ولد سبستيان هاينه في1985 في مدينة ايزنخ/ تورينغن. درس في جامعة بون، قسم اللغات الهندو ـ الجرمانية، كتب رسالة الماجستير تحت عنوان «دراسة الأفعال في اللغة البشتونية» سنة 2007 وفي سنوات 2007 إلي 2010 دافع عن رسالة الدكتوراه، التي كانت «حول تاريخ اللغة البشتونية» وحاز لقب دكتور فلسفة في العلوم اللغوية.. يعمل الدكتور سبستيان هاينه حاليا باحثا في جامعة بون. شارك في الكثير من المؤتمرات العلمية في ألمانيا وخارجها. سبستيان هاينه مختص كبير باللغات الهندو ـ الجرمانية، عندما يعجزالمختصون الإيرانيستيون عن معرفة لهجة من لهجات اللغات الهندو ـ الإيرانية فإنهم يستشيرون س. هاينه عن نشأة تلك اللهجة.
عندما كنت في الثاني والعشرين من العمر كنت تعرف خمسا وثلاثين لغة والآن بعــد خمس سنوات، ماهي اللغات الجديدة التي أتقنتها؟
قبل الإجابة علي السؤال لابد أن أحدد مفردة «الإتقان» لأنه أخذ بعدا أعمق حسب اعتقادي. يجب النظر إلي الحالة التي يعبر فيها المرء بلغة ما عن حاجاته اليومية أولا والتعمق في دراسة لغة ما ثانيا. ففي الحالة الثانية إذا أردنا دراسة المتنبي أو أبو نواس مثلا فإننا ربما نحتاج إلي سنوات العمر كله لمعرفة أسرار اللغة العربية إلي حد ما .بالعودة إلي السؤال المطروح أستطيع القول أنه في سنة 2007 عندما انتهيت من كتابة رسالة الماجستير كان لابد من التعمق في دراسة اللغات الإيرانية الجديدة التي يتكلم بها الناس في أفغانستان وإيران وتركيا وكذلك في القوقاز من أجل أطروحة الدكتوراة «عن تاريخ النحو في اللغة البشتونية.» دافعت عنها عام 2010.
عن اللغات الجديدة التي تعلمتها وأتعلمها يتمحور نشاطي الآن حول عائلة اللغات التركية. أثناء عملي في الماجستير بدأت بدراسة الأوزبكية وذلك من خلال مشروع علمي للبحث في اللهجة الأوزبكية في أفغانستان. إن خصوصية الأوزبكية في المحافظات الشمالية في أفغانستان تستدعي القول أنها مرتبطة أكثر باللغات التركية الموجودة في غرب تركمانستان وكذلك باللغات الشمالية الغربية التركية، مثل: القيبشاكية والكازاخية والقيرغيزية ونتيجة للبحث توصلت إلي استنتاج مفادها أن هذا الاختلاط اللهجوي مع بعضها له تأثير سحري أخاذ.
كل هذا أوصلني خلال السنوات الخمس الماضية إلي دراسة اللغات التركية الكبري: التركية والأذرية والتركمانية والإيغورية والكازاخية والقيرغيزية والتترية. ازدادت معلوماتي تعمقا خاصة في مجال اللغات الجنوبية الغربية من العائلة التركية، في التركية والأذرية والتركمانية لأنني أهتم بالأدب الكلاسيكي في العهد العثماني وخاصة بدواوين نديم وأشكي وبكر ونافع.
إلي جانب هذه اللغات المذكورة أعلاه أميل بشغف إلي دراسة اللغات الهندو-الجرمانية والأوتوختونية في القوقاز. لكل باحث لغوي تعتبر هذه المنطقة ذات أهمية خاصة؛ حيث قال المؤرخ الروماني بلينيوس في عهده إن القوقاز «جبل اللغات» ويستطرد بلينيوس قائلا في حينه أن أي تاجركي يكون موفقا في أعماله التجارية يحتاج إلي مئة وعشرين مترجما. أستطيع أن أسمي اللغات التي أدرسها هنا هي: اللغات الهندو-الجرمانية، الأرمنية والأسيتنية واللغات الأوتوختونية، الشيشانية واللازية والجورجية.
