لست معنياً بالجدار
أنا ضيف، عابر
يمكنني أن أشتري
رملاً شرقياً
تايوانياً بالخصوص
في العمق البرليني
الجدار.. صرخة العاشق
من قبضة الأسيجة
والسجان
الجدار، لا طمأنينة بجانبه
وفوق حوافه
المرصّعة بالطلقات
خطر النظرة المحدّقة
نحو الحرية
الجدار، نصنعه نحن
فوق رؤوسنا
المليئة برمل الصحراء
رؤوسنا التي
تحتاج الى ما يثبت
أنها رؤوس حقيقية..
الجدار.. أيُ جدار
من أديم أجسادنا
أرواحنا الهائمة
في الفضاء الكوني
نحن جدران أنفسنا
قُبور لحظاتنا الآسنة
بالأيديولوجيا والسياسة
ولكي نرى صُورَنا
المعبأة بالخرافات..
إبراة واحدة
وهواء فاسداً..
j h j
برلين.. عليّ ألا أفوت.. برلين، هذه المرة. المرات الأربع التي زرت فيها ألمانيا لم يمنحني القدر الفرصة للزيارة، حيث كانت ألمانيا غربية وشرقية، كانت المدن التي أسكنها آنذاك غربية الهوى والهوية.. مدن نهر الراين على وجه الخصوص، كان القطار يقطع المسافة (ذلك الوقت) من المدن التي أقيم فيها الى برلين في سبع ساعات وأكثر، أما هذه الزيارة فالأمر مختلف حيث ألمانيا.. قائدة أوروبا نحو المستقبل.
عندما كنت في ثاني زيارة لألمانيا في صيف 1987، وكنت حينها أقيم في فندق «برستول» بوسط العاصمة (بون) هابطاً بالمصعد لردهة الاستقبال تصادف أن انضممت الى مجموعة من الأفراد، حدثني أحدهم وهو ألماني باللغة العربية.. قائلا: انه وزملاؤه يقطنون هذا الفندق كوفد رسمي رفيع مرافق للرئيس الألماني الشرقي اريك هونيكر، وأنه عاش في سوريا واليمن الجنوبي، وقال: ان «هونيكر» يسكن في قصر الضيافة في بون 3 في أعلى جبل مطل على نهر الراين، واليوم سيزور «هونيكر» قريته التي تقع في ألمانيا الغربية وهي ليست بعيدة من هنا. لا أعرف لماذا، حينها رُبطت ألمانيا الشرقية (الديمقراطية!) بتلك البلدين العربيين اللذين ذكرهما الضيف بحاضر تلك اللحظات!
أربع ساعات وعشر دقائق، كنت أمتع نظري ببهجة الفرجة، أنتزع التربة، الأعشاب، الحشائش، الأجمات الصغيرة، الأشجار المتوسطة والطويلة، السواقي ومجاري المياه والأنهار. كلها أجمعها في بؤبؤ العين أتمثلها بقبضة اليدين والقطار يسرق السهوب الخضراء من فرانكفورت نحو برلين، لماذا، فوت الألمان على أنفسهم ألا يزرعوا اللون الأخضر في علمهم، مع أن أعلامنا العربية خضراء وهي بلون الصحراء والسواد. الخضرة التي تلون أرض ألمانيا متدرجة من اللون الفاتح حتى الأخضر القاتم، الأخضر الذي يقودك نحو الغامض والمجهول، خصوصا في تلك الكثافة الخضراء التي تتركز في الأشجار الغابوية على خلاف بلدان شبيهة كفرنسا وبريطانيا حيث النظر لا يكسر حدته إلا الأفق البعيد (في الأعم). في ألمانيا تشوش الطبيعة كسل وخمول الذاكرة، أفكار بطلاوتها البريئة تتلامس مع أفكار حلمية، أفكار تخرج من ضباب المشهد وضبابيته في مواكب التحليق بين ما هو سماوي وأرضي.. كرؤية ورؤيا. وهنا، يأتي سحر أرض ألمانيا المجنونة بالسبق في التجديد والتغيير والثورة.
