1. تقديم:
لم تكن شعرية هنري ميشونيك (1932- 2009م)، الشاعر والمترجم وعالم اللغة،الا إحدى شعريّات القرن العشرين التي سافرت، بمهماز النّقد والمغامرة، في تأمل الخطاب النظري والتحليلي الخاص بالشعر وقراءة أجروميّاته الأساسية، بلا مطلق ولا متعاليات. تاريخ من السؤال وإعادة السؤال يصاحب برنامج ميشونيك النقدي الذي يرتبط بتأمل مختلف الخطابات من وجهة نظر الشعرية الّتي نظّر لها كمعرفةٍ تبحث في صيغ الدلالة النَوعية للنص الأدبي. لكن ما يبدو لنا مهمّاً ومستعجلاً في هذا المقام الاحتفائي، هو أن نُشير إلى أهمّ القضايا النظرية والإبستيمولوجية التي شغلت ميشونيك، وبلْورت تصوُّره للشعر والشعرية، وضمن ذلك علاقة النظرية بالممارسة، والشعر بالفلسفة، وإبستيمولوجيا الكتابة، وشعرية الترجمة وسياستها في آن.
وقد انبثق ذلك التصوُّر من نقـد نظريّات الدليل شعريّةً كانت أو سيميائيّةً، مُعيداً بناء مفاهيم أساسيّة من مثل الإيقاع، والقصيدة، والمعنى، والذات والحداثة، عبر استراتيجيتي النقد والسجال.
2. إبستيمولوجية الكتابة:
تفاعل النظريّة والممارسة
تقف شعرية ميشونيك في مُفْترق تاريخٍ يعصف بالقناعات، ابتداء من السبعينيات التي شهدت حمّى الجدل النقدي والسجالي في غير علم من العلوم الإنسانية، في أوروبا وخارجها. كان برنامج هذه الشعرية، في بادئ أمرها، هو النقد، وبخاصة نقد الشعرية البنيوية التي كانت في ذروة وثوقها بنفسها. يصرِّح ميشونيك بأنه «لا يمكن أن نقوم بمحاولة جديدة من غير البدء بتحديدٍ منهجي. فنحن لا نقرأ بكلمات الآخرين»(1، ص11). وعليه، طفقت شعريته تناقض، بوعي، تاريخ الشعرية بأسره منذ أرسطو. عملها، حتى وإن كان مجهوداً نظريّاً، لم يكن ممكناً – مع ورغم عتماته – إلا باعتباره تنظيراً للممارسة. لا هي بخطابٍ وصفي، أو نشاطٍ تأمّلي، أو بحثٍ تاريخي أو مقارن. هي لذاتها. بطبيعة الحال، تمرُّ عبر التاريخ، وبالضرورة تمرُّ من الثقافة إلى الثقافة، ضدّاً على وهم تكامل الثقافات. ويرى ميشونيك أن النظرية ليست ممكنة إلا في علاقتها بالممارسة (شأن ألا تكون تأمّلاً)، ومن الخطأ القول أن المفاهيم لم تنتج تاريخيّاً عن هذه الممارسة الخاصة والنوعية، وهو ما يلزم حتماً تلافيه. وقد أعطت البلاغة من ديشو أوسطاش إلى رونسار دي بيلي، وملاحظات راسين حول الشعرية، وأخرى لنوفاليس وبودلير وهيغو، ثم عند ملارمي وهوبكينس لما امتزج الأدب والفلسفة، نماذجَ تُجسّد تفاعل النظرية والممارسة. وفي نظره، ليست هناك مغامرة نظريّة بمعزل عن هذه الممارسة. وترجمة النصوص التوراتية التي دأب عليها تلعب دورها هنا، فضلاً عن ممارسة الشعر. لا يوجد بجانب النظرية «الصعبة» الشعر» السهل»؛ فإذا كانت النظرية صعبة، فسبب ذلك كون الشعر أصعب. إن النظرية، إذن، إنّما هي سعيٌ مستمر إلى الممارسة، ودراسة العلاقات بين بنية النصوص وتلقّيها، ثُمّ لا علم لها ولا هي تحلم به يَوْماً.
يُثْبت ميشونيك، باستمرار، فصل العلم عن النظريّة، ويحاول أن يصوغ خطاباً نظريّاً يبحث قواعد معرفته في وقت يكون فيه المعرفة ذاتها. إن دعوة الشعرية علماً هو وهم أو خداع يمكن موضعته بما يلزم، إنّما هي خطابٌ سجاليٌّ مادام يبحث عن نفسه، ويسعى إلى صرامته الخاصة، داخل وضد الهيمنات الإيديولوجية المتعاقبة. إن الشعرية، دون أن تهجر ميدانها، تقود إلى نقد الأنثروبولوجيا عبر نقد نظريات اللغة، داخل الصراع الذي تقيم فيه من أجل إكساب اللغة ونظريتها وممارستها طابع التاريخية، ضدّاً على إعادات التقديس الراهنة، التي تلعب دوراً سياسيّاً دقيقاً. من هنا تدافع الشعرية عن نفسها، وتتحصن لتكون الممارسة والنقد في آن.
هذه هي النظرية النقدية التي يسميها ميشونيك «إبستيمولوجيا الكتابة»، بما تتضمنه بالضرورة من نقد اللسانيات (وضع حدود اللسانيات ومسلّماتها موضع تساؤل)، ومن نقد التحليل النفسي والماركسية. فهي، أولا، تُذكّر بأنها مرتبطة باللسانيات– العلم، وثانياً بأنّ ميدانها، عكس الظاهراتية، هو الممارسة التاريخية، وأن لها صرامتها وعلاقتها الخاصة بالمعرفة، وثالثاً، بشكل سجالي، هي ضدّ إعادات التقديس الراهنة التي تقترن تماماً بالنزعتين العلمية والتجريبية كما في زمن بيرس، بقدر ما هي ضد مد الخطاب السيكولوجي المُجمِّل وجزره؛ ثمّ هي، أخيراً وليس آخراً، من أجل أن تطرح ما يتعلق، في آن، بالنظرية وميتا النظرية التي تحرص قواعدها على العودة بها إلى الممارسة التاريخية، وإلى تفاعلها مع معرفة «العلوم» الإنسانية. بنوعيّة الكتابة، إذن، ترتبط نوعيّة النظرية.
«إبستيمولوجيا الكتابة» في تصوُّر ميشونيك، بـ «بناء المفاهيم التي تكون نتاج تفاعل بين الممارسة ونظريتها»، صادراً عن عدم قبوله بمصطلح «علميّة» الكتابة مثلما هو مفهوم ومستعمل من قبل بعض الطلائع، ومبرزاً أنّ تعدُّدية الكتابة هي في علاقة مع تاريخيتها، وأنها تضع في «العمل» ممارسة العلاقة بين الفرد والمجتمع الذي يعدل هذه العلاقة نفسها. بهذا الشكل من العقلانية، ينتقد ميشونيك الجدل الضعيف، وأيضا الثنائية الضمنية التي اعتبر الصراع ضدّها لحظة مؤقتة وضرورية؛ لذلك اجترح مصطلح «الأحادية المادّية» في هذا الصدد. هنا، يسعى إلى تعرف نوعية المسلمات والممارسات المترابطة، بنيويّاً، بما يمتّ باستخلاص المستتبعات النظرية (التي يذهب فيها الحقل من علم الإجتماع إلى فلسفة اللغة). يُمثّل هذا المسعى الضرورة الداخلية لعمله الموسوم بـ «من أجل الشعرية» بأجزائه الثلاثة الأولى الصادرة بين عامي 1970 و1973 عن دار غاليمار، والذي يطبعه السجال إلى جانب النقد. يُؤكّد ميشونيك: «يبدو لي اليوم أن أول مسألة هي إبستيمولوجيا الشعريّة، وما يُشكّل موضوع النقاش هو الوضعية نفسها لكل خطاب حول الشعرية، وخاصة حول اللغة الشعرية» (2، ص21). ويطرح الكتابة كـ «فعاليّة لمعرفة النوعية»، و«الكتابة هي إبستيمولوجيا لغتها»، إذ تذهب الكتابة نحو ما لا تعرفه، نحو ما ليس لها: ليست معرفة نظرية، مفاهيمية، بل ممارسة، تعرف، فعلا نوعيا يمرُّ عن طريق العلاقة بين اللغة ونصّها، النص ولغته، بقدر ما يمرُّ عن طريق هذا المحور من العمل الذي لا يتم بالمعرفة بل بالممارسة. وضمن مفهوم «إبستيمولوجيا الكتابة» هاته يعقد ميشونيك وشيجة بين المنهج ومحتوى المنهج، بين النظرية والممارسة. ويأخذ ميشونيك الإبستيمولوجيا في معناها الواسع كـ «نقد لمبادئ وفرضيات ونتائج ذات هدف غايته معرفة الكتابة والأدب، باعتبار أن هذه المعرفة تتم داخل العلاقة الضرورية مع الممارسة. إنها التأمل في أللا تأمل»(2، ص25).
وفق هذا التصوُّر، لا يتعلق الأمر بالتفكير في ما هو الأدب، بل في ما يصنعه؛ وهذا ما يستدعي استبدال مشكلات الماهية بمشكلات التاريخية. وبما أنّها دراسة للغة الشعرية بالمعنى الواسع، فإنّ الشعرية بقدر ما هي تحاول أن تعرف ما تُؤسس له وتخلقه معرفةً تامّة، تستتبع أكثر فأكثر عملاً معرفيّاً للعلاقات بين كلّ مُمارسةٍ للغة ونظريّتها في اللغة. هكذا تقود الشعرية إلى نظريةٍ نقديّةٍ للعلاقة بين الفلسفي والسياسي وكلّ ما هو فعل لغويّ، والقصيدة تحديداً. بناءً عليه، يعمل على إنتاج نظرية نقديّة انطلاقاً من نوعيّة القصيدة، في صلة بمختلف ذرّيات اللغة المضادة، والقصيدة المضادة، وضمن الرهان السياسي دائماً، الذي يتمُّ اللعب فيه داخل الشعرية، مهما يقلّ رفضنا لترك فرضية العلاقة بين السياسي والفلسفي وممارسة اللغة، سواء عند هيغل وماركس، أو لدى الظاهراتيّين على سبيل المثال.
