حصل فيلم «انفصال نادر عن سيمين» الايراني للمخرج أصغر فرهادي على جائزة الاوسكار لأفضل فيلم أجنبي في حفل توزيع جوائز الاكاديمية الامريكية للعلوم والفنون السينمائية الرابع والثمانين الذي أقيم في لوس انجلوس في نهاية شهر فبراير 2012، كأفضل فيلم غير ناطق بالانجليزية وهذه المرة الأولى التي يحصل فيلم ايراني فيها على جائزة الاوسكار..
كذلك حصل الفيلم على جائزة «الدب الذهبي» في مهرجان برلين السينمائي، وفاز بجائزة «الجولدن جلوب» كأفضل فيلم (لغة أجنبية 2012)، وعدد من الجوائز في مهرجانات دولية أخرى.
مدخل أولي :
تحتل مواضيع السرود السينمائية طبيعة غير تقليدية في اتصالها الجمالي بالأشياء بحيث تأخذ الحركة شكل النمط أو الحيز علامة دالة على التكوين الأدائي للصورة، هذا التكوين يغادر الكثير من المفردات التي قد لا تناسبه في خلق علاقات طبيعية، وهذا ما نكتشفه عند الكثير من الأفلام التي تشكل محورها الرواية إنها لا تعتني كثيرا بالتفاصيل والتوصيفات مثل النص الذي يعتمد على لغة داعمة لتشكيل أبعاد الصورة الذهنية ومتمثلاتها في الواقع، وهو ما يمكن احالته إلى عملية الرصد داخل النص عند السينمائي، أي تحويل قراءة النص إلى مادة أخرى داخل الشريط، نوع من التجلي الافتراضي الذي يطمح أن يماثل جوهر النص وصولا لتحقيق غاية ذات قوة تأثير بصري يضاهي الواقع ولا يعكسه (المقصود هنا واقع النص الورقي) .
هذا التوجه أوجد أو فتح أفقا في طريقة التعبير عن الحكاية على الرغم من شرطية الحاجة المتبادلة بين الرواية والسينما إلى حدث، حيث كلا الفنين هما ينتميان إلى فعل زمني، الفعل الذي يلبي حاجة النص هو ذاته الذي تعنيه السينما وهما في ذلك معنيان بالعلاقة الزمنية ومدى تفاعلها وتأثيرها ولكن الأهم هو كيف يمكن استثمار هذا الفضاء في أبعاده الفكرية والفلسفية والاجتماعية .
ان عملية الارتباط بفكرة النص أو ما يسميه ألآن غرييه بنص الشاشة هي قائمة على مبدأين أحدهما يقوم على تذويب النص داخل الشريط إلى درجة يفقد معها خواصه القرائية التي اهتمت بالتلقي وليس المشاهدة وهذا النموذج اعتمد بشكل كبير على يد الموجة الجديد التي شكل قطبها بعض الروائيين المخرجين مثل كلود سيمون وجان جينيه وألان روب غرييه وغيرهم وكذلك تبنت السينما العربية هذا الاتجاه ومن رواده يوسف شاهين ومحمد راضي وجلال الشرقاوي ومن ثم نادر جلال/ كمال الشيخ/ خيري بشارة/ توفيق صالح/ محمد شاهين وحسين كمال وآخرين والشأن الثاني هو استثمار الحكاية بعد تقشيرها عن طبقاتها والوصول بها إلى المعنى الذي يلبي حاجة الشريط وهو ما يسمى بسينما المؤلف، أي المخرج يحاول تشذيب فكرة الحكاية وتجسيد أبعادها في الذهن وملاحقة تكويناتها التي يمكن أن تخلق منها عالما خاصا بها عبر رؤيا لا دخل للنص بهذا التشاكل الفني، وهو نمط أو أسلوب قريب من تصنيفات قديمة أثارتها الكاتبة المعروفة فورجينا وولف عند ما قالت في كتابها المعروف السينما والأدب، على السينمائيين أن يتجنبوا ما نحصل عليه بالكلمات، هذه السينما استطاعت أن تنتج العديد من الأفلام ذات أفكار هادفة ومتميزة وأن كانت بحدود الفلم القصير الذي لا يتجاوز في أفضل حالاته ستون دقيقة وهذا يعني قد تساهم مثل هذه الأفلام بالحراك السينمائي أمام تكاليف الفيلم الروائي الطويل باهظ الثمن وهذا ما وضع قدرات المخرج التأليفية والإخراجية معا أمام تفاعل حقيقي في البناء والحدث والقضية التي تشكل محور أساسي في المساهمة على مستوى المهرجانات الدولية أو العالمية التي ماعادت أن تثيرها المغريات الروائية التي كانت إلى حد ما شهية مفتوحة للتجارب السينمائية المتعددة في أساليبها وطرحها، ومع ذلك تبقى التقنيات في السينما أو الرواية أو ما يسميها الكاتب الجزائري المعروف الطاهر وطار بالسينو رواية، تشكل التداخل العضوي في المكون الفني / الأدبي الذي سيبقى مصدرا من مصادر الجذب والتشويق بين الطرفين، ومهما تعددت أساليب التعبير السينمائي يمكن أن تخلق جوا من حالة تنافس جوهري في صناعة الإبداع على مستوى القراءة / المشاهدة .
