كان المحرر الثقافي، المبتدئ، لا يعرف من هو إبراهيم فتحي.. تأتي سيرة الرجل مرة أو اثنتين أمامه. فلا يعطي اهتماما، وبثقة العارف الساذج، يبدو عليه الاستهتار.. يحدث هذا مرة أمام أحد كبار الكتاب، وفي المرة الثانية لا يحتمل هذا الكاتب الأمر، فيعنف المحرر: «ليس معنى أنك لا تعرفه جيدا أنه شخص عادي، هذا يعني عيبا فيك وتقصيرا منك».
الكلمات أحدثت ما يشبه «الخرم» في دماغ المحرر الذي كان يشعر ببعض التحقق الكاذب، خصوصا أن ثقته في معنفه كانت بلا حدود.
ذهب يحكي الموقف للأصدقاء، فيجد الردود متشابهة: «إبراهيم فتحي مثقف كبير وأحد أهم نقاد ومفكري الستينيات»..
يلجأ صاحبنا إلى جوجل تارة، فيتلمس فيه ملامح لتاريخ الرجل، ويسأل الأصدقاء تارة أخرى، فيحكون له أكثر، عن معاناة فتحي في السجون ونضاله السياسي، ومدى قدراته الذهنية التي ساعدته على استكمال مهمته في الحياة، والتي كان من الممكن ألا تستكمل بعد ما تعرض له من تعذيب خيالي في سجون السياسة.
يدرك المحرر فداحة الخطأ، ويمر عامان أو ثلاثة، وتعيد الهيئة المصرية العامة للكتاب طبع أحد أعمال إبراهيم فتحي ضمن مشروع مكتبة الأسرة: «العالم الروائي عند نجيب محفوظ».
لم يصبر المحرر حتى يرى الكتاب بعينه، بحث عن العنوان في فضاء الإنترنت، ولفت انتباهه فقرة للكاتب أحمد الخميسي بمقال في وداع نجيب محفوظ، قال فيه إن: «كتاب الناقد الكبير إبراهيم فتحي، هو أعمق ما ظهر في النقد العربي في سياق البحث عن الرؤية الفلسفية لعالم نجيب محفوظ»، وأنه: «من دون هذا الكتاب يستحيل عمليا فهم عالم الأديب العملاق فهما حقيقيا».
ليس هذا فحسب، بل إن الناقد المصري حسين حمودة حكى للصديق الشاعر شعبان يوسف إن محفوظ نفسه تحدث إليه عما جاء في الكتاب قائلا إنه أهم ما كتب عنه رغم كثرة الدراسات التي تناولته.
ياه، إلى هذه الدرجة..
الآن، الكتاب في يد صاحبنا، بغلاف لائق للفنان وليد طاهر، يفتحه بلهفة، ويقرأ..
هناك قسمان، الأول يحمل عنوان الكتاب «العالم الروائي عند نجيب محفوظ»، والثاني يحمل «دراستان تطبيقيتان» عن أديب نوبل.
والحق، أن العمق الذي في الكتاب، لا يقف عند مسألة النقد أو البحث في عالم محفوظ، لأن الأمر هنا هو ترسيخ وإثبات حقيقي لفكرة تبادلية العلاقة بين مُرسل الإبداع ومُتلقيه، باختلاف الوعي عند هذا المتلقي أو ذاك، وظاهرة أن يكتمل مشروع أدبي إلى الدرجة التي تسمح لمفكر مثل إبراهيم فتحي برصد فلسفة الإنسانية بأكملها وتطورها، وليس فقط تطور المجتمع الذي صاغه وجسده محفوظ، فيقترب الكتاب من شواطئ الفكر والفلسفة والتأمل بأكثر مما يقترب إلى شاطئ النقد الأدبي التقليدي، ويصير إبداعا موازيا لإبداع محفوظ، بل إنه يساعدنا على فهم حقيقة ربما تكون صادمة لفئة بعينها، وهي أن الجدل الذي أحدثته رواية «أولاد حارتنا»، على سبيل المثال، هو الأبسط والأكثر سطحية أمام الجدل الذي يمكن حدوثه لو تأمل الظلاميون، أو حتى فهموا دون تأمل، ما وراء الأدب المحفوظي، ببساطة أكثر لو قرأوا كتاب إبراهيم فتحي، الذي هو، من حسن الحظ، لا يأتي بمستوى القارئ العادي في تلك المجتمعات التي لا تقرأ، بل إن القارئ المتخصص يحتاج إلى إعادة تأمل في بعض الفقرات حتى يستوعبها، بسبب شدة تكثيف الأفكار وليس فقط الجمل، فنجد أن كل هذا الإبحار لا يتجاوز المائتي صفحة من القطع المتوسط.
