يُعد مهرجان المسرح الخليجي للفرق الأهلية في نسخته الثانية عشرة، الذي أقيم في مدينة صلالة في سلطنة عُمان، لقاء فكريا وفنيا وثقافيا ينطق برؤى دول مجلس التعاون الخليجي الست، التي وحدّها الفعل المسرحي، وجمعتها صلات القربى الوشيجة عبر التاريخ البحري والعادات والتقاليد… وغيرها من الأهداف والرؤى والتطلعات المشتركة.. لقاء الأشقاء، من خلال ستة عروض مسرحية قدمت على منصة مسرح وزارة التراث والثقافة، وهي: عرض مسرحية (صهيل الطين) لدولة الإمارات العربية المتحدة، وعرض مسرحية (بلاليط) لمملكة البحرين، وعرض مسرحية (الأجساد) للمملكة العربية السعودية، فيما قدمت دولة قطر مسرحية (البوشية)، والتي عرضتها أيضًا دولة الكويت مع اختلاف الرؤى الإخراجية لنفس النص، وأخيرًا أتت مشاركة سلطنة عمان بعرض مسرحية (البئر).. وجميع تلك المسرحيات تنافست لنيل الجوائز العينية، ولكن الجائزة الحقيقية هي المشاركة بذاتها. وفي الأسطر التالية نتوقف لتقديم قراءة تحليلية للمسرحيات المتنافسة، مع بعض الملاحظات التي تقف عقبة في الحراك المسرحي الخليجي.
مسرحية (صهيل الطين) الاماراتية
في عرض مسرحي لا يخلو من الإشارات الفلسفية ذات العلاقة بنشأة الكون، حيث اجتمعت عناصر ثلاثة؛ وهي: الماء والطين(التراب) والنار، بغية صنع عرض مسرحية (صهيل الطين) للكاتب إسماعيل عبد الله والمخرج محمد العامري. ولقد ركز العرض على الثنائيات المتضادة: (الماء والنار والطين أو الحياة والموت أو الخصب والجفاف أو الولادة والوأد)، وكانت جميع تلك المفردات بدايات استهلالية للعرض المسرحي المقدم . وكعادة نصوص الكاتب إسماعيل عبد الله، فإنها غالبًا ما تتضمن الروح الشعرية الشفافة الجميلة التي تتناغم مع الجوقة الغنائية أو الكورس الذي يعتلى منصة عروضه. وهذا ما حصل في عرض مسرحية (صهيل الطين) الذي اصطف أبطاله (التماثيل) على المنصة، بصحبة صانعها (النحات)، إضافة إلى رمز المرأة(هي). ويمكن ملاحظة الحوار الفلسفي الذي دار بين التماثيل وصانعها، لنجدها تارة تتحدث مع النحات، وتحاور ذاتها تارة أخرى، وبشكل عام فهي دائمة البحث عن سر العلاقة بين الحياة والموت، من خلال مفردتي (سيولد، وسيؤد)، كما في المقطع التالي: «هي: سيولد. الجوقة: سيوأد …هي: سيولد.. سيولد.. سيولد..» (1)، «الجوقة : سيولد من ماء وطين…سأكفّر عن ذنبٍ خاطته أيادي الزمن المرّ …بدمّ يدي ..»(2). وتزداد حدة الحوار بين التماثيل والنحات حتى تحول إلى جدال شديد اللهجة!..عندما تظهر على خشبة المسرح شخصيتي(هو، هي)؛ هو: صانع التماثيل أو النحات الذي يتحكم في المرأة (هي) وبقية التماثيل الأخرى..ويمكن ملاحظة الصراع الجدلي بين المرأة والرجل، كالتالي:» هو: سيولد مسخاً بلا بصمات…سيولد صمتاً بلا كلمات…عاراً يورّث صمّاً وبكماً..هي: سيقرأ باسم الذي قد تجلّى..ومن باسمه ترجف الراجفة..هو: سيولد ميتاً …هي: سيولد من رحم العاصفة..ستهديه روح المقادير روحاً..وأنفاسه من رحيق المطر…شهيقاً سيخمد قيظ الظمأ..» (3).
ويميل عرض مسرحية (صهيل الطين) إلى تجسيد واقع الحياة الاجتماعية من خلال توضيح طبيعة العلاقة بين الرجل والمرأة، والتي سرعان ما تتحول علاقة زوجية.ويمكن استنتاج ذلك من الحوار الثنائي بين (هو،هي) والذي يشعر المتفرج بملل الحياة الزوجية: «هي: سئمت.. أطعت حتى أدمنت…حلمت فأَمِنْت فآمنت فاغتسلت فتطهرت حتى قهرت غيبوبتي وأفقت…هو: وماذا بعد؟!..هي: أشرقت قبلتي فوجّهت» (4) ..وفي مقطع آخر: «هي: إعتقني…هو: لا عتق لعاصي…هي: عشرون عاماً ألا تكفي؟! عشرون عاماً أسيرة محرابك أسبّح لك طاعة وبِرّاً ووفاءً ألا تشفع؟! عشرون عاماً قادتني فيها نزوات قبلتك المهلكة إلى هذا القبو القبر.. عشرون عاماً أشاطر منفاي وغربتي غصّتي… وتمر السنون على عمرها المسجى فتطمس آثار خطاه.. عشرون عاماً روّضت فيها قدميّ فخذلتاني وتبعتاك.. وطوّعت يديّ فخانتاني وأطاعتاك.. وسملت عينيّ فبكتاني.. ووحدك أبصرتاك.. عشرون عاماً ألا تُرضي؟! ألا تُعفي؟! ألا تمحي؟! ألا تكفي؟!» (5) . وهكذا يجد المشاهد نفسه أمام أنثى(زوجة) تصرخ في وجهة زوجها المتسلح بالأنانية «الذكورية»، بعد تحولها إلى مجرد أمعة، عليها الطاعة والإنصات لديكتاتورية الرجل التي لا ترحم ؟!! ولقد تطور الحوار بين بطلي العرض في مرحلة لاحقة، عندما توغل في أعماق الذات النسوية، باحثًا عن علاقة حواء بآدم منذ الأزل، فالصراع بينهما ليس وليد اللحظة، ولكنه صراعًا أزليًّا منذ نشأة الخليقة في هذا الكون من ماء وطين !..فهي امتداد لبنات حواء، وهي وجهة نظر الرجل مثل أمها وجدتها، ويمكن استيضاح كالتالي: «هو: ملعونة أنت وأمك التي سمّمت دمي الطاهر الذي يسري في عروقك بأنفاس حروفها الآثمة..هي: قتلتها.. ولا زلت تقتلني كلّ يوم…هو: ولو عادت إلى الحياة من جديد لقتلتها ألف مرّة.. أمك الفاجرة التي صبئت.. صبئت وسوّلت لها نفسها الاقتراب من حلمي والنيل منه..» (6) . كما يتطور الحدث الدرامي في هذا العرض المسرحي مع التحولات التي تحدث في حياة الشخصيات، ليتضمن عددًا من الإسقاطات السياسية، عندما يتحول «هو» إلى (حاكم ديكتاتوري) و «هي» إلى (الشعب المغلوب على أمره). ويمكن ملاحظة استبداد الرجل الحاكم عندما يمارس سطوته على من أراد التمرد على سلطته وجبروته من شعبه، حيث تكون نهايته الموت، كما في المقطع التالي : «هو: حذار أن تعودي وتعيدي سيرة أمك الأولى.. فستقبرين في هذا المكان. ..هي: رطوبة هذا المكان أرحم وأحن على جسدي من سياط ساديّتك.. كستني بالرّيش.. ونسجت لي الأجنحة…هو: حلّقي في فضاء هذا القبو كما يحلو لك.. فلن تقوي على الطيران خارجه.. لا ترثي حمق وغباء أمك.. أجنحة لم تولد تحت النور.. ستحترق عندما تلامسه…هي: حلمي الذي لاحت بشائر مخاضه.. سيحلّق بي في كلّ فضاءات الكون» (7) .
وفي مقطع آخر: «هي: لا تئن الجبال تحت وطأة أحمالها مهما عظمت…هو: سأنتقم من أمك فيك.. سأذيقك ألوان العذاب.. سأذبحك.. سأصلخك.. سأقتلع عينيك بعدها وأعلّقهما قلادة على شاهد قبر أمك)(8). وفي مقطع آخر: «هي: ليس قبل أن يولد حلمي…هو: سأحرقه وأحرق تمرّدك بداخلك حتى أحتفظ بتكوينك الذي شكلته إلى الأبد، وإن انقطع نسل سلالتي فعزائي أنّني خلدت قانونهم بآخر العنقود» (9).
وهكذا يتضح مدى (ديكتاتورية الرجل، النحات، الحاكم، الزوج ) الذي يحكم شعبه بالقوة والعنف، وفي حالة أنهم أرادوا التمرد على حكمه…و يطاردهم حتى في أحلامهم ويتحكم فيهم؟!.. وهو ماض في تضيق الخناق على حريات التعبير لديهم، لذا نراه لا يتردد في القبض على الذين يتمردوا عليه ويتم حجزهم في القبو…ليكونوا عبرة وعظة للأجيال القادمة، لأنهم سيلاقون نفس المصير!.