اذن سينما المؤلف شغلت ذهنية السينمائي في تحرير النص من زمنه القرائي أي أنه نص شاشة بامتياز له زمنه الخاص وحكايته وشخوصه ولا يهتم بالنص الحرفي أطلاقا لأنه يعتقد أن أدواته مهيأة لتأثيث أغراض الصورة في التعبير من دون الحاجة إلى طريقة الأفلام الروائية التي لا تسمح حتى بتغير ثريا النص كشرط أساسي لعملية انتاج الفلم على اعتبار انه يشكل جزء من ملكية التأليف التي لا تقبل التفاوض .
وإذا أردنا أن نجمل القول في هذا الموضوع نستطيع أن نؤكد من خلال المشاهدة لأفلام الحقبة التسعينية من القرن المنصرم والمفارقة التي يمكن أن تذكر هنا أن المدرسة الواقعية الأيطالية الجديدة التي خرجت على يد العملاقين أنطونيوني وفلليني أو الموجة الجديدة التي تبنت أفكارها جماعة آلان روب غرييه قد تميزت بهما دول أفريقية وآسيوية ومعها أمريكا اللاتينية بحيث كانت أكثر تأثيرا وانتشارا من نظيراتها في الدول الأخرى ربما تكون استثناءات بسيطة تحدث هنا أوهناك ولكنها لا تشكل كموجة مثيرة للجدل كالتي أحدثتها المناطق الثلاث آنفة الذكر ويمكن للباحث السينمائي أن يجد ذلك واضحا من خلال حصدها للجوائز في المهرجانات المختلفة ونذكر هنا بعضا من تلك الأفلام التي تميزت بها أنجولا وغينيا بيساو وموزنبيق ونيجيريا ومصر وتونس والمغرب على صعيد المهرجانات الدولية فكان الأبرز كما يقول الناقد السينمائي الأفريقي – فرانك يوكاديو – هو فيلم – هاوية الحب – لعبدالرحمن سيساغو و- ساراؤنا – للمخرج ميدهو ندو و- فتاة سوداء – للمخرج عثمان سيمين وغيرها من الأفلام التي كانت ومازالت تعتمد على التراث الشفاهي (الجيرو) في صنع الحكاية الفيلمية بالإضافة لتقنية استخدام الصور المتحركة كعامل مساعد لبيان لغة سينما توغرافية لغة مبدعة وسهلة . وفي نفس الاتجاه يذكر الناقد علي أبو شاور أن الفيلم الأفريقي أذا أردنا أن نتحدث عنه فهو مطلوب عالميا لأنه ببساطة تتناول أفلامه استعادة هويته المفقودة التي تناقض الصورة القاتمة التي طرحتها هوليود على الرغم من استخدامها للموروثات المحلية ألا أنها كانت حاضرة بتوهجها الإنساني نحو الحرية والانعتاق من رقبة الاستعمار المقيت، وهذا ما ينطبق على أفلام أمريكا اللاتينية التي زاولت نفس اللعبة الأفريقية ولكن بسحر الواقع الذي تجلت فيه روح الدهشة والغرابة في تناولها للموروث الشعبي ليشكل السحر مادة في صناعة الدراما الفيلمية ولكنها بطريقة التغريب أي الخروج عن المألوف ولكنه مؤثر في فعل الشيء بينما السينما العربية بقيت إلى حد ما صراعها قائم بين النص / الفيلم على الرغم من محاولات راقية شاهدناها للبعض نذكر منهم الراحل المبدع رضوان الكاشف في فيلم عرق البلح وأسامة فوزي في فيلم شارع الإسفلت وسعيد حامد في فيلم الحب في ثلاجة والتونسية فريدة التلالي في صمت القصور والمغربي محمد الركاب في فيلم حلاق درب الفقراء وقاسم حول في فيلم المغني وغيرهم كثير ولكن يبقى على رأس هذه القائمة الفنان الراحل يوسف شاهين وخصوصا في أفلامه الأخيرة المصير الذي تناول فيه قضية أزمة أبن الرشد الفكرية والمهاجر الذي منعته الرقابة في مصر لحساسية موضوعة الطرح الذي قد يلامس شغاف قلب المواطن المصري ومع جدارة الأفكار الساخنة كانت رؤاه السينمائية تخلق تقنية موازية للحدث مما تشكل تأثيرا ووقعا وصدى في المهرجانات السينمائية .