3. شعريّة التّرجمة أو الترجمة
بوصفها ميداناً للشِّعرية:
حتّى وإن كانت النظرية ليست ممكنة إلا في علاقتها مع الممارسة، فإن الترجمة هي ميدان الشعرية التجريبية والنقدية، بما هي ضرورية لها. لا يتعلق الأمر بإعطاء الترجمة مُجدّداً منزلة اجتماعية أو تاريخية كانت أن استخفّتْ بقدرها، ولا بتأسيس لسانيات الترجمة، بل بوضع هذه اللِّسانيات نفسها موضع سؤال باستجلاء التفاعل الذي لا يقبل بفصله عن الشعرية والسياسة داخل الترجمة، وعن الكتابة والإيديولوجيا. سياستها هي سياسةُ نظريّتها لِلغة، ونظريّتها لِلشعر. إنّ العمل على إقامة الدليل بأنّ نظريتها للغة والشعر باطلة ولا يمكن الذود عنها، وبأنها تظلُّ شكلاً نظريّاً لكُلّيانية ثقافية عجوز يجب استبدالها، إنّما هو العمل على هدمها، نحو الإقرار بالترجمة – الحياد لا بالترجمة – الإلحاق، وأيضا لممارسة النوعية الثقافية، اللسانية، الشعرية. يقول ميشونيك «إن شعرية الترجمة تحقق اللقاء بين نظرية الأدب، المنحدرة من الشكلانية الروسية، ونظرية الكتابة داخل الحداثة. ولا تفصل شعرية الترجمة النظرية عن الممارسة. تقيم نفسها عبر تفاعلهما، وتطرح تجانُس التّرجمة والكتابة. وتعرف ترجمة النص كلغة – نسق» (2، ص364). لذلك، تصير ممارسة الترجمة ونظريتها، معاً، ميدان النظرية النقدية للغة الشعرية بامتياز، ولعلاقتها مع الإيديولوجيات. ليس هناك مكان محايد خارج الإيديولوجيا، ولا تعالي المترجم. لا يوجد هنا إلا جهل المترجم أو معرفته. ومقولة «الوفاء» ليس لها من معنى. والواقع أن كل ترجمة تظهر (أو تخفي) الإيديولوجيا لا يعني أنّ كلَّ ترجمةٍ هي إيديولوجيّة. يقصد ميشونيك بالإيديولوجيا هيمنة النماذج الثقافية المعطاة عن الكتابة، ويرى أنّ نظرية لسانيات الترجمة لم تأخذ بالاعتبار هنا ما يقيم الترجمة الجيدة تجريبيّاً، أي إلى حدٍّ ما تلك الترجمة التي تشتغل وتستمرّ كنصٍّ. من هنا، ضرورة شعريّة الترجمة. ثمُّ إن مشكلة الترجمات التي لم تتم، والتي تخلق نصّاً، تقودنا إلى مشكلة شعرية، إلى وحدة جدلية بين نظرية اللغة، ونظرية الأدب ونظرية الإيديولوجيا.
في 1999م، بعد ثلاثين سنة من التجربة والتفكير ونقد الترجمة وممارستها، يعود ميشونيك، ليُكرّس كتاباً بأكمله عن «شعريّة الترجمة»، الترجمة كاشفةً عن جُمّاع رهانات اللغة بقدر ماهي تُعرّي تصوُّر اللغة للمترجم، وتصوُّرها للأدب ولما هو لغةٌ أدبيّة؛ كما تُعرّي هيمنة الدليل. وهذا الدور الذي أُسند للمترجم، وللكاشف عن فكر اللُّغة والأدب معاً، هو ما تمّ الشروع فيه وانكبّ عليه العمل. ثُمّ، بعد ثماني سنوات، يستعيد ميشونيك في «أخلاقيّات الترجمة وسياستها» مشكلات الترجمة نفسها، وقد صارت واحدةً من أقانيم فكره الإشكالي. وهكذا، فإنّه لا يُمكن أن يُقْرأ عمل ميشونيك في الترجمة أو يُفكّر فيه إلا ضمن مجموع أعماله الرئيسة.
4. الشعر بوصفه فعل تحويل،
أو ما في معنى فعل «دلّ»:
في نظره، تمثّل ممارسة الكتابة ونظريتها، ولاسيّما الكتابة الشعرية، سياسيّةً من جهة إلى أخرى. وهو ما سعى ميشونيك، باستمرار، إلى كشفه في تحليلاته للشعر والقصيدة كـ»فعل تحويل»، بعكس إيديولوجيا العلم والتناول الظاهراتي اللذين يجتاحان الخطاب حول اللغة، في حين كان هو يُدشِّن إبستيمولوجيته الخاصة.
4 – 1:
يعمل ميشونيك، في «الدليل والقصيدة»، على توضيح صعوبات ظلّتْ غامضة. وقد كان المفهوم الذي حاولت شعريّته تحليله وتحديده هو مفهوم المعنى، والفهم أيضاً، عدا إبدال مكان قراءته. يستضيء باللسانيات السوسيرية ويعتبر أنّها جاءت ضدّاً على أيٍّ من اللسانيات الأخرى، إذ سلّمت بالتفاعل بين كلّ نظرية في اللغة وكلّ نظرية في الأدب، ووصفت هذا التفاعل بأنّه ضروريٌّ ولا يمكن تجاوزه. وفي هذا السياق، يُميّز ميشونيك، بعناية، مشكل علم الدلالة الذي أرجعه إلى الدور التأسيسي لبنفينيست. مستخلصاً أنّ المسلَّمات الخاصة بالشعرية تصرح بأن «علم الدلالة» المبحوث عنه ليس له ما يشترك فيه مع علم الدلالة التجريبي الذي يمثل تاريخ اللسانيات، والقائم على أساس ثنائية الشكل والمعنى، مثل علم الدلالة الثنائي لدى إمبسون وريشاردز – الذي يحكمه تقهقره وتمحُّله أثناء التفكير في القصيدة. إنّه يرتبط بميتافيزيقا المعنى، بالتعليم النفساني للأدب. غير أن هذا لم يحصل لأن نظرية المعنى تم بطلانها بأن أَقْصت أو تجنّبت مشكلة المعنى، بل يبدو، بخلاف ذلك، أنّها أقامت عدم الفصل بين القيمة والدلالة التي تطرح ممارسات اللغة كعلوم دلالية جدلية ذات مهيمنة متغيرة، ولاسيّما بالنسبة لبنية النص الشعري داخل هيمنة الدال، حيث تتلاقى المعاني اللسانية والتحليلية والشعرية للمصطلح. من هنا تحوّل المفهوم، وتحوُّل اللسانيات السوسيرية نفسها.
إلى جانب هذا، وبناءً عليه، كان نقد الدلائلية (السيميائيّات) المسعى الأكثر تطُّلباً واستعجالاً لدى ميشونيك، بعد أن شرع فيه ضمن أعماله السابقة. يقول ميشونيك: «إذا كانت اللغة مكونة من أدلّة، فهل الشعر، الذي يكون نفسه في اللغة، مُكوّنٌ بالأدلة ؟ لربما وجب علينا، انطلاقاً من بنفنيست، بناء علاقة جدلية بين علم الدلالة والدلائلية حين نفكر في ما يكون نصّاً. إن الشّعرية تضع موضع الاتهام الفرضية الأساسية للدلائلية، التي هي أسبقية الدليل وأسبقيته كانت البذرة التي فكك بها ميشونيك الدلائلية عن طريق إيستيمولوجية الدال، الدال كإسم فاعل لا كـ «صورة سمعية» بمفهوم سوسير. داخل نظرية الدليل يكون اللسان أولاً، والخطاب ثانياً. ولا يمكن أن يكون غير ذلك. تجعل من الإيقاع عنصراً شكليّاً، والعلاقات مع المعنى، لما يلتفت إليه، مجرد علاقات محاكاتية، متجاورة وثانوية. وبين الشكل والمعنى، الإيقاع والمعنى فرْقٌ مُتّفقٌ عليه، مُماثلٌ لباقي الفروق المقوليّة بين النحو والمعجم والتركيب والصرف: ذلك الفرق يُجيزه الدرس الفيلولوجي، والبنيوي أيضاً. مثل هذه «التقسيمات التقليدية» تم خلخلتها عبر إيستيمولوجيا الدالّ، إذ في شرعتها ليس المعنى مدلولاً، بل وليس ثمّة من مدلول أصلاً. ما يوجد إلا الدوالّ، الأسماء الفاعلة لفعل دلّ. الدّال، هنا، اسم الفاعل لفعل دلّ، بحيث لا يؤخذ المصطلح بالمعنى اللساني المعتاد لـ «الصورة السمعية» كما يقول سوسير، بل بالمعنى الذي يكون فيه، بالنسبة للشعرية، بـاثّاً للدلالية La SIGNIFIANCE التي تتجاوز الدليل المعجمي للكلمات، عبر آثار تداعيها مع دوال أخرى.