علاوة على ذلك، يسعى هذا العرض إلى تحليل السمات العامة للنماذج البشرية، والتي تتباين في سلوكياتها، فهناك من تكون طباعه معجونة بالماء والطين..لذا ينتج عنها إنسانًا سويًّا، بينما الآخر يجنح عن ذلك، ويكون له منهجًا مختلفًا في الحياة، ويمكن أن توضيح ذلك من خلال لغة العرض، حيث (التمرد، الخضوع، الاستقامة، والانحراف، الأهواء والرغبات، التغير)، كما في المقطع الحواري التالي: «هو: ستفعل النار فعلها.. إن شكّلتيه راكعاً قد ينتفض في غفلة منك ويقف معتدلاً مستقيماً ويطبق على عنقك.. وإن شكّلتيه واقفاً مستقيماً وتركتيه قد يخدعك فينحني ويبالغ في الانحناء ويقتلعك من جذورك.. ولو تركتيه مدّة أطول قد يأتي غيرك ويعيد تشكيله من جديد وعلى هواه.. كل ذلك بفعل الماء.. أمّا النار فهي الضمان الوفي..» (10). إن ذلك التناغم الجميل الذي يجمع بين (التماثيل) والنحات(هو) الذي اراد السيطرة على الوضع وفق سياسة (النار والطين)، أما (هي) فترفض ذلك وتشعر أن ( الماء والطين) وحدهما، اللذان يجعلاهما متقاربان في الآمال والطموح، والرغبات والمشاعر، فنشاهد «هي» تتبادل المشاعر والأحاسيس مع التماثيل، وكأنها مخلوق بشري؛ زوج وزوجة، رجل وامرأة …إلى أن ينتهي الحوار بفرض الرجل (النحات) سيطرته ويسعى للتحكم بزوجته (المرأة، هي، الشعب المغلوب على أمره)..كالتالي: «التمثال: ها نحن التقينا نغزل الصبح ترانيم وتر….هي: ها نحن التقينا والمدائن خلفنا تمضي تحثُّ السير وجهتنا القمر.ماخاب مسعاها إذا كان المطاف بك استقر.التمثال : الحلم صهيل.. وليل الشتاء قاسٍ وطويل.. ستطول مخالبه لتفترس حلمك وتوئده…هي: لن يوأد هذا الحلم» (11). وتزداد الرغبة في إحكام القبضة على الناس، والتنكيل بهم وتعذيبهم في حالة إنهم أرادوا التمرد أو فكروا بالثورة والعصيان؟!!… ويمكن استنتاج ذلك من خلال الحوار التالي بين النحات(الحاكم المستبد) وبقية الشعب (التماثيل): «هو:سأقتلعه من أرضي.. وسأذيقه لهيب فرني. ..هو: سأصنع منه حلمي المنتظر.. سأصون به قانون سلالتي المتوارث.. هيّا امتثل لرغبتي وأوامري وتحرّك.. تحت ظلّي ستقيم في النّعيم.. وسيخلّد ذكرك.. وسأتوّجك فارس أحلامي.. هيّا تحرّك.. لا حلم إلاّ حلمي» (12). كما يهدد الحاكم من حاول التمرد عليه أما بالحرق أو القتل من خلال الرمز (هي)، حيث: «هي: (وهي تقاومه) اتركني…هو: هذا عقاب المتمرّدين…ذوقي عاقبة المرتدّين…ستحترقين» (13). ويحفل عرض مسرحية (صهيل الطين) بجماليات بصرية عديدة، اجتمعت لتشكل مفردات السينوغرافيا العامة للعرض، والتي يمكن اعتبارها عنصرًا مهمًا لتصعيد الأحداث، والتي سعت إلى تأجيج المشاعر الداخلية لروح التماثيل. ولقد طغى على العرض اللونين؛ الذهبي البرتقالي، الأقرب إلى روح الصلصال الممزوجة بالطين الترابي، حيث نحتت به أجساد الممثلين. كما ساهم الطين (الحقيقي) في تصفية العلاقة بين الطين(الجماد) ليتحول إلى (إنسان) ويحس ويشعر بآلام الآخرين …ولم يخلو العرض من لمسة تجريبية، حيث لم يترك المخرج العامري، فرضية معايشة المسرح لتقنيات العصر، لذا استخدم الشاشة السينمائية في عمق المسرح للدلالة على عملية الصنع الوجودية حيث الماء والطين والنار، والتي جميعها قادتنا إلى «الفرن» الذي جعله المخرج خلاصًا للشخصيات من معاناتها، وجميع ذلك ساعد على بقاء خط الإيهام وجذب المشاهدين إلى العرض بقدرة عالية…مهما تفاوتت مستويات الفهم لديهم، مما جعل العرض قابلا للتأويلات المتباينة، وتكوين الصور النابعة من المواقف والحالات الدرامية بشكل تلقائي ومستمر. كما قامت التماثيل بدور (الكورس) في بعض المشاهد، بحيث يتم توظيفها كديكور يتشكل حسب الموقف الدرامي . ومن ناحية أخرى ساعد المكياج والإضاءة على نحت وجوه التماثيل، كما قامت الشخصيتان الرئيستان في العمل بالتمسرح والتشكل حسب طبيعة الدور، حيث استطاع الفنان أحمد الجسمي الانتقال من مرحلة إلى أخرى، فيما آزرته الفنانة حنان مهدي في ذلك، واستطاع الاثنان الإبحار عبر مستويات ودلالات النص التي بدت كأمواج البحر، ما ان تنتهي دلالة حتى يفتح النص على دلالة أخرى!. إلى جانب التشكيلات الاستعراضية الراقصة على الخشبة، التي خدمت العرض، الأمر الذي ساعد على كسر الممل لدى الجمهور، نتيجة الحوارات السردية في النص. بجانب ذلك، فقد تناغمت (الموسيقى) مع واقع الشخصيات من خلال التركيز على معاناتها، ومحاولة تجسيد الدلالات والمعاني التي تشير إلى ثنائية الحياة والموت والخصب والجفاف والولادة والوأد.. وغيرها من المفردات التي صنعت عناصر عرض مسرحية « صهيل الطين».
مسرحية (بلاليط) البحرينية
عندما يشعر المجتمع أن همومه الحياتية أصبحت مثارًا للجدل على خشبة المسرح، فإن المسرح يكون بذلك قريبًا من وجدانه وفكره، وهذا ما سعى عرض مسرحية ( بلاليط ) البحريني إليه، الذي هو من تأليف جمال الصقر وإخراج أحمد جاسم لمسرح البيادر البحريني، والذي أراد أن يقول لا!!.. إزاء الكثير من الأوضاع التي يعج المجتمع البحريني، المشبع بالعقد البيروقراطية، بأسلوب كوميدي ساخر، كشف الكثير من القضايا، بدءًا من الحياة اليومية وانتهاءً بدوامة السياسة !
من الجميل أن نعود إلى زمن المسرحيات الكوميدية الهادفة التي تنبش فقضايا المجتمع الذي تؤرقه، بأسلوب كوميدي ساخر، مما جعل المشاهد يبتسم رغم همومه اليومية التي تحاصره بشده و تقض مضجعه!. وسعى عرض مسرحية (بلاليط) لكسر النمطية المعتادة من خلال تقديم عرضًا اقترب من العروض المسرحية الملحمية، كما وظف الكورس الغنائي فيه، بغية كسر النمطية المألوفة في العروض التقليدية بشكل مبهر، وسعى إلى تجريد خشبة المسرح والتركيز على جسد الممثل؛ حيث هذا العرض قائم بشكل كبير على التمسرح، وتبادل الأدوار بين حين وآخر، خاصة لدى الكورس. وهذا ساعد على صنع رؤية جمالية ساهم الممثل بشكل كبير في صنعها، وفي ذات الوقت، فإن العرض المقدم لم يغفل النص أو الحوار الذي استطاع أبطاله طرح قضاياهم الجريئة والصريحة التي لا تحتمل التأجيل؟! علاوة على ذلك ساهم ( الكورس الغنائي) في مستهل العرض على تفعيل الحراك المسرحي، ورسم جماليات العرض البصرية، حيث برزت التشكيلات الاستعراضية للكورس الذي كان يحيط برمضان بين فترة وأخرى، و يتشكل حسب الحالة التي يعيشها، ولم يكتف الكورس بذلك، وإنما حرص على تصعيد الإيقاع وإدخال المؤثرات الصوتية المناسبة بين فترة وأخرى، إضافة إلى استخدام العصي و الطبول، وضرب الأرجل على الخشبة.. وجميع ذلك حفز خيال المتلقي على المشاركة والإحساس بمعاناة الشخصيات وهي تنتقل من لوحة إلى أخرى. وعلى سبيل المثال قام (الكورس) بدور أساسي في مساعدة المواطن (رمضان)، بعد اكتشافه لكيس (البلاليط) المنتهي الصلاحية، ويمكن سماع صوت الكورس، وهو يردد: « آه على شكوتي… وآصيح من دنياي…عمرن قضيته قهر في الروحه والييه…عصفور فوق شيره …تصعد له الحيه قصقص جناحه القهر …مربوط منقاره …والطير يومن كبرقصو له أظفاره ..يلي زرعت الفرح ..بتثمر انخيلك وتشيل هم وحزن …واطارد بخيلك» (14) .
ويتضح من خلال المقطع الغنائي – مناجاة (الكورس) السابق – المعاناة التي يعيشها المجتمع بأسلوب رمزي غير مباشر، مما جعل المشاهد متحمسًا لمشاهدة العرض، والذي تناوبت حركة التمثيلية والاستعراضية أمامه، بغية الالتفاف حول الموضوع، و محاولة شحذ خيال المتلقي، وجعله محاصرًا بكم هائل من الهموم الحياتية.
وفي مرحلة لاحقة شهد العرض تمازجًا وتلاحمًا كبيرًا بين صوت الجوقة أو الكورس مع (رمضان) لمشاطرته همومه وقضاياه، وبذلك يكون للكورس صدى لذاته المتعبة بعد أن أنهكتها الحياة، ويمكن ملاحظة ذلك من خلال الحوار الذي جمع رمضان بالجوقة في مستهل العرض : « أحدهم : يه سندرتنه حقي وحقي يبه حقك ..واحد واثنين: بله في الماي ..رمضان : ضحكوا .. إي نعم ضحكوا .. ضحكوا لأنكم بعدكم ماعرفتوا قصتي، وشلون البلا .. غالية وايد على حال الفقير» (15) . وتبرز معاناة (رمضان) المواطن العادي الذي يعمل في وظيفة حكومية، والذي يعاني الضغوطات المادية، نتيجة تراكم الديون عليه، حيث أن راتبه الشهري غير كاف لتغطية مصاريفه الشهرية:» رمضان : باختصار من حقي اليوم سحبت الراتب، والمواطن اللي يستلم راتبه أول الشهر ويرجع البيت يبين من ويه …أدري أنكم مستانسين مثلي، لكن أمم أمم 155 قرض السيارة . 100 جمعية بو فهد . 234 قرض مهر الزواج، 113 دينار جمعية أم عباس وإذا ما دفعت بتيب لي مركز الشرطة في البيت، 80 دينار حق الوالدة.. 70 دينار حق الولد والنعم فيه تنحط على الجرح يبره، وأخواني بعطي كل واحد منهم 35 دينار يستاهلون المهم في النهاية يصفا لي، شنهو .. بل !.. يبقى لي دينارين معقولة « (16).
وهكذا يظل رمضان يحدث ذاته، بينما (الكورس) يآزره في قضيته الذي باتت تشكل هاجسا حقيقيًّا له، لذا فهو لا يتردد في التنقل بينهم لأخذ المشورة والنصح، والذين تكون ردود أفعالهم ما هي إلا أصداء له، بجانب ذلك فإن ( الكورس) يعتبر وسيلة لتنقل السريع على الخشبة من لوحة إلى أخرى عبر مسيرة (رمضان) الباحثة عن البلاليط المنتهية. كما حرص المخرج على يكون أداء الممثلين متنوعًا بين الحركة والاستعراض، يتخلل ذلك الحوار أو ردود الأفعال المتباينة، حسب المواقف الدرامية المتتالية.
وكما أشرنا سلفًا بأن هذا العرض يتخلله بؤر (التمسرح) التي سرعان ما تتجمع صانعة ما يسمى (المسرح داخل المسرح)، مع التعليق من قبل الكورس بشكل سردي ملحمي الطابع، ويمكن مشاهدة (رمضان) وهو ينتقل من لوحة إلى أخرى، متقمصًا أدواره على غرار المدرسة البرختية التي تصدم الجمهور بحقيقة ما يعرض أمامه، وهي في ذات الوقت لا تترك مجالا له للإيهام الفني لديه، والذي عادة ما يصاحب العروض التقليدية، ويمكن مشاهدة تغلل الأسلوب الروائي الملحمي في العرض عندما يتحدث (رمضان) عن نفسه كالآتي: « رمضان : وينطلق، وأحلى شي أنه يسلم على اللي يعرفه واللي ما يعرفه وهو متشقق، وأول ما يدش البيت من مشيته تحسه أنه خايف على ثوبه يتجفس، مع أنه مجفس من الصبح، يدش البيت يفصخ ثوبه ويلبس جلابيته المكوية المبخرة» (17).