ما نريد أن نقوله باختصار أن سينما المؤلف ليس قائمة على تحجيم دور النص الروائي أو تقويض علاقته إزاء التبادل والتحويل وإنما قائمة على تجسيد أبعاد الخيارات الفيلمية في إطار الممكنات السينمائية التي تسعى وسائطها أن تأخذ دورا رؤيويا لا تفسيريا لطبيعة النص معتقدة أن لغتها في فضاء المتخيل يحقق اشارته في اعادة انتاج المبنى الحكائي وفق الفروض التي تمنحها المعطيات والاحداثيات البصرية التي تتحرك بروح السرد داخل الشريط .
اذن انها نوع أو أسلوب يهتم بتحول وتركيب جديد يقوم على مبدأ الحكاية الانشطارية، بحيث تكون الصورة موحية مستغرقة في فلسفة ذاتها حتى وان كانت تبدو الحكاية عادية، أي أنها تعتمد على حركة الصورة في أدائها وآليتها وهذا اللون من السرد لاحظناه مكثف ومختزل في السينما الإيرانية وخصوصا في فيلم البقرة للمخرج داريوش مهرجوئى صوره في احدى قرى إيران لكنها تظهر وكأنها واحدة من القرى المعزولة عن العالم، هذا الفيلم رغم منع عرضه في بلاده ألا أنه أستطاع أن ينال احدى جوائز مهرجان البندقية 1971 وتبعه بنفس التكنبك مخرجون مهمون مثل محسن مخملباف وابراهيم حاتم كبا وجعفر بناهي الحائز على جاثزة مهرجان لوكارمو النمر الذهبي وأبو الفضل خليلي فاز بجائزة أفضل فيلم للقارات الثلاث عن فيلمه «قصة واقعية» وجائزة فرانسو ترفو للمخرج عباس ركيارستمي عن فيلمه البالون الأبيض وفيلم – الفتاة الرية – للمخرج مجيد مجيدي الذي استثمر فيها حكاية شفاهية تتعلق بجعفر وجلنار، عشيقان لا تمنعهما العادات والتقاليد من أن تقف أمام تطلعاتهما نحو الحرية المسلوبة حصل هذا الفيلم على جائزة الأوسكار عام 1998 وهنا حري بنا أن نتساءل عن ما أراد أن يضيفه المخرج الإيراني الشاب أصغر فرهادي للتجارب السابقة في فيلمه «انفصال» الحائز على الأوسكار 2012من قيمّ سواء كانت اجتماعية أو تقنية / فنية .
فيلم «انفصال»
الفكرة والموضوع :
الفكرة في غاية البساطة أب نادر مصاب بالزهايمر ونادر(بيمان معادي) حريص على متابعة تطورات مرضه، زوجته سيمين (ليلى حاتمي) تأتيها فرصة عمل في الخارج تقف القوانين حدا فاصلا بينها وبين السفر أن لم يكن الزوج بمعيتها، هذا الاختلاف أخذ يتنامى بين الزوجين ويتفاقم مما أضطر إلى تشغيل خادمة/ رازيه (ساره بيات) لرعاية أبيه المريض وفي أحد الأيام وبينما هي ذهبت لاجراء الفحوصات الدورية على الجنين يتعرض الأب إلى نوبة غير طبيعية كاد فيها أن يفقد حياته لو لم يكن حضور نادر المفاجئ سببا لإنقاذ الموقف، وهنا يشتط غضبا على الخادمة ويطردها من البيت، هذه المرأة لم تكن وسيلة أمامها سوى اللجوء إلى القانون مضطرة، أي بتحريض من زوجها العاطل عن العمل .