4- 2:
وهو يختبر أسئلة الشعرية واستراتيجيّتها، يذهب ميشونيك إلى اختبار شعرية هيغو. هيغو الذي يظل استراتيجيّاً، ويحتفظ براهنيته المفارقة للميثات التي تحكم الكتابة وتؤدلجها، راهناً. لذلك يبحث : لماذا وكيف يكون هيغو حديثاً، وكتابته تتجاوز الاختزالات الإيديولوجية المتتابعة؟
يبحث ميشونيك في أسئلة الكتابة التي تخلق هيغو، وتكوينه، ونسقيّته: هذا الموت عبر الماء الذي تُدشّنه الكتابة سلفاً. بقدرما كان هيغو يتبدّى مُخْتبراً لعمل اللغة والتاريخ في علاقة بعضهما ببعض، بقدرما يصارع الإيديولوجيا ولا يتوانى عن كشفها؛ وهو ما يشعُّ، تمثيلاً، في كتابه (châtiments )، العمل الذي يظهر نفسه ذروة المغامرة. من هنا، فإن «كتابة هيغو» ـ في وجهة نظر ميشونيك ـ ليست مونوغرافيا إلا في الظاهر، حيث لا تتمّ دراسة الشعر ولا المحكيّ عند هيغو، بل الإيقاع والتطريز والحقول الاستعارية لا كمستويات بل كصيغة واحدة لفعل دلّ. يتم البحث، عبر نموذج ملموس، عمّا يصنع عمل الكتابة، هذه الفعالية للذات في التاريخ. لا يُحدّد التحليل، هنا، إلا استراتيجيّته الخاصة عبر ما يمسّ قضايا النظرية التي سبق أن طرحت وأُسِّس عليها تالياً، وهو ما يشدّ النظرية والممارسة بعضهما إلى بعض. وبالتالي، لم تكن «كتابة هيغو، بهذا المعنى، سوى تدشين لمرحلةٍ من البحث المتواصل حول تفاعل اللغة والتاريخ. يكتب ميشونيك : «لا توجد، هنا، دراسة «تامّة» لـ» كلّ» هيغو. مثل هذا المشروع هو بالغ الشطط، وهو ليس مشروع هذا الكتاب. لا شيء عن المسرح. ما يقوله غير قصائد المنفي العظيمة، بأقل ما ينبغي. نواقص، ثغرات، ربّما لأن ذلك يتعلق أساساً بتكوين كتابة هيغو، وبانتقال هذه الكتابة من القصيدة نحو الرواية، ثُمّ عبر البحث عن نوعيّة هذا العمل أو ذاك، وعن الأنا – هنا– الآن لهذه الكتابة» (4، ص17).
4 – 3:
في «الشعر بلا جواب»، يحلّل ميشونيك الوضعية الراهنة للشعر، وهو ما يقوده إلى الفلسفة، ونظرية اللغة، ونظرية الترجمة وممارستها، عبر الميثات السائدة التي تُقَدْسن الأدب (وهي العملية نفسها تجاه المقدس) وتفرقه عن اللغة. إنّ الشعر يتمُّ في التاريخ، ويقاوم أشكال العبادات التي تتماهى مع بعضها البعض، والحيل التي تجعل منه مُحاكياً للمعرفة. يتمثل السجال، إذن، في استجلاء الشروط التي يقيم داخلها الصراع مسبقاً، وذلك تحت حجابٍ ميتافيزيقيّ. يقول: «الشعر بلا جواب، لأن الشعر يبدأ مُتفلِّتاً من كلّ تحديدٍ، كلّ مجالٍ،وكل سؤالٍ أصلي أو نقلي. يتفلت من فعل الكينونة، ويصنع صورة اللغة نفسها. لماذا هو سؤال، وليس جواباً. إنّه بوصفه سؤالاً، يظلُّ بلا جواب (…) الجواب هو مُتّجهٌ إلى الماضي، إلى ملاحظة انسجامه الخاصّ، إلى ذاته. وقد كانت البنيوية جواباً؛ والظاهراتية، مع الكتابة التي تتشكل منها، كانت بدورها مُجرّد أجوبة. ولمّا تُحطِّم هذه التنظُّرات مرآتها، فذلك لتتأمل فيها نفسها مُتعدّدةً، ومنشطرة أيضاً. جاعلةً من العالم الكبير عالمها الصغير نفسه» (5)، ص11- 12.
يعتبر ميشونيك الشعر نفسه نقداً للأزمة، وهو ما يقيم أود هذا المشروع، الذي يعتبر مسعى للتساؤل الشعري المضادّ، قائماً على ما يُخلّص الشعر ونظرية اللغة من مثل هذه الطريقة حيث لا تعارض، لا شعر، لا تاريخ، لا خطاب ولا ذات. فجميع هذه العناصر لا تتمُّ داخلها إلا بشكْلٍ تبسيطي: وهو ما يصنع الظاهراتية، البنيوية، والماركسية – هؤلاء الذين يكتبون في الظاهراتية وعبرها، والذين يعملون داخل البنيوية والدلائلية وعبرهما، و/أو الماركسيون أنفسهم. من هنا، يبسط ميشونيك مساحات تأمُّله وسجاله. من وضعية اللغة الشعرية التي تقرأ من خلال المجموع والمابعد: ما يتكهّن به المستقبل دائماً، وهي الوضعية التي تفرض ألا نفصل المغامرة بإزاء نظرية اللغة عن عمل هذه اللغة، ليتمّ الأنا – هنا – الآن، يوماً ما.(5، ص16). إلى علاقة الشعر بالفلسفة لدى فتغنشتاين وهيدغر، لمّا يعتبر خطاب الفلسفة مُشَعرناً، ويرى أن ثمة علاقات جديدة معثورعليها بين الفلسفة والشعر كتفاعل وضرورة لا كإثبات غيبة أو تحقيق خادع. ويُحيل على موريس بلانشو ليتأمّل معنى الكتابة خارج اللغة، إذ يتم تحليل تصوُّر الكتابة التي تتمُّ عنده في العمل، مُبْرزاً كيف يحكم تصوُّرُ الأدب الحياة والموت، الفرد والمجتمع.
وبخصوص «حرية الشعراء»، يرى أنّه ليس ثمَّة نماذج للكتابة، ولا لمعرفتها؛ فالشعريّة يصنعها الشعراء لا «الشاعريُّون»، وبالتّالي فإنّ أفضل مُفكّري الكتابة هم أولئك الذين أبدعوها، وليس الفلاسفة ولا المختصّين في الأدب، غير أنّ الالتباس الحاصل بين الكتابة والأدب لم يسمح بإطلاق نتائج هذه الملاحظة الأمبريقية. وبدون أن يلتبس مع سيكولوجيا المؤلِّف، فإنّ فكر الكتابة هو مَقْطعيٌّ وغير قابل للفصل عن ممارسته، ومن هنا فهو يطفح بالثقافة نفسها التي درج في عُشِّها، وبالفكر الأدبي، إذ هما يسوسان النماذج التي يلتبس داخلها المعيار والقيمة.
ووجد ميشونيك في عمل ميشيل ديغي مثالاً للتأمُّل، حيث لا يفصل هذا الأخير «ممارسته الشعرية عن التأمُّل حول الشعر نفسه، وهو ما يتيح لعمله أن يقرأ كمجموع» (5، ص160-161)، سواء في لغته وبلاغته، أو في الوضع الميتافيزيقي للأنا الشعرية، عدا أنّ قسماً ينتبه إلى وظيفة الشعر ووضعيّته. وهو ما قاده إلى هذا الاستنتاج: «إنّ الشعر ليس حدّاً للعالم، بل هو داخل العالم، من أجل العالم، وهو ما يفتأ يُسائله (…) فالبحث الشعري في العالم إنّما هو بحثٌ في اللغة التي تكشف عنه كلعبٍ لغويٍّ» نفسه، ص174). ومثل ذلك ما أثاره ميشونيك عن رامبو وملارمي باعتبارهما «صانعي الشعرية»، وهو يردُّ على جود ستيفان الذي تناولهما كزوْجٍ للمقارنة سلباً أم إيجاباً، مستعيداً عبارة موريس بلانشو: «إنّ واحداً من مهامّ النقد أنَّهُ سوف يجعل من كُلّ مقارنةٍ أمراً مستحيلاً»، وذلك عبر التفاعل بين النظرية والممارسة الذي يتّضح اليوم، وليس له ما يفعله بالمتناوبة رامبو- ملارمي التي تحجز الشعراء داخل الميتافيزيقا والتفنُّن بألعاب اللغة وجماليّة الأفكار المتحصّلة. ويستطرد ميشونيك قائلاً: « إنّ تناقض جود ستيفان يتمثّل في أنَّهُ يُنادي بِحُرّية الشعراء وحُرّية الشعر داخل اللغة التي تسجنهم مثلما تسجنه»(5)، ص18.
4 – 4:
ولم يكن «احتفاؤه بالشّعر»، في آخر كتبه عنه، إلا على نحو مثير للسخرية كما يبدو من العنوان نفسه، وذلك ضدّاً على عبادة الأوثان التي رأى من الواجب أن تُدْحر لكي يبقى الشعر محفوظاً، إذ وجد أنّ الحُبّ الذي خُصَّ به الشعر المعاصر في حدّ ذاته يقتل القصيدة. من هنا، نفهم أنّ ميشونيك لا يبغي من وراء ذلك مديح الشِّعر، بقدرما يريد أن يكون مسعاه هو تخليص الشعر ممّا علق به وأساء إليه. فقد لاحظ أن كلمة <شعر> أصبحت تعني خمسة أو عشرة أشياء مختلفة في آنٍ واحد، ورأى في ذلك تنافر أصوات لا يُحْتمَل. لذلك كان يُقصد باحتفائه تأمُّل الأشياء الأكثر اختلافاً، تلك التي توضع بشكل غامض داخل كلمة شعر؛ وهو ما قاده إلى نقْدٍ مُعمَّم لما نصنعه بالشعر ونقوله عنه، وبالتالي إلى نقد الفلسفة، أيّ فلسفة، معتبراً أنّ التأمُّل في ما يُعدّ مشكلةً شعريّةً يتجاوز بكثير أن يكون شأناً في الأخلاقيات والسياسة. بطبيعة الحال، لا يُنْكر ميشونيك المعرفة التاريخية للشعر بوصفه ذخيرة، أي تاريخ الشعر في كلّ ثقافة معطاة، غير أنّ مشكلة القصيدة في طور كتابتها ـ كما يبدو له ـ هي في ضرورة امتناعها عن النظر إلى تاريخ الشعر باعتباره كذلك، لأنّها ما أن تفعل ذلك حتى تتحوّل الى فعل شغَفٍ بالشعر يقود حتماً إلى تكرار الشعر الذي سبق وأَنْ كُتِب. لهذا، فهو غالباً ما يُردّد هذا القول الذي يبدو كمجرد تلاعب بالكلمات، بينما هو يبدو أكثر من ذلك بكثير: حبُّ الفنّ هو موْتُ الفنّ.