لا أجد صعوبة هنا في ألمانيا من الاختلاط بمتكلمي بعض اللغات وخاصة التركية حيث يعيش أربعة ملايين شخص ولكن نسبة الشيشانيين والأسيتنيين ضئيلة وهذا يدعوني إلي السفر إلي أماكن وجودهم، ولهذا الغرض سافرت مرارا إلي اسطنبول والتقيت المهاجرين القفقاز في المعسكرات المختلفة لكي أستمع إليهم كيف ينطقون بلغاتهم، وهذه حسب رأيي أفضل طريقة لتعلم لغة ما.
هناك عائلة أخري تثير اهتمامي بشكل خاص هي مجموعة اللغات آسيا الجنوبية وأقصد اللغات المالاوية والإندونيسية والتاغالوغية والڤيساياوية (لغتان في الفليبين). إن الثراء المفرداتي لتلك اللغات يدعوني إلي التعجب من ذلك التنوع الجمالي الرائع في تاريخ تلك المنطقة. تجد في تلك اللغات مفردات سنسكريتية جاءت تحت تأثير اللغة الهندوسية وكلمات عربية وفارسية دخلت مع الدين الإسلامي وكذلك مفردات اسبانية وهولندية جاءت مع العهد الاستعماري. مع عدم النسيان كفاحي المستمر مع اللغة العربية، الفريدة والغنية (مع الأدب الجاهلي والقرآن وصحيح البخاري والمتنبي).
وأنت تلميذ في المدرسة، أي في الســـن الخامسة عشـــرة برهنت علي أن لغـة الشاعــر الإغريقي هوميروس قريبة من اللغة السنسكريتية، كيف توصلت إلي ذلك؟
كان لدي والدي المؤرخ (رحمه الله) مكتبـة كبيرة وفيها قسم خاص عن اللغات الهندو-الجرمانية. وجهني والدي منذ الصغر إلي الاهتمام ليس بالتاريخ الغربي وثقافته (الموسيقى والفن والأدب) فحسب، بل كانت رغبته الأكثر أن أتوجه إلي دراسة اللغات. لكي أفهم التاريخ بشكل جيد- كما قال والدي- يجب علي المرء أن يرجع إلي المصادر الأصلية، ولتحقيق ذلك يتطلب معرفة فيلولوجية وقراءة المصادر بلغاتها الأصلية. هكذا بدأت بدراسة اللغة اللاتينية وبعدها اليونانية القديمة، ومن ثم التعرف علي المبادئ الأساسية للهندو- الجرمانية. إن المعرفة الفونولوجية والمورفولوجية للغات والمقارنة بين المبادئ الأساسية في اللغتين اللاتينية واليونانية القديمة جعلتني أستنتج أنهما من الناحية الوراثية قريبتان من بعضهما، وهذا ما لاحظته في ملحمة «الإلياذة» الشهيرة لهوميروس، الملحمة الأولي المدونة في القرن الثامن ق.م. في تاريخ الآداب الأوروبية. في ذلك الوقت أيضا نصحني والدي أن أدرس اللغة السنسكريتية. إنه اشتري لي كتاب القواعد للسنسكريتية من العالم الألماني ستنزلر، المتخصص في اللغات الهندية. بدأت بدراسة السنسكريتية في السن الخامسة عشرة وكانت نتيجتها استمراري في جامعة بون في دراسة اللغات الهندو- الجرمانية وذلك بالمقارنة مع اللغات الهندو- الإيرانية إلي أن توصلت إلي تعلم اللغات البشتونية والفارسية والكردية والبلوجية.
