سيرة حياته.. هي وقائع لحياة شاهدها وعاشها
ملخص:
تدور هذه الدراسة حول السيرة الذاتية للدكتور إحسان عباس «غربة الراعي»، حيث تحدث عن طفولته، وأسرته، ودراسته، وزواجه، وعمله…، وتركز على جزئية محدودة وهي العلاقة بين الفرد والجماعة من ناحية، وبين الأدب والتاريخ من ناحية أخرى. خاصة وأن الكاتب فلسطيني عاش النكبة شاباً وشيخاً، ثم انتقل إلى المنفى في العواصم العربية كالخرطوم، وبيروت، وعمّان. فكان مثالا حيا لحياة الشعب الفلسطيني الذي هُجر من أرضه، واضطر إلى حياة الاغتراب، حاله في ذلك حال الرعاة الذين يضربون في الأرض غرباء، وظل الإحساس بالغربة يرافقه حتى آخر العمر، مع نزعة رومانسية حزينة تظللها فلسفة متشائمة، تتلخص في أن الحياة قاسية، وأن التفاؤل فيها شكل من أشكال الخداع. وكانت هذه المشاعر طبيعية، لأن حلم الكاتب بالعودة إلى وطنه لم يتحقق.
مدخل:
كانت الرياح تضرب الشجر
لكن الشجر يقاوم الرياح (1)
مقدمة:
يُصنف كتاب «غربة الراعي» للدكتور إحسان عباس (2) الذي صدر بعمان سنة 1996، ضمن أدب السيرة الذاتية (Auto biography)، ومعنى ذلك أن الكاتب كان يقصد إلى الحديث عن تجربته الشخصية في الحياة بالتفاصيل التي يريدها، متبعاً –في الغالب- التدرج التاريخي للحدث الشخصاني، وبما أن الفرد جزء من مجتمع ما يتأثر به ويؤثر فيه، فقد توجه هذا البحث إلى تلمس الروح الجماعية في عباءة إحسان عباس، الذي لم يستطع، وإن حاول، أن يفصل تجربته الخاصة عن الوقائع العامة المريرة التي مرت بها بلاده فلسطين، وأنّى له أن ينفصل ونيران النكبة تحاصره في حله وترحاله، وتلون حياته بمشاعر الاغتراب، حتى يصبح الاغتراب قدره ونصيبه من الدنيا، ثم تتسع هذه المعاني لتتحول إلى غربة وجودية تشمل الشعب الفلسطيني، وربما شملت أكثر من ذلك كما يقول د.فهمي جدعان:»إن سيرة حياته هي وقائع لحياة، تبدى وعيا تراجيديا بالوجود الإنساني، لا بتشخصه الفردي فحسب، وإنما بامتداده الجمعي أيضاً».(3)
إيحائية العنوان ودلالته:
لا يستطيع القارئ لكتاب «غربة الراعي» أن يتعامل مع العنوان ببساطة وعفوية، تساوي بساطة الكلمات المستعملة، ولا شك في أن هناك استراتيجية معينة انطلق منها الكاتب حين أطلق هذا العنوان على سيرته، وإذا تأملنا الكلمتين اللتين كونتا العنوان في ضوء نظرية الحقول الدلالية (4) Semantic fields theory، نجد أن الفاظ الحقل هي: غربة/الراعي، والغربة تعني النوى والبعد، والغريب هو الرجل ليس من القوم ولا من البلد، أما كلمة الراعي فتعني: كل من ولي أمر قوم، والقوم رعية. ويتضح من التحرير التفصيلي للدلالة وجود علاقة متبادلة بين الكلمتين (الغربة والراعي)، وهي علاقة قائمة على التلازم والترادف والتداعي، وهذا ما ينطبق تماماً على إحسان عباس الذي أصبحت الغربة ظله الذي لا يفارقه، والوجه الآخر الأكثر حضوراً له بعد ضياع الوطن، وقد أشار إلى غربته كل من تحدث عنه.
ويقوى الإحساس بالاغتراب تحديداً عند إحسان عباس ويتصاعد، لأنه من أهل الريف الذين ارتبطت حياتهم بالأرض، وتركزت حول الحقول والمراعي ومزارات الأولياء، ويرى د.حليم بركات «أن القروي يؤمن إيماناً راسخاً، حتى في أعماق لا وعيه، بأن الكرامة في الأرض، وأن الفلاح يفقد سيطرته على مصيره حين يفقد ملكيته وسيطرته على الأرض، إنها مورد رزقه، ومصدر آماله ومكانته الاجتماعية، بل هي محور علاقاته، ومقر جذوره في الحياة والممات… ولذا فالفلاح أقل خوفاً من الموت بالمقارنة مع البدوي والحضري، وذلك لسبب رئيسي يتعلق بنظرته إلى الموت، على أنه استمرار في الأرض»(5).
وفي ضوء العلاقة الحميمية التي تربط الفلاح بالأرض، نفهم لماذا كانت عين غزال هي المحطة الوحيدة التي لم يشعر فيها إحسان عباس بالغربة، ولكنه بمجرد أن غادرها –ولو بشكل مؤقت- للدراسة في مدن فلسطين مثل: حيفا، وعكا، والقدس، بدأت أحاسيس الاغتراب تتسلل إلى نفسه، ففي السنة الأولى التي غادر فيها قريته إلى حيفا، وأقام عند أسرة (أبو كمال)، شعر أنه
غريب وأن الأسرة الجديدة ترفضه لاختلافه عنها، فهو كما يعترف فلاح جلف، لم يكن يحسن النظام بدقة، كما أن لهجته الريفية كانت ثقيلة على مسامع المدنيين(6). ونستشف من كلماته شدة حساسيته، مع شعور مبطن بالنقص، فهو فلاح، وكلمة فلاح تستدعي الكثير من السلبيات كالفظاظة في التعامل، والفوضى في الحياة، إلى جانب اللهجة الريفية التي تفتقر إلى الرقة والنعومة، وهذه الملاحظات حقيقية يعرفها أهل الريف، لكنهم يتباينون في مواجهتها فبعضهم يعتبرها ميزة ولا يخجل منها بل يصر عليها، وبعضهم كإحسان عباس تشعره بالدونية، وتدفعه أحياناً إلى العزلة والانطواء وتجنب الاختلاط، وظلت هذه المشاعر ملازمة له بصورة دائمة، وإن تغيرت الأسباب والبواعث، حتى أسدل الموت عليه الستار الأخير.
ويؤكد الناقد فيصل دراج أن سيرة إحسان عباس الذاتية بالغة الإيحاء في عنوانها «غربة الراعي»(7)، وفي مقابلة أجريت معه سنة 1997فسّر الدكتور إحسان عباس العنوان تفسيرا معجميا قائلا: « لقد كنت راعياً في قريتي حين كنت صبياً، وبقي الوعي أو اللاوعي الريفي ملازماً لي طيلة حياتي بأشكال مختلفة»(8). وأعتقد أن هذا التفسير مقبول على الضرب الابتدائي، أي إذا وقفنا فقط عند العنوان والمعنى الظاهري، أما إذا تجاوزناه قليلاً إلى الصفحات الأولى من الغربة اكتشفنا أن هذا العنوان عبارة عن قشرة رقيقة تستر أشياء عظيمة، ولعله بسبب هذا المستور والرغبة في صرف النظر عنه، تدخل بكر عباس في نفس المقابلة قائلاً:» مع أنني كنت أفضل أن تعطي هذه السيرة عنوان «الصعود»، ذلك أن كلمة الراعي رومانطيقية جداً، في حين أن كلمة «الصعود» تظهر انتقال المؤلف من عالم القرية إلى عالم المعرفة»(9).
وبالعودة إلى الطفولة المبكرة نجد أن إحسان عباس ولد وترعرع في الريف، وكان يغادره للضرورة، ليعود إليه أكثر تشبثا. وجدير بالذكر أنه ولد في قرية عين غزال في 2/12/1920، وهي قرية تقع إلى الجنوب من مدينة حيفا على مسافة تقارب خمسة وعشرين كيلومتراً، وينبسط أمامها السهل الساحلي على موازاة البحر، وتجمع تضاريسها بين الجبل والسهل، ويمكن اعتبار عين غزال نموذجاً للريف الفلسطيني فأكثر أهلها مزارعون، يملكون قطعاً من الأرض، يزرعون فيها كل ما يحتاجون إليه في موسمين: شتوي وصيفي، وأكثر الناس يقتنون البقر لأعمال الزراعة، والماعز للبن(10).
فأسرة إحسان عباس تنتمي إلى الطبقة الوسطى القريبة من الطبقة الكادحة، فهي ليست من الفلاحين، إذ لديها ملكيات من الأرض متوسطة الحجم، ووسائل إنتاج، وعموما لم تكن أسرته من ذوي الياقات الزرق (طبقة العمال)، ولا من ذوي الياقات البيض (طبقة المتعلمين)، بل كانت تتأرجح في المنطقة الفاصلة بين الطبقة المتوسطة وطبقة الفلاحين. وهذه الطبقة من الشعب تعمل عادة في زراعة الأرض وتربية ما تقدر عليه من الحيوانات، كالحمير، والأبقار، والأغنام، فمهنة الراعي طبيعية عند القروي، ويصر إحسان عباس في مقابلة أجريت معه، بعد أن خلف وراءه خمسة وسبعين عاماً، ترجمها جهدا في العلم وكدحاً في المعرفة، أنه لم يتحرر من الصبي القروي الذي كانه مرة(11).
فهو على المستوى الواقعي عمل راعياً، وعلى المستوى النفسي كان يعشق الرعي وحياة الرعاة، لنزعة رومانسية أصيلة في نفسه، وكان يصرح دائما بأنه إنسان رومانطيقي وعاشق للطبيعة ومغرم بها.ومن هنا نجده حين التحق بالكلية العربية في القدس (1937-1941) يقبل على الشعر اللاتيني بشغف شديد، وبخاصة الجانب الرعوي منه ( Pastoral Poetry)، والأثر الرعوي: هو أثر أدبي يصور حياة الرعاة وأهل الريف كالشعر الرعوي والمسرحية الرعوية. ويبرر الكاتب عشقه لهذا النوع من الشعر، لكونه يصور الهيام بالريف والافتتان بجماله، كما أنه يعكس الحياة الهادئة البسيطة، « ولذلك أصبح الريفيون هم الرعاة في نظري، وأصبح الريف هو أركاديا Arcadia(12)، أو الموئل المثالي للرعاة»(13). فكلمة أركاديا عنده ترمز إلى المسرة والسكينة والبساطة والنعيم. وظهر تأثره جلياً بالشعر الرعوي من خلال تجربته الشعرية، ويذكر د. خليل الشيخ : «أنه كان يقصد أن يلفت الأنظار إلى تجربة شعرية غير منفصلة عن الواقع الموضوعي لصاحبها، ولما كانت بلاده تعيشه من صراع ونكبات، مثلما كان يُلمح إلى تجربة شعرية متفردة في الشعر الفلسطيني المعاصر بعد تجربة إبراهيم طوقان الشعرية، وهي تجربة تحمل بين ثناياها سيرة لشاب يحس بالكثير من مشاعر الاغتراب، ويعيد إنتاج واقعه بما ينطوي عليه من رموز ودلالات في آفاق ذلك الشعر الرعوي. لدرجة أن شقيقه بكر عباس اقترح أن يطلق على ديوانه اسم ديوان «الرعاة»(14).
ويتسع البعد الدلالي عنده لكلمة الراعي فيطلقه على أحبائه وأصدقائه الأعزاء، فكان موسى (القليط) بمثابة الراعي الصديق(15)، وكانت نوار تمثل له الراعية المثالية، ونوار هو اسم مستعار لفتاة من قريته، أحبها وهو في نهاية المرحلة الثانوية، لكنه لم يجرؤ على مفاتحتها بالأمر، وقد فقدها هي الأخرى، وإن ظلت صورتها تداعب خياله حتى آخر العمر(16). مما يدفع إلى الاعتقاد بأنها قد تكون رمزا للوطن الغائب الحاضر، وهذا افتراض سنحاول التدليل عليه في ثنايا البحث.
