منذ أزيد من أربعين عاما وأنا أقيم في هذا المنار العتيق المشرف على البحر بعيدا عن الشاطئ بأربعين كلم.
بعد اللعنة التي حلت بي وربما سأحكيها ذات يوم. استجبت لإعلان في جريدة، فأصبحت حارس هذه الصومعة وأنا في سن الثانية والثلاثين.
هذه الجزيرة الصغيرة العمودية المكونة من صخور الجرانيت المغروس في الأرض مدى الحياة بجذورها الحجرية والترابية تمكنني من «الذهاب بعيدا» مدركا بيقين أنه يمكنني العودة إلى أرض صلبة متى أشاء. وبلاشك سأجد مرساة بعد كل هروب.
لا أقصد الخارج إلا نادرا، فلم أكن أغامر إلا قليلا. وباستثناء الركض الذي كنت أمارسه لعشر مرات حول القاعدة الضخمة كي أحافظ على صحتي وتنفسي. في الداخل ومن خلال مصعد حلزوني أصل إلى نهاية الأدراج الخمسة والعشرين حيث الشرفة الضيقة التي تحيط مناري كالطوق. كنت مبهورا بغروب أو شروق الشمس وعند كل فجر أو غروب كنت أتجول مهما كان الفصل.
لم أكن عاطلا عن العمل، فخلال كل يوم أجد حياتي مكتظة بأعمال تطبيقية. في البداية كان يجب أن أسهر على الأداء الجيد للعدسات البلورية التي أنظفها وأصقلها باستمرار فهي روح وعين وعقل المنار. الوميض الأبيض المرسل كل خمس عشرة ثانية هو المرشد الأساسي للبحارة الذين يقودون، في الغالب، سفنهم ليلا. كما أحافظ على نظافة المصعد والطبقات وغرفتي ومشغلي وخزانات المطبخ. ففي الصيف أشرع جديا بمطاردة الصراصير. هذه الحشرات السحيقة التي عبرت برشاقة القرون للوصول إلى هنا بأعجوبة. لا أعلم من أي سرداب أرضي.
تزورني مروحيتان تشحنان تحت مراقبتي الدائمة سلسلة من البطاريات .
سأتخلى بامتنان عن الهاتف العتيق الذي لا أستعمله مطلقا لاستبداله بجهاز راديو مستعمل، لأربط الصلة بآخرين في القارة.
تزودني، كل ثلاثة أشهر، سفينة صيد بما يلزم من المواد الغذائية والجرائد التي أحبها. لأجل تسهيل العملية قمنا بوضع حبال مشدودة وكلابات ضخمة ما بين مكان الرسو ومدخل الفنار. وحتى ملء حاويتي بالماء الشروب كانت تتم بسهولة.
ناذرا ما يطأ البحارة هذه الأرض، يمكن القول أن عزلتي كانت تبلبلهم. فعندما يأتون نتبادل بضع كلمات وفي أحد المناسبات سألني أحدهم إذا ما كانت العزلة تضايقني.
أجبت:
_ تناسبني.
_ هل تحب البحر لهذه الدرجة؟
_ نرى الماء يوما بعد يوم، فننتهي عدم قدرتنا على الانفصال عنه.
نصف مقتنعين بأجوبتي يرحلون وقبل أن يختفوا ينادونني:
_ هاتفنا إذا احتجت مواد غذائية.
إلى حدود الآن لم يحدث ذلك. يبدو لي أنني أملك كمية إضافية مسبقا. أجرتي الصغيرة المتواضعة تكفيني لحاجياتي. وماذا سأحتاج هنا، وأنا ضائع في تخوم البحر؟ دربت جسدي أن يكتفي بالقليل، فالنظر كل يوم إلى المحيط تفقدني لذة الامتلاك كلها وتجردني من الاشتهاء نفسه.
أشغل وقتي في الغرفة الرئيسية للفنار الموجودة في منتصفه بإنجاز رسوم جدارية، كنت قد بدأتها منذ عشرين عاما. أتمنى أن أنهيها قبل مماتي. ما تبقى غير ملء مساحة خمسين سنتيمترا عرضا على أربعة أمتار طولا. تتشكل اللوحة من سلسلة صور غريبة تعانق الحائط المستدير على خلفية من خليط الرمل الرطب الذي أغرس فيه الحصوات والقواقع والطحالب الجافة والرخويات الميبسة والحجارة وقطع الحطام. ودون أن أعرف إلى أين أسير كنت أواصل هذا العمل أحيانا بلذة عارمة وأحيانا أخرى بجنون حر لكن بتحكم كبير.