إن دراسة اللغات الهندو الجرمانية أتاحت لي فرصة التعرف علي اللغة البلوجية وكذلك إلي معرفة بدايات اللغة الأفستية (حوالي 1500 سنة ق.م). أما بالنسبة للغة الشعبين البلوجي والبشتوني اللذين لم نحصل علي نصوص قديمة لهما فيمكن للباحث أن يعيد البناء اللغوي لهما عن طريق علم البلنتولوجي وذلك بدراسة الحقب التاريخية الماضية وأماكن استيطانهما وهجراتهما ومن ثم التوصل إلي استنتاجات بهذا الخصوص. في حالة اللغة البلوجية يمكن القول أنها تتطابق مع اللغة الكردية وكذلك مع لغات الشعوب المستوطنة قديما علي ضفاف بحر القزوين وهجرة الكرد والبلوج معا الى الشمال والتي نسميها اليوم بشمال غرب إيران وكذلك قدومهما إلي ما يعرف حاليا بجنوب إيران وأفغانستان.إن الهجرات المتأخرة وفيما يخص عُمان في مرحلة تاريخية محددة وهي عن طريق جزيرة كوادر (جواذر) (تابعة في الوقت الحاضر لباكستان) تم استيطان البلوج علي الأرض العُمانية.
في حفلة عيد ميلاد الدكتورة كيارا، الباحثة في اللغات الشرقية وفي الديانات الشرقية القديمة كانت أمنيتك لها أن تتعلم مائة لغة أخري، فماذا تتمني أنت لنفسك في عيد ميلادك القريب؟
الدكتورة كييارا ريمينوجي هاينه زوجتي. هي أيضا مثلي مختصة في اللغات والديانات في الشرق ولكن مجالها العلمي يتمحور حول الديانات ما قبل الإسلام في إيران واللغات الإيرانية والتركية. من بين المائة لغة التي أتمني لها أن تتعلمها يأتي في المقام الأول اللغة العربية. زوجتي وأنا نهتم بانجاز مشروعنا في سلطنة عمان وهو دراسة لغة كومزاري مسندم والخصب. من أجل العمل هناك نحتاج بالطبع إلي معرفة اللغة العربية. يرتكز عملنا في ذلك المشروع علي لغة فريدة تقف علي مسافة واحدة بين العربية والفارسية. سنتطرق إليها لاحقا. بالنسبة لي ولزوجتي نأمل أن نصل في نهاية بحثنا إلي معرفة أسرار منشأ اللغة الكومزارية. فضلا عن ذلك أريد أن أدرس اللغات واللهجات الأخري في عُمان، مثل البلوجية العمانية والعربية الجنوبية ولهجات البلد، لأنه من الناحية العلمية مازالت تلك اللغات واللهجات «أرضا بكرا» تتنتظــر «مكتشفها».
حسب رأيي أنك الشخص الوحيد من بين أكثر من سبعة مليارات من البشر علي وجه الأرض الذي تتقن هذا العدد الهائل من اللغات إلي الآن، لماذا كل هذا الولع باللغات؟
قدم التاريخ العديد من النوابغ من عارفي اللغات «بوليكلوت» ومن أشهر هؤلاء الكاردينال الإيطالي جوزيبي ميزوفانتي (1774- 1849) الذي كان يتكلم بطلاقة بثمان وثلاثين لغة. الشيء المدهش عند ميزوفانتي أنه لم يغادر إيطاليا مطلقا بل عاش في مدينته بولونيا ومن ثم في روما. وعن طريقة تعلمه للغات بنفسه توجد أساطير مختلفة: تقول إحدي الأساطير أنه عندما كان يأتيه المؤمنون للإعتراف أمامه بذنوبهم تعلم أكثرية اللغات.
النابغة اللغوي الآخر هو الألماني أميل كربس (1867ـ1930) الذي كان يعمل كمختص للغة الصينية في وزارة الخارجية الألمانية، فقد كان يتقن ستا وثمانين لغة. معرفته العميقة بالصينية جعلته في إحدي زياراته إلي الصين أن يصحح الأخطاء النحوية التي ارتكبها كاتب الحكومة الصينية.