وظل قلبه متعلقاً بالقرية والرعاة، وزاد هذا التعلق حين اضطر لمغادرتها طلبا للعلم، فكان ينتظر حلول الإجازة بفارغ الصبر، وحين يعود إلى القرية كان يصغي في النهار إلى أغاني الرعاة، ولحن الأرغول والناي وأصوات العتابا الحزينة، وفي الليل يشاهد الأعراس كي يستمتع بما يصاحبها من أغان، وكان ذلك زاده حين يغادر القرية، ويظل ينتظر بلهفة حدوث لقاء تالٍ، شوقا إلى زاد جديد(17.
وفي نهاية المطاف فإن عنوان هذه السيرة كما يرى الأستاذ أحمد دحبور:» يتضمن الغربة صراحة فقد عاش إحسان عباس الاغتراب على مستوى المكان عندما كان يتابع شؤون الدراسة، ثم الاغتراب الوطني بعد النكبة واللجوء، وعاش الاغتراب الثقافي بافتراق خطوته عن المسار التقليدي الشائع»(18).
فعنوان هذه السيرة قائم على الترميز وهو» يشير إلى الحضور القوي لذلك المكان الغائب الذي تنهي العودة إليه غربة ذلك الراعي»(19). ولا شك في أن ذلك المكان هو قريته عين غزال التي ظلت ماثلة أمام ناظريه، والتي كبرت وكبرت لتصبح الوطن السليب الذي حرم منه إلى الأبد.
الأنا والآخر في غربة الراعي:
حين يقوم شخص ما بكتابة سيرته الذاتية ونشرها على الملأ، هل يرمي فقط إلى تعظيم ذاته وتسليط الضوء على الدور الذي لعبه في الحياة؛ كي يشار إليه دائماً بالبنان، أم أن هناك غايات أخرى؟ وهل توجد تقاطعات إنسانية بين السيرة الذاتية والمجتمعية؟.
إن الإجابة على السؤال الأول تقودنا إلى جواب السؤال الثاني، فالغاية الأولى والمباشرة للترجمة الشخصية هي الكشف عن الجوانب العديدة للشخصية المترجم لها، وتتبع مسار حياتها منذ الطفولة حتى لحظة الكتابة، وقد تحدث إحسان عباس بإسهاب عن نفسه، وعن أسرته، وعن تعليمه… وتنقله في البلاد وعمله وزواجه وأبنائه…، ومع ذلك فإنه لم يلجأ إلى تضخيم الذات، ولم يقع في فخ النرجسية، وكشف أسلوبه البسيط الواضح البعيد عن الإيجاز والإيماء عن تواضعه الجم، وحرصه على أن يقرأ سيرته وينتفع بها أكبر عدد من الناس، وهذا ما قاله صراحة في مقابلة أجريت معه، رداً على سؤال حول الغاية من كتابة السيرة: « إن غايتي كانت تقديم صورة عن إنسان عادي، قاسم الشعب الفلسطيني قدره ومصيره، وتحمل مشقة شعبه في مواجهة المنفى، وتأمين شروط الاستمرار في الحياة بجد وكرامة،…» غايته إذن تسجيل مصير إنسان عادي بعيداً عن طقوس السيرة الذاتية القائمة على الأنا والفردية المتميزة، وهالة المثقف التقليدية (20)، أراد أن يقدم للقارئ إنسانا شبيها به، وقريبا منه. وقد نجح في ذلك إلى حد بعيد، واستطاع أن يؤثر في القارئ وأن يخلق حالة من المشاركة الوجدانية والتعاطفية، مع الظروف الصعبة التي مر بها، ويتصاعد هذا التعاطف لأن الشخصية في الأوتوبيوغرافي ليست خيالية أو من صنع الكاتب كما هو الحال في الشخصيات القصصية، بل هي شخصيات من لحم ودم، عاشت وعانت، فإحسان عباس هذا الرجل اللامع المبدع الخالد لم يكن في أعماقه يشعر بالرضا المطلق أو السعادة التي لا يكدرها شيء، والمفاجأة الكبرى في سيرته –بالنسبة إلي- كانت في زواجه، الذي لم يخجل ولم يشعر بالحرج في الاعتراف بأن هذا الزواج فرض عليه، كما يفرض على الفتاة التي تعاني من سلطة الأب وسلطان الرجولة، هو الآخر كان معطل الإرادة، ممزق النفس بين رسوم الطاعة، وواجب العصيان» (21)، كان يعاني مما يعرف بالإقطاعية العائلية التي يسري فيها حكم الأب (رب الأسرة) على جميع أفرادها ذكورا كانوا أم إناثاً، وخرج من تجربته هذه بحكمة ملخصها: إن من يجرب الزواج مرة لا يمكن أن يعود إليه مرة ثانية.
فالفردية هي المحرك الأول لكتابة السيرة الذاتية، فهي تنطلق من الذات/الداخل، وتتجه نحو الجماعة/الخارج، لأن الكاتب يعيش في وسط اجتماعي، وتنعكس على ذاته وتجاربه المفاهيم الجماعية، فهناك حالة من التداخل والاندماج (Affiation) عن قصد أو غير قصد بين التجربة الشخصية والتجارب الجماعية.
وإذا عدنا إلى تعريف فن السيرة نجد أنه «نوع من الأدب يجمع بين التحري التاريخي والإمتاع القصصي»(22)، ويرى الأستاذ أنيس المقدسي(23) أن السيرة الذاتية لا تكتسب صفة السيرة بمعناها الحقيقي إلا إذا كانت تفسيرا للحياة الشخصية في جوها التاريخي.
ويؤمن الفيلسوف الألماني ويليام ديلتاي Whilhelm Dilthey بالأهمية المركزية للسيرة الذاتية كوثيقة تاريخية، مؤكداً أن السيرة الذاتية تقدم في الواقع أساساً لا غنى عنه للكتابة التاريخية برمتها(24).
ويؤكد د.عز الدين إسماعيل أن ترجمة الحياة تجمع بين الشكل الأدبي والشكل التاريخي، ولتوضيح هذه الثنائية ربط بين كاتب الترجمة وبين رسام البورتريت (Portrait) وهو المصور الفنان الذي يتخصص في رسم الصور النصفية للأشخاص، فهو يحرص على تقديم صورة صادقة للشخص الجالس أمامه، «وفي الوقت نفسه يواجه مشكلة خلفية الصورة، وليس الرسامون على وفاق بشأن هذه الخلفية، فبعضهم يتركها عارية من أي تفصيلات، وبعضهم يختار منظراً له دلالته ليجعل منه خلفية للصورة. وبنفس المنطق يواجه كاتب الترجمة مشكلة الخلفية التاريخية… ترى أي الإطارين يختار؟ أيكتفي بحياة الشخص نفسه المحدودة بحادثتي ميلاده ووفاته؟أم يضع هذه الحياة المحددة داخل إطار من تفصيلات عصره؟»(25).
والإجابة عن هذه التساؤلات نعثر عليها عند د.إحسان عباس فأي الإطارين اختار؟.
كان د.إحسان عباس يعي تماماً جدلية العلاقة بين الأدب والتاريخ، بين الأنوية والمجتمعية أسعفته في ذلك خبرة واسعة في كتابة التراجم والسير، فقد كان ملما بكل ما وقع بين يديه من مؤلفات تتناول السيرة، واطلع على الأساليب التي اتبعها من قبله من الكتاب، وتابع الأستاذ أحمد أمين حين كتب سيرة حياته في «حياتي». كما عالج الكثير من الكتابات الاوتوبيوغرافية، منها على الترتيب: الحسن البصري سنة 1952، أبو حيان التوحيدي 1956، فن السيرة 1956 وغيرها(26). وكان يؤمن منذ فجر شبابه «بأن الاتجاه في الحياة المعاصرة آخذ يتشكل نحو الجماعة بخطى سريعة،» فإذا اعتقدنا أن التجربة الفردية لا قيمة لها، فإننا نسيء إلى روح الجماعة…، فقد تزول عبادة الأفراد من النفوس، وقد يفقد الفرد معنى التفرد الأناني، ولكن شيئاً واحدا لا يزول، هو هذه التجارب الحية وطريقة التعبير عنها»(27).
وقد اتبع في كتابة السيرة منهج التدرج التاريخي للشخصية مع ملاحظة الأحداث في الداخل والخارج وانعكاساتها على أعماقه، ونظر إلى الزمان واهتم بعنصر المكان، ويبدو أنه استعار الأسلوب الروائي، لكنه لم يلتزم بمقوماته الفنية مثل التلاعب بالزمن (اتبع التسلسل الزماني)، وإطلاق العنان لخياله في بناء شخصيات لم تعش على هذه الأرض، فجميع الشخصيات، بدءاً من الشخصية المحورية إلى الشخصيات الهامشية، كانت حقيقية تتصل بزمان معين ومكان معروف. فالقارئ لهذه السيرة لا يستطيع أن يعزلها عن الشعب الفلسطيني وقضيته، وما رافقها من أحداث تاريخية ووقائع، تركت عليه علامات ماثلة، حتى وإن لم يشارك فيها مباشرة، كما أنها تطرح الهم الجماعي منذ اللحظة الأولى، وأعترف أنني حين قرأت هذه الغربة سمعت صوت أمي وأبي قادمين من كرمل حيفا، وهما يسردان علينا، دون ملل، (قصص) الثورة والثوار والأوضاع المأساوية التي عاشوا فيها قبل النكبة وبعدها.
إن عنوان هذه السيرة «غربة الراعي» لم يأت مصادفة، بل تعمده الكاتب، واستوحاه من التغريبة الفلسطينية الجماعية، وقد جاء مفجرا لكثير من الدلالات والإيحاءات الجماعية، فالراعي ليس شخصاً واحدا عاش تجربة التشرد والاغتراب، بل هو مئات الآلاف من الرعاة الذين قدر لهم أن يضربوا في الأرض، وأن يرتحلوا من مكان إلى آخر دون أن يذوقوا للاستقرار طعماً. وفي المجاز كأن الكاتب ذكر الجزء وأراد الكل، فالأنا عنده لا تمثله وحده، بل هي أنا الجماعة التي ينتمي إليها، والتي عانت فعانى، وهُجرت من أرضها فهجر، وجمعه معها اسم جديد واحد هو اسم «اللاجئين». فالأمر الطبيعي والمنطقي أن كهف الراعي يحتوي التغريبة الفلسطينية، فالراعي هو المعادل الموضوعي والنموذجي للشعب الفلسطيني الذي يجد نفسه مضطرا دائما للتنقل طلباً للأمن والاستقرار، ولن يعرفهما إلا بوضع عصا الترحال وتحقيق الحلم (عصي المنال) (28)، وهو استرداد الوطن السليب. وللتدليل على مصداقية هذه المقولة، فإنه يستحسن أن نقسم الحديث عنها إلى قسمين تبعا للتسلسل التاريخي:
أولاً: التغريبة داخل الوطن وكانت قبل نكبة سنة 1948.
ثانياً: التغريبة في المنافي والشتات وكانت بعد النكبة.