تأمل التساؤلات التي يطرحها فتحي في البداية:
«هل تشكل المرحلة الأخيرة من إنتاج محفوظ، التي سميت بالمرحلة الفلسفية أو الفكرية، انقطاعا في استمرار عالمه الروائي القديم؟، هل يمكن اعتبارها تطورا جديدا يقدم رموزا لمأساة الإنسان في العصر الحديث، هل كان عالمه القديم تعبيرا عن علاقات راسخة مستقرة مرصوفة الشوارع، تزرعه شخصيات ترتدي أخلاقيات قاطعة التحدد، وتدون معالم حياتها النفسية في بطاقاتها الشخصية، بينما أصبح عالمه الجديد تعبيرا عن وضع انتقالي يملؤه التطفل للنائمين يتثاءبون أسئلتهم عن معنى الحياة؟».
يتذكر المحرر فكرة كان استقاها مع التقليب في كتاب «فن الرواية» لميلان كونديرا، وهي كيفية مصاحبة الآداب والفنون للإنسان «منذ بداية الأزمنة الحديثة»، فتساعده على التوازن النفسي، والصمود أمام قوى التقنية والسياسة التي تجاوزته واعتبرته مجرد شيء بسيط بعدما كان «سيد الطبيعة ومالكها في سالف الزمن». فنجد الكتاب يتعامل مع محفوظ شأن تعامل كونديرا في محاولته لفهم سرفانتس وتولستوي وكافكا وعلاقتهم بفلسفة ديكارت وغيره من الفلاسفة، وولادة عالم الأزمنة الحديثة والرواية مع: «خروج دوني كيشوت من بيته غير قادر على تعرف العالم».
يفيق القارئ من شروده، ويكمل مبهورا بما يقوله فتحي عن فكرة التكاثر واستمرار البشرية عند محفوظ: «نحن بإزاء صورة شاملة للعلم والتاريخ، أبطالها البذور الأولى. وهي صورة لا تخلو من مثاليات وتضحيات مبرقشة الألوان، نراها ممتدة على طول الروايات التي تأخذ، في أحد محاور الاستمرار، تتبعا لشجرة أنساب عاشور الناجي في الحرافيش أو السيد أحمد عبد الجواد في الثلاثية».
ومن النقاط المهمة التي يلفت لها إبراهيم فتحي، هي أن حديث محفوظ عن «سلالات ممتازة تحمل موروثات أو جراثيم وراثية تجعلها قادرة على البقاء، أو سلالات ضامرة، أو حتى جمال الروح الذي هو هبة من الطبيعة البيولوجية»، هذا الحديث العلمي البحت، يأتي في رواياته على لسان شخوص عادية «وليس على لسان عالم بيولجي أو على لسان آرثر شوبنهاور».
