الفكر نابع عن التفكير، والمرتبط بذهن الإنسان، وكما قال الفيلسوف الشهير ديكارت: « أنا أفكر إذن أنا موجود»، فالتفكير حتما مرتبط بوجود الإنسان، ولكن ليس كلّ إنسان يشغله التفكير أحيانا، لذا فهو يعتمد على نوعية من الناس، أو نخبة شغلها الكون، فهيج خيالها وألهب رؤاها في شتى المجالات، وإذا العلم قد انصب تفكيره في معادلات الواقع والمحسوس، كان للأدب مهمته الأخرى في صرف خياله للّاواقع وإذا كان الوجود يضيّق في منطقته دائرة التفكير، نجد أن الفن يجعل قطره لا نهائي، وحيزه يصل إلى اللّا منطق والدهشة، ولكنه يعكس حقائق الوجود في تقريره النهائي، عبر آليات متعددة يدمج فيها الواقع بالمتخيل، ليرسم لوحة شبه مكتملة عند صاحبها ولكنها تظل مفتوحة أمام المتلقي.
ففي معرض «فكّر» الذي افتتح مؤخرا بصالة مسقط للفنون، وذلك بمقر مبنى وزارة التعليم العالي، شارك خمسة من الفنانين العمانيين، وفنانة نمساوية بعدد من اللوحات مستخدمين التقنيات التكنولوجية الحديثة، للوصول إلى الهدف من المعرض وهو إيصال رسالته « فكّر»، حيث قام كل من الفنان الدكتور عبدالمنعم الحسني وزير الاعلام، والفنان أنور سونيا والفنان حسن مير والفنانة سيني كورث والفنانة بدور الريامي والفنانة داليا البسامي والفنان عيسى المفرجي بعرض عدد من الإعمال، اختلفت في الطريقة الفنية ولكنها تشابهت في الفكرة.
يقول معالي الدكتور عبدالمنعم الحسني شارحا لوحاته: تتحرك الكلمات .. الكلمة تلو الأخرى، وكذا الإنسان في انبعاثه، يتحرك داخله الإنسان، في الحركة أكثر من حياة، والسكون موات.
نرى أن الأعمال المقدمة للفنان، يغمرها الجانب المضبب وغير الواضح، حيث ان الصورة تشي بحالة حركة مستمرة، متمازجة مع الشخوص والحيوات التي تتضمنها، ولكن الفنان أراد أن يؤسس فيها حركة الفكر المستمر، كما هو واضح من الفكرة، وبالتالي كانت أقرب إلى انصهار الكائن البشري في خضمّ الحراك اليومي والتفاعل الحياتي، استطاع أن يختزل كلّ ما يدور في حياة الإنسان من تسارع نحو فعل شيء والابتعاد عن السكون هو منبع الفكر الإنساني، في عمل لم يظهر من عناصره سوى هلام وظلال لونية، وحتى لا يغيب خيط الفكرة عند المتلقي ترك الفنان بعض الوجوه ظاهرة، فمن خلال الأعمال المعروضة، نستطيع تحديد وتيرة الحركة في كلّ لوحة.
أما الفنان أنور سونيا فيقول: الصحراء / بحرير رمالها حيث السكون/ اتساعك كالبحر تموجاتك كامتداد المدى/ زحف / زحف/ زحف/ ما عاد لنا متنفس وما عاد لنا متسع.
نجد في لوحات الفنان المعروضة، صرخة تلفظها روح ينهشها المعمار ويأكل رملها، حيث استطاع الفنان بلوحاته الأربع، أن يعبّر عن مدى ضراوة الزحف العمراني وأثره على الطبيعة، ولذلك كان التركيز في التأمل النابع من الشخص الوحيد في احدى لوحاته وهو يقرأ هجوم ناطحات السحاب للصحراء، ثم نرى في رسم آخر بقاء الكرسي وحيدا، دون أن يكون هناك من يجلس عليه، أي أنه لم تكن تلك المنطقة الصحراوية متنفسا للإنسان بعد المدّ الحضاري كما يدعيّ الآخر، مما جعلته يهرب تاركا ظل شجرة وحيدة تنتظر لحظة اقتلاعها، ومن دون تعليق، استطاع أنور سونيا ايصال فكرته، وهي أنه كيف استخدم الإنسان فكره من أجل تشويه الطبيعة، فليس من الضرورة أن يكون الفكر بنّاء، بل أنه أصبح يسلك درب الدمار، والتي تتضاعف حالته لتصيب الإنسان ذاته، لذلك كان تركيز الفنان على عنصر واحد يلعب أدوارا متعددة، شخص في الصحراء يتأمل زحف البنيان، ثم يهرب ذلك الإنسان ليبقى كرسيه فقط، ثم يزال الكرسي ليكون المشهد قريبا جدا للبنايات، مما يعطي اشارة تدل على وصول ذلك الزحف، مكان جلوس الشخص.