أولاً: داخل الوطن
ينتمي د.إحسان عباس إلى الجيل المخضرم الذي شهد اضطرابات كثيرة على الساحة الفلسطينية، ففي سنة 1920، وهي السنة التي ولد فيها، أقر انتداب بريطانيا وفرنسا على المنطقة العربية بعد هزيمة تركيا في الحرب العالمية الأولى، وفي هذا العام أيضاً دخلت البرامج الصهيوينة حيز التنفيذ، والمتمثلة في خلق واقع جديد في فلسطين، يقوم على حشد المهاجرين اليهود، والاستيلاء على الأراضي(29)، وبدأ العرب بمقاومة سياسة التهويد فحدث أول انفجار بمدينة القدس في نهاية شهر نيسان؟؟؟؟؟؟ من عام 1920، ثم توالت أعمال المقاومة والمصادمات في السنوات التالية. وكانت هذه بداية المرحلة، احتلال بريطاني، استيطان صهيوني، مقاومة عربية. وقد أوحى هذا الثالوث لأديبنا أن يبدأ أوتوبيوغرافيته بعنوان «رموز الخوف»، حيث ذكر أن هذه الرموز استقرت في ذاكرته وعمره أربع سنوات(30)، وأول هذه الرموز ما رآه الصغير وقد خرج ذات يوم ليرى البحر….، وفيما هو ينظر إلى الأفق السماوي رأى غيمة تراءت له في شكل جمل فاغر فمه، عندها أدركه شيء من الخوف دفعه إلى العودة.
أما الرمز الثاني فهو الرصاص (السلاح) الذي قتل عمه سلامة خليل على خلفية ما يسمى بشرف العائلة. أما الرمز الثالث فكان للأفعى التي ترقد في عش العصافير على الشجرة الكائنة في بيت الشاب الجميل ذي الشعر الأحمر، لويّح الدبكة في الأعراس أحمد الريشان،الذي مد يده إلى العش فنكزته الأفعى اللابدة هناك ومات.
ويأتي الصوت الرابع على شكل صوت مزعج في حلكة الليل،والجميع نيام، أما هو (الطفل الصغير) فلا يستطيع النوم حتى يكتشف سر الصوت، فإذا به دقات الساعة(المنبه).
والمتأمل في هذه الرموز التي شكلت بدايات هذه السيرة، يجد أنها إرهاصات لما سيأتي من ناحية، وتصوير للحاضر من ناحية أخرى، فرموزه مثقلة بمشاعر القلق والخوف والتوتر، فاللحظة الحاضرة ليست آمنة لدرجة أنه لا يستطيع النوم، والمستقبل مرعب، والموت يخيم على كل شيء فهناك الرصاص الفلسطيني الموجه إلى الإنسان الفلسطيني، والأفعى داخل البيت/ عش العصافير، تقتل الشباب المتدفق حيوية ونشاطاً وتختبئ، أمل المستقبل يقتلون، والناس في غفلة من أمرهم، لا يشعرون بالخطر الذي يهددهم جميعاً، ويصرفون جل اهتمامهم إلى خلافاتهم الداخلية، والأفعى تنفذ ما تريد، وتتوالى أفواج المهاجرين الصهاينة، ويستمر شراء الأراضي من العرب وتمليكها لليهود(31)، وقد تنبه العرب إلى مخاطر الهجرة اليهودية المستقبلية، ورأوا أنها تمثل بالنسبة إلى اليهود عملية عودة إلى الوطن، وكان الفلاحون على وعي تام بالآثار السلبية للهجرة اليهودية وأنها ستؤدي في النهاية إلى تجريدهم من أرضهم، فابتدأت أعمال المقاومة، بحيث كان من النادر أن يمر عام دون عنف في المنطقة، ومن ابرز هذه الأحداث ما عرف بثورة البراق سنة 1929 (32)، وبعد عام 1930 يبدأ الوعي بالحدث يتشكل عند الصبي ابن العاشرة، فيذكر أن الكآبة بدأت تظلل حياة الناس، وأخذت الأحزان تطبق عليهم، وتلغي الأفراح من حياتهم(33).
وينمو لديه الحس الوطني فينظم وهو في العاشرة قصيدة يحرض فيها أهل عين غزال للثورة على الانجليز ومطلعها:
آلا يا أهل عين غزال هبوا
بأكبركم لأصغركم معينا(34)
وبعد ثورة البراق توالت الإضرابات والمظاهرات في فلسطين، ويذكر إحسان عباس أن المساجد كانت تقوم بدورها في توعية الناس إلى المخاطر المحدقة بهم، وكان الخطباء يلهبون المشاعر بالإشارة إلى المشكلات التي يتعرض لها الوطن من جراء الهجرة اليهودية، وخاصة خطب الشيخ بدر الدين الخطيب التي كان يلقيها في جامع الاستقلال بحيفا(35)، كذلك كانت المدارس تهتم بالناحية الوطنية وشحذ الهمم، ويذكر أسماء بعض الأساتذة الذين عملوا على إيقاظ الوعي عند الناس وتنويرهم، وتوجيههم إلى النضال عن طريق تدريب الطلبة على استعمال السلاح، منهم الأستاذ تقي الدين النبهاني، وهو مؤسس حزب التحرير الإسلامي فيما بعد(36).
كما أشار إلى الوسائل التي اتبعها الناس للمقاومة: كالإضراب وإقامة المظاهرات، مع أنهم يعرفون أنها لن تزيل عن أعناقهم نير الانتداب، لكنها كانت –كما قال- السلاح الوحيد الذي يعرفه الطلاب والعمال وسائر قطاعات الشعب(37)، ومن الأحداث السياسية التي سجلها: ثورة عز الدين القسام سنة1935، وذكر أنها نقلت المقاومة من الهبات الشعبية والخطب إلى الثورة المسلحة، وكان القسام يرى أنها الأسلوب الوحيد القادر على إنهاء الانتداب، والحيلولة دون قيام دولة يهودية. وانتهت الثورة باستشهاده وشيعت جنازته في حيفا، إذ تحولت إلى موجة قوية من الشعور الوطني العربي(38).
وكان إحسان عباس يعرف الشيخ القسام، ويشاهده في الجامع، ويصفه بأنه رجل مديد القامة، طويل العمامة، لا تسمع في خطبته شيئاً ضد الانتداب، وحين عرف نبأ استشهاده حزن كثيراُ، «غامت الدنيا في عيني لكثرة الدموع وفوجئت بأن الشيخ كان ينطوي على ثورة شديدة وكان له أتباع، وكان يرتب للجهاد»(39).
كذلك سجل في غربته الكثير من وقائع ثورة 1936وأطلق عليها اسم ثورة الفلاحين، وبدأت باعلان الإضراب الذي دعت إليه اللجنة العربية العليا وشمل الإضراب جميع المدن والقرى الفلسطينية وأغلقت المدارس، وعاد الطلاب إلى قراهم، وعاد هو إلى عين غزال، وشارك شخصيا بفعاليات هذه الثورة ضمن قدراته، فقام مع عدد من الشباب بتنظيم مظاهرة جابت القرية وألقيت فيها الخطب الحماسية التي تحذر الناس من الأخطار المحدقة بهم، وألقى هو في الجموع المحتشدة خطبة(40).
وظهرت القومية العربية في هذه الثورة بانضمام متطوعين من سوريا والعراق، وعلى رأسهم فوزي القاوقجي وهو لبناني الأصل، وكان ثورياً وطنيا، ارتبط اسمه بثورة 1936، وكان أكثر قادة الثورة شعبية واحتراماً وفعالية(41).
والشيء الذي يمكن أن يقال عن هذه الثورة أنها لم تكن انتفاضة عابرة، بل كانت ثورة جماهيرية اشترك فيها أبناء فلسطين من مختلف الشرائح الفلسطينية، وأبدى الثوار بطولات رائعة خلدتها الاناشيد الشعبية التي كان يرددها مطرب الثورة نوح إبراهيم(42). وفي هذه الثورة فقد إحسان عباس اثنين من أعز أصدقائه هما: موسى القليط (الذي مر ذكره) وصبري زيدان، وصبري هذا كان زميله في الكلية العربية بالقدس، وهو من قرية إجزم، وعنه يقول: « كان فقيراً مثلي وأشد فقراً، ولكنه كان أشد إخلاصاً لمبادئه» ثم يروي لنا هذه القصة (بصدق وصراحة، ودرجة عالية من التجرد والموضوعية في الحديث عن الآخر مقارنة مع الذات):» ذهبت مرة إلى الحي اليهودي بالقدس، واشتريت كتاب «الإنياذة» لفرجيل بقرشين، وأخبرت صبري بما فعلت، فاستشاط غضباً وقال لي: إنك بهذا الفعل تساعد اليهود في شراء الأرض الفلسطينية، ولم يرض عني، ولم يقبل أي عذر أبديته، وغاضبني مدة، واستشهد وهو مغاضب لي»(43).
وكانت أعمال المقاومة العربية تقابل بالإجراءات القمعية المتواترة التي تتخذها حكومة الانتداب البريطاني لقتل الثورة، وقد تحدث إحسان عباس عنها باقتضاب، ومن ضمن هذه الإجراءات تطبيق قانون العقوبات الجماعية فإذا أذنب –في نظرها واحد- أخذ بذنبه جميع أهل القرية، وكان الجنود الإنجليز يطوقون القرى في الصباح الباكر، ويأمرون أهل كل قرية بالتوجه إلى ساحة البلد، ثم يتفرسون في الناس من خلال عين(جاسوس) مختبئ في سيارة يشير بأن هذا يعتقل، وذاك لا يعتقل»(44).
ثم كانت الحرب العالمية الثانية (1939-1945)، واستغل اليهود ظروف الحرب لتأسيس الوجود المادي للدولة اليهودية من خلال فتح باب الهجرة على مصراعيه، وتغيير الواقع الديموغرافي (السكاني) للبلاد، وتشكيل القوة العسكرية التي تفرض قوتهم على البلاد، فقامت عصابات الأرغون وشتيرن وبتأييد مسبق من الهاجاناه بتدبير مذبحة دير ياسين 1948، والتي استشهد فيها ثلاثمائة شخص من الرجال والنساء والأطفال (45)، وبعد هذه الجريمة دب الذعر في نفوس الناس، وحصلت الهجرة التاريخية وغادر الكثيرون فلسطين، وظهرت مشكلة اللاجئين الذي نقلوا إلى مخيمات تشرف عليها هيئة الأمم المتحدة، يعانون ظروفاً صعبة، ينتظرون اليوم الذي ستبعث فيه فلسطين من جديد.
ثانياً: فـي المنافـي والشتات
إحسان عباس بين مطرقة الجواز وَسندان الزواج(46): بينما كان إحسان عباس يواصل دراسته الجامعية بمدينة القاهرة بصحبة زوجته وطفليه (نيرمين وإياس)، وقعت النكبة وضاع الوطن، وكانت نذيراً ببدء مرحلة السنوات العجاف، وعن أثر النكبة عليه يقول أحمد دحبور :»…على المستوى الفلسطيني نلمس جرح النكبة في الكف، وهو لا يندب ولا يخطب، ولكنه يسجل بهدوء كيف تلاحقه صفة اللاجئ منذ وقوع النكبة وهو خارج الوطن، إلى وقفته شيخاً، بعيداً عن مسقط رأسه عين غزال»(47).
وكتب إحسان عباس يصف هذا الزلزال الذي قلب كل شيء، «لم يكد يحل شهر مايو (أيار) من سنة 1948، حتى هبت على وطننا أعاصير عاتية، بددت أهله في شتى النواحي، وهلك من أهله من هلك بالمذابح»(48).