فمنذ انطلاق الكتابة الشعرية، كانت القصيدة دائماً هي التي تعيد ابتكار الشعر، أمّا النظر نحو الشعر بافتتانٍ وولعٍ فنتيجته سلبية، لأنّ ذلك يقود إلى الكتابة حول الشعر، وإلى الاحتفاء بها، وهذا أسوأ ما يمكن أن يحصل للقصيدة. يقول في افتتاحيّة الكتاب: «الشعر يحتفي بالعالم، ونحن نحتفي بالشعر، والشعر هو بدوره يحتفي بنفسه. ويكفي لرؤية ذلك أن نقرأ ما يُصْنع بالشعر ويُقال عنه. وتتمثّل المشكلة الشعرية في أنّ حُبَّ الشعر هذا هو مَوْتٌ له. ويجب أن يُفْتضح هذا الميثاق العالمي الذي ينصرف لواحدٍ من الفنون الجميلة» (10، ص12).
لا يتعلّق الأمر، إذن، بتحبيب الشعر، بل بالكفّ عن خداعه بالكليشيهات والأباطيل التي لا تعير للشعر وَزْناً. وهذا ما دعاه إلى التأمّل في العلاقات بين كتابة قصيدة وقراءتها وبين مجمل تاريخ الشعر، ووجد في ما يُقال عن الشعر أنّه دائماً ما كان حالةً، مثله مثل الفكر. وذلك هو ما يُشكّل خطره، وواجبه ورغبته. وبخلاف الفكرة المتحصّلة عنه والتي لا تهمُّ سوى الشعراء أو القُرّاء بدرجةٍ أقلّ، فإنّ ما يحتاج للبرهنة هو أنّ الشعر يخصُّ أيّاً كان، حتّى وإن كان لا يعرف عنه شيئاً، لأنَّ الشعر يُخاطر بِكُلّ ما نصنعه وما نعرفه عن اللُّغة، وبالتالي بكلِّ ما يصنعه المجتمع بكُلّ واحدٍ منّا، ونصنعه نحن بالآخرين. وهو ما يُفْهم من القولة المأثورة التي أخذها عن ماندلستام بـأنّ «داخل الشعر، ما يوجد سوى الحرب»، كما يُفهم منها أنّه يواصل هذه الحرب ويُعدّ لها ما استطاع من رباط النقد وهو يتأمُّل أوضاع الشعر الفرنسي المعاصر، ولاسيّما الذي ساد خلال الأربعين سنة من القرن العشرين، وقد وصف روّاده بـ»الماموثات»، الذي لم يعلوا من شأن الفكر في شعرهم، من أمثال بونج وجاك روبو وبونيفوي وسواهم، قائلاً: «يبدو لنا، وبشكلٍ مُفارق، أنّه داخل الشعر الفرنسي يوجد كثيرٌ من الشعر، ولكن ليس ما يكفي من القصائد. فمن الشعراء من لم يفهم أن للقصائد عدوّين يلحقان بها وبالاً مُتغيّراً. الأوّل هو الشعر نفسه، والثاني هو الفلسفة» (10، ص112). يقصد ميشونيك بالأوّل شعر الماضي، وأمّا الفلسفة فإنّما بسبب مفهومها للغة. ومن ثمّة، فإنّ الشعر يعاني من نفسه ومن أولئك الشعراء والفلاسفة الذي جعلوا الشعر طَقْساً، خالياً من الفكر ( بالمعنى الخاصّ الذي يقصده ميشونيك ويُلحّ عليه) ومغزوّاً، مُشْبعاً بالفكر أو الاعتقاد بشكل أسوأ. كما لدى هوسرل رأس الظاهراتية، أو هيدغر الذي تفاقم معه الأمر. إنّ القصيدة بدورها تعاني من أن تكون «عجلاً ذهبيّاً» للشعر، وللفلسفة نفسها. فنظريّات اللغة و»الهيدغريّة» التي سادت لنهاية القرن ما برحت تُهدِّد بخنق القصيدة داخل اللغة والدليل، إذ نُظِر إليها بأنّها حاملة المعنى، وليست هي المعنى، وأنّها ناتج اللغة، وليست هي فعالية اللغة.
ولم يشأ ميشونيك أن يكون النقد الذي واجه به الشعر المعاصر «مُدمِّراً» مثلما يعتقد بذلك البعض، بل تأمُّلاً بانياً ومُؤسِّساً ينتج من اليوتوبيا. ذلك ما ينتهي إليه في «بيان من أجل شرط الإيقاع» المعتبر، هنا، كشكل حياة في الفنّ والمجتمع، حيث يشير إلى أنّه «بخلاف أشكال الشعرنة Les poétisations (التي تتمُّ باسم الشعر)، فليس هناك سوى القصيدة بوصفها شكل حياة يُحوّل شكل اللُّغة، أو هي شكل لغةٍ يحوِّل شكل الحياة. أقول ذلك فقط لأنّ الشعر، كفعاليةٍ للقصائد، يمكن أن يحيا داخل المجتمع، ويصنع بالناس ما يمكن أن تصنعه القصيدة وحدها بهم، فلا يمكنهم بدونها أن يتحرّروا من ذاتيّتهم وتاريخهم حتّى لا يكونوا هم أنفسهم أكثر من منتوجات سوق الأفكار، وسوق الأحاسيس والسلوكات» (10، ص292).
ولقد أثار ميشونيك بكتابه «احتفاءً بالشعر»، والصادر عن دار فرديي عام 2005م، سجالاً حادّاً في الوسط الشعري والثقافي الفرنسي، وردوداً قويّة ممّن شملهم النقد، بما في ذلك ردّ جاك روبو الذي حاكاه ساخراً، بقوله: «هنري ميشونيك ليس فرحاً. ليس فرحاً؟ ذلك أقلّ ما يُقال. إنّه هائج، يغتاظ ويسلق الكلام سلقاً. فرنسا في خطر. بسبب الشعراء. لم يصنعوا ما يجب عليهم، ولم يصنعوا ما لا يجب عليهم. هنري ميشونيك لم يتوقّف عن أن يقول لهم ذلك. منذ سنواتٍ وهو يُخْطرهم بالتنبيهات، ولكن بلا جدوى».
5. الإيقاع بوصفه «الدالّ الأكبر»:
من النقد إلى السياسة
لأهميته المركزية في بناء شعريّته، يؤسّس ميشونيك لنظرية جديدة للإيقاع انطلاقاً من غياب الإيقاع في المعنى، والمعنى في الإيقاع، أي ما يكون به «الإيقاع يوتوبيا المعنى»، و»تشكيلاً للتلفظ بقدر ما للملفوظ» لما يصير الإيقاع في المعنى والذات، والذات والمعنى في الإيقاع، وعليه يكون «الإيقاع هو الدال الأكبر» (6، ص72). من هنا. ينظر إلى عمله «نقد الإيقاع: الأنثروبولوجيا التاريخية للغة»، بما هو المسار النقدي للعلوم الإنسانية، مخترقاً ثغراتها، ومكتشفاً لنفسه طريقةً جديدةً لاشتغال علاقاته. وفي الذهاب– الإياب المستمر بين تحليل النصوص وبحث المفاهيم، يواجه العمل أكثر من مجال، أوروبي وغير أوروبي (عربي وعبري وسلافي).
5 – 1:
يمنح ميشونيك فسحة رحيمة لهذا التأسيس، سواء في إبراز العلاقة بين الفعالية النظرية والفعالية الشعرية، أو عرض رهان نظرية الإيقاع ومجالها، ونوعية الإيقاع داخل اللغة، ومن ثم مماثلاته مع الموسيقى. قبل أن يمر إلى نقد تعريفات الإيقاع، وعلاقات الإيقاع مع الوزن والمعنى والمقول والطباعة، مشتغلاً على ثلاثة نماذج من عمل اللغة في علاقتها بالإيقاع لدى كل من رامبو وأبولينير وسان جون بيرس، وأخرى من التاريخية تقود إلى نقد مفاهيم النثر والشعر، والعروض في إجراءاته العدديّة والتوليدية، وثبوتية العروض إزاء الشعر الحر والقصيدة الحرة، والعلاقة بين العروض وميتافيزيقا المعنى. وختاماً، يتوجه ميشونيك إلى نقد المبادئ الجمالية للأنثروبولوجيا والتحليل النفسي، منفتحاً على مقترحات ممارسة التاريخية. إنها مغامرة في المجهول. كذلك درس ميشونيك لما يصرح بأن «نقد الإيقاع لن يكون فحسب نقداً لنظريات الإيقاع؛ فهذا الأخير لن يكون ممكناً، وضروريّاً، إلا ببناء نظرية للإيقاع تؤسس الإيقاع في اللغة كخطاب (…). إن نقد الإيقاع، وليس نقد نظرية الإيقاع، بمثابة تأسيس للإيقاع في اللغة، أقصد في المعنى، لا بجانب المعنى. من هنا التحويل الكامل لمفهوم المعنى(…) لهذا السبب، فإن نقد الإيقاع يعد نقداً للشعر، وللممارسة الأدبية بوجه عام. على الأقل داخل تاريخنا الحديث. وعلى الشعر اليد الهيدغرية» (6، ص20 – 21). وما نقد الإيقاع إلّا نقد الشعرية نفسها، سواء المحصورة في الشكلانية أو البنيوية التي تتخلى عن نظرية المعنى– الذات، التاريخ، والتي تقوم داخل نظرية الدليل وأولوية اللسان، أو حتّى في الشعرية التاريخية للخطاب، للذوات، أو شعرية اللغة التي تقوم على أنساق الأدلة، فيما هناك شعرية الخطاب التي يراها بأنها غير المكتمل النظري، وتتعاضد مع لسانيات الخطاب التي لا تزال تؤسس لنفسها، إذ ليست لها أدلة مادامت أنها ترى أن التواصل، والقصيدة كأيّ خطاب، يتجاوز الأدلة، كما أنها تحلل القصيدة باعتبارها كاشفة عن اشتغال الإيقاع داخل الخطاب.
