إذا أردنا أن نُعرّف جبرا على طريقة معجمات (من هو؟) نقول: كاتب، شاعر، روائي، ناقد، رسام، مترجم. ولد في القدس 1920. درس فيها. أكمل دراسته بانجلترا. هاجر إلى العراق 1948. تابع دراسته في الولايات المتحدة. عاد إلى العراق، وعمل في كلية الملكة عالية، ثم في شركة نفط العراق. متزوج. أنجب طفلين (سدير وياسر). توفي في العام الرابع من العقد العاشر من القرن الماضي. من رواياته: صراخ في ليل طويل، صيادون في شارع ضيّق، السفينة، البحث عن وليد مسعود. ومن دواوينه: تموز في المدينة، المدار المغلق، لوعة الشمس. ومن كتبه النقدية: الحرية والطوفان، الرحلة الثامنة. ومن ترجماته: مآسي شكسبير الكبرى (هملت، الملك لير، مكبث، عطيل، العاصفة). ومنها أيضاً: أدونيس (عن موسوعة «الغصن الذهبي»..)، الرمز والأسطورة، الأديب وصناعته، آفاق الفن.. وغيرها من شتى حقول المعرفة.
لا شك في ان هذه الخطاطة صورة تجريدية غابت ملامحها الداخلية والخارجية عن هذا الانسان ذي المواهب المتعددة. إذن، كيف نعيد لهذه الخطاطة ما ينقلها من حيّز التجريد الى حيز التجسيد عقلاً وقلباً؟
علينا، إذن، أن نقوم بدراسة شاملة لتحقيق هذه العودة، ثم: كيف نعطيها ما استطاع به جبرا أن يوفق بين جميع هذه الأنشطة، وان نسلسلها في «تراتبية» تبدأ من الأهم، فالمهم، فالأقل أهمية… الى أن نصل بها الى ما لا غناء فيه؟!
قبل كل شيء، ومن بعده: يلزم هذا الباحث أن يكون على «معرفة» بأفق جبرا الثقافي: أين كان قلبه وعقله يتجهان؟ ما الذي كان يجذبه، أو ينفر منه، من معارف هذا الكون المتلاطمة؟ ومن ثم: ما الرؤية التي تكونت لديه عن العالم، طبيعةً وبشراً؟
بعد هذا كله، أين كان جبرا يجد نفسه: في الشعر؟ في الرواية؟ في الترجمة؟ أم في النقد؟
قد تقتضي الاجابة عن تلكم الأسئلة كلها أن نفترش الأرض معاً، وأن نأخذ بتداول كتبه واحداً بعد واحد، قراءةً وفحصاً وتدقيقاً، ثم نأخذ بلمِّ شعث ما تناثر، ونعيد تجميعها على هيئة ما تيسر لنا أن ننظر إليه من بُعد، ومن قرب في تلازم منهجي موصول أوله بآخره، وآخره بأوله، من دون أن نضيع شيئاً، أو نخلّف وراءنا ما يجب أن يظل أمامنا.
لا شك في أن هذه المهمة ذات عَنتٍ شديد، إن لم نقل: لا يقدر على اتيانها انسان وحده. فرواياته تحتاج عالماً بفنون السرد، ونقده الى متخصص بمناهج النقد الحديث (ولا سيما السياقية منها، علماً أنه ظل بمنأى عن الحداثية وما بعدها).. وترجماته الى من يجيد اللغة الانجليزية اجادة جبرا لها، وشعره الى من له معرفة تامة بتطورات الشعر الحديث في الأدب الانكليزي، ولا سيما ما آل إليه بعد الحرب العالمية الأولى… وهكذا دواليك، حتى نجد أنفسنا وكأن كل واحد منا قد توزع عقله وقلبه في جسوم كثيرة قد لا يستطيع، من بعد، ان يسترجعها ويعود الى ماكان عليه !.
تبقى مسالة اخرى: أين الانسان في ذلك كله؟ ماذا كان يحب ويكره؟ كيف كانت صلاته بأهل بيته وبمعارفه، الادنين والأبعدين؟ كيف كان يوفق بين أنشطته الأدبية المتنوعة وبين مسالك الحياة الأخرى؟ ماذا كان موقفه من الايديولوجيات المتصارعة التي كانت تضج من حولنا في الحقبة التي عاش فيها؟ الى من كان يميل في هذا الصراع، حتى لو كان الميل عاطفياً؟ ثم، لماذا آثر البقاء في العراق، ولم يغادره قط، مع ما حدث في العراق، منذ قدومه إليه وحتى وفاته، من تقلبات وانقلابات عنيف بعضها، دمويٌّ بعضها الآخر، أما كان في ميسوره ان يجد بقعة في هذا العالم المترامي الأطراف (أهوَ مترامٍ حقاً؟ أم ضيّق كخَرْت إبرة؟) ـ بقعة لا تسمع فيها للنمل دبيباً، ولا للإنس لاغياً كأنك تسير في حلم ورديّ (يا له من تشبيه مبتذل!!). كان بميسوره أن يفعل ذلك. كانت كل بقعة من هذا العالم تستطيب دعوته إليها. لكنه لم يفعل، وآثر البقاء حيث تضج من حواليه الأحداث، ولا تستقر إلا على قتيل، أو جريح، أو مخطوف، أو… قُلْ ما تشاء مما يندرج في هذا الحقل الانساني الغريب!!