ويمكن ملاحظة تمسرح (الكورس الغنائي) من خلال تقمصه لعدد من الأدوار، عندما يجلس رمضان لمشاهدة التليفزيون، بينما الكورس يتحلق حوله متقمصًا دور الأطفال في المنزل..»رمضان: ياعيال- المجموعة تقلد الصغار بحركاتها» (18) . ويستمر (التمسرح) على الخشبة بهدف تقديم لوحات مشحونة بهموم المواطن رمضان، وفي كل لوحة يقدم حلقة من حلقات البيروقراطية التي لا تنتهي، مع محاولة فصل المشاهد عن العرض المسرحي بعد كل لوحة على غرار المدرسة البرختية!.. كونه يقدم له جرعات منفصلة ومركزة مشحونة بمتاعب الحياة اليومية للمواطن البحريني الذي بات يصارع غلاء المعيشة، وتعقيدات الإجراءات الحكومية المبالغ فيها، مع تضخيم الأشياء بطريقة مغلوطة، وكأن لسان حاله يقول أين المفر؟!!
كما توالت النقلات السريعة على خشبة المسرح مع التغيرات الاجتماعية التي تعيشها شخصية (بو رمضان) – وهو رجل كبير في العمر متقاعد – بطريقة كوميدية ساخرة جاءت أقرب إلى الكوميديا السوداء، كون الأب أيضا يعتبر ضحية من ضحايا البيروقراطية، بينما يقف رمضان مواسيًّا والده (بو رمضان)، وكأن هموم الحياة المعاصرة أصبحت متوارثة…لديه: « بورمضان : رمضان – المجموعة تضرب ضربتها الأخيرة على الأرض، وبها يفزع رمضان- رمضان : بسم الله الرحمن الرحيم .. سم يبه س…بورمضان : عطوك المعاش ؟ رمضان : ها !.. بورمضان :من قال ها سمع، عطوك المعاش ؟ رمضان : عطوني « (19).
وتعيش شخصية (بو رمضان) المتقاعد كابوس (البلاليط) المنتهية الصلاحية، ويمكن متابعة الحوار التالي بين شخصية رمضان ووالده.. كالآتي: « بورمضان: وين باقي الأغراض.. رمضان : (يصرخ) ما عنديي .. بورمضان: يعني ماجلة الشهر كيس بلاليط ..بط في عينك.. بورمضان: ما تقره التاريخ ؟ رمضان : امبله يبه شوف 800 فلس .. رخيص … بورمضان: أقول لك التاريخ تقولي السعر، ما شفت تاريخ الانتهاء .. بورمضان: البلاليط منتهية مدتها من سنة ونص» (20) .
وتمضي رحلة البحث في قضية (البلاليط) لتصل إلى مرحلة تقديم شكوى في مركز الشرطة، إلا أن رمضان يصاب بخيبة أمل كبيرة، عندما ترفض الجهات الأمنية شكواه، لذا كان عليه البحث عن جهة أخرى تقبل قضيته: «الشرطي : قلنا لك مب شغلنا روح وزارة الصحة رمضان:صراحة حاولت، لكن ماعرفت من المسؤول واليوم الخميس والدوام بيخلص وباجر الجمعة وبعده السبت ووزارة الصحة صاكه ..رمضان : اتصلت بخدمة المستهلك محّد يرد علي ..أقول لك السوبر ماركت يبيع بلاليط منتهية مدتها، يعني إذا سكتنا على ها لمصيبة الأوادم بيشترونه وبيهفونه وبيطيحون عشرات الضحايا في هذا اليومين» (21) .
وبعد ذلك ينتقل رمضان إلى شرطة (الإطفاء) لتقديم شكوى ضد أصحاب البلاليط المنتهية، ولكن رجل الإطفاء يعتذر لأن موضوعه بعيد عن تخصصه: « رمضان : السالفة أن السوبر ماركت مالنه يبيع بلاليط منتهية والجهات المعنية محد راضي يتدخل وانتوا بس اللي ممكن تنقذونا، ترى الموضوع خطير. رجل المطافي :يعني فيه حريجة ولا لا» (22).
عقب ذلك يتجه (رمضان) إلى مقر المرشح النيابي (بو فروة) باحثًا عن حل لموضوع البلاليط المنتهية، ويدخل في حوار ساخر معه، ويمكن أن نستشف ذلك من خلاله مدى السخرية اللاذعة الموجهة للمترشحين النيابيين، واللذين يعدون الناس بآمال وخطط، ولكنهم سرعان ما يتراجعوا عندما يحصلون على أهدافهم القيادية ..كالآتي: «رمضان : طال عمرك .. إذا أنت فزت ياليتك تحل مشكلة البلاليط . ..بوفروة : أفا عليك مكتوب عندي في البرنامج الانتخابي من ضمن الخطة، البلاليط هو جزء رئيسي من تنمية المجتمع…القاضي : أسفرت النتائج عن فوز المرشح النيابي بوغانم عبدالله بوفروة الملقب بأبو سنا..رمضان : والحين ياطويل العمر، شنبسوي في البلاليط المنتهية .بوفروة : أي بلاليط وأي خرابيط، أفا بس هذي حجي تقوله حق نائب…رمضان : إي بس انته وعدتني أنك تحل مشاكل منطقتنا، وبالذات البلاليط « (23) . ويغادر رمضان المقر النيابي إلى مكتب معاليه ووكيله، باحثا عن كيفية القضاء على ظاهرة البلاليط المنتهية، والتي يمكن أن تكون سببًا في تسمم وسقوط عددًا من المواطنين، نتيجة تناولهم لها . عقب ذلك، ينتقل رمضان إلى السُلطات العليا (الوزير) لتقديم شكوى جديدة لوقف البلاليط، ويمكن التوقف عند حوار رمضان مع الوزير: « رمضان : البلاليط سلمك الله .. 50 جيس مدتها منتهية ولحد متحرك، ألف من وزارة لي وزارة، إجراءات معقدة واستمارات وحوسه ونطرة على لا شي، فقلت مافي إلا طويل العمر ينصفني .الوزير : بس هذي، بسيطة خذ هذي الملاحظة وسلمها للوكيل « (24) .
ويتم تحويل موضوع رمضان إلى الوكيل، ليبدأ رحلة للبحث عن الحلقة الضائعة من جديد، ويظل رمضان يدور في دوامة البيروقراطية الفجة حتى الوصول إلى قمة الهرم، ويمكن مشاهدة رمضان واقفًا أمام الوكيل، عارضًا قضيته: «رمضان : البلاليط طال عمرك …الوكيل : بسيطة نحولها حق الوكيل المساعد « (25) . وعندما لا يجد (رمضان) ضالته فإنه يتوجه إلى برج مراقبة الطيران في المطار، ليخبر الناس بضرورة التخلص من البلاليط المنتهية!.. ولكن بدون جدوى: « رمضان : لا حبيبي أنا رمضان موظف عتيج مثل كيس البلاليط اللي مدته منتهية، واللي دخل عن طريق الطيارة، بسببك…الموظف : أي بلاليط وخرابيط .. رمضان : اسمع عاد سوالفك هذي مو علينه، أبغيك تكلم كل الطيارات اللي بتنزل وتتأكد من اللي عنده في الشحن بلاليط تاريخها منتهية» (26) .
وتطور الأحداث الدرامية في حياة (رمضان) لتصل إلى الذروة، عندما تعلن وسائل الإعلام خبر ظهور منظمة (البلاليط الإرهابية) ؟!!.. وأن سفيرها في الوطن العربي رجل يدعى (رمضان بن شعبان)؟!!: «المذيع : مرحباً بكم في نشرة العاشرة من قناة الفضيحة .. وردنا خبر عاجل .. في آخر الوثائق المهمة المنشورة في موقع ويكيلكس وأخطرها على الإطلاق .. فقد نشرت الأنباء خطاباً مطولاً بين منظمة بلاليط الإرهابية وبين سفيرها في المشرق العربي رمضان بن شعبان، حيث أوضحت الوثائق بأن رمضان لجأ إلى استخدام كل الأساليب، للوصول إلى مطالبه وحقوقه، حيث تتهمه الحكومة بأنه اعتصم.. وتحرك .. واشتكى.. في وسائل الإعلام، ولم ييأس من طرق أبواب المسئولين، ضد البيروقراطية المتفشية جراء انتشار سياسة البلا.. لييييط « (27).
وينتهي المطاف بالمواطن (رمضان) بمحاكمته على اعتبار أنه قائد تنظيم البلاليط ؟!!…والذي يحكم عليه بالسجن مدى الحياة ؟!… بعد معايشته لبيروقراطية المجتمع، والتي كانت سببًا في أحداث سوء فهم كبير وخلط للأوراق الحياتية والهموم المعيشية الصعبة للمواطن البحريني، وصولا إلى منابر السياسة التي خذلته، عندما أراد أن يقول حقيقة « البلاليط الفاسدة»؟! ….والغريب بل والطريف في الموضوع، إن رمضان لم يسلم أيضا من (البلاليط) حتى وهو في السجن!… حيث تفاجئ بأن هناك من يوزع البلاليط المنتهية:»رمضان : لااااه .. هذي أمثال تعبانه، آنا إيجابي، أحاول، أقترح، اشتكي مهما كانت النتيجة .شخص 3 : (يدخل من الخارج وبيده أكياس ) البلاليط وزعوه» …(الجميع يتقافز …رمضان : لا .. لا .. الناس بيموتون وقفوا وقفوا .. وين القوانين؟ وين الشرطة؟ وين الصحة؟ وين الوزير؟ وين الوكيل؟ وين المدير ؟ وين الحكومة وقف (يصرخ) وقااف « (28).
وهكذا تكون نهاية رمضان المواطن البحريني البسيط الذي يعتبر من الطبقة الكادحة عندما أراد التحدث عن الفساد المتفشي في الوحدات الحكومية في بلاده، فإنه سرعان ما لفقت حوله التهم، الأمر الذي جعله يتحول إلى إرهابي وقائد تنظيم …بينما هو في حقيقة الأمر، كان يبحث عن لقمة عيش تسد رمقه لا غير ؟!!
بالنسبة لجماليات الرؤية البصرية في هذا العرض، فإنها تتضح من خلال احترام المخرج للفضاء المسرحي، وهذا بدوره ساعد على إبراز جماليات التشكل والتحول للكورس على الركح. فيما كانت حركة الممثلين بارزة بشكل كبير على المنصة، وبالتحديد على الجانب الأيمن من خشبة المسرح،حيث كان (رمضان) وبقية الكورس يتحركون بصورة دائرية وجميلة، كما ساهم استخدام (الشاشة السينمائية) في عمق المسرح على تفعيل الحدث على منصة المسرح .
ولابد من الإشارة أيضا إلى أن هناك رؤى جمالية أخرى برزت من خلال توحيد أزياء الممثلين، وانسجام ألوانها وتصميمها، وإن كانت لم تستخدم منها إلا قطع بسيطة، وذلك بهدف إضفاء هوية على الشخصيات، حيث نجد الشخصية الرئيسية ترتدي (الغطرة، البشت) حسب الضرورة …كما قد تغيير تلك القطع حسب الموقف، إضافة إلى التمسرح الواضح من خلال العرض ( المسرح داخل المسرح)، حيث كانت الشخصيات تنتقل من حالة إلى أخرى، معتمدة على التقمص الأقرب إلى النهج البرختي .
