المدينة تموت
قالها الطفل لأمه في براءة
وغمغمت بها الفتاة لحبيبها وسط دموعها
ونقلها الأب لابنه فيما يشبه الوصية
دخان أسود يتصاعد إلى السماء
الصحراء تتحرك بجبالها
وكثبانها وتحاصر البيوت
النيل يجف تدريجيا حتى أفصح
عن أسرار القاع ،
هياكل عظمية تتعانق
جماجم بدون هياكل
هياكل نساء يتكومن حول أطفالهن
هياكل رجال يدفعن أذى غير مرئي،
لكنه لم يُدفع ، فاستقرت
عظامهم في القاع الطيني المتشقق .
……….
الملك تنحى عن العرش
الكل باطل.. قالها أخيرا
وخرج إلى الناس باكيا..
« سامحوني
كنت طاغيةً غليظ القلب
حطمتُ الآلاف منكم في سجوني
لكن الأوان لم يفت بعد
إذا ُقدّر علينا أن نعيش متباعدين
فمن الأولى أن نموت معا»
الفئران بعيونها الخرزية البراقة
تتلكأ في الأركان ولا تستجيب للزجر
والحدآت تُحوّم في السماء
ثم تستقر على الأسطح
……….
رئيس الشرطة تخلى عن منصبه
وخلع نجومه ونسوره ونياشينه
والتزم الجامع ..
« لم يعد هناك مجرمون لأطاردهم
ولا قتلة لأقتصَّ منهم
أصبحنا جميعا هاربين
على مركب يغرق
والموت هو الربّان»
الضِباع بألوانها الغبراء والمرقطة
ظهرت في الشوارع
تتحرك في جماعات ،
بجذوعها المشوّهة ورائحتها الكريهة
وتهاجم كل من تصادفه
……….
قائد الجيش ألقى سلاحه
وتبعه الجنود بحركة آلية
فبدت وكأنها عرض عسكري
ثم انضموا للعاطلين الذين تجمعوا
، بحكم العادة ، في الساحات
منتظرين النهاية
المطرب العاطفي كسر عودَه ..
« كيف احتملتموني طوال هذه السنوات
نقيق الضفادع أعذب من غنائي
وموالٌ واحد لبائع البطاطا
يساوي تاريخي الفني»
ورجال الدين انخرطوا في بكاء حار ..
« قتلْنا في قلوبنا
وزنيْنا في قلوبنا
وكذبْنا في قلوبنا
وسرقْنا أموال الصدقات والعشور
في قلوبنا
كنا نحسد العصاة على جرائمهم
وتمنيْنا أن نلحق بهم
كانت ألسنتنا تتحرك بما تحفظ
وفي أذهاننا شارون ستون
وهي تتعرى قطعةً قطعةً
………..
التجار هجروا دكاكينهم وشركاتهم
وألقوا بحساباتهم في الشوارع..
« شبعنا من دماء الفقراء
ما فائدة الأرصدة
ماذا تفعل الأرقام إذا
لم تستطع دفع الموت
ترابٌ كلّ ما جمعنا
وإلى تراب»
المتسولون والعجزة
والعاطلون واليائسون
خرجوا بصدور مرفوعة
وجباه عالية
اتسعت ابتساماتهم
وكأنهم ينتقمون..
«هذه لحظتنا
خسارتنا الدائمة انقلبت نصراً
عوزنا تحول غنىً
خلاصنا الذي نرجوه تحقق بقوة
دفعنا للمقدمة
نتمنى أن تفكروا قليلا وسط انهياركم
في مدى صلابتنا»
وحدهم الأطفال تساءلوا:
كيف تموت المدينة قبل أن نعيش
وخرجوا يبحثون عن الموت
ليطرحوا عليه الأسئلة
………….
الشمس غربت سريعاً
والليل جاء مع الرعد والمطر
مطر أفريقي كأنه ضربات
كأنه رسول الطوفان
كأنه لحن النهاية
الأيدي تشابكت حول النار
والعيون ُ أغمضتْ في انتظار الموت
وعندما تأخر، تمنتْ أن يأتي على أية صورة ،
قوياً
ساحقاً
سريعاً
متى تنشق الأرض
متى تندفع المياه وتجرف البيوت
متى تدخل الوحوش
من النوافذ
متى تعصف الريح العاتية
متى..
…………….
في الصباح
كانت الشمس في موعدها
والأشجار تهتز مع النسيم
كأنها تحتفل
ورائحة الخصوبة تغمر الأرض ،
المدينة عادت من الموت
بدون الملك
أو رئيس الشرطة
أو قائد الجيش
أو رجال الدين
أو التجار الجشعين
أو المطرب العاطفي
المدينة عادت من الموت
فتيّةً
شامخةً
ممتلئة بالرغبة
وأسلمت قيادها للأطفال..
كريم عبد السلام
شاعر من مصر