قد لا أكون قادراً على قول ما يجب قوله إجابةً عن الأسئلة التي ألقيتها. لكني أرى أن آخر الأسئلة (لماذا بقي في العراق؟) يحتاج مني الى وقفة متأنية أظن أن لي فيها رأياً قد يكون معقولاً، أو مقبولاً، وقد يكون مرفوضاً… لكنه يظل رأياً فيه ـ كما أرى ـ بعضُ وجاهةٍ، إن لم يكن وجيهاً.
يُخيّل إليّ أن جبرا جاء الى العراق مسافراً في أول الأمر، ولم يأتِ إليه لاجئاً، أو مهاجراً. جاء وحده، من دون بقية الفلسطينيين الذين تولى الجيش العراقي نقلهم من جنين الى بغداد بوصفهم لاجئين إليه، ولم يكن عددهم يزيد على خمسة آلاف فرد (رجالاً ونساءً وأطفالاً). جاء مسافراً (على ما أظن) ليتقصى عن عمل له، فإن وجد فيه بغيته، فبها ونعمتْ!.. وإلا فلن تضيق به السبل. ولما كان متضلعاً باللغة الانجليزية، لقي مقعداً تدريسياً له في كلية الملكة عالية للبنات، ثم في كلية الآداب والعلوم من بعد.
إذن، فتح العراق له أبوابه. وماذا بعد؟ مهما يكن من أثر النكبة الأولى (كم لنا من نكبات؟!) على أوضاع الوطن العربي وما أحدثته من تغييرات، تطلع جبرا حواليه فوجد أن في العراق تحسساً ثقافياً قابلاً للنمو والازدهار على نحو غير متوقع، أو قل قابلاً للانفجار: في الشعر، والفنون التشكيلية، والقصة. كان جبرا نفسه مهيأً لمثل هذا الانفجار في نفسه. فهو يكتب القصة، وينظم الشعر، ويحاول الرسم، ويمارس النقد من دون أن يكون قد تبلور منها آنذاك شيء إلاّ على هيئة بشائر متوقعة. كان جبرا قد وعى أن الوضع الثقافي الابداعي الآيل للانفجار في العراق قد امده، هو الآخر، بما يحقق الانفجار في نفسه أيضاً، فانعقدت بينه وبين المبدعين العراقيين (ولا سيما الشعراء، كالسياب، والفنانين التشكيليين، كجواد سليم، وشاكر حسن آل سعيد، وفائق حسن…) أواصر الصداقة والمعرفة والبحث عن الابداع، وعلى وفق رؤيا حديثة، ذات جذور قوية في الأرض، وغصون تمتد في جميع الاتجاهات: أساليب جديدة، رؤى جديدة، بحث عما هو غير متوقع، يخترق المألوف، ويضرب عميقاً في الروح، بلا نزق، أو ادعاء، أو تنطع.
تحقق لجبرا، إذن، ما يطمئن به على حياته في العمل، ثم ما يطمئن به على عقله وقلبه من الأنشطة الثقافية.. فلا سبيل بعد ذلك الى العودة من حيث جاء، أو الرحيل الى حيث يشاء. أصبح العراق له امتداداً جغرافياً: يراه، ويُحس به، ويتشكل من حرارته وبرودته. أصبح تجربته في الأدب والفن، مثلما أصبحت فلسطين امتداداً روحياً في النفس. العراق جسد وفلسطين روح. والغريب هو أن هذا العناق بينهما، في نفس جبرا، تحوّل الى قدر لا فكاك منه. ومما زاده قوةً أيضاً ـ وقد يكون عاملاً غير مباشر ـ زواجه من فتاة عراقية (المرحومة لميعة العسكري التي أهداها مجموعته القصصية الأولى، والوحيدة: : «عرق، وقصص أخرى»..)