هذا الركض نحو وجهة مجهولة وهذا السعي الحثيث كان يرافقه عمل يدوي دقيق ومعرفة جدية بالأدوات المستعملة. إنه خليط متنافر ومتنوع يجب أساسا أن يذوب في العمل كله.
وعلى الرغم من عزلتي القصية فإنني لا أحيد عن الأخبار الجديدة. كانت الجرائد التي أستكشفها عند كل فصل تزودني بمجموعة من الأخبار. الحرب مازالت مستفحلة. العنف والمذابح والجرائم. الأوثان تتحطم والثورات تزيف. الفن يتمرغ في التراب. الاكتشافات تتزايد. والأشكال تمسخ. هل تغير الإنسان فعلا؟ معارفنا تزداد. لكن الإشكال الجوهري حول مجيئنا وذهابنا من العالم لم يحل أبدا؟
كنت أهتم بأحداث عصرنا كلها مخلفة لدي إحساسا أنها تنفذ عبر قنوات غريبة إلى أعماقي. وهكذا أحتفظ بإحساس أن العمل الدقيق الذي أقوم به يفضي لا محالة إلى عالم أشد رحابة حيث الآلام والموارد والغموض الذي يشدني إلى إخوتي على هذه الأرض. هي أوهام ربما، لكنها سلواي ونشاطي.
أعمل على منجزي بانتظام ثم أتوقف وبعد أسابيع أستأنف من جديد.
وكأنني مسكون بإيقاع سري. معا نحس برغبة في الحوار ثم في الصمت. وهكذا دواليك.
كنت بحارا جامدا في مكانه، فعشقت البحر. كان في البدء ملجأ ثم تحول إلى ولع. تآلفنا وتسامحنا. خلال الطقس الجميل يلعق صخرتي وعندما يزمجر يضع الرمال والفوقس والقواقع أسفل المنار قرابين قبل أن ينسحب.
أشرف على البحر وما يحيطني وبواسطة نظرتي الثاقبة أتعرف على السفن المبحرة جميعها. الشراعية ومراكب الصيد والفرقاطة وناقلة البترول والعبارة والقاطرة…
عندما تجلد أضواء فناري السماء ليستدلوا به يومض بريقه الفسفوري فوق الماء فتغمر دغدغته المحيط ويصبح أكثر اشتهاء.
حسب تجربتي لم تحدث منذ أربعين عاما أية حادثة. ربما يتم الاحتفاظ بي في عملي بسبب راتبي الصغير رغم تقدمي في العمر.
عندما سأرحل سيطورون الفنار. علمت أن التصاميم الجديدة قد أعدت سلفا. وخوفا من العزلة أن تسحقهم سيتناوب الحراس الجدد مثنى مثنى على مدى عشرة أيام. وفيما بعد سيعمل التقنيون على جعل عمله أوتوماتيكيا وهكذا سيشغله عن بعد أشخاص يوجدون على القارة اليابسة. أتمنى أن أصاب بعجز جسدي قبل أن أعاين ذلك وألا يحدث أي تغيير قبل أن أدفن أسفل الفنار، حيث زرعت بضعة أقدام من الخلنج. هذا الأخير يقدم منذ الآن باقة ورد بنفسجي يقاوم الرياح.
ذات زوال وصل إلى جزيرتي «جيرمي» على متن قارب مطاطي.
أعلن الفتى:
ـ أنا حفيدك.
أصدم، فأصر:
ـ أنا ابن ماري جان ابنتك.
ـ أنا لم أنجب أبدا.
شدني من كفي وسحبني وراءه صوب الأدراج التي ارتقاها أمامي إلى أن وصل إلى قاعة البلورات. ساورني شك أنه يعرف المكان جيدا. توجه دون تردد نحو الجهاز الوضاء مدنيا وجهه من وجهي واضعا سبابته فوق الزجاج المصقول:
ـ انظر كم نتشابه!
نتشابه فعلا. الأنف نفسه. المساحة الفاصلة بين الحاجبين نفسها. العينان الخضراوان الحادتان نفسهما.
منذ أربعين عاما، كانت زوجتي ألين، قد هجرتني فجأة. تاركة كلمة أنها تحب شخصا آخر.