مسرحية (البئر) العمانية
في تلاحم جمالي احتفالي لامس الواقع التراث الشعبي في عرض سرحية (البئر) وهو من تأليف آمنة الربيع وإخراج محمد الهنائي لفرقة الدن المسرحية . ومنذ بداية العرض شهدت المنصة ترديد الأغاني الشعبية المرتبطة بالطفولة، وهناك التصاق وشيج في النص بين الطفولة والأغنية؛ ومنذ المهد كانت الأمهات تغني للأطفال، وعندما يكبرون فإنهن يغنين مع الكبار ويلعبن… وتتنوع حالات اللعب والأغنية في هذه المسرحية التي تمتزج بالآهات واللحظات المؤلمة، حيث إن الكبار يلعبون في صراعهم مع الآخر، ويلعبون لعبة البقاء للأقوى، وهم في سجال مستمر مع الأعراف والأطر الاجتماعية التي جعلتهم غير قادرين على الانعتاق منها. وتعاني شخصيات هذا العمل من الضغط النفسي الكبير، الأمر الذي جعلها تلجأ إلى عالم اللاوعي للتنفيس عن حالات الكبت لديها. كما أنها لجأت إلى الرقص كما هو الحال لدى شخصية (نصيب) من خلال رقصة (المرباطية) التي وظفت بطريقة تتقارب في إطارها العام مع رقصة (الزار) التي ساعدت على تفريغ الطاقة الانفعالية لدى الأفراد .
وتُعد الأغنية في نص مسرحية (البئر) من مكونات نسيج العرض المسرحي الذي يعبر عن صفاتها الإنسانية، مثل: الفرح والحزن والخوف والحب ..كما أنها لامست الذات البشرية، وما فيها من آهات وشجن، فالتراث الشعبي حافل بأغاني الصيادين والمزارعين البدو والحضر والكبار والصغار للتعبير في المناسبات الاجتماعية والدينية والموسمية المختلفة. والمتابع للعرض يجد الأغنية مثالة منذ اللوحة الأولى والتي حملت عنوان (في البدايات الأولى لتفتح الأشياء، كان الأطفال يغنون) والأغنية هي مفرد أغنيات، وهو ما مايُغنَّى من الكلام ويُترنَّم به من الشِّعر ونحوه، وتكون الموسيقى مُصاحبة له في أغلب الأحيان «كلمات هذه الأغنية جميلة، – ألحان أُغنيَة،- أُغاني مُحزِنة»(29). وتضمنت كلمات الأغنية الأولى عبارة : «ياطيره طيري طيري…العروس جابت صبي ..واللبن من البقر..سلمي على سيدي …يبغى المطر» (30). وهذه الأغنية اختزال للقصة الواقعية التي أشار النص إليها، والتي تتحدث عن (نصيب) وزوجته (صباح ) اللذان كانا يعيشان في مدينة الملح الساحلية التي كان النساء فيها يعملن في إعداد الخبز، فيما كان الرجال يعملون في مهنة الصيد .
وهناك نقطة مهمة انطلقت الكاتبة منها في اللوحة الأولى، وهي التمرد الجامح على الذات والرغبة في الانعتاق، بغية ملامسة منطقة اللاوعي التي تختزن كمًا من الرغبات الإنسانية، بغية الانطلاق إلى فضاء أوسع ..وهذا ما نجده في النص «لا تكن أول، سحقا، ماذا كان قبل أن يكون الأول؟» ..» فبدلا من هذا التحول المفتوح لماذا مثلا لا يتحول إلى البحر أو حتى إلى أنثى مثلا؟» (31). كما يتكرر الانعتاق والرغبة في التحرر عندما تمت الإشارة إلى لعبة تبديل الكائنات: «تستهويني هذه اللعبة يا صباح، لعبة تبديل الكائنات» (32 ) . هكذا فإننا نجد نصا يحاول في كل لحظة أن يجعل شخصياته تتمرد…لتكون غير خاضعة لقوانين وأطر محددة، كما يتضح ذلك من تبادل الأدوار: «تقصدين لا جديد في اللعبة …صباح: لقد أهديتك نفسي منذ قالوا حرمة ورجل « (33). .
في اللوحة الثانية التي تحمل عنوان (الذين يكبرون ويتزوجون لا ينسون الغناء) حرصت الكاتبة على ارتباط شخصياتها بالصيرورة الزمنية، حيث نشاهد الشخصيات تنمو مع الحدث، ويمكن أن تلمس أبعادها الجسدية والاجتماعية والنفسية…وبالمثل ظلت الأغنية تمثل قاعدة أساسية ساعدت على تكثيف الفعل الدرامي، حسب القصة الواقعية التي تصف قصة زواج نصيب من صباح وإنجابهما للأبناء، ويمكن أن نشاهد اكتمال تلك الصورة في الأغنية التراثية: «العروس جابت صبي، سمته علي، وعلي يبغي اللبن، واللبن مع البقر» (34) . كما أن هناك الرغبة في الانعتاق والتحرر من واقعية الشخصيات، فنصيب دائم التهرب من واقعه ومسؤولياته كأب، وهو دائم السهر مع أقرانه من الصيادين، وهو يلوك المخدر متى شاءت الفرصة له، لذلك فهو يعيش في صراع وجدال مستمرين مع زوجته عند الحديث أعباء الحياة اليومية.
ويدخل نصيب في صراع مع ابنه (غير سوي) الذي ينتقده …وخاصة في المشهد الذي ينأى إلى الرمزية، ويرتفع الإيقاع فيه من خلال طرقات الأيادي التي كانت تدق الأرض بقوة، كما ورد وصف ذلك في النص : «تظهر صباح وهي تزحف إلى منطقة الوسط …يدخل نصيب مرتديا ثيابا، ويضرب ابنه، وزينب ابنته تمسكه من القدمين، ويمددانه أرضا والولد يهتز كأن قوة خفية تعذبه، بينما ترقص صباح رقصة الموت المرباطية» (35).
وتعبر «الرقصة المرباطية» عن الموت والحزن والانهزام، وهو طقس يحرض نصيب على ممارسته بين وقت وآخر، مؤكدًا رغبته في التحرر من ذاته، وصولا إلى ذروة التحرر من الذات . فيما تضمنت اللوحة الثالثة (السلالم الضيقة والعصفور) جرعة مركزة توضح العلاقة بين زينب وزوجها، التي خرجت من إطارها الحميمي، لذا كان مصيرها السلالم الضيقة، وهي تبحث عن الأمومة الضائعة التي يبدو أن الرجل سببا في تأزمها ..كما تظهر رقصة المرابطية: «لقد سئمت ..تذمرت..ترغب في الحياة الرومانسية..». هناك صوت داخلي مسيطر على الشخصيات «صوته الذي أركض وراءه، هو صوته الذي كنت ابكيه، أنا أبكي لأنه يهرب مني باستمرار بعد يناديني» (36) .
برزت الرمزية بشكل كبير في اللوحة الرابعة التي أكدت أن (البئر) هي الملجأ وهي النهاية الحتمية لصيرورة الشخصيات، وربما هذا يتوافق مع أسلوب الكاتبة الذي عادة ما يحيطه الرمز والبعد الفلسفي..وفي هذه المرة جاء الفعل الدرامي موصولا بالأغنية التراثية التي حملت من الدلالات الدرامية المنبعثة من الحدث الدرامي، ويمكن ملاحظة ذلك من خلال مشهد مطاردة الذئب للأطفال «هلا بيش هلا بيش يا حيا أم مبارك…هلا بيش يا حيا أم مبارك .. وفي مقطع آخر «أنا الذئب بكلكم …وأنا أمكم بحميكم» (37). فيما حملت اللوحة الخامسة عنوان «يا هيبه يا بوه ..إن شاء الله « ..هي لوحة بحرية قائمة على رقصات وأهازيج البحارة، تجسد معاناة الأسرة في ظل غياب الأب(نصيب) الدائم عن المنزل. بينما أصداء رقصة الربوبة المرباطية ظلت تلاحقه بعنف، ليعيش صراعًا مع الحبال وإيقاع الطبول ويتعارك مع ذاته، التي سكنتها روح الانعتاق مع الذات. كما حملت الرقصة التي يؤديها نصيب كمًا من الإسقاطات النفسية، خصوصًا في صراعه مع ذاته وابنه طارق. وفي اللوحة السادسة عادت الأحداث إلى الواقع، حاملة رغبة أخرى في التحرر من الأعراف الاجتماعية التي عبرت عن قصة زواج بلقيس، قصرًا من المدرس عمر مع توضيح الصراع النفسي الذي تعيش الشخصيات فيه.
أما في اللوحة السابعة ظهرت الرمزية بشكل كبير فيه، حيث تمت الإشارة إلى البئر القديمة التي سقط النجم فيها، وكانت الحكاية. وقد ورد ذكر (البئر) عدة مرات في النص : «انظري للقمر، يشبه البئر في اكتمالها..أما زلت تذهب للبئر…آخر مرة ذهبت للبئر، رأيت شيئا يتحرك ويرقص ..رأيت نجما يسقط…رأيت نجم الحكاية « (38)، هذا التلاحم الجميل بين البئر والرقص والحكاية والنجم، جعل لغة النص تقترب من الشاعرية، التي سبرت ذوات الشخصيات التي ارتبطت بالحكاية الشعبية المتناقلة والمتوارثة عبر الذاكرة الجمعية للمجتمع المحلي. وحلقت اللوحة الثامنة (يا طيره طيري …) إلى العالم الداخلي لشخصية نصيب الذي اعتاد أن يمارس طقوسًا أشبه بطقوس تسعى لتطهير الذات التي تعبر عن كوامن ذاته البشرية، وخاصة عندما حاول تعرية نفسه، بنشوة على الإيقاع، حيث زاد الصوت ليتحول من مواء القطط إلى نهيق الحمار حتى يطعن نفسه، ويفقد وعيه ويموت .
زاوجت اللوحة التاسعة بين الرمز والواقع، حيث قصة تزويج الفتاة رغما عنها، من خلال طقس تراثي (عروسه عروسه مو دورين..دور ابره …عروسه عروسه حالموه الإبره …) استكمالا للطقس التراثي الشعبي، فيما حاول طارق إنقاذ أخته من الزواج القهري، حيث كان يحكي لها حكاية القمر والبئر، ونهاية القصة كانت مع اللوحة العاشرة(يا ..أمثولة الراعي) مع البئر والشجرة، ورحلة أخرى من رحلات الانعتاق بالقرب من البئر، حيث هرب طارق ومعه أخته بلقيس إلى حيث البئر والقى بها ليخفيها عن الناس…وهذا جعل المشاهد يتساءل عن نهاية بلابل في قعر البئر، هل هو بمثابة الخلاص أم أنها الهلاك ؟!