فضياع الوطن كان إيذاناً فعلياً ببدء التغريبة الفلسطينية، وكان إحسان عباس قد استشرف هذه المأساة، وهو دون الخامسة من عمره، حين احتفظت ذاكرته بمقاطع من تغريبة بني هلال (السيرة الهلالية)(49)، التي كان والده يتغنى بها على مسامع أهل القرية، في ليالي السمر بصوت رخيم أقرب إلى التحزين(50):
قالت عزيزة بنت سلطان تونس الأيام والدنيا تسوى العـجائب/ ياما مضت لي أيام وأنا عزيزة خدام تخدمني بأعلى المراتب
وتحكي التغريبة قصة بني هلال وأخبارهم المليئة بالفروسية، والأشعار الشعبية، منذ انتقالهم من نجد بعد أن أصابها الجفاف لأكثر من سبع سنوات، إلى تونس الخضراء التي استقروا فيها، بعد معارك عديدة مع خصومهم في مصر والشام وشمال أفريقيا، وكانت سيرة بني هلال وأخبار زعمائهم، مثل: حسن بن سرحان، وأبي زيد الهلالي، وذياب بن غانم تروى في المجالس العامة في مصر والشام، مما جعلها على كل لسان في معظم الأقطار العربية(51).
وقد ربط إحسان عباس بين التغريبة الهلالية، وما رافقها من قتال وتشريد وتشتت وبين التغريبة الفلسطينية، دون أن يتعمد ذلك، فالعلاقة التشابهية بين التغريبتين هي التي استحضرت سيرة بني هلال وبعثتها حية في نفسه، فها هي الأعاصير تعصف بوطننا فلسطين، تاركة آثارها في أشكال عديدة، فعلى صعيد الأهل: تشرد الأهل من عين غزال بعد أن فشلت المقاومة العربية(52) أمام قصف الطائرات الإسرائيلية، وخرج الناس على وجوههم حتى وصلوا إلى جنين، حيث صادف وجود الأمير عبد الإله أمير العراق للتفتيش على الجيش العراقي، فقابله أهالي عين غزال ومعهم شيوخ قريتي إجزم وجبع، فأمر بنقلهم إلى بغداد، واستقبلهم العراقيون –حسب قوله- بالحفاوة والإكرام، وتمكن من زيارتهم سنة 1952، بعد أربع سنوات من النكبة. أما أهل زوجته فلجأوا إلى مدينة طولكرم، بينما كان يقيم هو في القاهرة قبل أن يغادرها إلى السودان سنة 1951.
إنها مفارقات عجيبة غريبة، بين عشية وضحاها يقتلع الفلسطيني من جذوره ليلقى به في مدن لم تخطر له على بال، وتتقطع الروابط الأسرية، وتبدأ رحلة التيه والضياع، إذ لم يلتئم شمل العائلة بعد ذلك، فقد مات معظم أهله غرباء –كما يموت معظم الفلسطينيين- في العراق تباعاً، فقد مات خاله شحادة ووالده ووالدته وزوج أخته أحمد عباس، ووجه عين غزال المشرق أحمد سلامة(53)، الصديق الوفي، «وكل هؤلاء فارقوا الدنيا ولم يصلني خبر وفاة كل منهم في حينه»(54). فهو لم يشارك حتى في تشييع جنازاتهم.
أما على الصعيد الشخصي فقد عانى هذا الأديب أولا من الفقر والجوع، لمدة استمرت أكثر من عشرة أشهر، وأطلق على هذه الفترة اسم حقبة الجوع. وسبب ذلك أن حكومة الانتداب البريطاني كانت تدفع المال للطلاب المرسلين في بعثات، فأوقفت دفع مستحقاتهم. ومن أجل الحصول على الطعام باعت زوجته كل ما لديها من حلي، وعرض عليه صديقه وأستاذه د.شوقي ضيف سلفة لكنه اعتذر(55).
وبتأثير الجوع أيضا ًكان اختياره لموضوع رسالة الدكتوراة «حياة الزهد وأثرها في الأدب الأموي» كي يبحث عن السلوى في حياة هؤلاء الزهاد.
فقد ألقت هذه الفترة بظلالها النفسية الحزينة على حياته بكل أبعادها، وفتحت أبواباً من المعاناة لن تغلق، وفي معرض تعليقه على جوع هذه المرحلة يقول محللاً ومقارناً:» صحيح أني كنت في القرية أشكو الفقر، ولكني كنت أعيش بين أمثالي من الرعاة، إذ كان لي وطن، أما الآن، فأنا أحس –ذاتياً- بأني فقدت القدرة على الاستقرار في وطن»(56).
فهو بهذه الكلمات يفتح الجرح الفلسطيني، ويقارن بين حياته فوق تراب وطنه، وحياته في المنافي العربية، ويشخص الداء المزمن الذي ابتلي به شعب فلسطين، والذي لا شفاء منه إلا بالعودة إلى الوطن.
كما اضطر ثانيا –وبتأثير من النكبة- إلى مواصلة مشوار حياته مع زوجته التي أرغمه أبوه على الزواج منها (اغتراب داخل الأسرة)، وإلى تحديد النسل، وليس تنظيمه فهو على الرغم من حبه للأطفال، إلا أنه بسبب الفقر والغربة، أقنع زوجته بالاكتفاء بطفلين، وحجته القوية «بانا مهما تكن أيامنا المقبلة، فلسنا سوى لاجئين مدّفعين في الأرض، فمن الخير أن يكون العبء على أكتافنا غير ثقيل»(57).
فضياع الوطن حرمه من اسم المواطن ومن حقوقه، وأعطاه اسماً جديداً وعلامة فارقة بارزة هي اللاجئ، وقد أصبحت هذه الكلمة هي الاسم الأشهر للفلسطيني، وربما غابت كلمة فلسطيني لتحل محلها كلمة لاجئ، فكان من الطبيعي أن تنعكس آثار هذه المستجدات على حالته النفسية التي عبر عنها في إبداعاته الأدبية. ومنها ما استهل به سيرته «غربة الراعي» وهو مقطوعة شعرية تحت عنوان: «تحية عام جديد»(58):
في دفـتر لي قديـم كتبت هذي السطور/ أمس الذي عاش فيناأمسى وراء الدهور…/ شـكرا لـه قد نعانالوشـك عـام حزين/ أمات مقـبل عـمرٍ ذبحـا بشفر حـديد/ فـضاع ما نترجـىوعـاش ما نـستعيد
نعم لقد ضاع ما نترجى، وتحولت الأفراح إلى أتراح، ودرب الحياة التي يسلكها الناس وهم صغار تفضي بهم إلى مزبلة! هذه هي نهاية المشوار الإنساني، لقد اكتشف عبثية الحياة، فغلبت عليه النزعة التشاؤمية، ولم يعد قادراً على التعامل مع الأمور تعاملاً سطحياً، بل نراه يستبطن الأشياء، ويكتشف كنهها، ويشعر كل من يقرأ هذه الأبيات أن روح أبي العلاء المعري قد حلت فيه، فجاءت مفرداته تقطر أسى واكتئاباً (نعانا، أمات، ذبح، ضاع) فمن أين سقطت هذه الألفاظ عليه؟ إنها ألفاظ الواقع الذي يعيش فيه، وحياة شعبه المصحوبة بالخوف والقتل، وغياب الأمن، والإحساس بأن العمر قصير، ويعترف إحسان عباس بأنه في شبابه سيطر عليه هاجس خلاصته أنه لن يعيش طويلاً (59). ويمكن القول إن هذا الهاجس فلسطيني الجنسية، فرضته ظروف الحرب الدائمة، وجعلته جزءاً من الأدبيات الفلسطينية الهوية، فهذا محمود درويش ينطق بلسان كل فلسطيني في قصيدة له بعنوان «صلاة أخيرة» (60):
يخيل لي أن عمري قصير/ وأني على الأرض سائح
…. يخيل لي أن خنجر غدر/ سيحفر ظهري/ فتكتب إحدى الجرائد/ كان يجاهد
غير أن هذا الاستشعار للموت في كل لحظة لم يحبطه فلم يعرف الانكسار، بل تقبل الحياة كما هي، وأكثر من ذلك كان هذا الإحساس حافزا له لإنجاز كل عمل يبدأه دون كلل أو ملل، وهذا ما يعرف في علم النفس بالتكيف(61)، أي أن الكائن الحي يحاول أن يوائم بين نفسه وبين العالم الطبيعي الذي يعيش فيه، في محاولة منه من أجل البقاء، متحدياً كل العوائق التي قد تحول بينه وبين إشباع حاجاته ودوافعه، وتحقيق أحلامه وطموحاته.
كان إحسان عباس يؤمن بأن الخوف في النفس البشرية طبيعي، وهو ليس نزعة فردية، «فقد سيطرت على الإنسان منذ الأزل حقيقتان كبيرتان هما: الخوف من الموت، والحنين إلى الماضي الذهبي السعيد». وتأكد من دراساته أن الشعر يعبر عن هذه الثنائية، مما دفعه إلى التساؤل عن إمكانية تحول الشعر من هذا الجو العام الذي يسيطر عليه الحنين إلى الماضي، والخوف من الموت. وحاول الإجابة عن ذلك بفلسفته الخاصة «حين يصبح الموت كبعض حاجاتنا الطبيعية من أكل وشراب، فيتلاشى خوفنا منه، ولا نهرب إلى أحضان الماضي»(62).
ولعل خوفه من الموت كان يكمن وراء إحساسه الدائم بالحزن، فهناك مسحة من الرومانتيكية الحزينة لا تفارقه، وقد ورث هذا الحزن عن أمه فاطمة، «فكانت دائمة الحزن، وهو حزن مقرون بالصمت الكامل»(63). كما ورث عنها الهدوء والوقار. وبعد ضياع الوطن تعمق الحزن في نفسه، وحفر أخاديد في قلبه وروحه فنراه يكتب في مفكرة له سنة 1958:» أنا لا أنكر كثافة مادة الحزن فيما نظمته من شعر، ولكن ما ذنبي إذا كانت مقاطع اللغة والأوزان حتى الراقصة فيها حزينة، وكل شيء في العالم العربي يتنفس فيه شبح الموت»(64).
صرخة هذا الشيخ تعري الواقع العربي المأساوي، والذي بعث من قاموس العربية كل المفردات التي تقطر مرارة وأسى، حتى صارت هذه الكلمات هي الأكثر دوراناً في حديثنا اليومي، وفي أعمال مبدعينا، فهذا نزار قباني في قصيدته بلقيس (65) يفجر حضور الموت في الوسط العربي:
والموت في فنجان قهوتنا/ وفي مفتاح شقتنا/ وفي أزهار شرفتنا/ وفي ورق الجرائد/ والحروف الأبجدية
كانت الصدمة التي حصلت له بعد النكبة قوية جداً، فهي من ناحية أججت عنده مشاعر الحنين التي لن تنطفئ إلى الماضي المتمثل في القرية والرعاة، ومن ناحية أخرى كانت هذه الظروف مناسبة جدا كما يرى للعطاء الشعري، غير أنه فقد الثقة في كل شيء وبخاصة في نظم الشعر، فكان يتجنب قوله، ويهرب من اللحظات التي تجبره على نظم قصيدة بالمشي والهيام في الشوارع.»كنت أنظر إلى هول الكارثة التي حلت بوطني فأجدها أعظم من أن يصورها الشعر، ومع ذلك أرى أنه لا قيمة لشعر غارق في الذاتية والأحزان الخاصة، إذا أنا لم أحاول توجيه الشعر نحو تلك المشكلة العامة»(66).
الصدمة كانت شديدة عليه وجعلته انهزاميا وقوّت عنده الإحساس بالعجز، فهو لا يملك إلا الكلمة، والوقت الآن ليس للكلام، فكل ما حوله يصرخ باسمه الجديد (لاجئ) لا يعرف إلى أين يتجه؟ أو أين يستقر؟ فقد تحول هو وجميع الفلسطينيين أمثاله إلى حجر يتدحرج من مكان إلى مكان… بعد أن كشف الأشقاء العرب عن مشاعرهم الحقيقية.