ينظر ميشونيك إلى الإيقاع كمبدأ أنثروبولوجي أساسي داخل اللغة، أكثر من الدليل: مادام انه يتعدّى نظرية الدليل، ويمتدُّ إلى نظرية الخطاب (6، ص 73). الخطاب، في نقد الإيقاع، هو استراتيجية في حد ذاتها: «لخطاب فعالية لغة الذات في المجتمع وفي التاريخ. ومن المُهمّ بالنسبة لنظرية الخطابات، كما لنظرية الشعر، أن تتخذ الشعر كخطابٍ نوعيٍّ» (6، ص61). هكذا لن يكون الخطاب، داخل نظرية الإيقاع التي جعلها بنفنيست ممكنة، «استعمالاً للأدلة، بل فعالية للذوات داخل وضدّ التاريخ، الثقافة واللغة» (6، ص71)، من ثم، يعثر الإيقاع على ما يعيد له اعتباره بعد أن جرّدته منه نظريّتا الإيقاع المجرد والشكل، وذلك بإعطائه الأسبقية كمبدأ نسق الخطاب.
5 – 2:
في الشِّعر، يُراهن ميشونيك على النظر إلى الإيقاع مُتفاعلاً مع المعنى والذات داخل الخطاب، بوصفها عناصر تبادليّة، وأيضاً متحوِّلة تبعاً للخطابات والوضعيات. فعلاقة الإيقاع بالمعنى وبالذات، داخل الخطاب، تُحرّر الإيقاع من مجال العروض. يقول: «إذا كان الإيقاع داخل اللغة، داخل الخطاب، فهو تنظيم (ترتيب، تشكيل) للخطاب. ومثلما لا ينفصل الخطاب عن معناه، يكون الإيقاع غير قابلٍ للفصل عن معنى هذا الخطاب. إنّ الإيقاع تنظيمٌ للمعنى في الخطاب. وإذ هو تنظيمٌ للمعنى، فلن يكون قطّ مستوى متميّزاً، متجاوراً؛ كما أنّ المعنى يتمّ داخل كل أنساق الخطاب وعبرها» (6، ص72)؛ وهو ما يُبرّر لماذا يُلحُّ ميشونيك على أن يعُدّ الشعر، وليس البيت، هو الممارسةُ النوعيّة للإيقاع؛ وبالتالي، المجالُ الذي يُميّز درس الإيقاع. إلى ذلك، يُنبِّهنا إلى أنّ الإيقاع يتعرّضُ لخطرين:
إمّا أن يكون الإيقاع مُفكَّكاً كموضوع، وكشكل إلى جانب المعنى، والذي يُعرف بتكرار ما قد قيل: حشو، تعبيريّة.
وإمّا يكون مفهوماً بمصطلحاتٍ سيكولوجيّة تُموِّهه حين يتمُّ النظر إليه كأنَّه غير قابلٍ للوصف، ومستهلكٌ داخل المعنى أو الانفعال.
وبما أنّ الإيقاع «ليس دليلاً»، فإنّه يرفض الدلائلية، ليخلق دلائليّة مُضادّة، طالما أنّهُ «غير قابلٍ للاختزال إلى الدليل. بل هو يتمُّ في اللغة» (6، ص705). وبالنتيجة، يقول: «أُعرّف الإيقاع داخل اللُّغة كتنظيمٍ للسّمات التي من خلالها تُنْتج الدوالّ، اللسانية وعبر اللسانية (في حالة التواصل الشّفوي خاصّةً)، عِلْمَ دلالةٍ نوْعيّاً، مُغايراً للمعنى المعجمي، الّذي أُسمّيه الدلاليّة: أي القيم الخاصّة بخطابٍ، وخطابٍ مُفْرد» (6، ص217). وهو ما يجعل الإيقاع يهجر مجاله التقليدي، وينفتح، باستمرار، على جميع دوالّ الخطاب وعناصره البانية الّتي لا تعمل مستقلّة عن بعضها البعض، بل هي تعمل ككُلٍّ، ممّا يجعلها تُؤسِّس في تضافُرِها المحورين الاستبدالي والمركّبي الّذين يقومان بتحييد مفهوم المستوى كما تصوّرتْه نظريّة الدليل وثُنائيّته. إن دالّ الإيقاع يشتغل في قلب الدلاليّة وهي تُحرّر المتواليات الصغرى كما الكبرى داخل الخطاب الشّعري. لذلك فالإيقاع يتأبّى على كلِّ قياس، كما الدلاليّة.
5 – 3 :
في كتابه «سياسة الإيقاع، سياسة الذّات»، يواصل ميشونيك مجهول البحث في الإيقاع ونقده. فبعد أن بحث حركة الكلام داخل الكتابة وكشف كيف يُحرّر الإيقاع الذات، يضع التصوُّرات التي تحكم علم الاجتماع والتحليل النفسي ولا تُخلي مكانها لأحد، موضع سؤال مُجدَّداً، فيما هو يعلن أنّ الأدب والفنّ غير قابلين للفصل عن تمثُّل المجتمع، بطريقةٍ تُفكِّر في الجماعة والمؤنّث. من البدء، يُقدّم العمل نفسه باعتباره مُخطَّطاً نقديّاً لمجموع صيغ الفكر التي صنعت المشهد الثقافي الفرنسي والأوربي، وحتى الأمريكي، منذ الستينيّات من القرن الفائت، بما في ذلك النظريات، والبنيوية تحديداً، التي همّشت الشعر وألقت به جانب الانزياح والجنون، وقادت إلى الاعتقاد بـ»موت الذّات» ووضعت القصيدة والخطاب خارج تاريخيّتهما.
يقودنا ميشونيك، عبر هذا المسار، إلى أرسطو الذي عبّر، بشدّة، عن التعاضد بين الشعرية، الأخلاقيات والسياسة. نسيان هذا التعاضد هو النسيان نفسه للذّات. من هنا، يحاول ميشونيك أن يجعل من تفكيره في الذّات «سياسةً» للذّات، شارطاً بأنّ ما تحتاج إليه القصيدة هو ذات القصيدة، من ذاتٍ إلى ذات. هذه الذّات النوعيّة ينبغي أن يكون مُفكَّراً فيها باستمرار. يقول:»هذا التفكير ضروريٌّ لنا كلنا، حتّى وإن لم يُعْرف. إنّها ديمقراطية القصيدة، تلك التي تسعفنا للتفكير في مقولة الفكر الشعري وعبره بما يسمح له بأن لا يُحوِّل التمثُّل السائد للغة فحسب، بل أن يعيد اليوم، وبشكل آخر، اكتشاف الوشيجة المنسية بين اللغة، الشيء الأدبي، الأخلاقيّات والسياسيّ. كما بين الإيقاع والذّات وشيجة تتأتّى ممّا نعني به في الفكر الشعري اكتشافَ الإيقاع، بالمعنى الذي لا يكون فيه تتابعاً شكليّاً بل تنظيماً للذّات. إنّي أعرّف الشعر أو الفكر الشعري كاكتشافٍ للذات، مثلما للذّوات بِشكْلٍ غير محدود» (8، ص9). ولا تنفصل الذّات، عنده، عن القيمة التي يأخذها بمعنىً مزدوج: فرضيّة العمل الذي يتبادلانه معاً، والأثر الذي يكون لبعضهما على الآخر. فالقيمة، داخل النصّ الأدبي، هي سمة الذّات، مثلما هي نفسها عناصر لنوعيّة النص. كما الذّات، بدورها، ليست ذاتاً سيكولوجيّةً ولا موحَّدة، طالما أنّ القصيدة لا تنتجُ من الأدلّة، وأنّ النوعية ليست بحثاً عن الأصالة. فهي غير ذات التحليل النفسي الذي إذا كُنّا جميعاً نمتلكه، فإنّه ليس لجميعنا، في المقابل، ذات القصيدة. هكذا، يستنتج ميشونيك: «داخل الشِّعرية، تُظْهر القيمة أنّه لا توجد نظريّةٌ للذّات بدون نظريّةٍ للغة. فضِدّاً على الدليل وتداعياته المُطمئنّة، تُخْلق القيمة غير قابلةٍ للفصل عن الشعريّ (الفكر، الأسلوب ـ كما لو أنّ هناك فكراً بلا أسلوب، وأسلوباً بلا فكر)، وعن السِّياسي» (9، ص141).
وهو يستعيد فكرة هيروقليطس عن الإيقاع، يُبْرز ميشونيك أنّهُ «للمرّة الأولى، منذ أفلاطون، يمكن للإيقاع داخل اللُّغة أن يتجلّى كتنظيمٍ للحركة في الكلام، وتنظيمٍ للخطاب عبر الذّات، وللذّات عبر خِطابها. ليس ثمّة من صَوْت، ولا من شَكْل، بل الذّات» (9، ص143). فلا يوجد تَمفْصلٌ مُزْدوجٌ للُّغة، إنّما الدوالّ فحسب. وفي فهمه، يرى أنَّ الدالّ يُغيِّر المعنى، بحيث لا يتعارض مع المدلول، وأنّ الخطاب يُنْجز داخل علم الدلالة الإيقاعي والتطريزي ـ الّذي لا يتِمّ بحسب الوحدات المفكَّكة للمعنى- وداخل فيزياء اللُّغة، منتبهاً إلى تماسّ الصوت والجسد في المكتوب.