يبدو أن المخرج أسره سحر الأغنية في نص البئر، لذا كانت بدايته أيضا مع الأغنية، وهناك تجاذب ذهني بين النص على الورق، وبين قطعة القماش التي جعلها تتوسط أبطاله على خشبة المسرح، وتتلاحم مع خيالهم الجامح في الانتقال الحدثي الذي رسمته المؤلفة. من الملاحظ على المخرج أنه لم ينعتق من حرفية النص، باستثناء استبدال الأغاني التراثية بأغان أخرى حلت محلها لتتناسب مع الشخصيات الهاربة من مرارة الواقع الاجتماعي والاقتصادي الذي يحيط بها. وهناك رسم واضح للشخصيات، فهي في صراع مع الآخر عندما تكون في واقعها، وهي في صراع مع ذاتها عندما يناديها الصوت الآتي من البئر!
تلمس المخرج تمرد الشخصيات على الأطر الكلاسيكية في تصوير الأحداث التي تقودها شخصياته، ولكنه نأى عن الديكور التقليدي، واستغل الفضاء المسرحي ليجعل شخصياته حرة طليقه، تعبر عن ذاتها بفرح أو حزن أو حب أو كره، ومحاولة استغلال الخشبة بما يتلاءم وطبيعة النص، الأمر الذي جعلنا نستمتع باللعبة التي يغنيها الكبار والصغار معا. ولعل تعرية المنصة لصالح النص، جعل الممثل هو البطل الأول للعرض، لذا فإنه وقع عليه الحمل الأكبر في تحريك الأحداث والصراع. وهذا يتطلب وجود ممثلين محترفين، ولكن حال الواقع يقول غير ذلك لأن العرض قائم على ممثلين هواة.
وهذا يجعلنا نقف عند مستوى الأداء التمثيلي لدى الفنان العماني، والذي أصبح قضية يجب مناقشاتها بقوة، لأنه من الملاحظ على العروض المسرحية السابقة، إذا وجد النص ضاع الإخراج، وإذا وجد الإخراج ضاع النص، وإذا اجتهد المخرج للإبحار في نص عميق مثل البئر، كان عليه أن يعطي دروسًا وتدريبات للممثلين في فن التمثيل والاستعراض الحركي، وأن يقرأ كثيرًا في فسيولوجيا جسد الممثل والتعبير الحركي. وحاول الممثلون في هذا العرض الاستعراض والحركة، فيما غاب لدى البعض التعبير الداخلي الذي كان يمكن إلى يقودهم إلى صدق التعبير واللحظات الإنسانية التي كان من المخرج التركيز عليها قليلا.إن عدم انقطاع الحدث الدرامي رغم فصل اللوحات نصيًّا، جعلنا نشعر بتواصل الحدث القصصي لدى الشخصيات، وهذا جعل هناك نوعًا من الوحدة الفنية في العمل ككل، فيما جعلنا صوت الأغنية التراثية نعود إلى الواقع.
كما لفت نظري توظيف خيال الممثل في العرض، بغية استكمال صورة الحدث الدرامي، فزينب عندما تحلم بطفل، تلف قطعة القماش وكأنه طفل وليد بين يديها. وهذا التوظيف شحذ خيال الممثل، وجعله قادرًا على التعامل مع الخشبة بعيدًا عن السينوغرافيا، برغم توحيد أزياء الممثلين جعلها في مستوى واحد. بالنسبة للمؤثرات تم إدخال الموسيقى التراثية الشعبية في المشاهد بما يتناسب مع الحدث. أما الأزياء فقد جعلها المخرج متشابهة ومتقاربة، ربما لأن ذلك يتقارب مع الأسلوب الإخراجي الذي اتبعه أو رؤيته الإخراجية.
الخلاصة عزفت عروض مهرجان المسرح الخليجي في الدورة الثانية عشرة على شطآن الخليج الذهبية، وما تحمله من أسرار وحكايات لا تزال مدفونة في قعر مجتمعاته مثل كنوزه وخيراته الراسخة في لج محيطه الواسع، حيث تضمنت العروض المسرحية المشاركة الكثير من الدلالات السوسيولوجية الأنثروبولوجية في المجتمعات الخليجية.
وهناك عروض استطاعت أن تناغي حس ووجدان المشاهد، وأن تجعله يستمتع بالقضية أو الموضوع المطروح …فيما عانت بعض العروض من الغموض والأبعاد الفلسفية البعيدة عن الواقع المعاصر… ونأمل في المهرجانات القادمة أن نشاهد عروضًا مسرحية تلامس قضايا الإنسان الخليجي الحقيقية بأسلوب فني وإخراجي أكثر تقدمًا.
وعلى مستوى مسيرة المسرح العماني، نأمل أن يحظى الفنان العماني بمزيد من الاهتمام به، وهو لا يختلف عن نظرائه من الفنانين الخليجيين. وهناك أجيال من الفنانين عن طريق عقد دورات تطبيقية في مجالات المسرح المختلفة على مدار العام . مع التركيز على ضرورة كسر المركزية بالخروج من مسقط إلى الولايات والمحافظات، وذلك لضمان مشاركة أكبر عدد من الفنانين الهواة والمحترفين على حد سواء…إضافة إلى ضرورة الدعم المالي الذي يقف كحائل كبير، يصعب اختراقه في ظل غياب التسويق على المنتج الفني العماني، وغياب الشركات الإنتاجية الخاصة باستثناء المواسم المسرحية.
يظل المشهد المسرحي الخليجي بحاجة لمزيد من العطاء والتواصل لهذا الفن، الذي يحمل هموم وأحلام محبيه، الذين لديهم الكثير ليقوله على ردهات المنصة، والتي لا تقبل أنصاف الحلول، وفي نفس الوقت هم بحاجة إلى مزيد من الدعم «اللوجستي» من الجهات الرسمية الراعية، إلى جانب تشجيع المجتمع الخليجي، الذي لا يزال مغيبا عن صالاته، إلا ما ندر!
مسرحية (البوشية ) القطرية
في هذا المهرجان كان لنص مسرحية (البوشية) نصيب أوفر، فقد قدم هذا النص مرتين من خلال عرضين متتالين لدولتي قطر والكويت. وفي الأسطر التالية سأقدم قراءة للنص، تشمل العرضين، كونهما عالجا موضوعًا واحدًا، وفي النهاية، سأقدم مقارنة بين العرضين البصريين، كون هذه التجربة تُعد فرصة لدراسي المسرح لتوقف عندها ودراستها، فقد عرضت مرتين في نفس المهرجان!
إن المتابع لنص مسرحية (البوشية) يجده يتسم بالحس الشعري الغنائي الشعبي المستوحى من التراث الخليجي. ويتضح ذلك من أحداثه المسرحية وشخصياته التي تنتمي إلى حقبة أربعينيات القرن الماضي. إن المتابع للكاتب المسرحي (إسماعيل عبدالله) يجده ينتهج أسلوبًا يسلُط الضوء على القضايا الاجتماعية الجريئة التي تعكس واقع المجتمع الخليجي، وتجنح إلى طرح المحظورات الاجتماعية على بساط النقاش والحوار المفتوح، ويمكن تلمس ذلك من خلال مفردات نصوصه المتمردة والثائرة على بعض التقاليد الاجتماعية التي يصعب الفكاك منها. كما أن البعض الآخر تضمن إسقاطات سياسية عن قضايا وموضوعات عامة.
ولقد عالج مؤلف هذا العرض موضوعًا يتحدث عن حب الشاب الغني للفتاة الفقيرة التي كانت تبحث عن الحب المستحيل. وعلى الرغم أنها قصة بسيطة استهلكت مرارًا وتكرارًا في الكثير من الأعمال الدرامية والمسرحية، إلا أن هذا العرض قدمها بأسلوب جديد ركز على الصراع الذي يدور بين الطبقة الأدنى التي تنتمي الفتاة(جواهر) إليها، وبين والد (غانم) والذي سيحارب جواهر، ويعرض شخصها للاهانة بشكل فاضح ومكشوف .
كما أن المتابع للعرض المسرحي يجد الصراع فيه يتولد من خلال الشخصيات التي تحمل صفات متضادة (الغني، الفقر، الأصيل، الوضيع، القوي، الضعيف)، وهي صفات أهلتها للمضي قدمًا بالأحداث الدرامية حتى نهاية العرض المسرحي.ومهدت اللوحة الافتتاحية منذ بداية العرض لدخول شخصية (جواهر)، وهي فتاة في مقتبل العمر، تنتمي إلى طبقة فقيرة تمتهن الرقص والعزف الشعبي في الحي الذي يعيش غانم ووالده فيه.
ولقد ساعد (الكورس الغنائي) في دفع الحدث الدرامي للكشف عن سر (البوشية) الذي تحمله، وذلك من خلال طبقات الديكور ذات الطابع التجريدي الذي جسد واقع الطبقات الاجتماعية التي لا يخلو أي مجتمع منها. وبالنسبة للمؤثرات الموسيقية، فقد تم الاستعانة بالفرقة الشعبية لجواهر التي كانت تعزف وتغني على أنغام دقات الطبول وضربات الهريس، وتتمايل على ألحان الأغاني الشعبية الجميلة التي جسدت رؤية المخرج الفنية من خلال السينوغرافيا العامة للعرض المسرحي التي جعلت المشاهد يشعر وكأنه في إحدى القرى الساحلية، وما تتضمنه من قصص وحكايات مثيرة.
ويمكن الإشارة إلى التلاحم الجمالي في هذا العرض؛ الغنائي والأداء الراقص لدى فرقة جواهر، حيث ساهمت الجوقة الغنائية في تصعيد الصراع والتحدي في نفس جواهر الرافضة للظلم الاجتماعي: «المرأة: صح السانج ياالشاعرة.. هل هلال القصيدة وعم الدنيا نور حروفها.. وبشرت بالفرح معانيها وبحورها.. وردة هاالديرة انفظت عنها غبار الحزن والهم واشرقت رياحينها وفتحت.. سمعتوا؟؟!…لا هنت يا قلبٍ عن الدوس محشوم….إنثر غناوي دنيتك دوّر رحاها…طبنا وغدا الشر.. دقّوا .. إرووا القلوب العطشانة وغنّوا.. ودقّوا أغنيّتها..» (39).
وبالنسبة لبناء الشخصيات فقد اتسمت (جواهر) في البداية بقوة شخصيتها، واتضح ذلك من خلال مواقفها تجاه غانم ووالده حمود، حيث برز اعتزازها بنفسها وثقتها العالية، رغم انتمائها لطبقة فقيرة قد يحتقرها الآخرون وينظرون إليها نظرة دونية: «جواهر: اللي يبينا عيّت النّفس تبغيه… واللي نبيه عيّا البخت لا يجيبه المرأة: أشري برموشج وبتلاقين اللي متشفقين على رضاج وقربج أكبرها وأسمنها…جواهر: أنا شنو لي عندكم؟!…أحدهم: لبّيه يا الغاليه.. نفديج بالغالي.. أرواحنا قبل ارقابنا.. وزنودنا دليل أفعالنا..جواهر: لا خلاني منكم.. خلوني بروحي» (40).
كما يظهر تردد غانم تجاه جواهر، رغم أنه في البداية كان شديد الميل لها: « غانم: ياناس يا عالم اسمعوا واشهدوا.. غانم ولد حمود بن غانم ايحب جواهر وعايش علشانها.. اسمعوا واشهدوا.. اسمعوا واشهدوا غانم ولد حمود بن غانم رهن عمره وقلبه واسمه في ايدين جواهر لأنه إيموت فيها وفي الأرض اللي تمشي عليها هذا أنا أذّنت في خرابه والناس سمعوني..غانم: أحبّج…. وردّي لقلبي الروح… إتحبّيني يا الشاعرة؟!…غانم: قلنا يا الشاعرة…جواهر: لاجلك ترخص النفّس» (41).