عار من الاسم، من الانتماء/ في تربة ربيتها باليدين/ كل قلوب الناس جنسيتي/ فلتسقطوا عني جوار السفر(67)
وبدأت رحلة العذاب الفلسطينية من القاهرة، حيث تخرج في قسم اللغة العربية، وأراد أن يعمل كي يؤمّن لأسرته نفقات الحياة. فتقدم للعمل بجامعة الدول العربية، ولكن طلبه رفض بحجة أنه فلسطيني، وفلسطين لا تساهم في تمويل الجامعة العربية. فبحث عن بديل، وقد وجده في السودان في كلية (جوردن التذكارية/ كلية الخرطوم الجامعية) سنة 1952، وحين حصل على العمل، ظهرت له مشكلة عويصة هي مشكلة جواز السفر، إذ كان يحمل جواز سفر حكومة عموم فلسطين، فسافر به، وهناك سحب منه الجواز وأعطي بدلا منه وثيقة سفر (68).
وفي السودان استبشر خيراً، وخيل إليه أن الحجر قد استقر ولو على الهامش الإفريقي الجنوبي من الشرق الأوسط، وراوده إحساس « أن السودانيين صنف مختلف عن سائر العرب الذين قست قلوبهم، حتى عادت أشد قسوة من الحجارة»(69). وفجأة تبدد خياله أمام كلمات طالب سوداني قالها في سره (وكان إحسان عباس يتحدث عن ابن الرومي ضمن مساق الأدب العباسي): «هذا الفلسطيني ماله ومالنا؟ لماذا يشغل نفسه بتدريس ابن الرومي؟ لو كان ذا قدرة لبقي في وطنه يدافع عنه»، ويعلق إحسان عباس على كلمات الطالب: «صدق هذا الطالب في كل ما قاله»(70).
في سنة 1956 حصل السودان على استقلاله، واتجهت السياسة الجديدة إلى سودنة كل شيء، فكان لا بد من الاستقالة ودحرجة الحجر من جديد، عشر سنوات من العطاء والإخلاص وتقديم الخدمات للطلبة السودانيين والأدب السوداني، وكانت النتيجة أن لفظته السودان، وحكمت عليه بالرحيل، إلى أين؟ إلى بيروت، ويصف الكاتب اللحظات الأخيرة حين غادر مع أسرته مطار الخرطوم قائلاً:»كان منظرنا ونحن ننتظر في مطار الخرطوم للمغادرة مثيراً للأسى، وكانت تتردد في خاطري كلمات بيرم التونسي: وشبعت يا رب غربة». وكنت أنا وزوجتي نبكي بصمت. وكان الأطفال ينشجون…»(71).
ثم وصل إلى بيروت بعد طول انتظار، خيل إليه معه أنه لن يسمح له بالدخول، إذ كان لا يحمل جواز سفر، مما دفعه بعد ذلك إلى حل هذه المشكلة، بالحصول على جواز سفر أردني. وفي بيروت تجاذبته ألوان شتى من المشاعر. فهو من ناحية سعيد لأنه يقيم في الواحة الجميلة الوحيدة في العالم العربي كله يومئذ، ولا يغيب عن الأذهان أن بيروت صورة بديلة عن حيفا الساكنة في قلبه وعقله، فالمسافة بين بيروت وحيفا ليست بعيدة، وتطلان على البحر الأبيض المتوسط (72)، وتحيط بها تضاريس الجبال، وبإمكانه أن يسقط صورة الوطن السليب على لبنان خلافاً للفروق الشاسعة بين طبيعة فلسطين وطبيعة السودان. ولكن الرياح تصر أن تجري بما لا تشتهي السفن، فنراه في بيروت يضرب على نفسه طوقاً من العزلة، وينفصل تماماً عن المجتمع الذي يعيش فيه ويكره الاختلاط، ولم يكن الأمر طوعاً بل كان مضطراً.
« في الخرطوم اعترف بي الناس، واعترفوا بدوري فيهم، وأنكرني شخص واحد (73)، وفي بيروت اعترف بي شخص واحد هو الدكتور حليم بركات، وأنكرني الجمهور»(74). لذلك آثر الابتعاد عن الحياة العامة، والتدخل في السياسة، أو الخوض في القضايا التي تشغل بال الجماهير في الصحافة، واكتفي فيها بدور المتفرج. وبالمقابل انصرف كلية إلى العمل فيما هيئ له وهو الدرس والتأليف، فهو يقر بأن ضغوط الحياة الجديدة فرضت عليه العزلة والحبس في صومعة الدراسة والتدريس، إذا أراد البقاء، ولم يحاول القيام بقدر من التطبيع الاجتماعي في المجتمع الجديد الذي انتقل إليه. حتى يشعر بالتوحد مع الجماعة والتكيف معها نفسيا واجتماعياً، والتكيف في علم النفس « عملية ديناميكية تتطلب من الفرد أن يغير سلوكه في كل مرحلة من مراحل العمر، ليحقق التوافق الاجتماعي مع الآخرين»(75).
وفي ضوء هذا الانفصال الاجتماعي، ركن إحسان عباس إلى وظيفة تعويضية مع خير جليس، وسيكولوجياً يمكن القول إن حياته اندغمت بالمكتبات، وهذا يفسر سر حصر علاقته بالمدن العربية التي أقام فيها، في الإطار الثقافي، مما دفع بالكثيرين إلى القول: إن مدن إحسان عباس هي مكتبات تلك المدن، حيث لا نشعر بوجود أماكن إقامة في سيرته بعد رحيله من قريته عين غزال.
في هذا الكلام شيء من الحق، فيما يخص علاقته بالكتب والمكتبات، فالرجل قدر له من البداية أن يتوجه إلى التعليم، وكان كيس كتبه يتضخم باستمرار، وأظهر تفوقاً لفت نظر معلميه، وكان توجهه إلى مواصلة التعليم، في ذلك الوقت، خروجا عن المألوف في القرية، التي يوجه فيها الأبناء للعمل في الأرض، أما الذهاب إلى المدرسة فيعني بالنسبة إليهم تحولاً سلبيا في حياة الإنسان، فهذا خاله يرفض أن يرسل ابنه إلى المدرسة لأنه يرى أن المدرسة تفسد الأطفال(76).
إضافة إلى ذلك، فإن اهتمامات إحسان عباس، قبل النكبة، تكاد تكون محصورة في الكتاب، واستمر هذا الوضع في الإطار المكاني الذي تحرك فيه بدءاً من القاهرة، ومروراً بالخرطوم ثم ببيروت، وأخيراً نهاية المطاف في عمان. وربما توقع منه القراء أن يضيف إلى دوره الأساسي وهو دور المثقف والباحث والأكاديمي أدواراً أخرى تمليها طبيعة المرحلة التي عاش فيها. غير أني أميل إلى الاعتقاد بأن المكتبة لم تكن سلبية، بل كانت المكان الأمثل الذي حقق من خلاله ذاته وأبرز هويته الفلسطينية المصادرة، « فهو، وإن فقد بيته، وضاع وطنه، وشرد أهله، ما زال يملك عقله، وبإمكانه أن يقدم من موقعه هذا شيئاً باسم وطنه، وأن يجسد إرادة الفلسطيني التي تخرج من تحت الأنقاض، وتبعث دائماً من جديد، تتمحور وتتحصن لتعود أقوى من السابق، فهو في العواصم العديدة، كان الثابت الذي لا يتغير، قوميته دائماً تسبق اسمه، الفلسطيني، الحريص على إثبات كينونته، وتحقيق ذاته المسحوقة.
السنوات العجاف:
يواصل الفلسطيني إحسان عباس السير في طريق الآلام، حيث تنتهي الحقبة البيروتية بقسميها الفردوسي والجهنمي، ويغادر إلى عمان عام 1986 للعمل بالجامعة الأردنية، وتبدأ مرحلة جديدة أطلق عليها اسم السنوات العجاف، وهي عجاف من منظورين أحدهما شخصي لأن الرجل تقدم في السن، واعتلت صحته. والآخر قومي يعود إلى روح التصارع والتمزق التي تسود ما يسمى (بالعالم العربي). أما بالنسبة إلى إقامته في عمان: فهو باعترافه يدين لهذه الفترة بالكثير من الخير، إذ أعادت إليه جزءاً من الماضي السعيد، فأخوه بكر إلى جانبه، واتيح له أن يجدد العهد مع أبناء عين غزال. كما انشأ صداقات جديدة، قامت بدور تعويضي عما في أعماقه من خيبة ومرارة.
مما دفعه إلى وصف عمان بأنها مكان طيب أحاطه بالأهل والأحباب، فلم يعد يشعر بأنه مهيض الجناح، ووصف الزمان الذي أقام فيه بعمان بأنه زمان كريم معطاء(77)، وكلامه هذا عن عمان وإن بدا أنه شخصي، إلا أنه شعور جمعي عند معظم الفلسطينيين، فعمان بالنسبة إليهم هي الوطن الثاني، والمكان الذي لا يشعرون فيه بالاغتراب. وعلى الرغم من ذلك فإحسان عباس يصرح بأن هذه الحقبة، وهي الربع الأخير من القرن العشرين، هي حقبة مظلمة في تاريخ الأمة العربية، فرحلة العذاب لم تنته، والمأساة الفلسطينية ما زالت تبحث عن حل في أروقة المنظمات والهيئات الدولية، والأمل بإبجاد حل لها أصبح بعيداً، ولذلك نراه يسجل في النهاية، ما قصده في البداية من كتابه «غربة الراعي»، «إن كل ما لقيت من آلام في تلك الرحلة لا يقف في طول ملم واحد إلى جانب أمتار الآلام التي عاناها الشعب الفلسطيني»(78).
فقد كان يدرك تأثير الزمان على الأشياء، فهو يؤثر على المكان، ويؤثر على الشخصيات، قد يزيدها تألقا أو يقودها إلى الضعف والهوان، وقد ازداد إحساسه بالزمان بعد مرور عهد الصبا والشباب، وضياع الوطن فترك في نفسه كثيرا من الحسرة والألم والحزن، كما أثر ذلك على صحته وذاكرته.
الإطار السياسي لغربة الراعي:
عاش إحسان عباس في حقبة زمنية حرجة، فهو فلسطيني أصلا، وعربي ثانياً، وعاصر الكثير من الأحداث السياسية الهامة، ومع ذلك نراه في سيرته يتجنب الخوض المباشر في السياسة، أو تعاني سيرته مما سمي «بالصمت السياسي»، فهو حين يضطر للحديث عن شأن سياسي يلجأ إلى الأسلوب التعميمي، مع تغييب للمفردات التي تحمل لهجة انتقادية خاصة، أو تشير بأصابع الاتهام إلى جهة بعينها، فلماذا فعل هذا؟ لأنه لم يكتب هذه السيرة لتصوير الآلام،» وإنما كتبتها لنقل جل التجارب»، كما أنه لا يرمي إلى تبيان آرائه ومواقفه من قضايا كبرى، أو الإجابة عن أسئلة مهمة تعرضت لها الأمة العربية(79).
وهذا الصمت السياسي أثار فضول بعض الدارسين وعلى رأسهم: الناقد فيصل دراج الذي وصف سيرة إحسان عباس «بأنها سيرة متقشفة تقول شيئاً، وتصمت عن أشياء، أو تقول ما شاءت لها روح الشيخ الجليل»(80). وحاول أن يخترق هذا الصمت مرتين: الأولى في مقابلة مطولة أجراها مع الشيخ الجليل بمشاركة الشاعر مريد البرغوثي، وذلك عقب صدور «غربة الراعي»، والثانية في مقالة كتبها بعد وفاته، وحاول دراج، سواء في المقابلة أو في المقالة(81)، أن يبحث عن أسباب عزوف إحسان عباس عن الحياة السياسية، وعدم انتمائه إلى أي حزب سواء في داخل فلسطين أو خارجها، مع أنه لم يكن بعيدا عن القضية الفلسطينية، ولا تنقصه الروح الوطنية. وفي إجابة مباشرة عن هذا السؤال وضّح أن ابتعاده عن السياسة كان لسببين ظاهرين ولأسباب أخرى، -حسب تعبيره- أما السببان الظاهران فأحدهما يتعلق بتنشئته القروية، ووعيه الريفي، وهو يرتكز إلى نزعة المحافظة، أو نزعة الشك والريبة من كل شيء جديد، أو نزعة التشبث بالموروث الساكن وإعادة انتاجه، والذي يعبر عنه التمسك بطمأنينة فقيرة. أما السبب الثاني فهو متفرع من السبب الأول، ويكمن في معني السياسة في الوعي الريفي «فكانت السياسة في وعي الفلاحين البسطاء اختصاصاً للأغنياء وللعائلات الشهيرة في حين أن للفلاحين اختصاصاً آخر يتمثل في العمل في الزراعة، وفي الكفاح من أجل الوطن –إن أمكن-. كما أن الحياة السياسية في فلسطين لم تكن متبلورة، «بحيث تحرض المتعلم الريفي على تجاوز وعيه التقليدي، بل كانت في هشاشتها وعموميتها وتقليديتها تدعم الوعي التقليدي وتسنده»(82).