بالنتيجة، ومن منطلق اعتبار الإيقاع تنظيماً ذاتيّاً للتاريخيَّة، يُميِّز ميشونيك بين المنطوق والشفويّ، ويرى أنّه لا يوجد نموذجٌ ثُنائيٌّ، شفويّ ومكتوب، للدليل يتحكّمُ بالصوت ويُجسِّده مكتوباً؛ بل نموذج ثُلاثيّ، منطوق ومكتوب وشفويّ. وإذا كان الشفويّ مفهوماً كأولوية للإيقاع والتطريز في التلفُّظ، فهو مع ذلك خاصية ممكنة للمكتوب كما للمنطوق، وليس بالضرورة أن تكون مُحاكاة المنطوق شفويّةً. وفي هذا المعنى، لا يعدُّ ميشونيك الشفاهيّةَ حفريّاتٍ مفقودة، بدعوى اختفائها المزعوم في العالم الحديث، وينتقد الفكرة المهيمنة التي أشاعها عنها، إلى أيّامنا، والتر أونج من خلال كتابه «الشفاهية والكتابية» (9، ص143).
من شعريَّة الإيقاع إلى سياسة الإيقاع، يُعطي ميشونيك للإيقاع رُؤْيةً جديدةً لم تكن له، إذ تتداخل الذّات في القصيدة بالقيمة وبالدالّ، وهو يعني بسياسة الإيقاع، هنا، ذلك «الجريان الداخلي الّذي يتمُّ بين القصيدة والأخلاقيات والسياسيّ»، بشكل غير قابلٍ للفصل. إنَّهً اكتشافٌ بالفعل، بحسب تعبيره. (9، ص155-156).
إن غزو المفهوم التقليدي للإيقاع، من لدن ميشونيك، سيستتبعه تغيير في نظرية اللغة نفسها، لا في معنى كلمة إيقاع. طالما أن ثنائية الدليل التي تعتقل التصور التقليدي «ليست لسانية أو دلائلية فحسب، بل إنها ذات نتائج دينية وسياسية، لذلك فإن العمل على تغيير مفهوم الإيقاع هو عمل تدريجي من أجل تغيير نظرية اللغة بأكملها» (7، ص87). بهذا المنظور، أحدثت شعرية الإيقاع عند ميشونيك إبدالاً بازغاً في نظرية الشعر، كما في ترتيب أشجار نسبه وعلاقاته. إنّ رهان نظرية الإيقاع، داخل اللغة، لايتمثل في مفهوم الإيقاع فحسب، وإنما في مفهوم المعنى ووضعه الاعتباري، ومن هنا كلّ نظرية في اللغة. لذلك، لا يمكن لدراسة الإيقاع أن تنفصل عن تاريخ نظريّاته. وتبقى إحدى الضرورات الراهنة لنقد الإيقاع هي أن يتأسس بعد كانط خارجاً عنه وضدّاً عليه؛ عدا أنّ آثار الحداثة هي هدم المقولات الكانطية للفنّ كله، وليس للشعر فحسب.»إن النظرية نقد بما هي استمرارٌ وتجدّدٌ لانهائي للنقد، لانهائيٌّ كما اللغة والتاريخ «(6، ص22).
6. نقد الحداثة وادِّعاءاتها ما قبل وما بعد:
بهذا الرهان نفسه، تواصل شعريّة ميشونيك غزوها لكثير من الأسئلة والمفاهيم، ليس آخرها الحداثة التي خصّ عمله «الحداثة الحداثة» لنقدها، وذلك لمّا كثر الحديث – وأكثره غير ذي شأن- عن الحداثة وما بعدها وما حولها مع أو ضدّ. وتتبدى آثار هذا الغزو، أساساً، حين يبرز الكثير من الكليشيهات التي كانت تتوالد تباعاً منذ بدأ الحديث عن الحداثة. وفي حماها، صاح المعاصرون بملء فيهم بالقطيعة، والجديد، والطليعة، و»يجب أن نكون حديثين على الإطلاق» بحسب تعبير آرثور رامبو الذي لم يقل ما اعتقدوه. وهكذا تم تكديس كل النهايات: نهاية المقدس، الإنسانان، القرن، الفن الحداثة. كليشيهات، خطاطات، وداخل الخطاطات ثمة محافظة على النظام، نظام العلاقات بين الفن، الأدب والمجتمع. أما نفاد المعنى المفترض، فقد أفادت منه سلط المفاهيم القائمة. مغامرتها هي في ماضيها. من هنا، كان نقد ميشونيك للحداثة ولما بعد الحديث، ذاهباً إلى أنّ الحداثة هي صراع يكون رهانه الذّات، ولهذا فهي لا تكفُّ عن تجاوز المُحْدثين. هي لا نهائيّة المعنى، فيما الحاضر يبقى حاضراً. يكتب: «إن الحداثة هي صراعٌ متواصلٌ بلا انقطاع، لأنّها حالة ناشئة، وناشئة بلا نهاية، عن الذات، وعن تاريخها ومعناها، لا تفتأ تترك خلفها أدعياء الفكر الذين تقف أفكارهم، وتتوقف، ويخلطون شبابهم القديم مع شيخوخة العالم» (8، ص9).
6 – 1:
إنّ نقد الحداثة هو نقد لخطاطة الدليل، وما يتجاوز هذه الخطاطة هو الإيقاع، الحداثة. ويكون اشتغال الأدب هو درس الشعرية الأوّل، وهي تحصل بتعرُّف أوضاع اللغة والإستراتيجيات والرهانات التي يعطى للغة مجال داخلها، لتصبح من ثم شعريّةً للمجتمع، وشعريّةً للحداثة. لهذا، فهي تظلُّ نفسها. إنها تتم دائما في القصيدة التي تفعل فيها، وداخل القصيدة تتم في الذات التي تفعل فيها، في معناها، في تاريخها، بشكلٍ أليغوريّ (8، ص11). لا يُخفي ميشونيك نيّته في أنّ ثمَّة مغامرة لاستجلاء الكليشيهات والخطاطات التي تمَّ اختلاقها في زمن أوج الحداثة وحُمّاها، فيعمل على تعرُّف آثار الخطابات وكيف هي، ومفاهيم الخطاب المقنَّعة بمفاهيم الدليل واللغة، عبر السجال والنقد: السجال بما أنّه استراتيجية هيمنة السلط والحفاظ عليها، والنقد بما أنّه استراتيجية تعرُّف الإستراتيجيات، وتعرُّف المعنى، بعكس استراتيجية الدليل التي تعمل على تجاوز النقد إلى السجال، وتظلُّ على ميدانها، ميدان السلط، حيث ليس لها ما تجيب به، ولا حتّى ما تفهمه. إنّها مُهرِّج.
إن النقد ـ كما يرى ـ هو هذه الإستراتيجية، لأنّه يُسلِّم ليس بالتضمين المتبادل بين اللغة والتاريخ، وبين اللغة والأدب فقط، بل وبين الفن والمجتمع كذلك. هذه الصيغة من العلاقة تعترض على الجهوية، وعلى التقسيمات المألوفة، وترجعها إلى الماضي. بهذا المنظور، يعيد ميشونيك بنفسه ترجمة بعض الكلمات بما يسمح له بمراجعتها، لأنّها تتكلم لغة الماضي، ولغة الدليل، وترجع سلفاً المجهول إلى المعلوم: القصيدة إلى اللغة، والذات إلى الفرد، والحداثة إلى صراع القديم والجديد، أي إلى القديم. ويصبح الإيقاع، من خطاطة التتابع الوزني الشكلية المدرجة داخل الدليل، تنظيماً للخطاب عبر الذات، كما أنّ الخطاب يصغي لهذه الذات، وأنّ الذات تكون مُنظَّمة عبر خطابها الذي يتجاوز الدليل ثقافيّاً وبلاغيّاً وشعريّاً. يقول ميشونيك: «إنّ الحداثة هي مستقبل الحاضر، ويتمّ مقابلتها بحداثة أخرى. الحداثة التي تنجم عن تاريخ الفن الحديث، أو بالأحرى عن طريقة ما في الكتابة، تلك التي تمزج الفنّ وتاريخ الفنّ (8، ص13).
يثبت ميشونيك أنّ الحداثة تظهر كوظيفة للعلاقة بالماضي المباشر، فالقرن العشرين هو وظيفة للعلاقة بالقرن التاسع عشر، هذه العلاقة ليست هي نفسها لا بحسب المكان، ولا بحسب المادة. لا يوجد في روسيا رفض للعروض التقليدية، وللشعر القومي مثلما يوجد في فرنسا. ولقد غطّت النداءات بالقطيعة بضجيجها ـ وأكثره غير ذي شأن ـ علي الاستمرارية داخل النزعة الأرسطية للاستعارة السوريالية، والنزعة الهيغلية المقترنة بالسورياليين والماركسيين؛ فيما كان هؤلاء ينتظرون منْ يتجاوز القرن التاسع عشر، إن أمكن القول، أمثال همبولدت، للتفكير في استمرارية العلاقة بين اللسان والثقافة، النثر والشعر، اللغة والذات، لم يكن لا القرن التاسع عشر ولا العشرون قد فكّرا في ذلك بعد. وكانت كل من الحداثة ـ مالارمي والحداثة ـ فلوبير، مع الأثر الذي اقترن وعاصر، في فرنسا منذ 1960 تقريباً، اختفاء الذّات المقصاة من طرف البنية، وتجزيئها من طرف التحليل النفسي، تتمّان كاختفاء صريح للذات، وهو اختفاء مرتبط باختفاء الشّفاهية واللغة العادية التي أزاحها الشعر. ويبدو له أنّ الخيط الرفيع للخطاب، الذي يصل همبولدت وسوسير وبنفينيست بعضهم ببعض، وحده من يسمح بالتعرُّف على شعرية الحداثة، لأنّ الحداثة ليست ملكاً للموضوع، ولا للصفة. وليست الأسلوب، ولا المستوى، فهو يعبر أسرع منها، ولا القطيعة التي تجعلها بدورها موضوعاً (8، ص33).