وهناك نقطة تحول حدثت في حياة غانم عندما رفض الزواج بجواهر!.. وهذا مؤشر واضح على ضعف شخصيته أمام والده، وخاصة عندما طلب أن يكون زواجه من جواهر سرًا. وفي المقابل ترفض جواهر ذلك، كما في المقطع الحواري التالي: «جواهر: تبيني وتبي تتزوجني بالسر في ليلة ظلمة.. مستعرّي منّي.. ولاّ خايف من أبوك؟!» (42).
ومن ناحية أخرى، سعى المخرج إلى شحذ خيال الجمهور من خلال وصفه لكيفية الاحتفال بالزواج، حيث ظهرت النساء(الكورس) وهن يتراقص فرحًا، احتفاء بجواهر وكأنها عروس، ذلك السرد حسبما ورد في النص: «النساء: أمينه في أمانيها…مليحة في معانيها… جبينها كاالبدر ياضي…وريقها يشفي أمراضي.. وأحسن في معانيها…يرتفع صهيل النسوة من جديد بالزغاريد…يتغيّر الإيقاع إلى زفّة العريس بأغنية (يامعريس)…مجموعة الرجال : يامعيريس عين الله تراك…القمر والنجوم تمشي وراك»(43).
كما عايش المشاهد التردد لدى شخصية غانم، بينما جواهر لم تستسلم وظلت ترزح تحت وطأة الألم.في الوقت الذي خذلها غانم فيه، عندما تحول إلى شخصية ضعيفة، حيث طلب منها إلا تخبر والده بطبيعة العلاقة بينهما، عندئذ أنهار نموذج العاشق المحب أمام عيني جواهر؟!! والذي كان من المفترض أن يضحي بالأول والتالي من أجل الاقتران بها، كما يزعم في وعوده السابقة! .. ويمكن الاستشهاد بالمقطع الآتي : «غانم : تكفين.. أبوس إريولج.. اشتري عمرج وعمري يا بنت الناس.. ودوري لي على مكان وخشّيني..جواهر: إنت إشقاعد اتسوّي؟! إشقاعد اتقول؟! مكان أخشّك فيه ليش؟!» (44).
وتتكشف شخصية غانم بشكل كبير عندما وقف أمام والده ويدخل في صراع، حيث علت نبرة الأب وتزايد طغيانه، مقابل ضعف شخصية ابنه وتردده أمامه: «حمود: إحنا أسياد وأسود.. والأسد ايموت من الجوع لكن ما ياكل بايت ومهبوش يا ولد حمود بن غانم.. اللي كل حرف من اسمه إينطّق صخر… حمود بن غانم اللي أبوه غانم بن خالد بن حمود الذيب.. وأمه لولوه بنت جاسم بن عبد اللّطيف الصّخي.. سلسلة أجداد وعمام وخوال»(45)..
ومن الملاحظ من خلال الحوار السابق تفاخر الأب بحسبه ونسبه، لذلك نجده يذكر بنسب العائلة بصورة مستمرة، لكي لا يتزوج ابنه بامرأة تنتمي إلى عائلة دون المستوى!.. وبذلك يطرح هذا العرض قضية (عقدة النسب) التي لا تزال المجتمعات الخليجية تتشبث بها، وتمجدها، وفي أحيان كثيرة يكون النسب والألقاب وسيلة الناس السحرية للوصول إلى الثروة والجاه!.. وليست مؤهلات الشخص وقدراته العملية!
ولقد استخدم الأب أساليب عديدة لإقناع غانم بعدم الزواج من جواهر، كونها لا تتناسب مع وضعه الاجتماعي، فلو تزوجها ستقل مكانته في المجتمع ويسخر الناس منه: «حمود: في هذي غلبتيني.. كلامج صحيح.. مايجوز.. باجر الناس إشبيقولون؟! بيقولون غانم.. نزّل نفسه ووصّخ اسمه.. ودخل بريوله ماخور الفسق والفجور.. وشارك في فساده.. بس بعد الناس بيقدرون..» (46).
ويدخل والد غانم في صراع جدلي ساخر ولاذع مع جواهر، مهددا إياها بأن لا تحلم بالزواج من ولده، فهي لا تناسبه: «حمود: صدقتي.. رحم الله امرئٍ عرف قدر نفسه.. أشكالكم من وين ايعرفون السّنع… وإذا ناسيه.. يالله يا شاطرة.. هزّي خصرج.. ورقصي عودج الميّال على دقّة الطار.. ورحبي بالرياييل» (47).
ويمكن ملاحظة تغير مواقف غانم السريعة، بعد المواجهة التي حدثت بينه وبين والده، والذي سرعان ما انهار أمامه وقدم الطاعة والولاء، عندئذ يسعى الوالد إلى إذلال جواهر أمامه دون أن يحرك هو ساكنا ؟!..كما في المقطع الحواري التالي: «حمود: ويوم إنه شرف اتوارثته أجيال ظهر عن ظهر.. بيوصل لعندك وبيندفن في الطين؟!..غانم: أفا عليك يا الوالد .. إدفنّي بالحيا ساعتها..حمود: رقّاصه؟!! اتدنّيك نفسك على رقّاصة؟! ولد حمود بن غانم ايوسّخ نعاله ويتبع أثر رقّاصه؟! هذول انخلقوا جواري لنا.. نشتري متعتنا منهم بأسامينا وأصلنا وفصلنا.. السادة مخلوقين ارقابهم طويلة وروسهم فوق..» (48).
ورغم الضعف الظاهر على غانم، إلا أن جواهر لا تستلم، وتظل تدافع عن عرضها وكرامتها، بينما غانم يخذلها مرارًا وتكرارًا، حينئذ تصاب بصدمة عاطفية كبيرة، وكأنها أمام شخصية أخرى مختلفة عن تلك التي أرادت الاقتران بها. كما في المقطع التالي: « جواهر: رد عليه ياالجبان وقول له.. الرقّاصة اللي طايحة من عين أبوك إنّك تعشقها.. قول له إنّك حفت إرجولك وانت تركض ورا الرقّاصة ثلاث سنين عشان اتنول رضاها وتقبل فيك.. قول له إنّك قبل اشوي كفرت بتاريخ العائلة الشريف.. وقصّرت ارقبتك.. «(49).
والمتابع للإحداث يجد أنها تنمو بشكل دراماتيكي سريع، وخاصة عندما تزداد حدة صوت والد غانم، محاولا الالتفاف على جواهر مخاطبًا إياها بسخرية كبيرة، تجعلها تكشف عن المسكوت عنه!.. وتقبل دعوة والد غانم لرقصة الموت بتحد كبير..: «حمود: لكن لا يا شاطرة.. إحنا لنا حسابات ثانية إذا وزنّا.. عقب ما نخلّص المهمّة اللي جايين علشانها.. وبعدها بنرقصج ابكيفنا وعلى مزاجنا.. وبنسمّيها رقصة الموت..جواهر: وأنا مستعدة لرقصة الموت..» (50) .
وتتصاعد الأحداث مقتربة من الذروة، عندما تحضر جواهر (البوشية) وهو الفستان الذي كانت ترتديه الراقصة (لولوة بنت صخر) والدة (حمود) !!؟… عندئذ يصاب الجميع بالدهشة، وتتغير ملامح والد غانم(حمود)، ويشتعل النزاع بينهما. ويتطور الصراع بين جواهر والأب، في حين أن غانم يحذرها من المغامرة، ولكنها تصر على قبول النزال ولا تستمتع لتحذيرات غانم لها، شأنها في ذلك شأن البطل التراجيدي الذي يسعى لحتفه:»غانم: اشبتسوّين يا المجنونة؟! إرجعي.. إرجعي يا جواهر.. إرجعي…حمود:مايشفي غليلي ويْنَوْلك رضاي إلاّ إذا شفتك الحين بعيوني وجدّامي تصلخ جلد هاالفاجرة وهي حيّه.. حمود بن غانم نزل من بطن أمّه واقف على إرجوله.. وعلى آخر عمري أطيح على إيدين رقّاصة فاجرة…» (51).
وتضمن النص إشارة إلى الخرافة والجن لفك رموز وطلاسم ما هو غامض ومجهول، مما أكد ارتباط الإنسان العربي والخليجي بالمعتقدات والخرافة، وهذا بالطبع انسحب على باقي الشعوب الشرقية عمومًا، والشعوب الخليجية والعربية خاصة، ويمكن تلمس ذلك من خلال حوار النساء(الكورس) كما في المقطع التالي: «المرأة: بوشيّة الزري؟؟!! هذي من وين طلّعتيها؟!! وشنو اللي جابها عندج اهني؟! كل الديرة اتعرف ان صاحبة هاالبوشيّة جنّية انتي من متى خاويتي الجن؟! ..المرأة 2: مامرّت على هاالديرة بوشيّة إبحلاوتها ودقّتها.. ولا سحر الرّقص اللي كانت ترقصه صاحبتها.. كانت طرمة ماتتكلّم.. محّد عرفها من اتكون.. وبعدين العارفين قالوا لنا إنها جنّية.. لين اليوم انموت وانعرف منو صاحبة البوشيّة» (52).
وتزاد أزمة الحوار بين جواهر وحمود عندما تنكشف الحقيقة المؤلمة حول نسب والد غانم (حمود): «حمود: الميّت قبل لا ايموت يعطونه شهْوته.. وإذا خاطرج إيزفّونج على القبر بلبس جدودج اللي ورثتيه…. جواهر: عقب ما أرقصك أنا على حبال الموت.. ودفنة غنيمة الطّاهرة.. أنا اللي بخلّيك تتمنّى الموت وماتطوله اللي باقي من عمرك كلّه.. «وهاالبوشيّة اللي بتكفنّي فيها.. ماني جواهر إذا ما خلّيتك تتبرقع فيها طول عمرك……هذي بوشيّة الرقّاصة اللي سحرت الديرة كلها إبْرقصها.. هذي بوشيّة لولوة بنت جاسم ين عبد اللطيف الصّخي؟!!.»(53).
وبذلك تنكشف الحقيقة الصارخة أمام الجميع عندما تظهر جواهر الدليل «البوشية» الذي يعري أصل والد غانم(حمود)، والذي يستشيط غضبًا أمام الجميع، ويجن جنونه ليقوم بمطاردة جواهر بوحشية، بينما يظل غانم واقفًا لا يحرك ساكنًا؟!
إن المتمعن في مفردات نص مسرحية (البوشية)، يجد أنه يحمل أبعادًا أخلاقية يصعب تجاوزها، وليس ذلك نتيجة تدني المستوى المادي (الفقر) فحسب، ولكن على اعتبار أن من يمتهن الرقص يعتبر أدنى طبقات المجتمع- من ناحية أخلاقية . ومن ناحية أخرى، فإن الموضوع لم يستطع الحفاظ على واقعيته، حيث سرعان ما طغت روح الفن على الواقع، لتتجاوز البُعد الطبقي الذي كرسه المؤلف منذ المشاهد الأولى . وبشكل عام فقد جاء نص حية (البوشية) مثقلا بالرموز «السسوسيولوجية» التي تمتد جذورها إلى المجتمعات الخليجية القديمة. كما تضمنت الأحداث الكثير من الدلالات «لانثربولوجية» لتي كان هدفها التواصل مع المتلقي المعاصر، كونها تخاطب وجدانه الجمعي حول عاداته وفكره وثقافته.