عندما نسأل أنفسنا الآن كيف استطاع هؤلاء الرجال أن يستوعبوا هذا الكم الهائل من المبادئ النحوية والمفردات والأصوات اللغوية في عقولهم، نجيب علي ذلك بقولنا أنه توجد طريقة سحرية لذلك ألا وهي: المثابرة- وأنا أستعملها أيضاـ
عندما واجه أ. كربس مرة لغة غير معلومة وقيل له أنها اللغة الأرمنية، حجز لنفسه مباشرة كتابا عن القواعد الأرمنية وكذلك قاموسا وبعض الكتب الأخري بالأرمنية وبدأ بالتعلم. خلال أسبوعين كاملين مكث في غرفته مرتديا بيجامته الليلية وعند نافذة قليلة الضوء حفظ قواعد الأرمنية وكان يتلو النصوص بصوت مسموع.
الضابط البريطاني ريتشارد فرانكيس بورتون (1821-1890) اكتشف هوايته في تعلم اللغات عندما كان في الخدمة في الهند. إلي جانب اللغة الهندية تعلم السنسكريتية والأوردو والكورارتي والماراتي والكونكاني والسندية وبعض اللغات الإيرانية مثل البشتونية والفارسية، بالإضافة إلي العربية وبعض اللغات الإفريقية. كان بورتون يعرف أكثر من ثلاثين لغة. سافر بورتون كأول أوروبي إلي مكة (لبس زيا فارسيا) وترجم «ألف ليلة وليلة» إلي الإنجليزية. بورتون يصف بالشكل التالي طريقة تعلمه للغات: يتعلم بورتون القواعد وأشكال لغة ما، بعدها يحفظ المفردات الضرورية للمحادثة (تقريبا 500 مفردة)، ثم يقرأ النصوص البسيطة ويتعلم المفردات والعبارات المستعملة يوميا. إنه استمر علي هذه الشاكلة متكلما ومتحدثا إلي أن يصل إلي قناعة بأنه يتقن اللغة بشكل جميل.
باختصار أستطيع القول أنني أعمل ما يشبه بروتون . إن معرفة مبادئ النحو وأسس تكوين التراكيب اللغوية شرط جوهري لفهم لغة ما.إن تعلم المفردات واستعمالها باتقان لهو وسيلة جوهرية في معرفة اللغات، وبعدها يأتي بالنسبة لي الاستعمال الحيوي للغة ما. يستطيع المرء أن يعرف النحو بشكل ممتاز ويقرأ النصوص جيدا ولكن المحادثة بلغة ما لها أهمية قصوي وذلك ـ حسب رأيي ـ للتعرف علي مدي استيعاب المحادث لجمالية تلك اللغة.
شبه أحـد الشعراء عدد اللغات التي يتقنها المرء بعدد الحبيبات، العاشقات، إذا كنت متفقا مع هذا الرأي، كيف تحافظ علي حبهن دون أن تشعر إحداهن بالغيرة؟
كتب صديق أفغاني مرة قصيدة بمناسبة زيارتي لكابول، قال فيها ان اللغات تشبه الراقصات اللواتي تغرينني بحركاتهن. فعلا أنا مسحور باللغات وجمالهن. نعم تيقنت من خلال التجربة عندما أتكلم بلغات عدة أو ببعضهن أشعر بأنني أخلط بينها، أي اللغات الحبيبات تغار مني أحيانا. عندما أتكلم بالفارسية مثلا وأتحدث بالبلوجية أخلط بين المفردات، وكذلك باللغات التركية. السبب هنا هو القرابة الوراثية والتشابه في بعض الأحيان. عندما تكون اللغات من عائلات متباعدة، مثل العربية والأندونيسية لا أشعر بصعوبة عندما أتحدث بالاثنتين معا. حادثة طريفة جرت معي في مطار المنامة في البحرين، عندما حجز المسؤولون البحرينيون المسافرون الأفغان الذين كانوا معي لمدة سبع ساعات، كنت أترجم من وإلي اللغات البشتونية والفارسية والعربية وكنت ألاحظ أحيانا تبادل المفردات في اللغتين الأوليين.
