفي أو الانحياز المؤسساتي للجهة المنتجة للخبر. تشرع هذه الخلفية في البروز عندما نتساءل كيف يمكننا أن نحدد المهم في الأحداث ؟ وكيف نُفرز المعلومات الأهم من صلب الحدث الواحد؟ يقول جان كلود برتراند : «لابد من انتقاء المعلومات استنادا لأهميتها…»(100) ولكن ما هي بالضبط هذه الأهمية؟ إن ما كان يبدو معيارا قيميا أضحى بدوره محتاجا إلى معيار آخر لتحديده. فوجد بعضهم هذا المعيار في الفائدة الاجتماعية(101) واعتبرها البعض الآخر قائمة في التأكد من فائدة الخبر بالنسبة للجمهور أو في المصلحة العامة أو في وجاهة الخبر بالنسبة للمستقبل.(102) ورغم ذلك فكل هذه المعايير التي تهدف إلى جعل مبدأ الانتقاء الموجه من قبل قيمة الأهمية، مبدأ لصنع وجاهة الخبر وجودته ، رغم ذلك فهذه المعايير تقوم بكاملها على تقدير ذاتي. إذ أن رؤية الصحفي وثقافته وتورطه الخاص في سياق تنازعي لإنتاج القيمة والمعنى هو الذي يوجه اقتناعه بوجاهة الحدث وقيمة المعلومة. فالأهمية والفائدة والوجاهة ليست دائما بدرجة الجلاء والوضوح الذي يعتقد أنهم عليه.
ما يكاد الصحفي يتدخل لفرز حدث ما كموضوع للمادة الخبرية، حتى يكون قد أصدر حكم قيمة . يمكننا أن نصوغه كما يلي «هذا هو أهم ما حدث في العالم الموجود في متناول يدي». وعندما يشرع في فرز المعلومات يصدر أحكاما أخرى تترتب عنها أفعال وممارسات منها «هذه المعلومة هي الأهم التي ينبغي لي أن أهاجم بها المتلقي، وهذه معلومة أقل أهمية، وتلك معلومة بلا أهمية تذكر. فتكون الأفعال المترتبة عن هذه الأحكام هي التصدير أو التهميش أو الإلغاء. لكن مفعول الحكم لا يقف عند هذا الحد بل يتعداه إلى الفضاء الذهني للقارئ، حيث من خلال النشر يلزمه بما وجده الصحفي مهما في العالم فيكون أمام حكم آخر هو «هذا هو المهم وهذا ما ينبغي أن يشغل اهتمامك». ذلك ما ينجز باسم مبدأ القرب الذي يشتغل كمصفاة تتيح انتقاء جمهور الوسيلة الإعلامية(103)، والذي يجعل من الخبر تملقا لاهتمامات الجمهور واستثمارا في حاجياته. لكن هذا المبدأ الذي يمكن أن نجد له صياغة واضحة تتخلص في هذه العبارة : «إن الأهم دائما هو الأقرب»، يتناقض جذريا مع المسؤولية الكونية التي تفرضها عالمية فكرة حقوق الإنسان التي تجعل الفرد أينما كان، مشاركا في المسؤولية عن حقوق الإنسان في أي مكان من العالم مهما بعد عنه بل أكثر من ذلك فهي تضرب فكرة عالمية الإنسان التي شكلت روح الأنوار وامتدادها التاريخي في القرن العشرين والقرن الحادي والعشرين. وأخيرا فمبدأ القرب ينسف حتى الشعار الذي تكرس مع الثورة الإعلامية الذي يجعل من العالم قرية صغيرة، فيرسي بدله نزوعا متطرفا نحو المحلية. فبموجب هذا المبدأ يصير اعتقال عاهرة في حي صغير لكنه قريب، أهم من جريمة إبادة الآلاف من الأرواح في بلد بعيد. إن مبدأ القرب قد يلبي الطموح التجاري للمنشأة الإعلامية، لكنه يفتقد الأساس الأخلاقي الذي لا يمكن تصور مهمة الصحافة من دونه. علما أن أحداث كثيرة تضرب مبدأ القرب وتكشف أنه غير كاف لتشييد قيمة الأهمية. فعند اشتداد الصراع ما بين الرئيس المصري حسني مبارك والمعتصمين في ميدان التحرير في أواخر يناير وبداية فبراير 2011، كانت كل قضية محلية تبدو تافهة وكان اهتمام الجمهور بالمغرب مشدودا بكامله إلى القاهرة متابعا تفاصيل تطور الموقف لحظة بلحظة. كانت فكرة الاهتمام الواسع تُبنى وترسخ مفعولها في إفلات تام من مبدأ القرب. نفس الشأن كان مع حرب الخليج سنة 90-91 وحرب الولايات المتحدة على نظام الرئيس صدام حسين بالعراق سنة 2003 وكذا تسونامي شرق آسيا سنة 2004 وتسونامي اليابان 2011 وغيرها…
إن الذات التي تكون مطالبة بموجب شرط الموضوعية بالانمحاء فاسحة من خلال غيابها المجال للخبر بأن يعكس شفافية الحدث، تكون قد رسخت حضورها بقوة قبل حتى أن يحصل الخبر على كيانه، فهي التي تحدد إمكانات ظهوره وشكل بنائه، وتُمزق وحدة العالم لتقتطع منها حدثا يشكل موضوع الخبر. وذلك ما يجعل السؤال الذي يهم الصحافة في العمق ليس هو سؤال إظهار الحقيقة الذي ينبغي أن يكون مهمة ناجزة من خلال تأمين الموضوعية. ولكن سؤال ما الذي نريده بالحقيقة ؟ أي التساؤل عن أية إرادة للحقيقة توجهنا في سعينا لتأسيس ما ينبغي أن يؤدي وظيفة الشيء الحقيقي .
ما يجب أن نلفت الانتباه إليه، هو أننا اعتمدنا تحليل «قيمة الأهمية» كنموذج للانحياز القيمي للخبر الصحافي، وهو الانحياز الذي يسخر تقنيات وممارسات تحدث مفعولات أوضحها وأجلاها الانتقاء الذي يُحوِّل الخبر من بناء موضوعي للحدث إلى تصرف ذاتي موجه. لكن ذلك لا ينبغي أن ينسينا أن الممارسة الإعلامية تتم على أرضية من الانحياز القيمي يشكل موجها مسبقا لها تحددها المدونات والمواثيق والقوانين المنظمة لإنتاج الخطاب الإعلامي. ومن هذه القيم : احترام الحياة وإعلاء شأن التضامن بين البشر، الدفاع عن حقوق الإنسان والديمقراطية والإعلاء من شأنهما…(104) وكلها أشكال من الانحياز تتحول في الكثير من المدونات القانونية إلى ضوابط مهنية يلزم الإخلال بها جزاءات .
ت ـ موضوعية الخبر مسألة بصرية :
تحشد قيمة الأهمية مجموعة من الإجراءات التي تجعل من شكل الخبر تعبيرا مباشرا عنها، بل إن الرؤية الإخراجية التي تتحكم في الصيغة النهائية للصفحات في منبر مكتوب تهدف في الأساس إلى تمكين قيمة الأهمية من طابع مرئي وملموس يحسم في تفاضلية الأخبار. ومن ثمة يشكل الإخراج تأويلا بصريا لهذه القيمة، ففي انفصال تام عن مضمون الخبر يخلق الشكل أهميته كيفما كانت المعطيات والمعلومات التي يتضمنها أو القضية التي يثيرها. لذلك لا غرابة أن تجد سؤال الشكل من ضمن الإحراجات الديونتولوجية للعمل الصحفي.
نقصد بالشكل صيغة الانتشار البصري للمادة الخبرية في الصحيفة فمعلوم أن الصحف والمجلات تمنح لنفسها شخصية مستقلة من خلال القالب الإخراجي الذي ينتظم صفحاتها وتبويباتها، ومن خلاله يبدو النشر في صفحة معينة دليلا على موقعه في سلم الأهمية المتدرج من مستوى الأهمية القصوى إلى الأكثر أهمية إلى المهم إلى قليل الأهمية. يرتبط ذلك بشكل وثيق بانتقاء قبلي لعينة القراء التي سيجعل منها المنبر جمهوره وبالتالي سوقه الذي يعمل على الاستجابة لحاجياته.
فمن الأخطاء المهنية الجسيمة التي تلح عليها قواعد ممارسة الصحافة، اعتبار الشكل (La forme) مسألة ثانوية مقابل قوة المضنون، لأن الشكل في الخبر يخلق معنى غير متضمن في نصه، بل يستحوذ على المتلقي ويوجهه في عملية التلقي. «فليس من الغلو أن نقول إن الشكل في هذه المهنة جزء من المضمون»(105) والاهتمام به بصرامة أخلاقية يدخل في صميم اليقظة الديونتولوجية التي تكفل عدم إخلال مهمة الإخبار برسالتها وانزلاقها نحو غايات أخرى. لذلك فهي تجعل من توازن الشكل والمضمون وتلاؤمهما قاعدة تضمن نزاهة القول. وهذا الاحتراس من الشكل ينبع من مراعاة مزدوجة بينه وبين المادة الخبرية من ناحية وبينه وبين متلقي الخطاب الصحفي من ناحية ثانية، إذ ليس من الضرورة أن يكون قارئ الصحيفة متأنيا ومتأملا بهدوء لما يقرأ. بل هو قارئ محكوم بمبدأ السرعة وقراءة الجريدة بالنسبة إليه تدخل في صميم اقتصاد ضاغط للوقت. لذلك فهو يبحث عن الخلاصات السريعة التي قد تكفيه قراءة العنوان والتقاط حجم انتشار الخبر بصريا في الجريدة لانتزاعها دون قراءة نص الخبر كاملا.