وفي الأسطر التالية نقدم قراءة للرؤى البصرية المسرحية لعرضي (البوشية) القطري والكويتي، أولا – حسب الجدول الزمني للمهرجان- عرض مسرحية (البوشية) لدولة قطر، وهو من إخراج الفنان ناصر عبدالرضا، الذي شاهدناه مخرجًا وممثلاً ومصمم سينوغرافيا للعديد من الأعمال المسرحية .
لقد تميز عرض مسرحية (البوشية) القطري بوجود طاقات جيدة على مستوى التمثيل والأداء التمثيلي والاستعراض الحركي، وخاصة لدى الشخصيتين الرئيستين في العرض(جواهر، وحمود والد غانم)ن واللتين استطاعا التعاطي مع العرض بواقعية، لامست حرفية النص، ووصلت إلى حد العنف في بعض المشاهد..وهذا مما جعل الصراع يتخذ طابعًا واقعيا جسد الصراع الدائر بينهما، حيث ساد الصراخ والعنف والضرب…وحتى خاتمة المسرحية، عندما أشهرت جواهر بوشية والدته !..حيث اتضح أنها كانت تمارس مهنة الرقص شأنها شأن جواهر؟!!.. عندئذ حدثت نقطة تحول في حياة حمود، والذي صدم بالحقيقة …الماثلة أمامه. أما بالنسبة للمؤثرات الموسيقية، فإن المخرج استند على المؤثرات الشعبية المستوحاة من التراث الشعبي الخليجي .
وحاول العرض تجسدي واقع النص بحرفية عالية، استمدت أدواتها الفعلية من التراث الشعبي، حيث لم يكتف مخرج العمل بالاستعانة بالممثلين لأداء الأدوار الرئيسية، وإنما استعان بالفرقة الشعبية التي غرسها في جسد المسرحية، مع الاهتمام بالسينوغرافيا البصرية، بشكل يبهر ويقدم عرض مسرحي اقترب من روح الاوبريت، مما نبأ بظهور مخرج خليجي قادر على تنظيم الاوبريتات الوطنية والشعبية بحرفية عالية، ناهيك عن تجربته الإخراجية الإبداعية.
والمتابع لتفاصيل المكان(الفضاء المسرحي) يجده يتضمن تفاصيل القرى الساحلية الخليجية بصورة رمزية وتجريدية، رسمتها شخصياته للتعبير عن تفاصيله المكانية، مثل : (غرفة، باب، نوافذ ..النقوش المعمارية)، مما ساعد على شحذ مخيلة المشاهد، وجعله يعود إلى زمن الصيد والغوص الجميل الذي ذاب مع الثورة النفطية، بينما لا تزال أصالة الإنسان الخليجي راسخة في ذهنه.
كما تضمنت الأزياء الخليجية دلالات ساعدت على كشف الأحداث في العرض مثال على ذلك ثوب (البوشية) والذي كان له الفضل في الوصول إلى لحظة التكشف والتحول في الأحداث المقدمة، مما جعل والد غانم (حمود) يصدم بحقيقة نسبه، ويتراجع للخلف أمام جواهر التي انتصرت عليه، وكان ذلك سببًا للكشف عن الإحداث والحقائق وفتح الملفات المغلقة .
كما أكدت الأزياء النسائية الأخرى هوية ارتباطه بالهوية، ويتضح ذلك من خلال (المخْنق) الذي ترتديه النساء على الرأس، وهو عبارة عن قطعة قماشيّة مطرّزة على الأطراف، انسدلت على الأكتاف، ولا يظهر من خلالها سوى الوجه!.. بالإضافة إلى (البوشية) وهي غطاء يوضع على وجهه المرأة!
ناهيك عن أزياء الصيادين، والتي تنوعت تصاميمها وألوانها حسب المستوى الطبقي والمهني لأهل الساحل (السيفة)، حيث يمكن مشاهدة غانم وهو يرتدي زي أهل الساحل في الخليج الذي يتناسب مع الفترة الزمنية للأحداث، ويمكن أن ملاحظة تكامل المنظومة الفنية لوحدة العمل الفني عندما يدخل غانم (حسب المشهد المتخيل) على إيقاع الأغنية، وقد ارتدى ثياب العريس (الدشداشة والغترة والعقال والبشت) .
مسرحية ( البوشية) الكويتية
حاول المخرج ناصر العابر في عرض مسرحية (البوشية) التحايل على حرفية نص مسرحية (البوشية) السردي، والذي تضمن منولوجات طويلة مزج الخيال بالواقع، كما كرس جهده للانتقال بنصه من الواقعية إلى عالم العرض المسرحي الذي سخر الفن لخدمة الواقع وتفاصيله، ولكن برؤية فنية جعلت عين المشاهد تستمتع بالفرجة المقدمة، والتي تنم عن حرص المخرج العابر على تقديم رؤيته الإخراجية الخاصة، في الانتقال من حتمية النص إلى سماء الفن، بشفافية جمالية، جعلت المشاهد يستمتع بالرؤية البصرية المقدمة .
وعلى الرغم من رغبة المخرج في التحليق خارج أسوار النص المفعم بالحسن الشعري، إلا أنه أصر على يبقي التمسرح حاضرًا في عرضه كما رسمه المؤلف، ويمكن ملاحظة ذلك عندما تخرج (والدة حمود) مرتدية (البوشية) التي تحجب وجهها، و هي تمشي بشموخ وتحدّي على المسرح، بينما النسوة الأخريات شهقن شهقة قوية عندما شاهدنها!
ولقد استخدم في هذا العرض « الديكور التجريدي» الذي احتل مساحة كبيرة في عمق المسرح المتجه إلى يسار خشبة المسرح حيث موقع البئر، الذي كان حلا إخراجيًّا لصهر لغز (البوشية) في قعره، حيث كان ولا يزال (البئر) على مر التاريخ العربي مكمن الأسرار والألغاز عند العرب. ولقد سعى المخرج العابر على تجريد الديكور من التفاصيل الواقعية، حيث جسد القرية الساحلية من العصي والأخشاب، والتي كانت مرسومة بطريقة هندسية مدروسة، مكنت المشاهدين من رؤية جميع الممثلين اللذين كانوا يقفون في مستويات متفاوتة على خشبة المسرح ..حيث صممت بشكل أفقي تدريجي يخدم أداء الممثلين وبقية أفراد الكورس بطريقة جمالية جسدت مفردات العرض المسرحي. علاوة على ذلك، فقد اتسم الديكور، بمرونة مكنته من التشكل حسب المواقف الدرامية التي تتكون عبر الحدث، فعند الزفاف أو العرس يقف جواهر وغانم على المنصة الخشبية ضمن الديكور، والتي يحركها الكورس بطريقة أدائية …
أيضا بدى خط التجريدي واضحًا على خشبة المسرح من خلال الرقصات الاستعراضية والتي كانت تستخدم العصي لرفع الإيقاع بصورة منتظمة …كما ركزت الإضاءة على نقاط الفعل الدرامي الأساسية، بطريقة ساعدت على بروز مناطق القوة والضعف لدى الشخصيات، كما ساعدت على التنويع في الحركة والإيقاع، وخاصة في لحظات الصمت …حيث تضاء المنطقة الخلفية التي تقع في عمق المسرح بطريقة جمالية، تفاعلية، تظهر دور الكورس الغنائي في رسم الحركة الإيقاعية .
مسرحية (الأجساد) السعودية
إن التوغل في الذات البشرية للبحث عن مكوناتها الداخلية وفك رموزها، كان هو هدف العرض المسرحي السعودي (الأجساد)، للكاتب رجاء العتيبي وإخراج الدكتور شادي عاشور . ولقد سعت هذه المسرحية إلى تجسيد ثلاثة تماثيل، وهي : الذهبي والفضي والنحاسي، والتي كانت محجوزة في أقفاص زجاجية في إحدى المتاحف الأثرية. لذا كانت بالنسبة للمخرج فرصة ذهبية، كونه استطاع ممارسة طقوسه الفنية حسب نظرية (الكتلة والفراغ)، لذا كان على التماثيل الثلاثة الخضوع لمشرطه الفني الدقيق الشديد الحساسية، وخاصة أن مهمته ككاتب صعبه، لأنه أراد التنقيب في واقعه المعاصر المادي عن القيم الأصيلة، والتي ذابت مع ما طغيان ما يسمى بالكونية والعولمة بأشكالها المختلفة.
إن المطلع على نص مسرحية (الأجساد) يجد مكتوبًا بلغةً مركزةً وعلميةً دقيقةً، التي تحمل كمًا هائلاًَ من المعاني والدلالات الرمزية التي عكست الحالة النفسية للأجساد الثلاثة(التماثيل) . كما سعى كاتب النص رجاء العتيبي إلى التحليل الجسدي(الفيزيولوجي) للشخصيات، لتعانق شفافية الروح الإنسانية الشعرية، والتي لا تخلو من التأكيد على الهوية العربية، وكأننا أمام مشرط طبي يحلل ويشرح الجسد البشري بغية إثبات هويته، على اعتبار أنه (الكتلة ) تشغل حيزًا في هذا الفضاء الكوني، وإن الاستقرار لا يتحقق له إلا من خلال تأكيد هويته: «جسد 1 : ما أشد ضراوة هذا الجسد !! ما أعقد خلاياه وعروقه , ما أن أثبت رزمة من الشعيرات , فإذا بها تنشطر وتتبعثر كأسلاك جهاز عبث به طفل ( يفكر) والدم لا يكاد يبرد !.. ما زال حارا تتطاير أبخرته, من أي أرومة هذا الجسد ؟ ..جسد 3 : لا ينبغي لك أن تجهد حالك الآن لقد تأكد لي أنه جسد مقدود من صخرة مباركة, فالمهمة مازالت صعبة المنال, السيطرة الكاملة على جسد عربي الأرومة ليس بالأمر الهين, فلينهار أمامك كما انهارت أبراج كانت تعانق طيور السماء» (54).
ويتطور الصراع بين التماثيل الثلاثة (الذهبي، الفضي، البرونزي) لينتقل من الصراع المادي عبر الأجساد الشاخصة أمام الحضور، ليتوغل في أعماق النفس البشرية، محاولا البحث عن الذات التائه في اللازمان واللامكان!…الأمر الذي يشعرنا بعبثية الحياة، حيث الحديث عن الحرب والسلام، وإظهار وحشية الناس وهم يحاربون بعضهم البعض، لتكون نهايتهم الموت والفناء: «جسد 1 : حسنا هذه المرة سأجعلك تنام, حتى أتابع مهامي إما السلم وإما الحرب حسب مشيئتي وليس مشيئتك, وبالمرة سأفصل عصبا يتجه خلف الرقبة يجعلك تنام ككلب البحر ..جسد 3 : نعم عرفت إنك تعلمني كيف أفصل الكهرباء عن المدينة ..جسد 1 : نم يا صغيري نوم أهل الكهف, ودعني أتابع بقية استحواذي على جسد مسجى لا يصدر منه سوى خوار» (55) .