لنتعرف علي حبيباتك اللغوية
علم اللغة في رأيي رنين شعري معبر عن الحب، وهو أرخيولوجيا الروح في مؤلفات الشعوب القديمة والحديثة. إن معرفة اللغات تتيح لنا الدخول إلي النفوس وقراءة أفكار الشعوب المختلفة، وبواسطتها نتعرف علي الشعوب نفسها. عندما يصل علم اللغة إلي هذا الاستنتاج الذي هو بدوره تأمل فلسفي، وهذا النظام الفلسفي حسب رأي مفكر غربي ـ «شاق ومرهق». نعــم، «صعب بلوغ القمم في العلم» إذن يجب أن تكون مستعدا لكل الاحتمالات وأن تضحي إن تطلب ذلك. لنعد إلي سؤالك ونتعرف علي «الحبيبات اللغوية» أو اللغات التي أعرفها:
اللغات الآرية أو اللغات الهندو ـ ايرانية:. البشتونية والفارسية والكردية والبلوجية والأسيتينية (اللغات الموجودة في أماكن متفرقة في أفغانستان هي: الأورمورية والباراجية والسنكيجية والإشكاشية والهيدرية)، والسنسكريتية والهندية والأوردية والبينجابية والسندية والغوجهرية والبنغالية والنورستانية والباشايية والماراتية والرومانية (لغة النور) والأرمنية.
اللغات التركية: الاسطنبولية والأذرية والتركمانية والأوزبكية والأويغورية والتترية والكازاخية والقيرغيزية والقشقانية.
اللغات القوقازية: الجورجية واللازية والشيشانية.
اللغات السامية: العربية والسريانية والعبرية والحبشية.
اللغات الدراڤيدية: البراهاڤية (قوم من أقوام البلوج يعيش في منطقة صحراوية بين حدود أفغانستان، باكستان وإيران).
اللغات الإفريقية: السواحلية والصومالية.
اللغات المالاوية: الإندونيسية والمالاوية والتغالوغية (اللغة الرسمية في الفليبين).
اللغات الشرقية القديمة: الأڤستيية والفارسية القديمة والبارثية والبهلوية والبكترية والسغودية والساكية والبالية والعبرية القديمة والبابلية (الأكادية) والسومرية والحيثيية.
اللغات الأوروبية القديمة: اليونانية القديمة واللاتينية والغوتية والإرلندية القديمة والكيمرية.
اللغات الأوروبية الحديثة: الإيطالية والفرنسية والإنجليزية والألبانية والليتوانية.
(ملاحظة من ح.ح. بعد أن كتبنا بتاريخ 4/4/2012م أسماء هذه اللغات وأحصيناها عرف الزميل سبستيان أنه يعرف كل هذه اللغات، بعد أشهر ستضاف بالتأكيد أسماء أخري إلي القائمة)
لكل لغــة أســـرارها، ماهي اللغات التي تمكنت من النفاذ إلي أسرارها؟
أسرار اللغات شبيهة بأسرار النساء، إنها عميقة الغور وغامضة، وهذا هو الطموح السحري للوصول إلي الغاية المنشودة. يستطيع المرء أن يبحث عن أسرار لغة ما ولكن اكتشاف كل الأسرار يبقي مستحيلا. في رسالتي الدكتوراة والتي بحثت فيها اللغة البشتونية، اللغة الأفغانية استطعت الوصول إلي اكتشاف مرحلة نشوء اللغة البشتونية، أي قبل حوالي ثلاثة آلاف سنة .
إن اللغة الأعمق التي لا يمكن سبر اغوارها كما يبدو لي هي العربية. قال لي صديق جزائري الذي كان كومندانتا في كابيلاري، مكافحا في حرب التحرير ضد الفرنسيين ووزيرا للمالية في حكومة جزائرية ذات مرة أنه بعد خمسين سنة من العمل المتواصل استطاع إلي حد ما الوصول إلي القمم اللغوية المأمولة.