والأكثر من هذا فقد يعتمد ذلك أساسا لتكوين رأي وإصدار حكم والتصرف انطلاقا منهما. وإذا كان الشكل يحمل تضخيما لمضمون تافه فإن الضرر في هذه الحالة يبدو جليا، «فالشكل قد يشوه وربما يخون.. قد يخرق بوعي أو بدون وعي الأخلاق وقد يلحق الضرر بالغير…»(106).
يلح جان كلود برتراند على ضرورة الامتناع عن إيلاء خبر ما أهمية لايستحقها(107) ذلك ما يدعى بأسلوب التضخيم الذي يعمل بوسائل لغوية وبصرية على تحويل حدث جد عاد إن لم نقل تافه إلى حدث عظيم بأهمية قصوى. لكن التضخيم ـ وهو أسلوب مرفوض في الصحافة ـ يجسد نفسه أولا بشكل بصري من خلال الإخراج والعنونة والصورة وعدد الأعمدة والموقع في صفحات الجريدة. وهو بذلك يمارس ضغطا على القارئ للاقتناع بأن هذا الحدث هو الأكثر أهمية، وبالتالي هو الذي يستحق اهتمامه من ضمن كل مجريات العالم الذي يحيط به. إن القارئ يتحول إلى مجال مفتوح لمنافسة شرسة بين مختلف المنابر الإعلامية التي تسعى إلى الاستحواذ على اهتمامه واستقطابه لصالحها ماليا وأدبيا. وبما أن الجريدة لم تكتب لكي تقرأ بكاملها من بدايتها إلى نهايتها،(108) فإن وسائل الاستقطاب داخلها تتركز بالدرجة الأولى في العوامل البصرية التي تشتغل بشكل مباشر وتُصرِّف مفعولها في مجال التلقي دون وساطة الكلمات.
لا يمكننا أن نتجاهل الوظيفة الجمالية(109) للإخراج الصحافي ودوره في خلق علاقة ارتياح وبهجة مع القارئ، لكن هذه الوظيفة تنطوي على ثلاثة عناصر متداخلة لكل منها مفعوله الخاص. هناك الإغواء والمنفعة والفائدة. فالإغواء هو القدرة على إخضاع الآخر انطلاقا من رغبته «إنه يتجسد في الهيمنة والإتقان للمظاهر الخارجية التي يقدمها، وكذلك في الاستراتيجيات الفعالة في التلاعب بهذه المظاهر، وذلك في مواجهة سلطة الوجود، وسلطة كل ما هو واقعي»(110) ينطوي الإغواء على رغبة في إخضاع إرادة الآخر لتقلبات المظهر بهدف إحداث نتيجة أساسية هي الاستسلام غير الواعي لنفوذها. إنه يعدل من قيمة الأشياء بل ويحرمها من حقيقتها الخاصة باختزال كلية الموجود في مظاهره. في القديم كان ينظر إلى الإغواء باعتباره حيلة الشيطان وفي النظام الثقافي المعاصر أضحى الإغواء بناء متقنا يوفر لنفسه نظاما متكاملا لضمان قوة مفعوله، إنه صناعة خطاب. وذلك ما يصدق على الصحافة.
أما المتعة فهي النتيجة المتحصلة من الإشباع، إنها اللحظة الأخيرة من الرغبة التي تخلق البهجة الناتجة عن برود التوتر.(111) بمعنى آخر، إنها حصيلة نفسية فورية من مسلسل من التوسطات المادية المتداخلة.
وتمثل الفائدة المنفعة التي تسعى منظومة معينة إلى تحقيقها، إنها مرتبطة بنسق تبادلي، حيث يكون مقابل التضحية بشيء اكتساب شيء أثمن منه.(112)
وعندما نخضع الإخراج الصحافي باعتباره لعبة مظهر مسخرة من قبل قيمة الأهمية لهذه العناصر في أنماط اشتغالها الخاص سنجد أن وظيفتها الجمالية لا تنفصل عن السيطرة على القارئ بتوظيف الشكل.(113) لخلق استسلام فوري لأهمية المادة التي تقترح عليه، ومن خلال ذلك إخضاعه لسلم الأهمية الذي يوجه النشرة بكاملها.
تتأثر موضوعية الخبر المنشور في الصحيفة على المستوى البصري بالعوامل الآتية:
الموقـــع :
يخضع نشر المواد الصحفية لترتيب مقصود يحدد أولويتها. إن توفير حيز مكاني للمادة لا يتم اعتباطا. وهكذا فللخبر المنشور في الصفحة الأولى قيمة أكبر من خبر منشور في الصفحات الداخلية. يعني الترتيب هنا إخضاع المواد لسلم تفاضلي متدرج القيمة، يصدق على الصفحات المتوالية مثلما يصدق على الصفحة الواحدة. إذ أن الخبر الذي يتصدر الصفحة يكون الأهم فيها، لكن عندما يصل هذا الترتيب إلى المتلقي فإن التفاضل في الأهمية الناتج عنه لا يقتصر على الخبر في حد ذاته وإنما ينطبق على أحداث العالم التي توجد خلفه. إنه لا يكون أمام أخبار، أي كيانات تنتمي إلى الخطاب واللغة، وإنما أمام العالم.
العناوين :
يتضمن هذا المستوى عنصرين اثنين، هناك العنصر المتعلق بالهيئة الكرافية(graphique) التي تتكون من شكل الخط ولونه وحجمه . وهكذا فحجم الخط يعطي إشارة بصرية لقيمة المادة، واللون يخلق مجالا بصريا للاستحواذ على انتباه القارئ وجلبه واختزال قوة تركيزه في المجال الذي فتحه حيز الخبر المتعلق به، فخارج حدوث المعنى المتحصل من المضمون اللغوي للخبر، ينسج اللون وحجم الحروف وسمكها في العنوان قيمة أخرى للخبر، تُبرز نفسها عند القارئ كأمر بضرورة التوقف عنده لأنه يتضمن الأهم.
إن التضخيم الذي يعد أحد الإخلالات المهنية في الصحافة يأخذ له شكلا وكيانا ظاهراتيا(Phénoménologique).(114) يخاطب الإدراك الحسي للقارئ من خلال عناوين كبيرة بحجم ملفت في الطباعة ولون مثير كالأحمر مثلا، أو الأسود المكتوب على خلفية حمراء دون أن تنطوي هذه القوة الشكلية على قوة مساوية لها في المضمون. إن الشكل في العنوان يفرض على القارئ انحيازا مسبقا لأهمية المادة الصحفية، إنه يستدرج القارئ لصالح تقدير الصحفي لقيمة المادة الخبرية التي يقترحها عليه، ويجعل القارئ يقتنع قبليا بأهمية الخبر قبل حتى أن يقرأه. وهكذا فالفوارق التي يرسمها الشكل ما بين الأخبار، تؤثر على المجال الإدراكي للقارئ نفسه الذي تختفي منه مواد منشورة تحت ضغط التلميع الشكلي لمواد أخرى. حيث أن الإفراط في تضخيم أهمية حدث ما الناتجة عن السيطرة البصرية التي يباشرها عنوانه يؤدي إلى حجب أخبار أخرى رغم أنها منشورة لكن شكل إخراجها لم يمنحها نفس التأثير.إن الشكل هنا مضمون آخر .
أما المستوى الثاني من العنوان فيتعلق بمحتواه اللغوي، وكمية المعلومات التي يكثفها في صياغته. فالعنوان يعقد صفقة مع القارئ تلزم الكاتب بأن يتحدث عما يعلنه العنوان.(115) هذا هو المبدأ المتحكم في صناعته والقاعدة الضابطة لأخلاقياته. وهو المبدأ الذي يفضي إلى تصنيف العناوين إلى «بائعات فرعيات» عندما لا تدل على مضمون المقال بكامله» وبائعات بثمن باهظ «عندما تدل على أكثر مما يحتوي المضمون وهو ما ينعت بالتضخيم. وفي الحالتين هناك «غش في السلعة» كما يقول موريكان، لأن القارئ يستدرج إلى المنشور باسم مضمون غير موجود.
تقوم القاعدة الموجهة لصناعة العنوان الصحافي على أن يتضمن هذا الأخير الخبر الأساسي، وأن تكون النظرة الخاطفة للقارئ كافية لالتقاط روح الخبر، أي معلومته النواة التي بدونها ينهار. يفرض ذلك أيضا أن يكون وضوح المعلومة فيه شرط صحته وغموضها شرط فساده(116). لذلك تعمل أدبيات الكتابة الصحافية على التمييز بين نوعين من العناوين، الأول يدخل في خانة العناوين الإخبارية التي تلخص الخبر دون أي ابتكار.(117) مثل «جلالة الملك يزور جرحى تفجير مقهى أركانة بالمستشفى»، والثاني يدخل في خانة العناوين المحفزة التي تسعى إلى إدهاش القارئ ومفاجأته وإثارة فضوله، وترتكز على التلاعب بالكلمات واستعمال الصيغ غير المباشرة. لكن ذلك يقوم على توليد فائض في المعنى غير مقيد بحدود المحتوى المعلوماتي للخبر، بل قد يتجاوز هذا المستوى إلى الإيحاء بما ليس واردا في المعلومات المتضمنة في النص. ولهذا السبب أبدت مدونات أخلاق مهنة الصحافة يقظة خاصة تجاه الإشكال الأخلاقي للعناوين، لأن للعنوان لوحده قوة مؤثرة في القارئ وموجهة لإدراكه. «فإذ كان منزاحا عن مضمون المقال، إذا كان متناقضا معه، إذا كان يعلن مالا يتعرض إليه المقال أو لا يفصح عنه، فمعناه أن هناك مشكلة ديونتولوجية…»(118) فالمبالغة في العنونة هي بمثابة تغليط للقارئ، إنها شكل من الاحتيال لأنها تسوق تأويلا على أنه وصف للواقع. مثلما أن تحويل معلومة ثانوية أو أقل ثبوتا في الخبر إلى عنوان لضمان الإثارة والجاذبية يندرج ضمن أشكال التحريف والاجتزاء للحقيقة.