لم ينقطع جبرا، في جميع صلاته، عن الناس من مختلف طبقاتهم وانتماءاتهم وتوجهاتهم الفكرية والنفسية، فكان محاطاً بما يٌلبي رغبته الى الشهرة والمعرفة معاً، ولا سيما بعد أن استقرت به الحال على النحو الذي لا يسبب له قلقاً في العيش، ولا طيشاً في النظر، ولا نَزَقاً في السلوك. كنت أراه في حماسته للفنون والآداب، واحتفاله بكل انسان يأتيه طلباً للمساعدة الأدبية، مطمئناً الى نفسه وواقعه.
بسبب من ذلك كله، وجد جبرا في العراق محله ومقامه، فاستراحت نفسه الى الحياة تجري به، أو يجري بها، باطمئنان لا حدّ له!. وفي ظني أنه كان متصالحاً معها، يأخذ منها ما يُزيد في اطمئنانه، وينأى عما قد يسبب له القلق والزِّيَغ والارباك النفسي والمادي، إلا ما كان منها متصلاً بالابداع. كان همُّه وقلقه في أن يكتب شيئاً مخالفاً للعادة ـ ولا سيما في حقل الرواية. ربما كان يظن أن ما تنتجه مخيلته في حقول الأدب الأخرى عرضة للزوال، أو الضمور في أفضل الأحوال. لكنه كان موقناً أن الرواية هي الحقل المفضّل لحراثته لديه. ولذلك حظيت هذه الروايات (ولا سيما الثلاث الأولى منها: صراخ في ليل طويل، السفينة، البحث عن وليد مسعود) باهتمام نقدي عام، وأكاديمي خاص، بحيث حلّت في الطليعة من الروايات العربية.
سألتُ جبرا ذات مرّةً: أأنتَ من عائلة كاثوليكية أم أرثوذكسية؟ أجاب: من الثانية. قلت له: قد يُفسّر هذا عدم احساس شخصيات رواياتك بالخطيئة.. فهم يندفعون بأقصى ما يستطيعون في عواطفهم، ويرتكبون، جراء هذا الاندفاع، ما يؤدي ببعضهم الى الانتحار، أو الهرب، نساءً ورجالاً، على حدّ سواء. وهم في «مغامرتهم» العاطفية، بكل حرارتها وشهوانيتها، لا يفكرون إلا بشيء واحد فقط، هو: إنهم يحققون، بما ارتضوه لأنفسهم، «الحرية» المطلقة، أياً كان مآلها. هذا الوعي بالحرية تعبير عن سلطة الغريزة عندهم على نحو يجعلهم خاضعين لقدرها القاسي أحياناً… وهم جميعاً، في ذلك كله، يسوغون ما اختاروه لأنفسهم عن قناعة مطلقة أيضاً، وهو أمر لا يمكن أن يجد له فضاءً مناسباً إلا أن تكون شخصياته الروائية على جانب من الثراء يتيح لها أن تفعل ما تشاء، رجالاً ونساءً أيضاً.
هل أقول بعد هذا: إن شخصيات جبرا الروائية «أقنعة» يتخفى جبرا وراءها؟
عرفت جبرا عن قرب، غير أن هذا لم يُتح لي أن أستشف منه ما يؤكد، أو ينفي، هذا الأمر. لكن إذا ما أخذنا شخصياته الرجالية ووضعناها معاً الى منضدة التحقيق، ثم استنطقناها، لوجدنا أن ما تشترك فيه من صفات وأحوال أكثر مما تختلف. وهذا ما يقودنا الى أن نعدّ ما تشترك فيه هو «جبرا» نفسه ـ على الرغم من التنويعات التي يتطلبها العمل الروائي كيما تنتقل «ذات» جبرا الى «موضوع» مستقل في رواياته. ومع ذلك فإن في رواياته متكآت لا يمكن لا أن تُسند الى جبرا نفسه، كالأماكن (القدس)، والأحداث التي جرت له فيها، ورحيله الى بغداد إثر الحرب العربية ـ الصهيونية الأولى، وغيرها مما لا تخطئه العين.
لقد دخلت روايات جبرا تاريخ الرواية العربية مع ما دخلها من روايات نجيب محفوظ، وحنا مينة، والطيب صالح.. وغيرها.
ولعل سؤالاً قد يكون مناسباً في ختام هذه «الخطاطة»، هو: أكان هؤلاء الروائيون يمارسون حريتهم من خلال الحرية التي منحوها لشخصياتهم؟ أم أن هذه الحرية التي يمنحونها لهم هي الوجه الذي يدل على ضيقهم بالحياة، ورفضهم لمواضعاتها، واستنكاراً لمساراتها اللامنطقية؟ هنا ندخل حقل «النقد الثقافي» الذي لا يزيد الأعمال الروائية، وغيرها، إلا بلبالاً وتشوشــاً !.
خالد علي مصطفى
شاعر وأكاديمي فلسطيني مقيم في العراق.