لنعرج علي هذا المصطلح المتداول «علم الإستشراق» ينظـر إليه من قبل البعض بنظرة مريبة، أي أن وراء الأكمــة ما وراءها والبعض يقيمه علي أنه إنجاز علمي كبير ساهم ويساهم في تطور ثقافات الشعوب إلي أي رأي تميل ولماذا؟
الشرق هو بشكل عام مفهوم جغرافي يستعمل للتمييز بين البلدان الأوروبية والآسيوية والأفريقية من اسطنبول إلي طوكيو. «الاستشراق» كمصطلح علمي يهتم بشكل رئيسي باللغات وبثقافات الشعوب الإسلامية. وبمعني أدق يتخصص بمصطلح اللغات وثقافات البلدان الإسلامية. نشأ الاستشراق كمصطلح من تيارات متعددة. من الناحية العملية ظهرت الحاجة الملحة لمعرفة اللغات في هذا المجال نتيجة للصراعات العسكرية والاقتصادية مع الإمبراطورية العثمانية وكان المترجمون والمستشارون لهم دورهم في ذلك. البندقية وكذلك الإمبراطورية الهابسورجية أنشأتا في نهاية القرن السادس عشر مدرسة لتعليم اللغات بالدرجة الأولي التركية والعربية ومن ثم الفارسية. وهذا أدي إلي بداية الجدل العلمي مع «الأجنبي» الذي كان له طابع عملي ـ تكنيكي محض.
يعتبر المستشرق الألماني الشهير هامر ـ بورجشتال الأول في مجال الاستشراق الألماني، بدأ سيرته الوظيفية «كصبي مترجم» في اسطنبول وهابسبورجر وفي وقت متأخر عمل مترجما للعربية أثناء غزو نابليون لمصر (1797 ـ 1799).
يجب التركيز هنا علي حدث مهم مفاده أنه ظهر لدي هامر ـ بورجشتال اهتمام شديد بجعل الشرق كمادة للعلم . إنه قام بخطوات عملية في هذا المجال، حيث كتب أول المجلدات عن تاريخ الإمبراطورية العثمانية، وترجم سورا من القرآن إلي الألمانية وكان مؤسسا للدراسات الفارسية في أوروبا وذلك عن طريق ترجمة ديوان الشاعر الفارسي الكلاسيكي حافظ إلي الألمانية. تلك الترجمة ذاتها التي ألهمت جوته في كتابة «ديوان الغربي ـ الشرقي».
بعد انتهاء حروب نابليون (1815) نشأ الاستشراق كتقليد علمي في أوروبا وبالأخص في ألمانيا وبعدها في فرنسا وفي وقت متأخر في انجلترا. ومن ناحية أخري تكونت مهمة علمية أخري مع الشرق من الدراسات اللاهوتية. إن دراسات علماء الدين المسيحي عن العبرية أدت في نهاية المطاف إلي دراسة العربية ودراسة لغات المسيحيين في الشرق (الآرامية والقبطية والأثيوبية والأرمنية والجورجية).
في بداية القرن التاسع عشر كان العلم في مرحلة الطفولة وتحت مفهوم الاستشراق وتطورت فروع علمية متعددة ، حسب تطور هذه اللغة أو تلك وظهرت أقسام جديدة، مثل: الإيرانية والهندولوجية والدراڤيدية والتوركولوجية والمنغولية والقوقازية والأرمينية والأثيوبية والعربية واليهودية والمالاوية والصينية والتيبيتية والسامية واليابانية والتاهية والكوريانية والأفريقية وغيرها..
اختار الاستشراق في السنوات الأخيرة لنفسه طريقا صعبا حسب رأيي، وهو التوجه نحو التخصص وابتعاده عن دراسة اللغات والآداب.
ما هو مستشرقك المفضل ولماذا؟
واحد من أهم المستشرقين في الإيرانيستيك بدون شك هو العالم النرويجي جورج مورغنشتاين (1892-1978) الذي قام ببحوثه في المنطقة الحدودية الحالية بين باكستان وأفغانستان. كانت نتيجة أبحاثه فريدة من نوعها إلي يومنا هذا. بواسطة جهوده العلمية نستطيع الآن التعرف علي بعض اللغات الميتة أو علي اللغات التي في طريقها إلي الانقراض. أعماله عن البشتونية أساسية أيضا وكان أساسا متينا في رسالتي الدكتوراة.