6 – 2 :
يعود ميشونيك إلى التعريفات التي أُعطيت لمفهوم الحداثة والحديث، فيرى أنّ ليطري عرّف الحديث بأنّه «ينتمي إلى الأزمنة المتأخرة، والتاريخ الحديث إلى التاريخ الذي يبدأ مع النهضة إلى أيامنا، والمدرسة الحديثة في الرسم تنتمي إلى مدرسة اليوم. وفيما يخص تعريف بول روبير فيظهر أنّه لا يرى ما يمسك به، ويتركه حال ينفلت منه نحو الكرونولوجي والمعاصر. كما يرى أنّ فيليب سوبو وضع الحديث بموازاة مع آفة 1820م، بقوله: في 1920م، سمعنا بدورنا عن الروح الحديثة، هذه الروح التي لم يألُ كثيرٌ من علماء الجمال الجهد في تحديدها دون جدوى، أرادوا إذن تحديدها، لكن دون كبير نجاح، وسنحاول نحن بدورنا. كما يقال: إن الرمزية كانت حداثة 1886م، كما أنّ الرومانسية هي حداثة 1830م. غير أنّ ذلك بالنسبة للمعاصرين لا بالنسبة لنا، فهما بوصفهما حركتين لم تنتجا عن زمن ذاتنا، وعن استمراريتنا المتكلمة، مستخلصاً أنّ الحداثة هي وظيفة اللغة ـ الخطاب. إنها التاريخ كخطاب، ولا تقبل الاختزال إلى التاريخانية التي سجنتها داخل شروط إنتاج العصر، عصر المعنى».
وهو ما قاده إلى نقد ياوس الذي عاد إلى جذور الحداثة الأوربية، فيأخذ عليه أنّه لم يُطوّر السجال الضمني modernus، منذ القرن الخامس الميلادي، باعتبار أنّه مصطلحٌ مسيحيٌّ يظهر فحسب مُحيلاً على الجديد، الراهن ـ de modo، في الآن، كما على التعارض الكرونولوجي، عندما تظهر، في القرن الحادي عشر الميلادي، modernitas (الحداثة) التي تتعارض مع Antiquitas (القدامة) مرادفة لـ nosta tempora (زمننا). ومن خلال التاريخ الثقافي للتعارضات المتعاقبة: الحديث/ القديم، الحديث/ المتوارث، الحديث/ الذوق الرديء، ثُمّ الحديث / التقليدي، والتقليدي/ الرومانسي، أبرز ياوس كيف أن المرور عبر الروايات والرومانسي، وعبر إعادة اكتشاف العصر الوسيط والمسيحية يجعل الإحساس بالحداثة، من خلال شاطوبريان، ليس كتعارض مع الأزمنة القديمة، بل كعدم اتفاق مع الزمن الحاضر. في هذا المعنى، يجعل ياوس الحداثة تاريخية. يتألق، لكنّه لا يعرف ما تدمغه، عبر حقل آخر، تحليلاته: الحداثة هي الصيغة التاريخية للذاتيّة. هكذا يترجم لاتينية القرن الثاني عشر الميلادي modemitas بـ (زمننا). التزمين الثلاثي للنهضة هو عملية هذه الأنا: القدامة media aetas (أول ظهور لها عام 1518م)، الأزمنة الحديثة. وهذه العملية الذاتية هي نفسها تقود تاريخ الفلسفة عند هيغل وهوسرل، مثلما عند هابرماس(8، ص37-38).
6 – 3 :
لا تكفُّ طبيعة الحاضر الزمنية، أي غير القابل للتمييز، عن فسخ التجديد والتقليد داخل المتحرك الدائم للمعنى. ليس ثمّة معنى أكيد للماضي من جهة، وعدم يقين الحاضر بالآتي، حيث إن زمن الآن، كما يقول والتر بنيامين، بقدر ما يستعيد الماضي باستمرار، بقدر ما ينساه ويعيد استكشافه تبعاً لما تبحث عنه الذّات. من هنا، تعدّ موضوعة أزمة المعنى المطّردة حديثةً بالطبع؛ ليس لأن زمننا منذورٌ، أكثر من شيء آخر، للتباريح التي يخرج منها العصر الذهبي، العابر دائماً، سالماً. وظيفة الإيهام بالموضوعة. إنّ الأزمة هي الشرط نفسه للمعنى وهو يتخلّق باستمرار، إنْ ذاتيّاً أو جمعيّاً. عندما يتوقف يصير ملفوظاً منتهياً. وعليه، يبدو لميشونيك أنّه من غير الصائب القول إنّ الحداثة هي الكلمة بوصفها الكلمة ـ البدل للزمن الإنتقالي. ولذلك يستوقفه بودلير الذي أدرك، في كلمات له وردت بشكلٍ مقطعيٍّ وضمني، أنّ الحداثة هي ما يمسّ الذات أكثر: أي الزمن أو الطابع الذي يتركه الزّمن على إحساساتنا، وهو ما أمكن له أن يكتشف معنى جديداً لمصطلح الحداثة (8، ص34-35).
وعلى رُؤْية العصر الذهبيّ للقرْن العشرين الذي يتجلّى كعَصْرٍ بُطوليّ داخِل ملحمة الحداثة تُجيب الرُّؤْيةُ المعكوسة داخل الملحمة المُضادّة، وقد غيّرت أوروبا نفسها في المتحف بسبب ما لَحِقها من الحرْب العالميّة الثانية، فبدأ الطليعي يتصرّف همجيّاً، وأمّا ما بعد الحديث فقد زادتْ إِحالاتُه بشكل مفرط. وهكذا، كما يرى في نقده لبيتر بورغر الذي شرع في تقديم ما بعد الحديث من خلال وضعيّته السيميائية، فإنّه لم يعد هناك أكثر منْ أدلّة تُجيب على أدلّة كما لو كانت الْعَلاقة بالعالم محطَّمة. وقد امتدّ أثره في الفنون والثّقافة، ابتداءً من نماذج الرّسم في سنوات السبعينيات، التي تؤكّد أنّ الأطْروحة المركزيّة للفكر ما بعد الحديث تعني أنّ الأدلّة لا تعود إلى مرجع، بل دائماً إلى أدلّة فحسب، أو إلى سِلْسلةٍ من الدّوال لا تنتهي. رموز مارغريت الغامضة، وعناوين اللوحات تنحاز إلى اللُّغز، وقبل ذلك عرفت السُّوريالية العطالة (مابعْد الحديثة) للدّلالة. وإذا كان مُناوئو الحداثة رأوا في ذلك ركوداً، إلّا أنَّ بيتر بورغر فإنّه يتعرّف فيها على اسْتراتيجيّة الإرادة المثقّفة الّتي رفعت النّقاش، بالنتيجة، من «مسْتوى الأعمال» إلى «مسْتوى المؤسّسة»، كما يفعل بورديو نفسه. وبمقتضى تلك الأطروحة، فإنّ الدليل، الذي وصفه دوسوسير كوحْدة للدالّ والمدْلول، يُصْبح مُحطَّماً:
من ضَياع المعنى إلى الرّغبة في معنى ضائع (8، ص264-265).
وبحسب أدورنو، في «تقدّم»الفــنّ، من حوالي 1800 إلى اليوم، يلمح ميشونيك إلى أنّ الحداثة كانت عبوراً من القصد إلى غياب القصد، وهو ما يُعبِّر عن تقدُّم الفن بوصفه «فعلاً»، ونزعة الشك التي ترتبط به يتجاوب بعضهما مع الآخر. ويترافق هذا التقدم، بالفعل، مع الميل اللاّإرادي المطلق، والكتابة الآلية من الخمسينيات إلى التبقيعيّة والموسيقى الاحتمالية اليوم. وتلتبس استحالة القصد مع الرفض الإرادي للقصد. كما يتضح غياب القصد من خلال العبث عند بيكيت، ومن خلال «رفض بيكيت لتأويل أعماله»، كأن الاعتراض على القصد يكون مُساوقاً ليس للعمل الحديث فحسب، بل لكلّ عمل، وأنّ رفض التأويل هو رفض الهرمينوطيقا التي هي السُّلطان المحيط بالدليل والمعنى. علامة رعب المعايير: من سقف القيمة إلى جهل القيمة. وحسب المعاصر، فالحداثة – «إله أسطوري خدّاع»، كما يقول ميشيل ليريس. من ثمّة، ينتهي مشونيك إلى القول: «إنّ الحداثة أُمْثولة. أُمْثولة الفنّ. من إسراف في التوتّرات، وطلاق مزعوم بين الفن والجمهور، وشاشة العرض في الواقع. أُمْثولة الأقصى- تقدّم تقني أقصى، رفْض أقصى للتقنيّة، تدمير أقصى أشدّ فتكاً من قرون حتّى الآن» (8، ص297).
وبناءً عليه، فقد جرى الحديث عن فشل الحداثة، كما عن فشل السوريالية. وإذا كانت الحداثة متماهية مع عقل الأنوار، ومع العقلانية العالمية للقرن التاسع عشر، فإنما ثمَة فشل. وإذا كان هناك فشل للحداثة، فشل للعقل، فإنما هو فشل التقسيم الثلاثي – الفصل بين العلم، الأخلاق،علم الجمال. وهو فشل علم الجمال، فكرة علم الجمال نفسها المفرطة في تضامنها مع الدليل لأجل أن يتمّ إنقاذها. ويفرض إلغاء مفهوم علم الجمال ضرورةَ، وحقيقةَ، تضْمينٍ مُتبادلٍ بين القصيدة والأخلاقيات والتاريخ، أو بين القصيدة والأخلاقيات والحداثة. مثلما لا تكفّ الحداثة، في نظره، عن إعادة وضْع الفصل بين الصمت والأخلاق والفن موضع سؤال، وهو مُدشِّن العقل- الحداثة عند هابرماس. ويتّفق مع بيتر بورغر في أنّ عدم اقتران السياسة والأخلاق في زمن هوبز كان تقدّماً، لكنّه يصير إشكاليّاً في العصر الذي تزداد فيه طاقة التدمير، إلى حدِّ أنّ الحياة الإنسانية على الأرض يمكن أن تُباد.