الصـــورة :
عندما تلحق الصورة بنص الخبر فهي لا تكرر ما يقوله النص بوسائل بصرية، ولا تؤيده فقط أو تقدم للقارئ إثباتا على ما يدعي أنه يصفه، بل تضيف إليه نصا آخر محكوما برؤية خاصة. لذلك يستعمل المهنيون عبارة «كلام الصورة» للدلالة على مفعولها، فعلى مستوى الاشتغال الظاهراتي للقراءة ـ أي اشتغالها كفعل للحواس ـ يتجه النظر أولا نحو العنوان والصورة معا.(119) إنها المدخل الذي انطلاقا منه يحدد القارئ موقفه مما يتضمنه الخبر. ولأن كل صورة تبقى خاضعة لقدر الانتقاء، ولسلطة الزاوية التي لا يمكن الإفلات منها. فهي تعمل كتأويل للحدث موضوع الخبر وليس وصفا له، إنها تقدم جانبا جزئيا من الواقع الذي تظل الإحاطة الشاملة به، أي التمكن المطلق منه، مهمة مستحيلة أمام الكتابة الصحفية وكذا التصوير الصحفي. فمن يقرأ خبرا عن إجراء حكومي معين مرفوقا بصورة للوزير الأول يظهره في حالة شرود أو توتر أو ضعف جسدي، يستقبل من الصورة إشارة أقوى من الخبر نفسه، إشارة تخلق معاني أخرى وتولد أحكاما وانحيازات لا علاقة لها أصلا بالمعطيات التي ينقلها نص الخبر. والصورة في هذه الحالة تقول أكثر مما يقوله النص ، بل لها كيانها الحجاجي.(120) لأنها تدافع عن أطروحة وتحاجج على موقف تسعى إلى إقناع القارئ به(121). إنها مخترقة بـ«ذوات قولية»، حسب تصيف فرانسوا جوست (François Jost)، تجعل من زاوية التقاط الصورة قصدية خطابية.(122) يعني ذلك أن الصورة المرفقة بالخبر لا تخبر بالضرورة بنفس ما يخبر به النص المنشور برفقتها. وهو ما يدفع إلى طرح سؤال أكثر عمقا حول من يتحمل الوظيفة المركزية في الصحافة ؛هل الصورة أم النص الذي يصاحبها ؟ من يعلق على الآخر؟ هل النص هو الذي يعلق على الصورة، أم العكس ؟
إن التطور الذي عرفته الصحافة يدفع في اتجاه هيمنة المرئي على المكتوب، حيث تتحول الصورة إلى المكون الأساسي ويتحول النص إلى هامش ملحق بها. معنى ذلك أن قدر الصحافة هي أن تغدو مرئية. ففيها تكون قصدية الكاميرا أقوى وأبلغ من قصدية اللغة. ويتحول الصحافي إلى مجرد معلق على الصورة، وذلك ما يحدث على الأقل في الأخبار المتلفزة. لكن التطور الأقوى في هذا السياق هو ما تعرفه الصحافة الإلكترونية، حيث يكون الخبر مقرونا بمقاطع من الفيديو تنقل الحدث الذي من المفروض أن الكلمات تستعمل لوصفه.
إن الاقتصار على الوظيفة الجمالية في تقدير أهمية الصورة الصحافية (في الصحافة المكتوبة) ينطوي على قصور في تقدير تأثيرها في المهمة الأساسية للإعلام في ارتباط بسؤال الموضوعية. ففي بحر سنة 2008 نشرت يومية مغربية مقالا إخباريا حول مهرجان فني بالجنوب المغربي. كان المقال يسرد معطيات عامة حول التظاهرة (المشاركون والمستوى الفني للأفلام ولجنة التحكيم …) ولم يكن في المقال المنشور ما يثير أدنى تحفظ لولى أن الصورة التي ترافقه والتي تحتل حيزا أكبر من حيز النص، تظهر بعض أعضاء لجنة التحكيم وأشخاص آخرين يتحلقون حول مائدة وضعت عليها زجاجات من مختلف أنواع الخمور. وإذ يبدو أن ليس هناك أي رابط بين ما تقدمه الصورة وما يقدمه نص الخبر، فما يستنتج من ذلك هو اشتغال الصورة كمحفز لاستصدار حكم أخلاقي لدى القارئ على الظاهرة التي يصفها الخبر.
كشف تطور الممارسة الصحافية أن الصورة تمثل إشكالا ديونتولوجيا محرجا. فأن تقول الصورة أكثر مما يقوله نص الخبر، فذلك ينطوي على خلل كبير يندرج ضمن نية تغليط الرأي العام والمساهمة في ما سبق لبودريار أن سماه بـ«فقدان الواقع».
إن الزاوية الصفر التي تحدث عنها فرانسوا جوست(123) والتي تسمح بقول محايد في الصورة، تمثل افتراضا مستحيلا. هناك زاوية نظر متورطة أصلا في تحديد طبيعة ما تصوره وموجهة له ومقولبة لوجوده. والذات القولية التي تتموقع في الزاوية الصفر التي من المفروض أن يكون القائل فيها غير موسوم لأنه محايد، تختفي لتترك مكانها لقائل موسوم ينطق من خلال الصورة والاقتطاعات التي تمارسها في حق الواقع. إن الرسالة هنا التي تقدمها الصورة والتي لا تكون ذات بنية بسيطة لا تنحصر في مستوى المعلومة المؤكدة لمضمون الخبر، إنها تنقل حكما مباشرا، أو تقدم المعطيات الأساسية لتوليده لدى القارئ، كأن تحمله على أن يكون مناوئا أو مساندا أو متعاطفا مع الحدث الموصوف في الخبر أو أحد أطرافه.
ترتكز اليقظة الديونتولوجية تجاه دور الصورة في توجيه مضمون الخبر وإضفاء معنى وقيمة لا يتضمنها محتواه اللغوي، على قوة نفوذ الصورة التي لخصها ريجيس دوبريه قائلا : «من المؤكد أن الصورة تنتج قدرة هائلة على الاستحواذ على وعي الناس وانتباههم، إنها تنفذ إلى زمانيتنا الخاصة وتجتاح حميميتها الفردية. ومن ثمة فالصورة تمارس نوعا من التوغل في دواخلها وتؤسس لاختيارات وتفضيلات وتحيزات لتباشر حسما بدئيا لأشكال محتدة من الصراع قد تتخذ شكلا سياسيا واقتصاديا… الصور لم تعد مرهونة بمرجعها في الواقع، بل هي التي أصبحت مرجعا وأكثر من ذلك فما ليس له صورة ليس له واقع…».(124)
ج ـ الخبر والتعليق :
تقوم القاعدة المهنية في الصحافة على مبدأ شهير هو الخبر مقدس والتعليق حر، هذا المبدأ يفرض الفصل ما بين الوصف المحايد للواقع الذي ينقله الخبر والذي لا ينبغي أن يخضع لأي عامل ذاتي، وما بين التعليق الذي يحمل رؤية ذاتية مصرح بها حول الحدث المخبر عنه. وقد سبق لميشيل فوكو في «نظام الخطاب» أن رصد تحول التفاوت ما بين التعليق والنص الأصلي إلى وظيفة للتحكم في الخطاب. إذ هناك خطابات تقال لتندثر وهناك خطابات هي مصدر وأصل عدد من الأفعال القولية الجديدة التي تعيد تناولها وتحولها أو تتحدث عنها».(125)
إن التفاوت بين التعليق والنص الأصلي يمكِّن من إنجاز معنى جديد باسم النص الأول يعمل ويشتغل ويباشر مفعوله انطلاقا من الادعاء بأنه يتحرك في صلب دائرة النص الأصلي. فهو يُمَكِّن من قول شيء آخر غير النص نفسه، لكن شريطة أن النص ذاته هو الذي قيل وأنجز إلى حد ما.(126) الخبر الصحفي لا ينطبق عليه ما قال فوكو عن النص الأصلي الذي ينظر إليه باعتباره يخفي «سرا أو ثروة»، ويحفل بالمعنى المتعدد الخفي وبالإضمار والثراء، و كلها عناصر تؤسس إمكانية مفتوحة للكلام، لأن الخبر الصحفي ينتظر منه أن يكون دقيقا أحادي المعنى محصور الدلالة في حقل انطباقه من الواقع. ورغم ذلك فهو يحفز على إنتاج سلسلة من التعليقات التي تنجز باسم جعل ما ظل صامتا في الخبر يتكلم، وما كان مضمرا يظهر، إنه يستدرج بياضات الواقعة المخبر عنها فيحولها إلى معنى.