يتراءي للبعض أن الاستشراق الألماني يعاني حالة من الركود، خاصة بعـــد رحيل المستشرقة المعروفة أناماري شيمل، هل أنت متفق مع هذا الرأي، أم لك رأي آخـــر؟
المستشرقون الألمان منذ القرن التاسع عشر وإلي الآن وضعوا المعايير العلمية الأساسية للاستشراق بشكل عام وخصوصيتهم في ذلك أنهم بدؤوا بدراسات اللغات والآداب والتعرف بعمق علي المصادر التاريخية، وبرز في هذا المجال مستشرقون ألمان كبار، وقدموا دراسات قيمة، ومن هذه الأسماء اللامعة نذكر بدون شك هنا: تيودور نولدكي (1836- 1930) وكارل بروكلمان (1868 – 1956) وغيرهم…
للإجابة علي سؤالك وأتفق معك في الرأي أنه بعد رحيل أناماري شيمل التي كانت المستشرقة رحل الاستشراق الكلاسيكي بكل معني الكلمة. الكلاسيكية تعني هنا أولا المعرفة العميقة باللغات والآداب التي يعكف علي دراستها المستشرق، وثانيا التعرف «المدروسة» من نواحي مختلفة. أناماري شيمل دراسات قيمة وترجمت من سبع لغات، من العربية والتركية والفارسية وحتي من البنجابية والأوردوية. الدراسات الاستشراقية في الوقت الحاضر ليست متكاملة كما كانت في عهد جيل شيمل.يهتم الآن أكثر بالبلدان وبالحدود الثقافية. يوجد اليوم أقسام مثل «القسم العلمي لجنوب شرق آسيا» أو «دراسة الأقاليم في آسيا» الموزعة بين لغات عدة (علي سبيل المثال، اللغة التركية والكورية والخ..) الجيل الجديد من الباحثين يعرف نادرا أكثر من لغة ولا يستطيع أن يفهم العلاقة بين الثقافات المختلفة في الشرق، وهذا يؤدي غالبا إلي آفاق محدودة. أي باحث في حقل الدراسات التركية العثمانية يناقض نفسه إذا لم يكن ملما أيضا بللغات الفارسية والعربية.
إن تقسيم الاستشراق إلي أربعين قسما، وكل قسم منعزل عن الآخر بشكل متقن أدي إلي تحطيم هوية وتقاليد الدراسات الألمانية عن الشرق. بدلا من المصطلح الكلاسيكي الشامل «للدراسات الاستشراقية»، دراسة اللغات والنصوص تم ايجاد المفهوم السياسي النزيه المسمي بـ«الدراسات الاسلامية» والذي ساهم بانحراف الاستشراق عن مساره الصحيح وهذا مدعاة إلي السخرية. ينصب الاهتمام الرئيسي هنا بالعلوم الاجتماعية وفروعها والأنكي من ذلك أن «عارفي» اللغات «بوليكلوت» يعتمدون علي المصادر الثانوية وباللغة الانجليزية. إن العمل التخريبي والقطيعة مع الجذور العلمية الراسخة علي مدي عقود طويلة جعل الاستشراق الألماني في نظر الرأي العلمي عديم الفائدة.
في صيف 2011 سافرت إلي سلطنة عمان ببعثة علمية مع زوجتك الباحثة الدكتورة كيبارا، ماذا كانت النتيجة وهل سوف تسافران مرة أخري؟
دعني أقول أولا أن عمان من الناحية الجغرافية بلد يمكن أن يكون الأخير في الشرق الأدنى، إنه يحافظ علي جمالية وجوهر العالم العربي الكلاسيكي، بالطبع ليس البلد وحده، بل الناس واللغة والسلوك واللباس. الزيارة التي قمنا بها زوجتي وأنا إلي عمان كانت في شهر تموز (يوليو) 2011 . حطت طائرتنا في مسقط أولا وبعدها سافرنا إلي نزوي. في الأسبوع الثاني من رحلتنا سافرنا إلي مسندم وبحثنا لمدة أسبوع تقريبا اللغة الكومزارية.