الموضوع باختصار هناك عدة مواجهات يتعرض لها نادر منها القانون وفق أنظمته الفقهية والتشريعية، طبيعة الزوجة الطموحة والمنفعلة مما هي عليه من وضع تقليدي خال من الحياة، الأب المعطوب برمزه الإنساني والدلالي، الخادمة تلك الفتاة المسحوقة التي تكون ضحية الغفلة تارة وأخرى تحت سياط الزوج الذي لا يملك شيئا لسداد ديونه غير تفريغ هستيريته بوجهها بشكل عبثي وجنوني وكل ذلك لم يثن الزوجة (سيمين) على الرغم من تدخلها من أجل تسوية الأمر مع زوج الخادمة إلى طلب الطلاق، أي أن الظرف بمعناه الرمزي غير قابل للتفاوض من دون دخول إصلاحات جوهرية كبرى على المنظومة الاجتماعية بكل مفاصلها المتنوعة .
المعالجة الفنية : الفيلم شأنه شأن أغلب الأفلام الإيرانية الأخرى أو بالقليل طريقة تنفيذ أفلامه السابقة استخدم أسلوب الكاميرا المحمولة لتشكل له مرونة في الحركة كما رأينا له ذلك في الرقص في الغبار 2003 والأربعاء الأخير 2006 وتقريبا هو الأسلوب المشاع عند أغلب المخرجين الإيرانيين كذلك أسلوب اللقطات فانه يستخدم نسبة عالية منها في إيماءة الصورة أي أنه يكثف الزمن المراد في أجزاء الثانية كما لاحظنا في توظيف مشهد القاضي صوت وتعابير زوم لوجهي نادر وسيمين، حالة انفعال زوج الخادمة، رفض سيمين المدهش، اصرار نادر على عدم التفريط بمبدئه الرافض لترك أبيه وأعتقد في هذه اللقطة كان أكثر حلما في وصف الحالات الحميمة التي يفتقر لها الغرب المادي في علاقاتهم الأسرية، وجه طفلتهما (سارينا) المحير، استجارة الخادمة المتكررة أما اللقطات العريضة تجنبها أو كان مقتصرا في توزيعها على بعض الحالات مثل خروج الأب إلى الشارع لجلب صحيفته المفضلة، الصالة العريضة للمحكمة، بعض الأماكن التي يتردد عليها زوج الخادمة، مشهد تعرض الخادمة للسقوط التي أدعت أنه سبب لها الإجهاض، لحظة الفزع لنادر وسيمين التي تكشفها لقطة تشويه النافذة الأمامية لسيارته ، أن المخرج كان لماحاً في تأثيث اللقطة، أي أنه كان يسير في اتجاهين الاتجاه الأول يأخذ من القصة عنوانا للحكاية التي يمكن أن تحدث في أي مجتمع فيه المتناقضات قائمة ومتفاعلة مثل الحرية والكذب الفقر والطموح الأيديولوجي التقليد والحضارة والاتجاه الأخر ينظر إلى لغة الكاميرا ومدى تأثيرها أو كيفية سبر أغوار بواطن الشخصية والارتقاء بها إلى مستوى الكلام غير الموجود أو المباح في الحوار، أي أنه يحاول أن يقول عبر الصورة قصة أخرى مطمورة في لب الحكاية الأصل وهذا باعتقادي من يرتقي بالفن إلى اللغة المتخفية وليس الظاهرة التي يمكن الحصول عليها بسهولة وهذا يعد أهم عامل يمكن أن تستند عليه اللجان التحكيمية في ترشيح أفلامها المنتقاة بعناية .
بالإضافة إلى ذلك استعاض الفيلم عن التكلف في الديكور والموسيقى بمغازلة الأشياء المألوفة البسيطة بعناية مركزة، أي بإمكانها أن تخاطب الأذواق عبر رسائل متنافذه تحمل المضمون ومحتواه إلى وجهات عديدة مفتوحة على أفق السؤال المرتبط بمحيط الواقع ومع ذلك لا يمكن أن نغفل أو نعفي الشريط من بعض المشاهد التي لا تخلو من المبالغة والحشو التي تكررت في كليشهات الدموع والرثاء والحزن .
عباس خلف علي
قاص وناقد سينمائي من العراق