أبلغني جيرمي أن أوان ذهابها، كانت حبلى سلفا، ثم قررت فيما بعد أن تحتفظ بالجنين.
– كانت أمي ماري جان…وقد علمت بسرعة أن سرا ما يوجد في العائلة. سر لا تعرفه حتى أمي. كانت تبدو مختلفة بجلاء عن إخوتها وأخواتها السبعة. فيما بعد أنا بدوري لم أعد أشبه أي أحد. كنت أسأل جدتي ألين حول هذا الموضوع. كانت تصمت أو تغير الموضوع. وخلال احتضارها كشفت لي الحقيقة، فتحدثت عنك: «أنت تشبهه كثيرا» أحسست بما يشبه الندم في صوتها. استغرق البحث عنك سنة كاملة. عبرت المحيط وكشطت سواحل الشمال…وانتهى بي المطاف أن عثرت عليك فعرفت أين تعيش منذ أربعين سنة، فصرت في الحال قريبا مني. عندما كنت طفلا كنت أحلم أن تكون لي جزيرة لي وحدي، لهذا وددت معرفة كل شيء عن الفنار وعنك قبل أن ألتقيك. بحثت في السجلات العقارية والوثائق والتصاميم، فأصبحت أعرف فنارك عن ظهر قلب.
– أدهشني اهتداؤك إليَّ بسهولة. كم عمرك يا جيرمي؟
– تسعة عشر عاما. جدي دعني أبقى معك.
– لن تستطيع الانفصال عن الحياة في هذا السن.
– لا بد من ذلك. دعني أبقى معك.
اعترف لي جيرمي أنه اضطر في الآونة الأخيرة أن يسرق كي يعتاش. فقد قام بسلسلة من السرقات الصغيرة إحداها كانت ستنتهي إلى ما لا يحمد عقباه، فاضطر للاختباء خلال شهور ينسى أمره. كان يتمنى أن يعمل معي في الفنار ليعوض ضحاياه أموالهم وبذلك يوقف المتابعة القانونية.
أخفيت تواجد حفيدي عن الفرقة التي تمونني خلال أسبوع مجيئها، بإفراغ القارب المطاطي من الهواء وتخزينه. أما في باقي الأيام فكان جيرمي يستعمله للصيد والنزهة.
جمعتنا حياة مذهلة معا. علمته كيف يصنع مراكب داخل قناني الزجاج التي بعناها فيما بعد للسياح. ورغم عمره الصغير فقد كان جيرمي موهوبا بصبر لامتناه ومهارة كبيرة.
كان غالبا ما يقدم لي يد العون لاستكمال جداريتي التي اكتشف فيها معاني وصورا لم تخطر على بالي. قدم لي أيضا نصائح ببراعة ودقة. كنت في الغالب أعتمدها في عملي. مثلا، بفضله، في المدة الأخيرة، صعدت بضربات الفرشاة ألون جداريتي إلى ألوان فاتحة.
قبل مجيء جيرمي كانت العزلة قد منحتني منابعها كلها.الصمت، الهدوء، السكينة. أما الآن فأنا أجرب المشاركة المجال الأكثر حركة والفرح الأكثر حيوية.
كنا نتفاهم دونما كلام ونتحاور كما لو كان عمرنا واختلاف حياتينا يحفز فينا الرغبة في توثيق العلاقة والقرابة الجديدة.
بين الفينة والأخرى يختفي جيرمي لأربع وعشرين ساعة أو ضعفها على متن قاربه المطاطي. أتركه يغادر ويعود دون مساءلة. أشعر أنه سيستاء من فضول في غير محله.
ذات مساء قال ضاحكا:
– جدي، أزور شخصا على الشاطئ.
– آمل ألا تكون امرأة متزوجة ففي هذه المناطق قد تكون مصدر مشاكل.
– عندما يكون بمقدوري، فسأخبرك المزيد. لا تقلق بشأني يا جدي.
لم نتحدث، فيما بعد، عن هذا الأمر.
وذات صباح، أعلن البارومتر أن شتاء ورياحا عاصفة قادمة. طلبت من جيرمي ألا يغادر الفنار والجزيرة.
– يجب أن أذهب. رد بنبرة حاسمة.
كان يعرف أحوال القس جيدا وأنها سيئة للغاية. ألححت عليه، لكنه قبلني على جبهتي وانصرف صامتا.