ألمانيا: مارتن لوثر، الطباعة، الثقافة، الفكر، الموسيقى، الاختراعات، شارلمان، بسمارك، هتلر. الحروب (لديهم) إذا لم تقض عليك تقويك. أقوى ما لدى ألمانيا الفكر المتجذِّر الذي يجوس الأعماق والفلسفة التي تسند ذلك الفكر ضمن منطق أن المستقبل يكمن في نبوءة العلم والمعرفة، والبحث المتجدد المعتمد على العقل السليم والعزيمة والإرادة الحرة بالاختيار.
في برلين بعد كل ذلك المشهد المتلبّس بالجمال، منيتُ نفسي أن تكون هذه الزيارة، زيارة بانورامية للمدينة: أرضها، شوارعها أشجارها، مبانيها، بالفعل تقيدت أنا وأخي «سالم» رفيق الرحلة بأن علينا أن نقرأ المدينة بعين الناظر، المتفرج الزائر، لمدينة كان «الرايخ الثالث» قد وضع لها مخطط مرسوم (من يزور برلين سيشاهد هذا المخطط) كعاصمة للعالم أجمع.
برلين التي سقطت وقسمت وتقطعت بها الأوصال، ناوشتها المصائب من كل حدب وصوب داخلياً وخارجياًَ، فوسطها كان الحدّ الفاصل بين قطبين ومعسكرين، لهذا احتفظت برلين من أجل السياحة والسواح الفضوليين بشواهد من جدارها ونقاط التفتيش «chech point» وكذلك بوابة «البراندنبورج» الشهيرة التي تعني ما تعنيه، للألمان من دلالة ومغزى حول الوحدة وروح ألمانيا التي يتنازعه جناحان غربي كمكون أساسي من الحضارة الغربية، وما يشير إليه تمثال «الكوادريجا» (عربة تجرها أربع خيول) أعلى البوابة باتجاه الشرق.
يمثل فيلم «ألمانيا عام صفر» لروبيرتو روسوليني وهو من الأفلام الواقعية القاسية، أحد أهم الأفلام التي صورت بعد سقوط برلين في العام 1945، (وفيه يتم تحويل فكرة التضحية الىتبني العدمية)، عندما شاهدت هذا الفيلم في العام 1982 لم أتخيل أن مدينة شهدت مثل هذه الخراب العظيم ستنهض بين كل ذلك الركام لتقودني الى زيارتها في صيف 2012. إذا، برلين تستقصي على المهادنة والكسل لتنهض كالعنقاء من الرماد.
بين المكان الذي أقطنه في شارع «شِيل» وساحة «الكسندر» مسافة بين غرب وشرق حيث يوجد تماه في الشكل والأسلوب ولم يعد ما بينهما ما يذكر إلا ما يتقصاه الباحث التاريخي. لقد اندغم المكان في بوتقة الحياة الجديدة، وخطت برلين تسامر مستقبلها بان الماضي ذكرى تم تجاوزه بحاضر وغدٍ أفضل.
المكان البرليني رغم شساعته يمنح المرء الصمت والهدوء، حيث يتأمل الكائن نفسه، أن يدخل المرء في ذاته، في أعماق ذاته متأملاً، قوته وضعفه، وأحياناً يسائل نفسه «الأمارة بالسوء» من أنا..
في برلين التواضع سيد الموقف. الناس في برلين يحبون الحياة ويفوزون بها، ويحبون (الآخرة..) كحبهم للحياة وسيفوزون بها- ربما- لأن الحياة والدين عندهم لخير الانسان لا عبوديته وامتهان كرامته.
تحية لبرلين- الشقية- المليئة بعصافير المعرفة، والأفكار التي غيرت العالم، وهزّت أرض اليقين من أجل حياة قصيرة تستاهل أن تعاش بشكل أجمل وأفضل..