هذه النقطة، تحيلنا بدورها إلى أهمية الصنعة، وتجليها في تحقيق البناء الروائي، فهو، أي محفوظ، يحسن، مثلا، اختيار الآباء الذي يرث عنهم الفرد طبيعته البيولوجية: «قد يرث جسما شاهقا، أو ملامح وجه روحي أكثر جمالا يعلو إلى مستوى القمم. فعاشور الناجي ولد عملاقا، وفيه بذور الجمال الخلقي، وتزوج زينب وأنجب منها حسب الله ورزق الله وهبة الله، ولم يرث أحدهم عملقة أبيه»، ولكن سرعان ما يلتقط فتحي حكمة هذا التطور، فهؤلاء الذين لم يرثوا هذه الصفات: «هم جميعا أوعية تصدعت في طريق البقاء وانقرضت بلا أثر، على العكس من شمس الدين ولي عهده الذي أنجبه من ساقية البوظة».
وبالعودة لمسألة الزمن وعلاقته بالرواية، يلملم إبراهيم فتحي أطراف المشكلة: «فالاتجاهات الحديثة في الرواية تنطلق من أن العالم في أيامنا الحاضرة لم يعد هو العالم الذي كانت تصوره الرواية التقليدية»، ولا ينفصل حديثه عن الفكرة الأشمل التي تكلمنا عنها، فيكمل: «تزعم تلك الاتجاهات أنها تقوم بزلزال في أرض الرواية مماثل للزلزال الذي قوض أركان العالم القديم، ولم يعد الراوي اللاشخصي، قادرا على مواصلة أداء دوره في عالم يبدو غريبا على نفسه».
وبالطبع لم يكن الحل هو التخلص من البناء تماما، كيفما أعده البعض أحد أشكال الكتابة الجديدة، ولكن أصبح على الرواية «أن تكتشف وسائل تجريبية جديدة، مثل المونولوج الداخلي في الحاضر المستمر، وهو زمان جزئي يسمح بتداخل الأزمنة، وكان محفوظ مولع به إلى أبعد الحدود».
ويتكئ إبراهيم فتحي في هذه النقطة على رواية «ثرثرة فوق النيل»، مشيرا إلى بعض الأوصاف، مثل: «أغصان الجازورينا والأكاسيا، الأسقف المصنوعة من الأخشاب وسعف النخيل، المائدة الصغيرة الملتصقة بالجدار الأيمن»، أو عبارات من قبيل: «يأكل قطعة من الكوستليتة ممسكا بطرف الريشة».
يرى فتحي، أن هذه الأوصاف قد لا تكون لها وظيفة تعبيرية حقيقية، ولكنها تقفز بجانب «السطور في كتب المكتبة على ظهر العوامة، بوصفها دلالات وانطباعات حسية، فتشكل جزءا من معنى الأحداث».
ربما أن اقتباس فقرات من أي كتاب عند مراجعته هو من الأمور غير المحبذة، لكنك لا تستطيع الحديث عن قضايا من هذا النوع دون الإشارة إلى بعضها حتى لا تصبح القراءة شكلا من السيريالية. ويخشى الواحد أن يترك لنفسه العنان فلا يستطيع لمّه مرة أخرى، خاصة وأن هذا الكتاب مثله مثل صندوق مُحزّم بإحكام، تفتحه فتندفع منه الأفكار، ويصبح من الصعب رصها داخله مرة أخرى، لكنها تكون قد أحاطتك، قبل أن تسكنك وتلعب في تكوينك، وتغير شكل التلقي لديك.
هذه إذن قراءة متواضعة في كتاب فلسفي مهيب، منها مساهمة في توصيل معلومة عنه ولو لقارئ واحد، ومنها أيضا تطهر من ذنب جهل وعجرفة كاذبة، أدانت محررا ثقافيا مبتدئا. ومساهمة متواضعة في هذا الملف والاحتفاء الذي يستحقه المفكر الكبير، مساهمة بمثابة اعتذار لإبراهيم فتحي، واعتذار آخر يستحقه كاتب كبير تسبب المحرر المبتدئ في إثارة حنقه ذات يوم.