بينما عنونت الفنانة النمساوية سيني كورث فكرتها بـ«زمن بلا زمن» فتقول:
الماء، الثلج، الأشجار، الأحجار/ هي الطبيعة تعلمني/ أن الخلق هو التغيير النقي/ أرى الأشجار كالبشر، رغم أنها تكبر كثيرا/ لها طبيعتها في خلقها ولها دور في حياتها/ أرى نفسي جزءاً من الطبيعة/ أنها تلهمني وتؤثّر في أعمالي الفنية.
نلاحظ في أعمال الفنانة النمساوية طابعاً آخر يختلف عن الأعمال العمانية، بالرغم من أنها اشتركت معهم في ثيمة «الفكر»، ولكن تبقى الثقافة هي المؤثر الرئيسي في أعمال الفنان، ففي حين كنّا نرى الصحراء والجفاف في أعمال أنور سونيا، تأتي سيني بأعمال أخرى حيث المطر والثلج والغابات، هي المكون الروحي والزاحف في أعماق وجدانها المتخيل نحو الفكر، وهذه الثقافة هي المسيطرة في كيفية التعبير، لأن المكان الأول له تأثيره الكبير في حياة المبدع، ونقطة الانطلاق نحو عالم الواقع والمتخيل في أي رقعة على الكون، فبالرغم من سفرها المتعدد للأمكنة، واعجابها بتلك الأمكنة، إلا أنها تشير الى أن بدايات الفكر لديها جاءت من تلك العناصر، وما نلاحظه أنها عملت على تركيب رسوماتها، وأثر الفصول على الطبيعة، في الشكل واللون سواء للأشجار أو الحجارة، والتي تمثّل منبع فكرة الوجود وحياة سيني الفنية استلهمت. من الماء والثلج سواء في جماله أو في قسوته، كما نراه في اللوحات.
أما الفنانة بدور الريامي فقد جاءت أعمالها بعنوان» مضفة»، وهي بداية إخصاب البويضة، وفي طريقها إلى الرحم، للتكون الجنيني.
من ضمن ما تقوله الفنانه عن عملها: تتخلق المضفة في رحم الأم، تتخلق الفكرة في رحم الإبداع، تتسابق الحروف إلى نواة القصيدة، وتتجمع النقاط في قلب اللوحة، هكذا يمتزج الإبداع، وتنخلق طورا بعد طور.
مزجت بدور الريامي فكرة الخلق والإبداع، بين الجانب المحسوس عند تخصيب البويضة وقبل أن تتجه لتتكون جنينيا، لتتضح الملامح شيئا فشيا، وبين الجانب الإبداعي أيضا، فالفكرة لا تخرج مكتملة المعنى، بل تسبقها رؤى وتوقعات حتى تكتمل، فالعمل التصويري، ضمّن مشاهد مركّبة تكوينية، فالمضفة بداية التخصيب، والأحرف بداية تكون الفكرة، ومن خلال الرسم نجد أن الفنانة اشتغلت على مبدأ التكون والعودة، مع تكرار المشهد، أي كما تقول تتسابق الحروف إلى نواة القصيدة، أي أنها تبدأ بنواة الحروف لتتجمع ثم تكون نواة القصيدة، وكون أن النواة دائما ما تكون بداية للتخلّق، فيعني أن القصيدة المتكّونة بداية لموضوع آخر، وهكذا بشكله المتكرر واللانهائي، وايضا هذا ما نلتمسه في المضفة، حيث انها تبدأ بتخصيب البويضة ثم تتجه للرحم لتكوين الجنين، ثم السلسلة المعهودة ليتكون الإنسان والذي بدوره يعود لخلق آخر جديد وهكذا تبدأ دورة أخرى جديدة لمولود جديد.
أما الفنان عيسى المفرجي فكانت له رؤية مختلفة في عمله وعنونه» فكّر» مستخدما عناصر مركبة، عبر تقنية الفيديو آرت ويقول عن عمله : أحمر، أزرق / أحمر، ازرق / ماء، نار / حين تنبض فكرة يسطع الأحمر وتترقب أعين / انبعاث فكر ينبض أو يخبو، زرقاء هي الحياة.