ويتطور ذلك الصراع، ليجد المشاهد نفسه أمام شخصيات معقدة نفسيًّا تبحث عن حتفها، مما يجعلها عرضة للتأثر بتيار المدرسة « التعبيرية» التي تسعى للنبش عن التنافر الطبيعي بين مكونات الجسد الواحد، فكيف إذا اتسعت مساحة التنافر مع الأجساد البشرية الأخرى التي قد تختلف في تكوينها الجسدي المادي عنه؟!.. كما ساعدت الإضاءة والماكياج والأزياء على شخصنه التماثيل الثلاثة، فيما جسدت البُعد الجسدي (الفيزيولوجي) للشخصيات، مع الإبقاء على دلالتها على الفروق الطبقية، من خلال مستوياتها (الذهبي، الفضي، البرونزي)، الأمر الذي جعلها تفصح عن طبيعة التباين بين الشخصيات. ومن جهة أخرى، كان للمخرج رؤيته الخاصة، عندما أضاف شخصيات أقرب إلى الساحرات، وربما ذلك لتأكيد موضوع فقدان الهوية العربية. وإن كان غرسها في المسرحية بهذا الشكل لم يكن موفقًا، كونه هذا العرض يرتكز على التماثيل الثلاثة، فيما كان المتآمرون – الذين يرتدون السواد للدلالة على الشر- يجلسون في مقدمة خشبة المسرح، مما جعل المخرج يخرج عن نهجه الإخراجي إلى أكثر من مدرسة إخراجية، حيث سعى إلى كسر العلبة الإيطالية في عرض كلاسيكي تقليدي.
وعلى مستوى الموسيقى فإن العرض صنع موسيقاه التي لا تنفصل عن إيقاع الجسد البشري، حيث وظفت صوت (ضربات القلب) مثلا، لإشعار المشاهدين بالخطر المحدق على الشخصيات الماثلة على المنصة، الأمر الذي جعلهم يشعرون بأنهم أمام شخصيات تمثل شرائح المجتمع المختلفة التي يقودها التمثال الذهبي أو القائد، وهي تعاني الكثير، مثل السواد الأعظم من الشعب:»الجسد1 : ما الذي يحدث ؟ إن سرعة ضربات القلب تعني لي الشيء الكثير, ضرباته ليست دفوف ولا طبول .جسد 3 : ربما خطر قادم .جسد 1 : ربما خطر قادم؟ !! لا شيء هنا , ولا شيء هناك . جسد 3 : أو أن الجسد يعاني حمى المتنبي …جسد 1 : ولكن لا أثر للحرارة فكريات الدم البيضاء والحمراء تسبح في سلام , ليس بينهما حرب ولا صراع ولا قتال « (56) .
في حين أن المخرج كان مصرًا على أن تكون موسيقى عرضه مزيج من الموسيقى الغربية والشرقية، و اختتمم بموسيقى إحدى أغاني أم كلثوم!…كما كانت خلفية المسرح خاضعة له، حيث استخدمت الشاشة السينمائية لرسم لوحة أخرى تداخلت فيها أيضا أكثر من مدرسة، وتنوعت الموسيقى والمؤثرات المستخدمة، مما جعل العرض يقع في هوة تداخل المدارس الفنية، دون التفكير في توحيد أو محاولة على الأقل تجميعها في قالب واحد يحقق الوحدة الفنية للعمل المقدم. وفي المرحلة قبل الأخيرة، بدأت واقعية الجسد وتفاصيله الذوبان، لتحلق بعيدا مع الشعر الحديث، مع أهم رواده في الوطن العربي (محمود دوريش)، من خلال قصيدته الشعرية التي قدست الجسد الفاني و أكدت التواتر العجيب بين ( الحياة والموت والنار والرماد)، كما أنها روت حكاية الإنعتاق نحو هذا العالم الذي أصبح يعاني فقدان القيم الجميلة كالحب والسلام والأمن، ويمكن أن نتوقف مع الأبيات الشعرية التالية: «حملت صوتك في قلبي وأوردتي *** فما عليك إذا فارقت معركتي …أطعمت للريح أبياتي وزخرفها « *** إن لم تكن كسيوف النار قافيتي ** آمنت بالحرف .. إما ميتا عدما *** أو ناصبا لعدوي حبل مشنقة آمنت بالحرف نارا لا يضير إذا *** كنت الرماد أنا أو كان طاغيتي ! ***فإن سقطت و كفى رافع علمي *** سيكتب الناس فوق القبر : « لم يمت « (57). ويمكن استشعار مدى تسلط الشخصية القيادية (التمثال الذهبي) في التحكم بمصير الشخصيات كالتالي: « الجسد1: كف عن هذا, لقد هاج الجسد وبدأ يبث نارا داخلية لا قبل لي بها . ..جسد 3 : كف عن هذا . جسد 1 : كفى … ما هذا الكلام الذي أحال مكاني جحيما اخرسوا هذا اللسان, الجسد يطبخ والأحشاء تستوي والعقل ينضج, لا لا لا . أنا أمام جسد معدني أم إناء كاتم . لا لا لا» (58).
ولعل ذلك يعطينا انطباعًا عن ماهية شخصية التمثال الذهبي من خلال سعيه الدائم للتحكم في التمثالين (الفضي، والبرونزي)، الأمر الذي يشعرنا بضرورة البحث في واقع البشرية، الذي تتحكم فيه القوى والتكتلات الكبرى في العالم، والتي تقمع صوته، وتحد من قدرته على التعبير عن قضاياه الحقيقية. وانطلاقًا من (الجسد الفاني) الذي عادة ما يندثر بنهاية صاحبه، مهما كانت عظمته، ولذلك فإن نهاية الأمم والشعوب تكون بنفس المنطق، حيث يمكن أن تظهر شعوب وأمم، ثم لا تلبث أن تندثر!..وهكذا التاريخ في صيرورته الدائمة: «جسد 2: إن كان للصداقة معنى كمروءة النبلاء فلتبارك بها يدي .. صديقي أعطني يدك وانهض… اغسل يدك المتعبة… يدك تلك التي انغمست في غبار العصور الحزينة … انهض … انهض يا صديقي . جسد 3 : كيف ؟ كيف أغسل يدا تمزقت وأدماها التاريخ حزنا ؟ كيف نوقف نزيف حضارات ترملت ؟
جسد 2 : لقد حرثنا تاريخ الأزمنة كلها حتى أصبحنا ظلا حزينا للتاريخ الآثم . جسد 3 : أي رفيق الدرب … كلماتك صقر جارح لا عش له … كلمات نزفت كل معانيها..جسد 1 : الموت لكم يا أبناء الشعوب الممزقة والحواري القديمة والممرات الضيقة…جسد 2 : دع طائر الليل الجريح يمت بعد أن مل البكاء … إن الأم التي تنتظر عودة ابنها تنزف … رحمها ينزف لتلد أطفالا لازالوا ينزفون … يوما ما قلت لأمي « (59).
ولقد راهن المخرج بقدرات الممثلين الثلاثة التمثيلية والاستعراضية والحركية، واللذين قاموا بالأدوار الرئيسية، حيث وقع على كاهلهم الثقل الأكبر لتجسيد التماثيل الثلاثة: ( الذهبي والفضي والبرونزي)، والتي أكدت أدوارها أهمية البحث عن الذات الإنسانية، ورحلتها في هذا العالم من خلال ثلاثة فنانين.
وأخيرا أن (التجريب) هو روح المسرح وروح الإبداع الحقيقي في المجالات الفكرية والفنية، ولكن التجانس مطلوب، ولو أن المخرج ركز على شخوصه التي رسمها المؤلف، لاستطاع أن يتفرد برؤية إخراجية تمتلك أدوات التجريب، وفي ذات الوقت، يجعل المشاهدين يستمتعون برؤية بصرية، تعايش واقع الشخصيات (التماثيل الثلاثة) ذات الإبعاد الفلسفية، مع التقليل من مساحات الثرثرة الحوارية، لتقديم عرضًا مسرحيًّا حداثي الطابع، علمي المضمون، إنساني بطابعه التعبيري الباحث عن الهموم الأزلية، التي تقض مضجع الناس في كل زمان ومكان.
الهوامش
1. إسماعيل عبدالله، مسرحية (صهيل الطين)، مهرجان المسرح الخليجي الثاني عشر2012م، ص 5
2. المرجع السابق، ص 7-8
3. المرجع السابق، ص 11
4. المرجع السابق، ص 12
5. المرجع السابق، ص 13
6. المرجع السابق، ص15
7. المرجع السابق، ص 17
8. المرجع السابق، نفس الصفحة
9. المرجع السابق، ص23
10. المرجع السابق، ص 22
11. المرجع السابق، ص 28
12. المرجع السابق، ص 40
13. المرجع السابق، ص 44
14. جمال الصقر، مسرحية (بلاليط)، مهرجان المسرح الخليجي الثاني عشر2012م، ص 1-2
15. المرجع السابق، ص 3
16. المرجع السابق، ص4-6
17. المرجع السابق، ص 6
18. المرجع السابق، نفس الصفحة
19. المرجع السابق، ص 7
20. المرجع السابق، نفس الصفحة
21. المرجع السابق، ص 8
22. المرجع السابق، ص 10
23. المرجع السابق، ص 12
24. المرجع السابق، نفس الصفحة
25. المرجع السابق، نفس الصفحة
26. المرجع السابق، ص13
27. المرجع السابق، نفس الصفحة
28. المرجع السابق، ص 14
29. أحمد مختار عمر، المعجم: اللغة العربية المعاصر، الناشر: عالم الكتب – القاهرة، 2008م .
30. آمنة الربيع، مسرحية (البئر)، مهرجان المسرح الخليجي الثاني عشر2012م، ص 16
31. المرجع السابق، ص164
32. المرجع السابق، ص168
33. المرجع السابق، ص 171
34. المرجع السابق، ص 173
35. المرجع السابق، ص 178
36. المرجع السابق، ص 181
37. المرجع السابق، ص 191
38. المرجع السابق، ص192
39. إسماعيل عبدالله، مسرحية (البوشية)، مهرجان المسرح الخليجي الثاني عشر2012م، ص4
40. المرجع السابق، ص6
41. المرجع السابق، ص22
42. المرجع السابق، ص15
43. المرجع السابق، ص23
44. المرجع السابق، ص25-26
45. المرجع السابق، ص35
46. المرجع السابق، ص32
47. المرجع السابق، ص30
48. المرجع السابق، ص37
49. المرجع السابق، نفس الصفحة.
50. المرجع السابق، ص33
51. المرجع السابق، ص40-42
52. المرجع السابق، ص 43
53. المرجع السابق، نفس الصفحة.
54. رجاء العتيبي، مسرحية (أجساد)، مهرجان المسرح الخليجي الثاني عشر2012م، ص1
55. المرجع السابق، ص 3
56. المرجع السابق، ص 4
57. المرجع السابق، نفس الصفحة
58. المرجع السابق، نفس الصفحة
59. المرجع السابق، ص6