أما الأسباب الأخرى التي أرادها إحسان عباس فتكمن في خط سير الحياة الذي رسمه لنفسه، والمتمثل في التحصيل الأكاديمي والمثابرة المعرفية، للبرهنة على أن الفلسطيني الوطني هو الباحث المجتهد، نعم، لقد كان لإحسان عباس توجه آخر في الحياة بعيدا عن النشاط السياسي، نذر له نفسه، وهو تكريس الجهد في طلب العلم، وفي أقواله المتناثرة هنا وهناك، وفي نتاجه الأدبي من الأدلة الساطعة ما يكفي لتوضيح هذا الجانب، من ذلك قوله معلقا على رحلته في طلب العلم وهو طفل صغير، من قريته عين غزال مروراً بمدن حيفا وعكا، والقدس وما كان يلقى من عناء وتعب بسبب الفقر، والظروف البائسة، التي كانت تدفعه دفعاً باتجاه العودة إلى القرية، والكف عن طلب العلم، لكنه لم يفعل: «ربما كنت أول طالب في القرية يهاجر للتعلم، فإذا عدت ربما لا يجرؤ أي طالب آخر أن يخوض التجربة، وأنا أحب أن يكثر المتعلمون في قريتي»(83). وتابع هذا المنهج في حياته المتنقلة في المدن العربية كالقاهرة والخرطوم وبيروت وعمان، فعاش راهب الفكر في معهد البحث والتنقيب والتأليف، ولم يندم على سيره في هذا الطريق، بل اكتشف مع الأيام، أنه اختار الصراط الأكثر استقامة، والأقصر في تحقيق الهدف، وجاءت المأساة الفلسطينية لتعزز هذا المفهوم، فالأرض ضاعت، والبيوت تهدمت، والأهل قتلوا أو شردوا، أما العلم فهو السلاح الوحيد الذي لا يجرؤ أحد على مصادرته منا، ونراه كأب يتحمل دوره، ويؤدي رسالته بأمانة نحو أبنائه. فيقدم لهم النصح والإرشاد، حول ما ينفعهم في مستقبلهم ألا وهو العلم، كقوله لابنه الأكبر إياس: «اعلم أن الجد لبلوغ غاية هو خير سلاح لدينا، نحن الفلسطينيين، بعد فقد الوطن»(84).
يفهم من كلامه أنه كان بعيداً عن الحزبية، ويتحاشى عن قصد الانتماء إلى أي جهة سياسية، فلم يكن عضواً في حزب، حتى في الوقت الذي نشطت فيه الحركة الطلابية، وانخرط معظم زملائه في الأحزاب، لدرجة أن أحد أصدقائه المسيحيين –كما قال- انضم إلى جماعة الإخوان المسلمين(85).
وربما كان من أسباب إحجامه عن السياسة نزعة الزهد التي عبر عنها في مطلع حياته الفكرية حين وضع كتاباً عن أبي حيان التوحيدي، وكان –باعترافه- أقرب الشخصيات إلى نفسه لأنه يمثل المثقف الفقير الذي لا يستطيع بثقافته أن يقف في وجه تيار النهر العام، ولا أن يغير من منهج الحياة، فيلتف حول ذاته معتصماً برومانسية ثقافية، أو بتصور رومانسي للثقافة،إذ «الثقافة حياة أخرى أو حياة جوهرية توازي الحياة اليومية المليئة بالفراغ»(86). فالمثقف في رأيه قادر على تمييز الخطأ من الصواب، لكنه عاجز عن إحداث التغيير، أو حتى المواجهة، فيلجأ إلى العمل الحر ويتشرنق حول نفسه، ويشعر بالاغتراب عن مجتمعه، لأنه يحلم بعالم مثالي قائم على الحرية والمساواة.
كان المفروض والمتوقع أن يكون إحسان عباس اثنين في واحد المثقف والسياسي، لكن هذا لم يحصل؛ فالمثقف نما وتشعب حتى أصبح إحسان عباس «الأكاديمي اللامع، والمثقف البارز على مستوى الثقافة العربية الجدير بالاحترام والتقدير»(87)، أما السياسي فكان بالمقابل يتهمش حتى أوشك أن يختفي. فكان الحضور القوي للثقافي، وتغييب السياسي، موضع تساؤل ونقد عند بعض الدارسين، ووضع تفسيرات فرضية إذ رأى فيه فيصل دراج: «أثرا من آثار المدرسة الإنجليزية التي تُعود التلميذ على الإخلاص للكتب والتعاليم المدرسية، وتزجره عن النظر إلى الشوارع والقضايا اللامدرسية». كما اتهمه بأنه احتفظ في لاوعيه بأطياف التلميذ الذي كان في زمن السيطرة الاستعمارية على فلسطين، فكان عليه حتى يكون تلميذاً مقبولاُ، أن يحفظ دروسه جيداً وألا يقرب المظاهرات الشعبية، فإن فعل جاء ذلك بطريق لا ينقصه التحرز والتخفي (88).
وقريب من هذا الكلام ما ذهب إليه ابن بلدته د.فهمي جدعان الذي قال عنه: لقد تعامل مع الحدث السياسي بكثير من الخوف والتردد، ويرى «أن إحسان عباس يعاني من تردد إنساني متجذر بين مركبين انثروبولوجيين أصيلين في كينونته الخاصة: العقل والوجدان»(89).
ويتفرع من صمته السياسي سؤال آخر طرحه نفر غير قليل من الناس وهو: لماذا لم يكتب إحسان عباس كتاباً عن فلسطين، التي شهد فجيعتها صبياً، وعاش آلامها شاباً وشيخاً؟ ولماذا لم يكتب كتاباً عن محمود درويش كما كتب عن عبد الوهاب البياتي، وبدر شاكر السياب؟.
التساؤلات السابقة تنطوي على كثير من الاتهام الظاهر والمبطن لإحسان عباس بالتقصير بحق فلسطين، وحق المبدعين الفلسطينيين عليه، فأهل مكة أدرى بشعابها، وهو –بالطبع- كان مجهزاً بكل أدوات الكتابة ومستلزماتها، ومارس كتابة التاريخ والنقد الأدبي على حد سواء.
وقد دافع عنه تلاميذه ومريدوه منهم د.محمد شاهين، أحد المترددين على مجلسه الثقافي بعمان حيث قال: «كانت فلسطين هي الهاجس الأول والأخير طوال سنين حياته، هي قضية ونكبة ومأساة، وفردوس مفقود، وهوية في الشتات»(90).
أما فيما يتعلق بمحمود درويش فيقول محمد شاهين: عن معرفة شخصية، إن إحسان عباس كان متيماً بمحمود بل ومسكوناً به، «وقد ذكر على مسمعي، وعلى مسمع الآخرين، أن أمنيته أن يكتب كتاباً عن محمود درويش»(91).
وكذلك فعل د.ماهر جرار أحد تلاميذه، في معرض دفاعه عن ابتعاد إحسان عباس عن الحياة السياسية والنشاطات الحزبية، فكرر ما ذكر سابقاً من أن تعامل إحسان عباس مع السياسة تأثر بعاملين هما: شخصيته القروية الطيبة، والدور الذي رسمه لنفسه وهو دور المثقف المنكب تماماً على علمه وأبحاثه وطلبته، وأضاف: «وهو وان لم ينخرط في العمل السياسي أو الحزبي، بمعناه الضيق، والتزم حدود الأكاديمي، إلا أنه يتابع بحس الناقد المرهف، وبمنهجيته المتميزة عطاءات جيل من المناضلين العرب، ينضم إليه في مجلسه جمهرة من المثقفين الملتزمين حزبياً والمناضلين من سائر الاتجاهات. إذ غدا عبر موقفه الوطني العام… وعقله المستنير، وصدره الرحب، مرجعا للجميع ورمز ثقافياً ووطنياً، يلتقي عنده لاستخراج رأيه، القومي والبعثي والماركسي والمتدين»(92).
وبعد، فماذا يمكن أن يقول هذا البحث عن الصمت السياسي في السيرة الذاتية «غربة الراعي»؟؟.
لقد نقلت إلينا هذه الغربة جانباً مهماً من تاريخ فلسطين الحديث، وسجل إحسان عباس في صفحاتها الأخيرة آراءه في الحياة السياسية العربية والتي تنطوي على نقد جريء، كما عبر بوضوح عن الحزن الذي يعتريه لما آل إليه العالم العربي من كوارث ونكبات، وكشف عن يأسه من إمكانية الإصلاح والتغيير، وفيما يلي أمثلة من آرائه (وهي للتمثيل لا للحصر): إن حرب الخليج وحصار العراق قد طمسا بقية من التفاؤل والتطلع إلى المستقبل. كما سجل تحفظاته على اتفاقية السلام (اتفاقية اوسلو)، ووصفها بأنها اضطرارية، فرضت علينا من ناحيتين: من قوة القوي، ومن ضعفنا في نفس الوقت. ثم يشكك في مصداقية هذه المعاهدة لأنها عقدت بين طرفين غير متكافئين، وبالطبع، كنا الطرف الأضعف فيها، أما الطرف الثاني/الخصم، فهو القوي «والقوي أقدر الناس على أن يسخر من المعاهدات، ويقلب شروطها لصالحه»(93).
ويسترسل في البوح عما يشعر به من الأسى الشديد لما آلت إليه الأوضاع في الدول العربية من تراجع وانهيار، وجاء هذا البوح بشكل غير مباشر، عبر رسالة اعتذار وجهها إلى قريبته مريم التي سبقت زمانها، وخرجت في تصرفاتها عن الحدود التي تقرها القرية، وصنعت قرارها بنفسها، حين أحبت وتزوجت من قاتل عمها(94) وفيما يلي مقتطفات من هذه الرسالة:
«… فإني إليك يا مريم سالم خليل أتقدم بأسفي واعتذاري، كنت مغموراً بقيم العائلة المستمدة من قيم الريف، حين لم أستطع أن أرى في موقفك ثورة على تقاليد هي القيود بعينها. حين لم أقدّر الإشارة القوية التي حاولت إرسالها إلى الغافلين كي يتنبهوا. إن مجتمعا وقف كله يرى في قتلك تطهيرا لشرف العائلة، لم يكن ليقف عند قتل امرأة واحدة، وإنما كان مليئا بالحقد على كل فرد، امرأة كان أو رجلا يحمل على وجهه إيماءة التحرر…»(95).