تنتمي الكومزارية إلي اللغات الإيرانية وهي من المجموعة الجنوبية من الفرع الغربي لتلك العائلة اللغوية (سكيرڤو 1989:363). إن عدد الناطقين بالكومزارية ضئيل ولا توجد آثار مكتوبة بها وليس لها أي تأثير علي الحياة الروحية والثقافية في عمان. إن وضعها كلغة إيرانية ـ وبهذا كلغة هيندو ـ جرمانية ـ في بلد متكلم بالعربية صعب. أريد الإشارة إلي عدد الناطقين بالكومزارية وبالبلوجية في عمان: إن نسبة المتكلمين بالكومزارية تقريبا ما بين 2500 إلي 10 آلاف شخص، بينما نسبة البلوج هي تقريبا 100 ألف شخص. هذا يعني أولا أن الكومزارية أقل من البلوج وهكذا يكون تأثير العربية أكثر الأقلية الأصغر، ثانيا أن الكومزاريين لا يتكلمون بلغتهم، بل نعتبرونها فرعا من العربية ولهذا أن الكومزارية معرضة للإنقراض.
هدف المشروع هو كتابة نطق الأصوات في اللغة الكومزارية بشكل صحيح وتدوينها لأن المطبوعات المتوفرة بتلك اللغة غيردقيقة أضف إلي ذلك أن القواعد تحتاج إلي إعادة الكتابة. نريد في نفس الوقت أن نؤلف قاموسا لها مع إيجاد الف باء خاص بها. وفي المشروع أيضا خطة لتأليف الكتب المدرسية حتي يتمكنوا من دراسة اللغة في المدارس. ويحافظ علي الثقافة المحلية لهم يجب تسجيل ذلك في الأفلام الوثائيقية.
لنقل أنه لديك وقت فراغ، مثلك مثل سائــر البشر، كيف تقضي تلك اللحظات؟
إن دراسة اللغات والثقافات الشرقية بالنسبة لي متعة وفرح ومن هذا المنطلق أقول عندما أسمع لحن كلمة، بيت شعر، قصيدة وأشاهد ابتسامة شخص وهو ينظر إلي متعجبا ومستغربا كيف أتكلم بلغته، عندها يظهر عنده ولع بالغ لايمكن وصفه بالمفردات. ويجب أن أعترف أن هذا الولع يلازمني كل لحظة، كل يوم، وهل من سعادة أكثر من هذا يتمناها المرء في حياته! وإذا تكلمت بلغة الواقع، أقول لا يبقي وقت ممارسة رياضة ما أو ركوب دراجة.
ولنكن صادقين معا، كل واحد يعرف معلقة امرئ القيس يعطيني الحق عندما أقول لاتوجد أجمل لحظة من العمر أن تجلس مع حلقة من محبي الشعر وتسمع بعضا موسيقى المعلقة أو بعض أبياتها لشاعر مضي علي موته أكثر من ألف وخمسمائة سنة وهو يناجي حبيبته وأماكن العشق؛ «بسقط اللوي بين الدخول فحومل» ـ وهل من كلمات أخري غير قول شكسبير ـ الصمت!
ليكن خاتمة لقائنا علي الشكل الآتي: أنت تحفظ قصائد لكثيــر من الشعراء بلغتهم الأصلية، من هو شاعرك المفضل؟
الشعر الشرقي حديقة معطرة، بحر من الأزهار الفواحة، غناء لآلاف البلابل. كل شاعر له خصوصيته وجمالييته. أقدر عمرو بن كلثوم لفخره وحماسته، والمتنبي بأساليب تعبيره، وأبي نواس لجماليته.أقدر كل الكبار من الشعراء ويصعب علي تفضيل واحد منهم على الآخر.
ملاحظة (نزوى):
وردت كلمتا (الكومزارية والبلوجية) في الحوار وتنطق في عُمان بـ(الكمزارية والبلوشية).
حوار : حســـين حبــــش
شاعر كردي من سورية يقيم في ألمانيا