يعتقد المهنيون أن الفصل ما بين نص الخبر ونص التعليق كفيل بضمان موضوعية الخبر. إنهم يتصورون أن عزل الاثنين عن بعضهما كاف لإبطال التفاعل بينهما وذلك ينبني في عمقه على تقدير فاسد لطبيعة التجاوز في المكان (في الصحافة الورقية)والتعاقب في الزمان (الإذاعة والتلفزيون) والمترتب بدوره عن تقدير خاطئ لأهمية الحامل (Support) الذي سبق وأن أشرنا إلى دوره الذي لا يقف عند حدود الوسيلة المحايدة وإنما يملي شروطا وقيما وانتظامات وعلاقات خاصة مع المحتوى. إذ ينظر إلى موضوعية الخبر في ذاته كنص معزول إلا أن واقع الحال يثبت أنه لا وجود لنشرة أخبار تلفزية أو إذاعية أو جريدة يومية أو أسبوعية أو صحيفة إلكترونية تنشر خبرا وحيدا. إن وسيلة النشر تشتغل كفضاء مشترك تتقاسمه مجموعة من النصوص تتبادل التفاعل فيما بينها، إنها نص جامـع (Architexte). هناك أخبار تهم مواضيع مختلفة وهناك صور وتعليقات، ووجودها الفعلي ينجز في ذهن القارئ الذي ينسج ارتباطات فيما بينها مولدة لمعاني جديدة تُضفى على الأحداث الموصوفة في الأخبار. إن تقاسم الفضاء ليس مجرد مجاورة فارغة من أية دلالة ومعدومة التأثير، فنشر خبر في صدر الصفحة الأولى يؤثر على قيمة الخبر المنشور في أسفل صفحة داخلية ويجعله أقل أهمية.(127)
وبنفس المستوى فالتعليق المنشور في الصفحة الأخيرة (أو في أية صفحة أخرى) يؤثر بدوره على الخبر الذي يجعل منه موضوعه الأساسي لأنه يفرض على القارئ الزاوية والرؤية التي انطلاقا منها ينبغي له أن يتلقى الخبر ويتفاعل معه. إذ هناك تفاعل في ذهن القارئ ما بين خبر يهم حادث معين والتعليق المنشور حوله في عمود مفصول عن الخبر يتهم جهة معينة بضلوعها فيه أو يسرد المقدمات التي تقود القارئ إلى استنتاج أن طرفا بعينه هو المسؤول، حينها يستحوذ التعليق على الخبر ويصير هو الموجه الأساسي الذي من خلاله يلتقط القارئ المعلومات التي يوفرها نص الخبر الذي من المفروض أن يكون مقدسا.
5ـ الخبر والواقع والحدث :
أ ـ ذاتية الواقع :
لا يمكن أن نتناول سؤال الموضوعية في الخبر الصحفي، دون أن نتوقف عند علاقة الخبر بالحقيقة، وليس ذلك إقحاما مُبيَّتا لسؤال فلسفي ضمن حقل يضيق أصلا بمثل هذه الإشكاليات.
فالمدونات الديونتولوجية والعهود الدولية الموجهة للممارسات الصحفية تنص باللفظ على الحقيقة كمهمة مناطة بالصحفي. حللنا ذلك في الفصل الأول من هذا البحث. لكن ما يطرح في هذا الصدد هو: ما هي هذه الحقيقة التي سيكشفها الخبر الصحافي وينقلها ؟ وكيف يتمكن الصحفي من معرفتها ؟ فهو ليس عالم رياضيات يستنبط حقائقه بشكل صوري انطلاقا من أشكال استدلالية محكمة البناء، ويصل من خلال قواعد منطقية إلى نتائج مضبوطة مصاغة في لغة صورية، مثلما أنه ليس عالم فيزياء يعود باستدلالاته إلى التجربة لإثباتها وتحوليها إلى حساب بمحتوى تجريبي. إنه بالأحرى حواس تلتقط الواقع، ووعي ينظم ما تلتقطه الحواس ويصوغه في بناء لغوي. بمعنى أن الحقيقة التي ينصب عليها عمل الصحفي هي حقيقة الواقع، وهو ما يطرح سؤالا آخر هو ما نصيب الواقع من الحقيقة ؟
بعيدا عن الطرح الهيجلي (نسبة للفيلسوف الألماني هيجل) الذي يعتبر أن كل ما هو عقلي فهو واقعي وكل ما هو واقعي فهو عقلي، يجيب ميشال أنفاري (Michel OnFray) عن هذا السؤال قائلا : «الواقعي (le réel) لا يوجد في ذاته، في المطلق، لكنه يوجد من خلال الإدراك. الشيء الذي يفترض بشكل بديهي وعيا لإدراكه، هذه المصفاة التي يمر منها العالم تنظم التمثل (représentation) وتُوَلِّد منظورا.»(128) يعني ذلك أن الواقع هو متحصل الإدراك الحسي ونتيجته. إنه مفعول لاشتغال الحواس. يترتب عن ذلك أن في صلب ما يعتبر واقعا موضوعيا يوجد نصيب من الذاتية تؤسسه وتجعله ممكنا. ينعكس ذلك على مفهوم الوصف الذي يصير وصفا لصيغة في إدراك الموضوع وليس وصفا للموضوع في حد ذاته. فما يقدمه الصحفي للقارئ، وهو يزعم نقلا موضوعيا لمجريات الحدث الذي يشكل موضوعا لخبره، هو إدراكه الخاص لهذا الحدث وليس الحدث الخام في حد ذاته. لذلك نجد حدثا واحدا وأخبار كثيرة تتنافس حوله .
أدى ذلك إلى خلاصات صادمة بخصوص انتزاع الحقيقي من الواقع الذي يكاد يكون المهمة الحاسمة للصحفي. فقد رأى جان بودريار أنه «لا يجب الاعتقاد بان الواقعي يظل واقعيا عندما نطرد منه الوهم، وهو ما يعني أن الواقعي (le réel) ليس له واقع موضوعي (réalité objective) « كما أن الحقيقة العارية لا وجود لها (129) ، ومع سطوة الافتراضي (Le virtuel) «يصبح العالم الحقيقي وظيفة تافهة»(130) مثلما يرى الفيلسوف الإيطالي جياني فتيمو (Gianni vattimo) أن سيطرة الوسائط على الواقع تدفعنا إلى القول بأن الواقع لم يكن أبدا حقيقيا «ومع ذلك، بدا لنا أقرب إلى الحقيقة عندما كنا مقتصرين على قناة تلفزية واحدة، أي على رؤية مهيمنة على العالم… وقد كنا نشعر عند ذلك أننا نعيش في الواقع. ومع ذلك، هل كان الأمر يتعلق فعلا بالواقع ؟»(131) فقد علمنا نقد الإيديولوجيات منذ القرن 19 أن ما كنا نسميه واقعا لم يكن هو الواقع، بل «الواقع الإنساني المُمَوسَط..»(132) الذي يمثل شكلا من أشكال فقدان الواقع المهيمنة على التجربة المعاصرة للإنسانية التي يسيطر عليها مجتمع الاتصال المعمم، فالحدث يختفي عند ظهور الخبر، والشيء يُحجب بالصورة، والناس يعثرون على مرآة وجودهم ونموذجه في شاشة التلفزيون، والواقع الذي يتفاعلون معه هو ما يرونه فيها وليس ما يحيط بهم.
يتعامل الصحفيون إذن، مع واقع يساهمون في صنعه. وما يشكل موضوعا لاشتغالهم يتكوَّن في جوهره من جوانب ذاتية من دونها لن يكون أبدا واقعا. إن الصحفي من خلال اشتغال حواسه (ما سمع وما رأى…) يقدم لجمهوره ما أدركه من العالم، بمعنى أن موضوع اشتغاله هو إدراكه ذاته الذي من خلاله يتكون ما يُسوَّق في الفضاء العمومي كواقع، إذ خارج هذا الإدراك ليس هناك من واقع. يعني ذلك أن الذاتية هي قدر العمل الصحفي لأنها منطق مضاعف للواقع نفسه.
وبعد ما تراكم من نقد للإيديولوجيا وللحقيقة مند القرن 19 مع نيتشه وماركس وفرويد مرورا بمدرسة فرانكفورت ووصولا إلى فوكو ودولوز ورورتي، تغير مفهوم الواقع نفسه الذي لم يعد هو ما ينتصب في وجوده الموضوعي في مقابل الذات. يوضح ذلك جياتي فتيمو قائلا : «لا يجهل أحد ـ لأن هذه المعلومة ليست حكرا على الناس المثقفين أو على اليائسين ـ أن الواقع ثمرة لمجموعة من التأويلات ..»(133) نمت هذه الفكرة مع نيتشه وغذاها تعمق المشاريع النقدية بمرجعياتها المتعددة التي تلته على امتداد القرن العشرين وبداية الحادي والعشرين. حيث ظهر أن ما كان يسمى واقعا ليس في عمقه سوى صراع تأويلات وتطاحن قوى. وعندما نكون بصدده يسبق التأويل العلامة بل إن العلامة فيه تكون تأويلات تبرر ذاتها كما قال ميشيل فوكو.(134)
يدور خطاب في الصحافة وحولها يقوم بكامله على ما يمكن أن نسميه بدوغمائية الواقع، يكون فيها هذا الأخير واقعة مقدسة، يتصور وجودها مفصولا عمن يدركها. إن مثل هذا التصور يوقعنا في الثنائية الكانطية الظاهرة (فينومين) والشيء في ذاته (النومين) الذي قال عنه صاحب نقد «العقل المحض» أننا لا يمكننا معرفته ولكن يمكننا التفكير فيه تحت اسم مجهول أي «س» بلغة الرياضيات. فإذا رادفنا ما بين الواقع والمعاش (le vecu) سيكون الواقع حينئذ تجربة تعود للذات التي تعيشه، وإذا رادفناه بالخارج الذي يقف في مواجهة الذات فإنه لن يكون له وجود بالنسبة إليها إلا إذا أدركته حواسها. إن ذلك يعني أن كل من يدرك الواقع يساهم في تشكيله.