إن كلمات الاعتذار هذه تحمل الكثير من الإشارات والدلالات، فهي وإن بدت في ظاهرها، شخصية، إلا أنها ترمي إلى أبعد من ذلك، هذه الرسالة صرخة لتحرير الذات من العبودية لكثير من الأعراف التي ترفضها أعماقنا، وكسر القيود التي نكبل بها أنفسنا، إذا أردنا أن نتحرر من الاحتلال. وأبرز الظن أنه يقصد ذاته في المقام الأول، إذ عاش عمره مسايراً، وفرضت عليه تركيبته النفسية بما فيها من حياء وتواضع أن يستسلم، وأن يقول نعم بدلاً من لا حتى في أكثر المواقف مصيرية. ونقصد بذلك قصة زواجه، فقد رضخ وهو الرجل والمتعلم لرغبة والده في الزواج من الفتاة التي اختارها له، وإن كانت لا تحقق الحد الأدنى من المواصفات التي كان يريدها إحسان في فتاة أحلامه، يتزوج كأي فتاة مغلوب على أمرها، تساق إلى مصيرها دون أن تعترض لأنها لا تملك حق الاعتراض، ويحكم عليها، كما حكم عليه حسب أقواله بالشقاء الأبدي، واكتفي فقط بالنقل الحرفي لجملة واحدة قالها لأبيه بخصوص زواجه: « وحين ودعني في النهار عائداً إلى القرية…قلت: سلم على أمي، وقل لها: إنك في زيارتك لي أطلقت علي رصاصة الرحمة، وتخلصت مني»(96).
كان إحسان عباس في أعماقه يستاء من أشياء كثيرة، لكنه لا يجرؤ على المواجهة، وقد ينحني حتى تمر العاصفة، فمن الطبيعي والحالة هذه ألا يكون صاحب رأي يجاهر به ويدافع عنه، ولم يلجأ إلى التحليل السياسي العميق، بل اكتفي بالأسلوب التسجيلي الصحفي، فكان (في الإطار السياسي) كمن يتابع الحدث من بعيد، ولا يريد أن يقترب منه، وهذا هو موقف المثقفين الذي يستشعرون الحرية الفردية، والاستقلال الذاتي، ويقفون من البيئة موقف الحذر والريبة وسوء الظن، ومما يلفت النظر في شدة حذره وربما خوفه، أنه لم يكن يستعمل كلمة استشهد للثوار، واستعمل بدلاً منها كلمات مثل: قتل، لقي مصرعه، كذلك كان بإمكانه أن يستفيد أكثر من الحدث السياسي، لأنه يهم جمهور القراء، وربما تكون القيمة التاريخية في سيرة ذاتية «كغربة الراعي» أهم من القيمة الفنية، ولا يعني هذا أننا نريد أن نحول السيرة إلى تاريخ، لكن الإغفال الشديد، أو الحديث المقتضب عن بعض الأحداث، كان سببا في إضعاف القيمة التاريخية للكتاب، وكان الأجدر به أن يعطي تفاصيل أكثر بشكل يتداخل فيه الأدب مع التاريخ بصورة طبيعية ومشوقة، وهذا ما ذهب إليه د.إبراهيم السعافين في تعليقه على استشهاد صديق إحسان عباس، موسى القليط الراعي والمثالي والمكافح على يد الإنجليز،» وكان يمكن أن يجعله رمزاً لكفاح الشعب الفلسطيني آنذاك، ولكنه لم يفعل من ذلك شيئاً»(97).
ومن الأدلة على تعامله مع الأمور بحرص وتردد شديدين أنه لم يلتزم بالصراحة المطلقة في جميع ما كتب، وهذا الأمر طبيعي، فالاعتراف المحض في السيرة الذاتية هو اعتراف نسبي، لأن هناك عوائق تعترض سبيل المترجم لنفسه منها: عوامل واعية وإرادية كالتزييف والتمويه، فربما يعبر الأديب في سيرته عن عكس ما يفكر فيه، وما يشعر به، فيطمس بذلك معالم الحقيقة. وهناك عوامل أخرى لاإرادية كالحياء والنسيان(98).
فهو لم يقل كل شيء ولم يطبق ما كان متحمساً له في شبابه، حين كتب كتاب «فن السيرة»، من ضرورة الالتزام بالصراحة الكلية وسبب ذلك كما يقول: «حين وقفت أمام التجربة بنفسي وجدت ان حماسة الشباب لا تستمر…وأني لا أستطيع أن أتحمل مسؤولية تلك الصراحة، وأن مجتمعي يصد عنها»(99).
فهو لم يستطع أن يسجل كل شيء دون خجل أو وجل، ولجأ إلى الأسلوب الانتقائي، وهذا ينطبق على ما يخص الذات أو ما يخص الجماعة، ولا شك أنه أخفي عامدا أشياء كثيرة، وربما كانت هذه المخفية هي الأكثر أهمية (المخفي أعظم)، وهذا واضح وجلي في قوله إنه صد عن الصراحة لأنه لا يستطيع أن يتحمل مسؤوليتها، وما تجر عليه من عواقب.وكانت طبيعة إحسان عباس تتميز بالتفكير بالشيء قبل تنفيذه، وتقدير الخطر قبل وقوعه، كان يتروى طويلاً، ويتعب عقله في العمليات الحسابية حتى لا يقع فيما لا تحمد عقباه، فهل كان إحسان عباس جباناً؟ ربما تحمل الحكاية التالية بعض الإجابة:
كانت هناك أفعى تسبح على جدار، وقد تجمهر حولها الناس خائفين، يهيبون بأي من الرجال الحاضرين، كي يخلصهم منها، وكانت بين الجموع (نوار-الحبيبة المنشودة)، واتجهت الأنظار إليه كي يقوم بهذا العمل، فوجد أن الإقدام على القيام بذلك ضرب من الجنون، وقال للذين يطلبون منه قتل الحية: «هذه ليست شجاعة، إنها تغرير بالنفس»(100).
هذه ليست حكاية، هي حادثة حقيقية وقعت –كما قال- في قريته عين غزال بعد ثورة 1936 بقليل، وبعد استشهاد عدد كبير من المشاركين في الثورة. وكانت نتيجة تخاذله أن قاطعه أهل القرية، أما نوار التي كانت تنظر إليه وتحثه على قتل الأفعى،صارت» تشيح بنظرها عن منظر هذا الجبان الذي لا يحمل أي جرأة يتصف بها الفلاحون. لقد طارت نوار من عالمي إلى الأبد»(101).
أليست هذه القصة بشخوصها وحدثها ونهايتها قصة رمزية، ومن نوار؟ ألا يمكن أن تكون الوطن الذي تسبح فيه الأفعى (الاحتلال) بحرية دون أن تجد من يقف في طريقها!
وبعد، فإن هذه القصة سواء في بعدها الظاهري أو في إيحاءاتها الرمزية لا تقلل من شأن هذا الرجل العظيم، الذي شهد له الجميع بأنه عالم جليل، أثرى المكتبة العربية بعشرات الكتب على مستوى التحقيق، والتأليف في الأدب والتاريخ والنقد إلى جانب كونه شاعراً وأديباً.
هذه السيرة تسجل تجربته الخاصة بكل ما فيها من تناقضات، وإن كان لون الكآبة هو الغالب عليها، وقد حرص إحسان عباس أن ُيبقي في ذاكرتنا، أن حياته لم تكن سهلة، وأن الحياة قاسية، وهذا ما سجله في آخر السيرة تحت عنوان: حكمة ختامية(102)
قاسية هي الحياة
جاسية عروقها
…
تغريك بالممكن من قطافها والمسـتحيل
تعـطيـك وهـي مانعـة تكرّم البخيل
فالحياة قاسية، لا رحمة فيها، وهي أشبه بالشجرة الجافة التي لا فائدة منها، ويرى د.خليل الشيخ أن هذه الشجرة تجسد أزمة الشاعر الوجودية والنفسية. وهذا الأمر طبيعي لأن غربة الراعي تبدأ من الطفولة وتنتهي بالشيخوخة،» فالزمن عنده موزع بين لحظتي عجز قاسيتين: في الطفولة والشيخوخة»(103).
وكان قبل ذلك قد استحضر مقاطع من قصيدة محمود درويش: شظايا الأمس المنكسر(104):
ههنا حاضر
لا زمان له
… وفي
أي وقت وقعنا عن الأمس فانكسر
الأمس فوق البلاط شظايا يركبها
الآخرون مرايا لصورتهم بعـدنا
فقد أنهى إحسان عباس سيرته بكلمات مشبعة بروح التشاؤم، روح إنسان خبر الحياة فلم يجد فيها إلا الألم والقسوة والمعاناة، فخرج بهذه الفلسفة الوجودية التشاؤمية التي تبعث في ذاكرتنا فلسفة مثيلة لها صدرت عن حكيم المعرة أبي العلاء المعري:
تعب كلها الحياة فما أعـ ـجب إلا من راغب في ازدياد
Abstract
This study deals with Dr. Ihsan Abas’s autobiography «The Alienation of the Shepherd». The author handles his childhood, his family, his education, his marriage and his job. The study focuses specifically on the relationship between the individual and the group on the one hand, and literature and history on the other hand. The Author was experiencing the period of catastrophe (Al-Nakba) and its aftermath as a young man, and an old man, that is, during his movement in exile in the Arab capitals such as Khartum, Beirut and Amman. His life exemplifies the miserable life of Palestinian, whose homeland was usurped and who was forced to leave his country and live in exile similar to the alienated shepherds who keep moving from one place to another. Such alienation which is a characteristic of all the Palestinians was therefore accompanied by a sad romantic touch mixed with a pessimistic philosophy which reflects the hard, tough life in which optimism has turned into a form of deception. These feelings were natural because the dream of going back home has never been realized.
: الهوامش
1- مقطع من أغنية لفيروز.
2- د.إحسان عباس: أديب وناقد فلسطيني ولد في قرية عين غزال بالقرب من حيفا سنة 1920، وتلقى تعليمه الابتدائي والثانوي في مدارس فلسطين، ثم تابع دراسته الجامعية في مصر حيث التحق بقسم اللغة العربية، ونال شهادة الدكتوراة، وعمل في العديد من الجامعات العربية، وقد أثرى المكتبة العربية بعشرات الكتب بين تأليف وتحقيق، وشهد له الجميع بذلك، وظل معتكفاً في محراب العلم والمعرفة حتى توفي بمدينة عمان سنة 2003 م.
3- إحسان عباس ناقداً، محققاً، مؤرخاً،فهمي جدعان، إحسان عباس إنساناً، مؤسسة عبد الحميد شومان، عمان، 1998.ص19.
4- نظرية الحقول الدلالية تعنى بجمع الألفاظ التي يمكن أن تنضوي تحت معنى عام يجمعها، ثم دراسة العلاقة المتبادلة بينها.
عبد الكريم محمد جبل، في علم الدلالة، دار المعرفة الجامعية، القاهرة، 1997.
5- حليم بركات، المجتمع العربي في القرن العشرين، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2000 م.
6- إحسان عباس، غربة الراعي، دار الشروق، عمان، 1996.ص45
7-إحسان عباس، أنا ذلك الراعي، مجلة الكرمل، مؤسسة الكرمل الثقافية، رام الله، 1997، العدد 51، ص91.
9،8- م.ن، مجلة الكرمل 51/92.
10- غربة الراعي ص22.
11- مجلة الكرمل 51/91-92.
12-أركاديا: منطقة جبلية في بلاد اليونان، اشتهرت بأنها موئل الرعاة البسطاء، القانعين بما قسم لهم، وأركادي تعني: ريفي، رعوي. المورد، قاموس انجليزي عربي.
13- غربة الراعي ص139.
14- إحسان عباس ناقدا، محققا، مؤرخاً،خليل الشيخ، إحسان عباس وفن السيرة، ص130.
15- كان موسى ثائراً اشترك في ثورة 1936، وكان في نظر الكاتب رمزاً للبطولة، قتله الإنجليز سنة 1939. غربة الراعي ص 124.
16- غربة الراعي ص146.
17- م.ن، ص120-121.
18- أحمد دحبور، في وداع د.إحسان عباس، مجلة رؤية،الهيئة العامة للاستعلامات، رام الله، أيلول سنة 2005.