6 – 4 :
بالنسبة للحداثة الشعرية، يشير ميشونيك إلى اللُّعبة الحداثيّة التي ميّزت الثلاثي الثوري رامبو- لوترمايون- مالارمي، وضعت الثلاثي الإصلاحي نرفال -بودلير- هيغو في مرتبة ثانية، كما استبعدت فرلين، وذلك ارتباطاً بالمعتقد الحداثي المضادّ، وعسر هضم النزعة الكاثوليكية لدى السورياليين. ويرى أنَّ تمثّل الأخلاقيات داخل الفنّ يُمثّل خطراً، فيما الخطر يمثّل فرصة الحداثة السانحة، إذ لا حداثة بدون هذه الأخلاقيات. ربما هي كلّ سياسة في الفنّ. هنا، يستعيده ما قاله أدورنو حقّاً: «وحدها الأعمال التي سوف يُتعرّض لها يوماً لها فرصة البقاء، بقدرما أن هذه الأخيرة لا تزال موجودة، لكن ليس تلك التي تضيع في الماضي خوفاً من أن تزول سريعاً»، وبقدر ما نصنع كتابة المستقبل بقدر ما يعيد الماضي كتابة نفسه من خلالنا. وذلك ما يجعل الذّات، عبر الفن والأدب، هي شرط الإيقاع، مثلما يجعل تجديد الذّات والجمعي التّجديدَ نفسه لمّا يقوم الفن والأدب بتحويل أفعال الإحساس والرؤية والفكر. ولهذا السبب يعتبر الفن والأدب أمثولة الذات داخل الجمعي، كما لا يوجد من خطابٍ إلا خطاب الذّات، ولا من تاريخيّةٍ توجد إلا عبر الذات. وبالتالي، فإنّ فعّالية الفن والأدب هي، بشكْلٍ نوعيٍّ، صعودُ الذات وتحوُّلها. في هذا المعنى، فإنّ الأعمال التي تدوم هي تلك غير المكتملة. لا تنقطع عن عدم اكتمال نفسها داخل الذوات. وذلك هو تعريف حداثتها. تتمّ الحداثة إن لم تتمّ القصيدة والأخلاقيات والتاريخ بشكل غير قابل للفصل.فما يوجد أكثر حداثة في العالم، إذن، هو الذّات. تبدأ بكونها حديثة، وعندما لا تتعرف على نفسها في زمن الماضي القريب تعمل بوصفها ذاتاً، حتّى وإن عارضت رفضها لكلّ ما يحافظ على النظرية والمجتمع التقليديين. ذلك أنّه ما من يوتوبيا توجد إلّا داخل الحداثة.
وهكذا، يستخلص ميشونيك من مجموع ما قاله: «لانهائية الذات هي الحداثة. لهذا، تتجاوز المُحْدثين، لكنّ المحدثين ليس بإمكانهم تجاوزها. الحداثة: هي ما لا يستوعبه المحدثون. بهذا المعنى، فهي تُمثّل، بشكْلٍ لا محدود، جزءاً من المستقبل الذي لا يوجد في الحاضر (..) وأما التي لا تزال يوتوبيا داخل اليوتوبيا، وتبدأ كلّ لحظة يكون فيها ثمّة عملٌ، فإنّما هي الذات: الأنا بوصفها مستقبل المعنى وكل تاريخ ولاداته. تلك التي تتمّ عن الحداثة، عبر كلِّ أشكال «كيف يمكن أن نكون حديثين» ـ بتعبير أرثر رامبو ـ التي تمضي، والحاضر يبقى حاضراً» (8، ص305).
إنّ النظرية النقدية، كما يدعوها ميشونيك ويحرص عليها في نقده للحداثة، هي نظريّةٌ اختراقية؛ فلا يضمُّ صوته إلى الكورال الذين يعلنون نهايتها، لأنّهم بذلك يثبتون على مكانها. إنّه يبحث الذات، فيما هو يبحث ما هي الحداثة. أما ما بعد الحديث فهو، في نظره، يُواصل لعب هذه الكوميديا. وبمثل ذلك يعِدُ مُناوئو الحداثة. ويقول شارحاً ما يعني به من عنوان الكتاب نفسه: «الحداثة.. الحداثة، لا يعني أنّ ثمة حداثتين موازيتين. إنّه لما يتمُّ تكرارها، فلا ينتهى من الكلمة الثانية التي سبق أن حلّتْ محلَّها. بعبارةٍ دالّة، يرى أن الحداثة هي هذا الضحك الذي يُردِّده الصدى في المستقبل، الذي هو صدى الحاضر الذي يظلُّ حاضراً (8، ص16).
7. عود على بدء:
لقد كانت شعرية هنري ميشونيك، عبر مجمل أعماله، شعريّةً نقدية، بالمعنى الذي أفاد نقد مفاهيم الإيقاع والمعنى والذات والخطاب، مثلما نقد الحداثة. عبر ضربة نرد لا تكفُّ عن الحركة. حركة الاستراتبجية التي تواجه بخطابها خطاب الاستراتيجيات الأخرى، من الدليل الى ما يتقوّى به، ومن اللّغة إلى ما ينزع إلى إعادة تقديسها، ومن الإيقاع إلى ما يسجن الذّات في الخطاطة، ومن الحداثة إلى ما يحجب ادّعاءاتها.
إنّنا بصدد مسارٍ نظريٍّ ونقديٍّ وبوليفونيٍّ متعدّد ومتراصّ بالأسئلة، وهو لا زال يفعل حتى اليوم. ولا نزعم أنّ هذه المداخل المقطعيّة قد تُحيط بهذا المسار كُلِّه، الصعب والمتشعب داخل واحدةٍ من أهمّ الشعريّات وأطرفها في عصرنا، كان يشقّ حجر الأسئلة، ويندّ عن ضحكات الحُرّية، بدءاً من (من أجل الشعرية)(1970)، مروراً بـ(نقد الإيقاع)(1982) و(سياسة الإيقاع، سياسة الذات)(1986) و(الحداثة..الحداثة)(1988) و(شعرية الترجمة)(1999)، إلى (احتفاءً بالشعر)(2002)، عبر النصوص الكاشفة عن انشغالات ميشونيك الأساسية، ضمن استراتيجيتي النقد والسجال. بيد أنّ وضعيّته كشاعريٍّ ولغويٍّ ومترجمٍ قد غطّت على قدره كشاعر وجد نفسه يواجه الشّعر ويكتبه عن مَيْلٍ لا عن تصنُّع، وهو في السادسة عشرة من العمر. لقد سعى بهبة الكلمات الّتي لديه إلى أن يكون مهموماً بطفولته التي استهلكتْها أيام الحرب والمطاردة والخوف، وأن يكون شاهداً على ذلك العذاب الذي يلحقه الناس بالنٌاس، قبل أن يتوجّه لدراسة الآداب حتى يتحرٌر ماديٌاً. بين الفكر والقصيدة، جعل ميشونيك من عمله عملاً لا ينفكُّ عن أخلاقيّاته، وما يني يقدّم نفسه طريقةً لاستبصار الحياة. كما عمل على هدم أسوار « اللّاهوتي – السياسي» التقليدية، ممّا أدخل في شعره، وفي فكره الشعريّ بالنتيجة، قَدْراً هائلاً من هواء اليوتوبيا التي تقترح واجب حماية التعدُّد، بما في ذلك تعُّدد اللُّغات التي تفرض نفسها. يقول ميشونيك: «أكتب القصائد، وهذا ما يجْعلُني أفكّر في اللغة بصفتي شاعراً لا لغويّاً. ما أعرفه وما أبحثه يمتزجان. وحتى ما أترجمه، ولاسيّما النصوص التوراتية. وهكذا لا يوجد لا البيت ولا النثر، ما يوجد إلّا أسبقيّة الإيقاع المعمَّمة، في سمعي… حتّى القصيدة، تلك التي أعني بها تحويلاً لشكل الحياة إلى شكلٍ لغويّ ولشكل اللُّغة إلى شكل حياة، تتقاسمُ مع التأمُّل المجهولَ نفسه، الخطرَ نفسه واللذّةَ نفسها..». وقد صدرت له مجاميع شعرية عديدة كان آخرها «والأرض تسيل» الصادرة في عام 2006م، أي قبل ثلاث سنواتٍ من رحيله. في قصائده تُكلّمنا قوّتها العارية مع صرامة كلماتها البسيطة والمضيئة التي تؤرّخ للبدايات وللأصل، بالقدر الّذي تؤذينا في الصميم داخل انسيابيّةٍ طافحةٍ بإيقاع الذّات: أنا،.
هـــــامش:
نشير بالرقم الأول إلى عنوان الكتاب، وبالثاني إلى صفحة المقولة المستشهد بها من هذا الكتاب نفسه :
1. pour la poétique I, éd. Gallimard, 1970.
2.pour la poétique II, Gallimard, 1973.
3.Le signe et le poème, Gallimard, 1975.
4.Ecrire HUGO, Gallimard, 1977.
5.Poésie sans réponse, Gallimard, 1978
6.Critique du rythme, éd.Verdier, 1982.
7. Les états de la poétique, P.U.F.,1985.
8.Modernité Modernité, Verdier,1988.
9. Politique du rythme Politique du sujet, Verdier, 1995.
10. Célébration de la poésie, Verdier , 2001.
مثلما أنّا استفدنا في هذه المداخل من بعض الحوارات التي أجراها مع هنري ميشونيك معاصروه من شعراء ونقّاد.