يكتب الصحفي عن حادثة سير وقعت في مكان معلوم وزمان محدد، يقتنع بأنه ينقل الواقع، في حين أنه يعيد بناءه انطلاقا من معلومات مشتتة وليس من الواقعة نفسها التي تمت وانتهت في فورية الحدث قبل أن يكون بإمكان اللغة أن تتدخل. إن ما يسميه موضوعية يتأسس في صميم اعتقاد قبلي بأن ليس هناك أثر للذات فيما تدركه وأنه يكفي التحصن بقدر من اليقظة ليضمن استعادة هذا الخارج في اللغة بالشكل الذي لا يكون فيه للصحافي أي موقع في ما يقوله عنه. إن كل ما يقوم به يتأسس على الاقتناع بأن العالم يتوفر في المعلومة وأن نزاهتها كافية لتأمين موضوعية الواقع. وذلك بالضبط ما وُصِف من قبل بأنه «ضياع الواقع»(135) وأساسه نسيان أن المعلومة كيان مصنوع.
ينعكس ذلك على مفهوم الحقيقة في الخطاب الصحفي وآلية الوصف التي يُنجز الخبر بكامله على أساسها. إذ ما معنى أن نصف في الصحافة ؟ وما علاقة الواصف والوصف بالموصوف ؟ وما هي طبيعة ما نصفه؟ فالفرضية الموجهة لفكرة الموضوعية في الخبر الصحفي هي أن الوصف يكون مطابقا لما يقع أي أنه يوفر نسخة ذهنية للواقعة ممثلة بلغة طبيعية، وهي نسخة وفية عن الواقع تَسْتَبْقِيه وتحافظ عليه حتى وهي تخرجه من طبيعته الخام، وتحوله إلى لغة. هذه الفرضية التي رُسِّمت كمسلمة بدت في مرآة الفكر الحديث جد ساذجة. مع كانط مثلا تأكد أن الحقيقة تركيب عقلي لا يعكس الأشياء وإنما يضفى عليها. وانتقدها رموز الفكر البراجماتي، حيث رأى وليام جيمس أن ليس هناك دليل يقيني على أن العمل الوحيد الذي تقوم به عقولنا تجاه الوقائع هو تكوين نسخة منها أو تصويرها»(136) وهي الملاحظة التي واصل التقليد البرجماتي تعميقها وصولا إلى ريتشارد رورتي الذي رأى أن الحقيقة «ليست انعكاسا أو نسخة من منطوقات مبثوثة في بنية الواقع، واقع تم تصوره بسذاجة بما هو وجود في ذاته، بل إن الحقيقة، على النقيض من ذلك تعني الكيفية التي ينتظم وفقها الواقع، الواقع كما نمارسه انطلاقا من مصالحنا المتغيرة…»(137) وذلك ما يسمح لنا بتفسير لماذا يمكننا وصف الشيء ذاته بطرق مختلفة.(138)
ينسى الصحفيون وهم يمتثلون للوصية العامة التي توجههم والتي تقول «الحقيقة هي ما نطلبه منكم»، ان الحقيقة مجرد بناء منظم(139)، وأن الوصف ينظم أيضا ما يصف وأن الخطابات تخلق حقيقة الموضوعات التي تصفها. يرتبط ذلك بما سبق أن أشار إليه ميشال فوكو في حفريات المعرفية من كون الخطابات ليست كما يعتقد ، مجرد تقاطع خالص بين الأشياء والكلمات، وليست لحمة باهتة للأشياء … بل هي ممارسات من خلالها تتكون وبكيفية منسقة الموضوعات التي تتكلم عنها(140) إنها أكثر من مجرد إشارات تدل على ما وقع.
ولاحظ دريفوس ورابينوف أن الثقة التي يمنحها الأفراد للمعنى والحقيقة والقيمة هي التي تحفز خطابهم.(141) ويمكننا أن نضيف أن ذلك ينطبق على الصحفي وقارئه معا اللذين يمثلان نتيجة مباشرة لذلك الحماس العام اتجاه الحقيقة التي ينبغي أن تظهر في كل شيء، دون أن ينتهوا إلى أنهم يجعلون كل ما يظهر هو الحقيقة ذاتها، أي كل ما يظهر من خلالهم. حينها تكف الحقيقة الصحافية عن أن تكون الناطق باسم ما ينطوي عليه الواقع من سر و من جوهر خفي وصامت فتجعله يلتقي قاموسه الخاص وكلماته الشفافة التي لا تضيف إليه ولا تنقص منه. إنها تتحول إلى وظيفة تنظم العلاقة بين طرفي الخطاب (الصحفي وجمهوره) بأن تخلق لهما واقعا مشتركا يتعاملان مع بعضهما على أساسه.
الوصف ينظم ما يصف، والحقيقة تركيب يضفي على الواقع، والواقع نفسه مكون من عناصر ذاتية، يمثل ذلك خلاصات نظرية ناتجة عن نقد نظري، لكنها تحتاج إلى إثبات عملي في صلب الخطاب الصحفي، ذلك ما يتيحه تحليل موضوع الخبر الصحفي والممارسات التي تسمح له بأن يتحول إلى خبر فما هو هذا الموضوع ؟
ب ـ الحقيقة تبديد للحدث
ما يتعقبه الصحفي من خلال جنس الخبر ليس موضوعا ناجزا في الزمن، ثابتا ومكتملا يظل هو نفسه ويحتفظ بها في قلب الصيرورة، فيبقى شاخصا بكامله من بدايته إلى نهايته أمام عين الصحافي الذي يسيطر عليه في اكتماله. إن مصطلح «موضوع» ينطوي على تحوير لا ينبغي إغفاله لأنه يشير إلى ما تم تثبيته أمام التمثل. إنه ينطوي على فكرة الثبات، وهو ما يخلق الاعتقاد بان الوقائع التي يلاحقها الصحافي ساعيا إلى تحويلها إلى خبر هي وقائع ثابتة، تقع وتدخر نفسها كاملة في انتظار تدخل الصحافي ليصفها، ويمكن أن نعود إليها كلما اقتضت الضرورة لمقارنتها بما كتب عنها فنحكم بذلك على درجة موضوعية.
إن نواة انشغال الصحفي هي الحدث (Evénement). يحتل هذا المفهوم موقعا أساسيا في نظرية الكارثة التي تغطي إشكالية كبيرة في العلم(142)، تتعلق بتفسير حالات اللانظام والفوضى في الفيزيس وتَحَوُّل النظام إلى لا نظام وببلورة نظرية للكوسموس خارج رؤية «لابلاس» القائمة على الحتمية. لكن «الحدث» هو كذلك المفهوم الذي تم تشغيله ضد النزعة البنيوية ففوكو على سبيل المثال يرى في البنيوية أكثر المجهودات تنسيقا لإخلاء عدد من العلوم الأخرى، وحتى التاريخ من مفهوم الحدث.(143)
يرتبط مفهوم الحدث بنظرة للعالم تقوم على الصيرورة، فأدق أشياء العالم تتكون من أحداث تؤسس وتتأسس على انقطاعات وتحولات وانتقالات.» إن العالم كما نعرفه ليس هو تلك الصورة البسيطة التي تمحي فيها جميع الحوادث، كي تبرز شيئا فشيئا، المعالم الأساسية، والمعنى النهائي والقيمة الأولى والأخيرة، إنما هو غليان من الحوادث المتشابكة..»(144) ولم يعد الحدث مقصورا على الكيان الخام للعالم وإنما اقتحم أيضا فضاء الكتابة وغدا مؤسسا لمفهومها، فجيل دولوز يلح على أن كل صيرورة لا تمر بالضرورة عبر الكتابة لكن كل ما يصير هو موضوع الكتابة(145)، وذلك ما يصدق بقوة على الكتابة الصحافية التي تنشغل بما يجري في الزمن.