ما أن غادر حتى اشتد هيجان البحر.
صعدت مستعجلا إلى شرفة الفنار الدائرية. كانت الرابعة زوالا وكانت السماء ملبدة بالغيوم. لمحت على الفور القارب المطاطي، يتخبط بين الأمواج، التي ازدادت غضبا. كانت الأمواج الكبيرة تتقوى وتتضاعف. عاجزا كنت أراقب عن بعد هذه العاصفة، فدخلت على عجلة لأضيء مصابيحي إضاءة شاملة، وتحت إمرتي كان وميض الأشعة البراقة يمسح السماء والمحيط كما لو أني كنت أحاول إخافتها. لم أستطع فعل أي شيء.
كان القارب محمولا كقشة تبن بين التيارات مهاجما بهبات الرياح وكثل الماء أسير الرياح والبحر العنيف.
استبد بي الغيظ فكرهت البحر على الفور .
أصبحت كالمجنون، التهمت الدرجات نازلا صوب بوابة الفنار، وعلى حافته أرسلت لجيرمي إشارات عبثية ويائسة كي يعود على الفور. لكن صرخاتي ضاعت بين العاصفة.
رأيت أمام عيني القارب ينقلب عدة مرات ثم يظهر مرات أخرى.
أخيرا وكحيوان غريق يثور وينتصب قبل أن يرتد رأسا على عقب. تغوص قشرته الرمادية بين الحين والآخر وعلى مهوى الغليان المجنون للمحيط يظهر جيرمي ويختفي… حطاما يتمايل. يدور حول نفسه بقوة الأمواج العنيفة. كنت شاهدا عاجزا أرى جسد الشاب القوي والمفتول، حفيدي الصغير، يناور كشيء لا حول له ولا قوة، مطرودا، مستعادا، محركا، منقولا، مدفوعا، إلى حافة الجزيرة.
كنت ضائعا ومستسلما أرى هذا الجسد وهو يلتوي ويرتفع عن الماء محطما فوق الصخور. رأيت الدماء تنضح فوق الحجارة. ها هو البحر يقتل ويخفي آثار جريمته بحمام من الرغوة.
رأيت جسد جيرمي، بشراهة تلتهمه الأمواج. وببطء يغرق.
بعد خمسة عشر يوما وبعدما طلبت من المسؤولين على الساحل تعويضي غادرت الفنار بصفة نهائية. دمرت جداريتي بطلاء جيري ثم ألقيت أمتعتي إلى البحر.
اندهش الحارسان الجديدان وهما يرياني دون أمتعة:
– إذن، أيها العجوز، هكذا انتهى شهر عسلك مع البحر، منحته كل شيء.
أجبتهما:
– نعم، كل شيء.
كنت قد اقتلعت باقة الخلنج، وحطمت وصيتي على مكان قبري. لا أرغب أبدا، حيا أو ميتا أن تكون لي أية علاقة بالفنار وبحره.
غصت بعيدا بعيدا جدا في البر. مرت ثلاث سنوات أقمت خلالها في منزل البحارة المتقاعدين المسنين. لم يكن لدي ما أحكيه لهم، لهذا تجنبت حكايتهم المتألقة.
– أليس لديك ما تحكيه عن البحر؟
يسألونني، أحرك رأسي:
– لا شيء.
لا أدري كيف عثرت علي سولانج. كان عمرها يفوق عمر جيرمي بعشر سنوات لكن لهما العناد نفسه.
– انظر هناك. قالت لي وهي تشد ذراعي. انظر من القادم لرؤيتك.
من حشد من الأطفال تقودهم مدرستهم. لمحته، فعرفته على الفور.
ذلك الشعر الكستنائي الغزير. وما أن اقترب مني حتى اكتشفت العلامات الأولى. الخصلة البيضاء الغريبة فوق الجبهة تشبه خصلتي وجيرمي.
– جدي. تمتم الصبي. أريد أن أرى فنارك. أريد أ، أرى البحر. متى سنذهب إلى هناك؟ متى، متى، متى…؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
j أندريه شديد 1920/2011، شاعرة وروائية وكاتبة ولدت في القاهرة لأسرة من أصل لبناني. وعاشت معظم حياتها في فرنسا.
– الترجمة من مجموعتها القصصية «المرأة ذات الرداء الأحمر» التي نعدها للطبع.
ترجمة سعيد بوكرامي
كاتب ومترجم من المغرب