19-خليل الشيخ، تحولات الشخصية في غربة الراعي، مجلة نزوى، سلطنة عمان،.1999يوليو/ العدد 19، ص24-31
20- أنا ذلك الراعي، مجلة الكرمل 51/92.
21- غربة الراعي ص164.
22+23- أنيس المقدسي، الفنون الأدبية وأعلامها في النهضة العربية الحديثة، دار العلم للملايين، ط، بيروت، 1978. ص547، ص551
24- دويت رينولدز، السيرة الذاتية في الأدب العربي، مجلة الكرمل، العدد 76/ 92.
25- عز الدين إسماعيل، الأدب وفنونه، دار الفكر العربي، ط4، القاهرة، 1968. ص278-279.
26- ومنها أيضاً: الشريف الرضي سنة 1959، بدر شاكر السياب، دراسة في حياته وشعره، سنة 1969.
27-إحسان عباس، فن السيرة، دار بيروت للطباعة، بيروت، 1956.ص5-6
28- إحسان عباس ناقدا، محققاً، مؤرخاً، صاحب هذه العبارة د.إبراهبم السعافين، إحسان عباس قلق الوجود، شهوة الحياة، ص31.
29-انظر:واصف العبوشي، فلسطين قبل الضياع، رياض الريس للنشر، لندن، 1985 ص65، طاهر خلف البكاء، فلسطين من التقسيم إلى أوسلو، وزارة الثقافة، بغداد،2001 م، ص23.
30- غربة الراعي ص9-12.
31- واصف العبوشي ص70، طاهر البكاء ص32.
32- واصف العبوشي ص66.
البراق عند المسلمين جزء من الحرم الشريف، وهو مكان إسلامي على قدر كبير من القدسية، وهو يحتوي على التجويف الذي ربط فيه الرسول صلى الله عليه وسلم البراق، عندما تمت رحلة الإسراء من مكة إلى الصخرة في القدس. أما الصخرة فهي المكان الذي عرج منه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى السماء.
حائط المبكى: بالنسبة لليهود هو الجزء الغربي من الهيكل اليهودي القديم، وهم يقدسونه –لأنه في رأيهم- الجزء الوحيد المتبقي من ذلك البناء المقدس.
33- غربة الراعي ص56.
34- غربة الراعي ص47.
35- م.ن، ص81.
36- م.ن، ص 74.
37-م.ن،ص88.
38- انظر تفاصيل الثورة: خليل البديري، ستة وستون عاما مع الحركة الوطنية، منشورات صلاح الدين، القدس، 1982، ص67. واصف العبوشي ص53، طاهر البكاء ص37.
39- غربة الراعي ص81.
40-م.ن، ص89.
41-واصف العبوشي ص163.
42- غربة الراعي ص94. قال إحسان عباس: «كنا نسمع في الشوارع اسطوانات نوح إبراهيم شاعر الثورة الشعبي الذي أصبحت أغانيه تراثاً شعبياً.»
43- غربة الراعي ص141.
44- غربة الراعي ص 124-125. من ضمن الإجراءات المتخذة: كان سكان المدن يجمعون بالعراء تحت وهج الشمس الساطعة، وكانت النساء بالعادة تفصل عن الرجال، وتبعاً لذلك كان الأطفال لا يستطيعون البقاء في المنزل، فكانوا ينضمون بقلوب يملؤها الخوف لأحد الوالدين».
واصف العبوشي ص155، طاهر البكاء ص43.
45- طاهر البكاء، ص136.
46- السندان: ما يطرق عليه الحداد الحديد، وهذا يعني أنه بين أمرين كلاهما شر.
47- أحمد دحبور، في وداع إحسان عباس، مجلة رؤية، عدد أيلول 2005.
48- غربة الراعي ص181.
4- هم بنو هلال بن عامر بن صعصعة، وينتهي نسبهم إلى بكر بن هوازن، وهي قبيلة قيسية معروفة، وكانت منازلهم في الجاهلية وصدر الإسلام بالطائف والجهات الشرقية من الجزيرة، وشاركوا في الفتوح الإسلامية، وهاجروا إلى شمال إفريقيا وقد أورد ابن خلدون في تاريخه المعروف معلومات كثيرة، وأشعاراً متنوعة لبني هلال.
50- غربة الراعي ص17.
51-تركي العتيبي، إضاءة في تغريبة بني هلال، حوار الرياض، بتاريخ 19/12/2003.
52-حمّل د.إحسان عباس الدول العربية، صراحة، مسؤولية ضياع فلسطين حيث يقول: «كان القرار في يد الجيوش العربية التي دخلت فلسطين فسلمتها، وعادت إلى قواعدها سالمة.» غربة الراعي ص185.
53- أهدى إليه كتابه ( من الذي سرق النار؟) بهذه الكلمات، «إلى ذكرى أحمد سلامة، ذلك المعلم الملهم والناقد الأمين».
54- غربة الراعي ص218.
55- م.ن، ص181.
56+57- م.ن، ص183.
58- م.ن، ص8.
59- م.ن، ص207.
60- محمود درويش، الأعمال الكاملة، ديوان عاشق من فلسطين، ص160، دار العودة، بيروت، 1994.
61- مصطفي فهمي، التكيف النفسي، مكتبة مصر/دار الطباعة الحديثة، القاهرة. ص9.
62- إحسان عباس، من الذي سرق النار؟، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط1، بيروت، 1980.ص34.
63- غربة الراعي ص39.
64- م.ن، ص191.
65- نزار قباني، ديوان بلقيس، منشورات دار الأسوار، ط2، عكا، 1984.
66- غربة الراعي ص 190.
67- محمود درويش، الأعمال الكاملة –ديوان حبيبتي تنهض من نومها، قصيدة بعنوان «جواز سفر»، ص357.
68+69- غربة الراعي ص192.
70- م.ن، ص251.
71- م.ن، ص223-224.
72- انظر حديثه الشجي عن بيروت، غربة الراعي ص236.
73-قصد به: رئيس قسم اللغة العربية في الجامعة آنذاك.
74- غربة الراعي، ص237.
75- مصطفي فهمي، التكيف النفسي ص9.
76- غربة الراعي ص33.
77- م.ن، ص260.
78+79- م.ن، ص263.
80- أنا ذلك الراعي، مجلة الكرمل العدد 51 /91.
81- نشرت المقابلة تحت عنوان «أنا ذلك الراعي» في مجلة الكرمل، العدد 51 سنة 1997. ص 91-114.
ونشرت المقالة تحت عنوان: إحسان عباس/ المعلم النموذجي، الكرمل العدد 78، سنة 2003، ص 132-136.
82- أنا ذلك الراعي، مجلة الكرمل 51/93-94.
83- غربة الراعي ص55.
84- م.ن، ص252.
85- م.ن، ص150.
86- أنا ذلك الراعي، مجلة الكرمل العدد 51 ص96.
87- فيصل دراج، إحسان عباس/ المعلم النموذجي، الكرمل، العدد 78 ص133.
88- م.ن، 78/134-135.
89- فهمي جدعان، إحسان عباس إنساناً، إحسان عباس ناقداً، محققاً، مؤرخاً، ص17.
90- محمد شاهين، إحسان عباس، صورة شخصية، مجلة الكرمل، العدد 78، 2003 م.
91- م.ن، مجلة الكرمل 78/141.
92- ماهر جرار، أنت الغريب في معناك، إحسان عباس ناقداً، محققاً، مؤرخاً، ص26.
93- غربة الراعي، ص259.
94- كان يدعى موسى الصاردي، غربة الراعي ص36.
95- غربة الراعي ص264.
96- انظر تفاصيل قصة الزواج في: غربة الراعي ص155، وما بعدها.
97- إبراهيم السعافين، إحسان عباس، قلق الوجود، شهوة الحياة، إحسان عباس ناقداً، محققاً، مؤرخاً. ص27.
98- يحيى عبد الدايم، الترجمة الذاتية في الأدب العربي، مكتبة النهضة المصرية، 1974، ص 7.
99- غربة الراعي، المقدمة، ص 6.
100+ 101- م.ن. ص 126.
102- غربة الراعي ص 268.
103- خليل الشيخ، تحولات الشخصية في غربة الراعي، مجلة نزوى، سلطنة عمان، العدد 19يوليو/، 1999، ص 24-33.
104- محمود درويش، لماذا تركت الحصان وحيداً، رياض الريس للنشر، لندن، 1995, ص30.
قائمة المصادر :
1. إحسان عباس، غربة الراعي، دار الشروق، عمان، 1996.
2. فن السيرة, دار بيروت للطباعة والنشر، بيروت، 1956.
3. من الذي سرق النار، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1980.
4. إحسان عباس ناقداً، محقَقاً، مؤرخاً، مؤسسة عبد الحميد شومان، عمان، 1998.
5. أنيس المقدسي، الفنون الأدبية وأعلامها في النهضة العربية الحديثة، دار العلم للملايين،
6. ط 2، بيروت، 1978.
7. حليم بركات، المجتمع العربي في القرن العشرين، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2000 م.
8. خليل البديري، ستة وستون عاماً مع الحركة الوطنية، منشورات صلاح الدين، القدس، 1982.
9. رمضان عمر، سيرة فدوى طوقان وأثرها في أشعارها، دار الأسوار، عكا، 2004.
10. سلامة موسى، تربية سلامة موسى، مؤسسة الخانجي بالقاهرة، 1962.
11. طاهر خلف الله البكاء، فلسطين من التقسيم إلى أوسلو، وزارة الثقافة, بغداد، 2001 م.
12. عبد الكريم محمد جبل، في علم الدلالة، دار المعرفة الجامعية, القاهرة، 1997
13. عز الدين اسماعيل، الأدب وفنونه، دار الفكر العربي، ط4، القاهرة، 1968.
14. محمود درويش، الأعمال الكاملة، دار العودة، بيروت، 1994.
15. لماذا تركت الحصان وحيداُ، رياض الريس للنشر، لندن، 1995.
16. مصطفي فهمي، التكيف النفسي، مكتبة مصر/دار الطباعة الحديثة، القاهرة، بلا تاريخ.
17. نزار قباني، ديوان بلقيس, منشورات دار الأسوار، ط2، عكا، 1984
18. واصف العبوشي, فلسطين قبل الضياع, ترجمة علي الجرباوي، رياض الريس للنشر، لندن، 1985.
19. يحيى عبد الدايم، الترجمة الذاتية في الأدب العربي، مكتبة النهضة المصرية، 1974.
الدوريات:
1- إحسان عباس، أنا ذلك الراعي، مقابلة أجراها فيصل دراج ومريد البرغوثي، مجلة الكرمل، مؤسسة الكرمل الثقافية، رام الله، العدد 51، 1997 م.
2- أحمد دحبور، في وداع د. إحسان عباس، مجلة رؤية، الهيئة العامة للاستعلامات، رام الله، عدد أيلول 2005.
3- تركي العتيبي، إضاءة في تغريبة بني هلال، حوار الرياض، الرياض، سبتمبر/2003.
4- خليل الشيخ، تحولات الشخصية في غربة الراعي، مجلة الكرمل، مؤسسة نزوى، سلطنة عمان، العدد 19 يوليو، 1999.
5- دويت رينولدز، السيرة الذاتية في الأدب العربي، مجلة الكرمل، مؤسسة الكرمل الثقافية، رام الله، العدد 76، 2003.
6- فيصل دراج، إحسان عباس المعلم النموذجي، مجلة الكرمل، مؤسسة الكرمل الثقافية، رام الله، العدد 78، 2003 م.
7- محمد شاهين، إحسان عباس/ صورة شخصية، مجلة الكرمل، العدد 78، 2003.
* محاضرة في دائرة اللغة العربية-جامعة بيرزيت-فلسطين
—————