ويؤكد سامي أدهم أن كل منظومة دينامية(146) تخضع للحدث. ويكثف معناه في اللامتوقع الذي يفلت من الحتمية». هو المدهش كما قال هيدغر، هو الجديد اللامتوقع، وهو ما يحدث بالظهور، يلغي اليومي والمألوف والعادي والترتيب».(147) فظهور الحدث ظهور انبثاقي يبرز أمام الوعي ويحدث الدهشة «إن الأشياء المألوفة المعتادة في عالمنا اليومي تمر بشكل عابر لا يستدعي الانتباه، لقد اعتدنا رؤيتها فأصبحت تسكن معنا بشكل مألوف ولا تكوِّن مادة للدهشة».(148)
يمكننا أن نعيد بناء مفهوم ‹الحدث» في ارتباط بالزمن، فهو ما يمزق استمرارية الزمن أمام الوعي محققا نفسه من خلال الانقطاع الذي يقحمه في صميم عمل النظام الذي يحد من استرساله ويعطل قانونه ويجعل وجوده يفلت من القاعدة المتحكمة في انتظامه، إن حادثة سير مثلا تشكل حدثا لأنها تقحم اللااستمرارية في عمل منظومة السير وتعطل قواعدها التي في ضوئها يكون السلوك الطرقي منتظرا، مثلما يحدث ذات الانقطاع في منظومات أخرى (المنظومة الميكانيكية الضامنة لحركة العربة مثلا، أو المنظومة الفيزيولوجية المؤمنة لحركة الجسم…)
يترتب عن عنصر الانقطاع عنصر آخر يتدخل في تكوين الحدث هو الصيرورة، فالحدث من حيث كونه ما يمزق استمرارية الزمن لا يمكن أن يكون إلا صيرورة، فهو إذ يفرض منطق الانقطاع عوض منطق الاتصال يمزق أيضا وحدته الداخلية، إذا لا شيء يتواصل في صلبه أو يستمر وهو ما يعني أنه لا يحافظ على نفسه ككيان واحد ومكتمل في قلب الزمن، بل ينجز نفسه في فورية تجعل كل جزء من تحققه، هو في ذات الوقت جزء من نهايته وتلاشيه. إنه وجود يصير لا يحمل في قلبه سوى التحولات (Mutations) التي تعني قفزة نوعية في منظومة معينة. لذلك فالمفهوم الذي سبق لهيجل أن صاغه في موسوعة العلوم الفلسفية(149) للصيرورة باعتبارها وحدة الوجود والعدم المؤسسة للحركة، تطبق عليه لكنها خلافا لتصور هيجل حركة بدون احتفاظ. لأن الحدث يوجد في ذات الوقت الذي ينعدم فيه.
مثلا، عندما نشرع في الحديث عن حادثة سير يكون الحدث المكون لصلبها قد تم وانتهى في فورية تفلت من سيطرة الوعي الذي يشرع في تركيب ما أفلته انطلاقا من آثاره، إنه لا يدرك الحدث في حضوره المباشر وإنما يتعامل مع مخلفاته: ضحايا، دمار في الآليات، ارتباك في حركة السير، أما الحدث في حد ذاته فقد اختفى…
الانقطاع والفورية والصيرورة، تلك هي العناصر الأساسية المكونة للحدث وهي التي تمنحه ما يتصف به من مفاجأة وإدهاش وجِدَّة. وهي العناصر التي تسمح بفهم ماهية العمل الصحافي، وإلى أي حد يكون الوصف صنعا لما يصف والحقيقة إعادة بناء.
فالحدث الذي يشكل انقطاعا في استمرارية الزمن، يشكل أيضا انقطاعا عن الوعي، ففوريته تدمر أي تزامن قد يعقده معه الوعي. إن ذلك يعني أن تدخل الصحفي يكون لاحقا لحدوث الحدث حتى ولو عاينه لأنه في تلك الحالة يدرك تلاشي بعض جزئياته المتلاحقة، أما كليته فغير متاحة أبدا انطلاقا من التجربة العيانية، وإنما تبقى متروكة لعملية إضافية تتم في غياب الحدث ، أي بعد انقضائه.
لا يكون الحدث وهو قيد الحدوث كُلاًّ، إنه فوران من الجزئيات التي تتم كل واحدة بسرعتها الخاصة تُنتج تحولا مثلما تَنتُجُ عن تحول. وهذه التحولات التي هي انتقالات نوعية تشكل بدورها أحداث صغيرة تساهم بتفاعلها في إنتاج الحدث الكبير.
يترتب عن ذلك كون الصحفي لا يجد أمامه موضوعا ناجزا مكتملا سيصفه بحياد وبدون أدنى تدخل ليجعل مجهوده ليس تمثلا (Présentation) وإنما استحضارا (Apprésentation)، بمعنى إعادة خلق لما انتهى وتم واختفى. سنعطي مثلا على ذلك بانفجار مقهى أركانة في صباح يوم الخميس 28 أبريل 2011 بساحة جامع الفنا. الحدث هنا تم في ثوان قليلة، شكل انقطاعا في استمرارية الزمن وفي نظام الأشياء والفضاء، واعتمل من خلال تحولات مجهرية (كيميائية وفيزيائية ونفسية) كونت أحداثا صغيرة عابرة لنُظُم مختلفة (مادية وبيولوجية وفيزيولوجية وسيكولوجية) صنعت الحدث الكبير. وفوريته جعلت تحققه ينطوي على انتهائه، واكتماله يعني اختفاءه. إذن ما هو الموضوع الذي تعاملت معه الصحافة ووصفته بالآلاف من الصفحات المكتوبة والإلكترونية وعلقت عليه بساعات طويلة من البث الإذاعي والتلفزي، وبالآلاف من الصور التي التقطت له؟ إنه ليس حدث الانفجار في حد ذاته وإنما نتائجه (خراب، دخان، رائحة البارود، جثت القتلى، جرحى، ألم، حزن، دهشة، وصدمة…)
يمنحنا بول ريكور (P. Ricoeur ) في كتابه «التاريخ والحقيقة» مفتاحا لتحليل هذه الوضعية التي ينبني عليها خطاب الصحفي. فهو يستعيد تصور سيميون (Simiand) حول التاريخ الذي اعتبره معرفة من خلال الأثر. فالمؤرخ لا يكون أمام موضوعه المنتمي أصلا إلى الماضي، ولكن يكون أمام أثره (Sa trace).150 بل إن الملاحظة، كما يقول ريكور لا تعني تسجيل حدث خام ومباشر وإنما إعادة تكوينه انطلاقا من آثار معينة. وذلك بالضبط ما هو متاح أمام الصحفي: خلق معرفة بحدث ما انطلاقا من أثره . معنى ذلك أن موضوع خطاب الصحافي يكون نتيجة عمله وليس منبعه.
سنعود إلى مثل «حادثة السير» لنوضح من خلاله هذه الفكرة؛ الحدث الأساسي فيها يتم في فورية تجعل كل تحقق منه جزء من تناهيه. وما يعثر عليه الصحافي هي آثار الحادثة ومخلفاتها. إنه يواجه اختفاء الحدث فيكون الخبر هو التعويض الفعلي لهذا الاختفاء. وإذا كان الأمر هكذا فما الذي يصفه الصحفي عندما يخبر الناس بهذه الحادثة طالما أن الحدث الأساسي فيها اختفى ؟ إنه يصف ما يصنعه من خلال الوصف ذاته. فهو يعمل على إنشاء موضوعه في الخطاب الذي يبنى معتمدا في ذلك على مجموعة من العناصر التي يخلق بينها شبكة من العلاقات التي تفيد في صنع نسيج معقول من الأسباب والنتائج، فيكون الكيان الذي خلقه هو الواقع الذي يسوَّق في الفضاء العمومي ويتعامل الناس معه على هذا الأساس. في الحالة التي أوردناها (حادثة السير) ينسج الصحفي كيان الواقع الذي يخلقه من شهادات الناس، انطباعات بعض الناجين أو الجرحى، معلومات مستقاة من فرق الإنقاذ أو من فرق الدرك أو الأمن… وكلها عناصر مصنوعة في ارتباط بتجربة شخصية لا علاقة لها بالحدث في حد ذاته. إذ يكاد الصحافيون ينسون أن المعلومة كيان اصطناعي لا تنتمي لطبيعة الحدث وإنما تنشأ إنشاء بعد انقضائه. ومن خلال كل ذلك ينتج واقعا يجد أساسه بالكامل في الخطاب الذي يبنيه والذي لا يمكن أن يكون من دونه.
يظهر هنا، وبجلاء، أن عبارة «الوصف ينظم ما يصف ويخلقه» ليست عبارة مجازية في الكتابة الصحافية، بل لها مدلولها المباشر، وأكثر من ذلك فهي تنسف من الأساس فكرة «النقل» الشائعة عن العمل الصحافي، والتي تحدد مهمة الخبر في نقل ما حدث وإيصاله للقارئ. فالأكيد أن الصحافي يعمل على إيصال شيء ما إلى جمهوره ، لكنه لا ينقل شيئا موجودا سلفا، وإنما يخلقه انطلاقا من آثار دالة على اختفاء الحدث.(151)
يبدو واضحا أن الخبر محكوم بغياب الحدث، إنه يتأسس على قاعدة فقدانه. والحقيقة التي يصنعها تُعوِّض نوعا من الخصاص الذي يخلفه الحدث بعد انقضائه. معنى ذلك أن الحقيقة في الخبر هي علامة ضياع الحدث.
تنطوي علاقة الخبر بالحدث على مفارقة تأسيسية لها تأثيرها الخاص على درجة الموضوعية في الخطاب الصحفي، إذ يكون الحدث حيث لا يوجد الخبر، وبالمقابل يصنع الخبر حيث لم يعد الحدث موجودا. يستتبع ذلك أن الصحفي لا يستخرج الحقيقة من الواقع وإنما يفرضها عليه ويسمح بتسويقها باسمه. ومن هذه الواقعة ينبع كل ذلك التخوف والشك الذي تواجه به الصحافة لأنها في العمق حقيقتنا التي تصاغ في غيابنا وصورتنا التي ترسم بعيدا عنا.