تميز العمل بأدواته الفنية المركبة، فاتضحت الفكرة المتكونة في الرأس بحجمه الصغير، وكدلالة رمزية تكبر الفكرة ويكبر معها الرأس صاحب الفكرة، مستخدما الرسم الموجود في المثلثات الزجاجية، كما لعب على فكرة اللون بين الأحمر والأزرق، حيث نجد اللون الأحمر بشكل غير ملاحظ بدقة، فهو يحتاج إلى نوع من التركيز، فاللون الأحمر يكون أكثر وضوحا في الجمجمة الأولى الصغيرة في اللوح المثلث، ثم يبدأ اللون بالتلاشي والغموض تدريجيا مع اتساع رقعتها إلى أن تقارب الاختفاء في آخر لوح زجاجي، وهنا يرغب الفنان في توضيح الانطلاقة الأولى للفكرة وسطوع اللون الأحمر بمثابة بدايتها، ولكن يمثّل اختفاؤها التدريجي هي الدخول في معمعة الحياة التي يرمز لها الفنان باللون الأزرق وبالتالي نجد طغيان اللون الأزرق على اللون الأحمر، كدلالة على أن الحياة تشتت الفكرة وتغرقها في أتون محيطها، وكدلالة رمزية أخرى، في تكّون الفكرة عند الصغير حول جانب حياتي معين، وتبدأ الحياة مع نموه توسّع من مداركه، وتبدأ الشعلة الأولى للفكرة بالوضوح أكثر في المراحل المبكرة وتلاشي التركيز فيها، وهي ما قام بها في العمل الآخر حيث وضع مستطيلات زجاجية تحتوي على مجسمات لوجوه مختلفة الأعمار، وأيضا الملامح والتقاسيم، كل منها يدل على مرحلة لبلوغ الفكرة لديه، بطريقة متطورة فنيا أو نشوء تلك الفكرة، وكل ذلك يحدد بواسطة العينين كعنصر مهم إعلامي يستقرئ منه الآخر مراحل الفكر عند الانسان.
كما شارك الفنان حسن مير بعمله «تنوير»، عبر تصوير الفيديو آرت لمشاهد متحركة في ثلاثة أعمال.
مما يقوله حسن مير في هذه الأعمال: «عملي هو تأمل وبحث في الجانب الروحي وطقوس السحر للموروثات الراسخة منذ القدم في مجتمعاتنا والمتعلقة بمعتقدات الشرق وأساطيره». والفنان حسن مير غالبا ما يركّز في أعماله على مشهد الذاكرة الخبيئة في طفولته، فنادرا ما يتطرّق إلى الحياة المعاشة ببساطتها في طفولته، بل يذهب إلى أعمق من ذلك وهو الماورائي منها، حيث الطقوس التي تمارس في الطفولة في طريقة العلاج والشعوذة الرائجة في تلك الفترة، والقصص الخيالية التي تنسج للأطفال، من أجل الترهيب، وبالتالي لازم اللون الأصفر أعمال الفنان لفترة طويلة، حيث الجدب والقحط والبحث عن الحقيقة، وتدريجيا أصبح يوظف اللون في الفيديو آرت إلى الصحراء ورحلة البحث عن الحقيقة عبر مناخات أسطورية، فالجميع يعلم أن الصحراء بحر من الرمال تسكنه المخلوقات الماورائية، فالحضارات كما يقول مرتبطة ببعضها البعض بواسطة مفاهيم رمزية تعبّر عن ثقافاتها.
وأخيرا تأتي خاتمة الأعمال المشاركة مع الفنانة داليا البسامي بعنوان «خلاصة»، عبر إبداع يحمل في طيّاته سرقة الأفكار، حيث تقول البسامي شارحة عملها: «الأفكار .. تلك الخلاصة الثمينة تترصدها الأعين، وتتخطفها الأيدي، وها أنت تسلّم رأسك بكل سلام ليغزوه الآخر».
العمل المقدم بسيط جدا كباقي أعمال الفنانين السابقين، ولكن بالرغم من بساطته إلا أنه تميّز بقوة الفكرة، ماذا يمكن أن يفعل الشخص العادي، ليعبّر عن سرقة أفكاره وخلاصة معرفته؟ إلا أن الفنانة استطاعت بخيال المبدّع أن تسرد قصة السرقة في مشهد غاية في الوضوح والدقة والبساطة، ثمرة البطيخ تشبه الرأس الآدمي، فتقطتع منه الجزء العلوي، الدال على المنطقة التي يكون فيها المخ، وهنا وصلت المعلومة، بذكاء فني، وفي لوحة أخرى لنفس الفكرة أضافت الفنانة أنابيب دالة على الشرايين، بالرغم من أن المتلقي ليس بحاجة لها في الوضوح فقوتها في قطع الجزء العلوي من البطيخة «الرأس- غلاف أخير بالمجلة».
خلاصة
إن الأعمال المقدمة كل منها كان له أسلوبه في طريقة تعريف كلمة «فكّر»، ولكن لم تكن معقّدة في الطرح، من حيث الألوان والتراكيب، وهذا ما ميزها جميعا، فكرة بسيطة ولكنها بليغة في ايصال المعنى للمتلقي، وهذا بدوره يرجع إلى خيال واسع عند المشاركين، الذين يمثلون باعاً طويلاً في الفن التشكيلي .