خـــــــلاصــة :
تبين من خلال ما سبق أن الخبر بالمنظور البلاغي لا يستوعب مفهوم الخبر في الصحافة الذي لا يتوقف عند حدود القابلية للتكذيب والتصديق.. إذ هناك عناصر أخرى تتدخل في تحديده مثل «الوَقْع» بالنسبة للآنية الذي يشكل معيارا حاسما في تحديد الخبر الصحافي.
كما أن الصدق باعتباره مطابقة القول لواقعه لا يكفي لضمان موضوعية الخبر الصحفي.
إذ أن إيراد معلومات دقيقة عن الواقعة المخبر عنها بأسلوب يهدف إلى توجيه القارئ أو التأثير فيه يشكل انحرافا عن الموضوعية . مثلما أن إيراد معلومات صحيحة و تغييب أخرى عن نفس الواقعة يمثل تدخلا ذاتيا في الموضوع وإخفاء متعمدا لجزء من الحقيقة عن القارئ باستعمال جزء آخر منها لحجبها.
وقد ساعدنا في ذلك مراجعة مفهوم الكذب مستحضرين اجتهادات الفكر المعاصر (كويري، حنا أرنت) حيث اتضح من خلال التحليل الذي قدمناه أن هناك ثلاث مستويات للكذب : الأولى الكذب باعتباره علاقة فاسدة للقول بالواقع، والثانية باعتباره علاقة فاسدة للقول باعتقاد صاحبه، والثالثة باعتباره إظهار حقيقة لحجب أخرى.
وتبيّن أن الموضوعية في الخبر لا تتوقف على مضمون النص، بل تتدخل في صنعها عوامل أخرى حاسمة. يوجد في مقدمتها الحامل أو الوسيلة التي تستعمل في نشر الخبر (ورق، تلفزيون، إذاعة،حامل إلكترونية…) حيث ظهر أن مسألة الحامل ليست مسألة ثانوية وإنما تملي منطقها وتجعل الخبر خاضعا لانحيازاتها القيمية.
وكذلك الأمر بالنسبة للموتيفات السيميائية التي تعني كل العناصر المتدخلة في منح الخبر كيانا بصريا، والتي تنبني على انحياز قبلي وتفضيل قيمي يضع القارئ تحت وصايته.
ويستخلص من مباحث هذا الفصل أن البنية المؤسسة للخبر الصحفي في الواقعة أصلا تحت قدر الانتقاء، لا تتيح له أن يكون موضوعيا. وهو ما دفع إلى تحويل مفهوم الموضوعية من موقف من الموضوع بالتزام مسافة حيادية إزاءه إلى موقف من الذات باعتماد تقدير أخلاقي لمقصدها الإخباري. فعوضت نزاهة الصحفي موضوعية الخبر.
ومكننا تحليل مفاهيم الواقع والحقيقة والحدث من إثبات أن الذاتية تمثل مكونا ماهويا من طبيعة الواقع وأن بنية الحدث تفرض أن يكون كل وصف له تأويل، وكل حقيقة تروج حولها بناء جديد يتم انطلاقا من الآثار التي خلفها الحدث الخام في عبوره وفوريته .وهو ما يعني أن الحقيقة في الصحافة هي العلامة الدالة على غياب الحدث.
1 ـ أوبيردريفوس وبول رابينوف: فوكو مسيرة فلسفية، ترجمة جورج أبي صالح مركز الإنماء القومي، بيروت، بدون تاريخ ،ص 96.
2 ـ طلحة جبريل : «كتاب الأسلوب، صياغة الخبر والقصة الخبرية في الصحافة العربية، الشركة المغربية للطباعة والنشر، الرباط : 1994، ص 10-11.
3 ـ طلحة جبريل، نفسه، ص : 11.
4 ـ السكاكي : مفتاح العلوم، ضبطه وكتب هوامشه وعلق عليه نعيم زرزور، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الثانية، 1987، ص 164-165.
5 ـ أحمد مصطفى المراغي : «علوم البلاغة، البيان والمعاني والبديع»، دار القلم، بيروت، ط1، 1980، ص 44.
6 ـ نفسه، ص 44، ويرجع إلى السكاكي حيث يشير إلى رأي الجمهور ويعتبره هو المعول عليه ويشير إلى رأي النظام دون ذكر اسمه، أنظر مفتاح العلوم، ص 166.
7 ـ سورة مدنية عدد آياتها 11 آية.
8 ـ المراغي، ص 45.
9 ـ المراغي، ص 51.
10 ـ عبد القاهر الجرجاني : دلائل الإعجاز، تحقيق محمود محمد شاكر، مكتبة الخانجي، القاهرة، ط2، 1986، ص 173.
11 ـ الجرجاني : نفسه، ص 527.
12 ـ عبد القاهر الجرحاني : نفسه، ص 528.
13 ـ السكاكي : ص 166.
14 ـ السكاكي، ص 167.
15 ـ الجرجاني، ص 528.
16 ـ الجرجاني، ص 288.
17 ـ أحمد أبو زيد : مقدمة في الأصول الفكرية للبلاغة وإعجاز القرآن، دار الأمان الرباط، الطبعة الأولى، 1989، ص 95.
18 ـ نفسه، ص 69
19 ـ الجرجاني، نفسه، ص 529.
20 ـ الجرجاني، نفسه، ص 532.
21 ـ مثلا : ضرب لا يختلف معناها سواء في الإثبات أو النفي وإنما الحكم هو الذي يتغير بثبوت الضرب أو نفيه.
22 ـ الجرجاني، نفسه، ص 53.
23 ـ الجرجاني، ص 532
24 ـ الجرجاني، ص 533.
25 ـ الجرجاني، ص 530.
26 ـ السكاكي : مفتاح العلوم، ص 169
27 ـ السجلماسي: «المنزع البديع في تجنيس أساليب البديع» حققه وقدمه علال الغازي، مكتبة المعارف، البيضاء، الطبعة الأولى 1980، ص 301-302.
28 ـ السكاكي، ص 166.
29 ـ عبد العزيز الغنام : مدخل في علم الصحافة، الجزء الأول، الصحافة اليومية، دار النجاح، بيروت، 1973، ص 11.
30 ـ Cyrile Lemieux : Mauvaise presse, une sociologies comprehensive du travail journalistique et ses critiques, Ed. Métailié, Paris 2000, P 425-426.
31 ـ ذكره عبد العزيز الغنام، ص 12.
32 ـ Géraldine Muhlmann « Du journalisme en démocratie » Ed. Payot et rivage , Paris 2004, P 314-315.
33 ـ نفسه، ص 316.
34 ـ عبد الله العروي : مفهوم التاريخ، الجزء الأول، الألفاظ والمفاهيم، المركز الثقافي العربي، بيروت، ط1، 1992، ص 62.
35 ـ عبد الله العروي، ص 69
36 ـ عبد الله العروي، ص 70
37 ـ عبد الله العروي، ص 76
38 ـ جاك موريكان : الكتابة الصحفية، ترجمة إنعام محمد الأسعد، دار البحار بيروت، الطبعة الأولى 2011، ص : 25.
39 ـ ذكره عبد العزيز غنام في : مدخل في علم الصحافة، ص 132.
40 ـ عبد العزيز غنام، ص 133.
41 ـ جاك موريكان، ص 53.
42 ـ جاك موريكان، ص 45.
43 ـ طلحة جبريل ، مذكور، ص 12.
44 ـ Serge July, Jan François Kahm et Eday Plenel : Faut- il croire les journalistes ? Edi : Mordicus, Paris 2009, P 43.
45 ـ Géraldine Muhlmann : Du Journalisme en démocratie, P 332.
46 ـIbid, P 314.
47 ـ هربرت .أ. شيللر : «المتلاعبون بالعقول» ترجمة عبد السلام رضوان، عالم المعرفة، الكويت، الكتاب 243 مارس1999 ، ص 20.
48 ـ نفس المرجع : ص 22.
49 ـ عبد العزيز غنام: مرجع مذكور، ص 244.
50 ـ عبد العزيز غنام، ص 244.
51 ـ جان كلود برتراند، مرجع مذكور، ص 6.
52 ـ Géraldine Muhlmann, P : 317.
53 ـ Alexandre Koyré : la fonction politique du mensonge moderne, Rue Descartes 8/9 Paris, Novembre 1993, P 179.
54 ـ كويري . ص 180
55 ـ A. Koyré, P 180.
56 – A. Koyré, P 181.
57 ـ A. Koyré, P 181
58 ـ ذكره مانويل ماريا كاريلو في «خطابات الحداثة» ترجمة إدريس كثير وعز الدين الخطابي،منشورات دار ما بعد الحداثة ،فاس ، الطبعة الأولى 2001، ص 158.
59 ـ جان كلود برتراند، ص 140.
60 ـ م. فوكو : نظام الخطاب، دار التنوير للطباعة والنشر، بيروت، الطبعة الأولى، 1984، ص 9.
61 ـ جمال دين ناجي: مرجع مذكور،ص 109.
62 ـ جان كلود برتراند، مرجع مذكور، ص 7.
63 ـ عبد السلام بنعبد العالي : ضد الراهن، ص 63.
64 ـ جان كلود برتراند، مرجع مذكور، ص 7.
65 ـ جان كلود برتراند، مرجع مذكور، ص 9.
66 ـ هكذا يصفها محمد علمي مشيشي.
67 ـ M. Alami Machichi ; « Quelle presse pour quelle clientèle ? » in : « quel journal pour quel lecteur », sappress 2003, P 15.
68 ـ Ibid, P 17
69 ـ محمد علمي مشيشي، ص 17.
70 ـ يشير علمي مشيشي إلى قانون التجارة سنة 1996 والمرسوم التطبيقي لقانون تحرير الأسعار لسنة 2000 الذي يعتبر الصحافة ضمن السلع التجارية.
71 ـ نفسه، ص 18.
72 ـ تودوروف : روح الأنوار، تعريب حافظ قويعة، دار محمد علي للنشر ،صفاقس جمهورية تونس ، ط1، 2007، ص: 105
73 ـ نفسه.
74 ـ تدوروف، ص 62.
75 ـ في الانتخابات مثلا .
76 ـ تدوروف، ص 63
77 ـ تدوروف، ص 63.
78 ـ تودوروف، ص 65
79 تودوروف، ص 66
80 ـ عبد السلام بنبعد العالي : «ضد الراهن»، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، ط1، 2005، ص :33ـ 34.
81 ـ شاكر عبد الحميد: عصر الصورة ، السلبيات والإيجابيات، سلسلة عالم المعرفة ،الكويت، العدد 311 يناير 2005، ص 360.
82 ـ Brusini H et Jaimes E :Voir la vérité : le journalisme à la télévision, PUF, Paris , P : 52.
83 ـ شاكر عبد الحميد : عصر الصورة، ص 420.
84 ـ مانويل ماريا كاريلو : خطاب الحداثة، ص 160.
85 ـ أنظر عرض شاكر عبد الحميد لرؤية كل من جان بوردريار و ريجيس دوبريه في «عصر الصورة».
86 ـ شاكر عبد الحميد، ص 131.
87 ـ جان كلود برتراند : مرجع مذكور، ص 89.
88 ـHevré Bourges : in quel jounal pour quel lecteur, P 29.
89 ـ Hevré Bourges, P 29.
90 ـ Hevré Bourges, P 32.
91 ـ نفس المرجع، ص 32.
92 ـ نفس المرجع، ص 31.
93 ـ نذكر في نفس السياق تغطية القناة الثانية لمسيرة 20 مارس 2011 بالدار البيضاء والاحتجاجات التي أثارها من قبل شباب 20 فبراير الذين اتهموا القناة باجتزاء تصريحاتهم بالشكل الذي جعلها تقول معنى مخالفا لما عبروا عنه.
94 ـ Jean Boudrillard : le Poroxyste indifferent ,Grasset, Paris, 1997, P 20.
95 ـ H. Bourges, P 33.
96 ـ نفس المرجع، ص 36.
97 ـ م. فوكو، نظام الخطاب، ص 14.
98 ـ ج. موريكان، ص 54.
99 ـ جاك موريكان، ص 57.
100 ـ جان كلود برتراند، ص 71.
101 ـ كما هو الشأن بالنسبة لجان كلود برتراند.
102 ـ جمال الدين ناجي، ص 121.
103 ـ هناك القرب الجغرافي، والقرب الزمني والقرب الاجتماعي… أنظر جمال الدين ناجي، ص 125-126-127.
104 ـ أنظر جان كلود برتراند، ص 56 و 57.
105 ـ جمال الدين ناجي، ص 144.
106 ـ جمال الدين ناجي، ص 144.
107 ـ جان كلود برتراند، ص 72.
108 ـ جاك موريكان، مرجع مذكور، ص 33.
109 ـ جاك موريكان، ص 32.
110 ـ شاكر عبد الحميد : عصر الصورة، ص 137.
111 ـ Michel Onfray : l’invention du plaisir ;fragment cyrénaïques, Edi : biblio livre de poche, Paris, 2006.
112 ـ J. Battaille : la part maudite, Ed. Minit, Paris, 1999.
113 ـ يقول موريكان : «إذا كان هناك مجال يؤخذ فيه بالمظاهر فإنه بالتأكيد عالم الصحافة. لم يسبق أن منح هكذا اهتمام إلى الشكل الخارجي للمقالات، فكل الاهتمام يتوجه إلى مراحل الإخراج الصحفي»، ص 141.
114 ـ يرى دون إهده أن ما أهمل في تناول فعل القراءة والكتابة هو اعتبارهما إشكالا ظاهراتيا متعلقا بدور حاسم للإدراك الحسي، انظر» الوجود والزمان والسرد، فلسفة بول ريكور» مؤلف جماعي، ترجمة سعيد الغانمي، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء ـ بيروت، الطبعة الأولى، 1999، ص 171.
115 ـ جاك موريكان، ص 142.
116 ـ جاك موريكان، ص 147.
117 ـ جاك موريكان، ص 148.
118 ـ جمال الدين ناجي، ص 145.
119 ـ جاك موريكان، ص 150.
120 ـ محمد طروس : الخطاب الفيلمي: البنية والوظيفة، المطبعة الوطنية مراكش، الطبعة الأولى، 2006، ص 86.
121 ـ في حالة المثل المشار إليه أعلاه يتلخص الموقف الذي تدافع عنه الصورة في « أن الحكومة ضعيفة».
122 ـ ذكره محمد طروس في «الخطاب الفيلمي»، ص 45.
123 ـ محمد طروس، ص 44.
124 ـ ريجيس دوبريه : «محاضرة مراكش» ألقيت بمؤسسة دار بلارج يوم 12 فبراير 2005 بمناسبة الإعلان عن تأسيس المدرسة العليا للفنون البصرية، سجلناه ودوناه وترجمناه ونشر بعدة منابر ورقية و إلكترونية.
125 ـ م. فوكو : نظام الخطاب، ص 17.
126 ـ م. فوكو، ص 19.
127 ـ Jean-marie Charon : les journalistes et leur public, le grand malentendu, Edi. Vuibert, Paris 2007.
128 ـ Michel OnFray : Théorie du voyage ; Poétique de la géographie. Librairie générale Française, Paris, 2007, P 86.
129 ـ Jean Baudrillard : Le paroxyste indifferent, P 185.
130 ـ جان بودريار : «اللامادي ، فضاء الاتصال المعمم والرقابة ،هل انقطعنا عن حقيقتنا؟» ضمن مفاتيح القرن الحادي والعشرون، مؤلف جماعي بإدارة جورج بنيدي، بيت الحكمة، قرطاج، طبعة 1، 2003، ص 407.
131 ـ جياني فتيمو : مجتمع الاتصال المعمم، ضمن مفاتيح القرن الحادي والعشرين، ص 413.
132 ـ جياني فتيمو : ص 414.
133 ـ جياني فتيمو، ص 414.
134 ـ ميشيل فوكو : حينيالوجيا المعرفة، ترجمة أحمد السطاتي وعبد السلام بنعبد العالي، دار توبقال للنشر،الدار البيضاء ط الثانية، 2008، ص 53.
135 ـ انظر جياني فتيمو في النص المشار إليه أعلاه وقبله جان بودريار في كتابه الجريمة الكاملة الصادر سنة 1994.
136 ـ وليم جيمس : «معنى الحقيقة «ترجمة وتقديم أحمد الأنصاري و مراجعة حسن حنفي، المركز القومي للترجمة، القاهرة، ط1، 2008، ص 71.
137 ـ جان مارك فيري : فلسفة التواصل ،ترجمة وتقديم عمر مهيبل، الدار العربية للعلوم ومنشورات اختلاف بالجزائر والمركز الثقافي العربي بيروت، الطبعة الأولى، 2006، ص 34.
138 ـ نفس المرجع، ص 36.
139 ـ دريفوس ورابينوف : «ميشيل فوكو، مسيرة فلسفية «، ص 80.
140 ـ ميشيل فوكو : حفريات المعرفة، ترجمة سالم يفوت، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء ـ بيروت ط1، 1986، ص 47.
141 ـ دريفويس واربينووف : مرجع مذكور، ص 81.
142 ـ بخصوص نظرية «الكارثة» يمكن الرجوع إلى كتاب سامي أدهم ما بعد الفلسفة : الكاووس، التشظي، الشيطان الأعظم . دار كتابات بيروت، ط1، 1996.
143 ـ م. فوكو، الحقيقة والسلطة ضمن نظام الخطاب، ترجمة محمد سبيلا، ص 80.
144 ـ م. فوكو، جينيالوجيا المعرفة، ص 78.
145 ـ ج. دولوز، وكلير بارني : «حوارات في الفلسفة والأدب والتحليل النفسي والسياسة»، ترجمة عبد الحي أزرقان وأحمد العلمي، دار إفريقيا الشرق، الدار البيضاء، ط1، 1999، ص 15.
146 ـ يعرف سامي أدهم المنظومة الدينامية بكونها مجموعة من الظواهر المتداخلة والمتشابكة المعقدة التي تراوح بين النظام واللانظام، ص 53.
147 ـ سامي أدهم، ص 54.
148 ـ سامي أدهم، ص 54.
149 ـ هيجل : موسوعة العلوم الفلسفية، ترجمة إمام عبد الفتاح إمام، مكتبة مدبولي، القاهرة، بدون تاريخ، ص 244.
150 ـ Paul Ricoeur : Histoire et vérité, Edi. Cérès Tunis, 1995, P : 27.
151 ـ يمكننا أن نضيف إلى كل ذلك التقنيات التي يعمل بها الصحفيون والتي تجعل عملهم إعادة بناء للواقع وليس وصفا مباشرا له، ومن ذلك تقنية «الهرم المقلوب» التي تكسر الترتيب الكرونولوجي لجزئيات الحدث، مُوجَّهة في ذلك من مراعاة خاصة للقارئ.
عبد الصمد الكباص
باحث من المغرب