وُلد رمبرانت فان رين في ليدن، إحدى مدن هولندا، في 15 يوليو 1606 من أب كالفيني (نسبة إلى كالفين، اللاهوتي الفرنسي البروتستانتي، القائل بأن قدر الإنسان مرسوم قبل ولادته) وأم كاثوليكية. رمبرانت كان الابن الثامن من بين تسعة أبناء.
في المدرسة اللاتينية، سنة 1613، تعلم القراءة والكتابة باللغتين الهولندية واللاتينية، وتعلم أن يقرأ الكتاب المقدّس. التحق بجامعة ليدن وهو في الرابعة عشرة من عمره، وما كان هذا ليحدث لو أنه احتذى حذو أشقائه الأكبر سناً الذين اختاروا العمل مع أبيهم في مرحلة مبكرة جدا من العمر.
أمضى رمبرانت بضعة أشهر فقط في الجامعة، وهي فترة كافية مع ذلك لإعفائه من الخدمة في الحرس المدني، إضافة إلى حصوله على امتيازات أخرى. من جهة أخرى، هو لم يبدِ اهتماما باللغة اللاتينية أو بدراسة الإنجيل الرسمي، ولم تكن لديه القابلية أو الاستعداد للدراسة عموما.
غير أن ولعه الفطري بالرسم والتلوين فقط هو الذي أثار قلق والديه، اللذين وجدا نفسيهما مضطرين إلى إخراج ابنهما من المدرسة، وراحا يبحثان عن رسام ماهر يستطيع ابنهما أن يتعلم منه أساسيات ومبادئ وقواعد فن الرسم. وقد وجدا في الرسام جاكوب فان سفاننبرغ خير أستاذ له. لكن هذا الأستاذ المتأثر بأسلوب هيرونيموس بوش، ويعمل على طريقته، لم يكن فنانا بارزا.
كما في أي ستوديو أو مرسم، كان التلاميذ يتعلمون كيفية استخدام أنواع معينة من الخشب، إعداد وتجهيز الكانفاس، طحن الألوان. كان على المبتدئ أن يتعلـّم النهج التقليدي الأساسي. رمبرانت درس المبادئ الأساسية في الرسم، إضافة إلى التشريح والمنظور. وفي ثلاث سنوات تعيّن عليه أن يتعلـّم كل ما كان أستاذه فان سفاننبرغ قادرا على تعليمه.
كان رمبرانت تلميذاً ممتازاً، أذهل المحترفين بأعماله التي تنبئ عن موهبة فنية فذة واستثنائية. وقد رأى والده أن الوقت حان لإرساله إلى أستاذ آخر، هو الفنان الموقـّر بيتر لاستمان الذي يعيش في أمستردام، المتخصص في رسم الموضوعات الميثولوجية والإنجيلية، متأثراً بالرسامين الإيطاليين، خصوصاً كارافاجيو في موضوعاته واستخدامه للضوء، حيث أمضى سنوات في إيطاليا.
لم يكن لدى لاستمان أي اهتمام بمشاهد الحياة اليومية أو المناظر الطبيعية أو الطبيعة الصامتة. كان في الحادية والأربعين من عمره ورمبرانت في الثامنة عشرة عندما عملا معاً. خلال ستة أشهر استطاع رمبرانت أن يبرع في موضوعات لاستمان وفي فن التكوين. هذه الفترة الوجيزة كان لها تأثير حاسم على رمبرانت الذي سرعان ما تفوّق على أستاذه سواء في التكوين أو تحقيق التأثير الدرامي.
لدى عودته إلى ليدن، أسس رمبرانت استوديو خاصاً به، وعمل مع رسام آخر يصغره بعام واحد يُدعى يان ليفنس، من ليدن أيضا، وكان مثله تلميذاً عند لاستمان في أمستردام.
وقتذاك لم تكن الكنيسة أو الدولة ترعى الأعمال الفنية بتمويل وتكليف الرسام بتحقيق لوحات خاصة بها. الكنائس الصغيرة كانت عارية من اللوحات والنقوش فوق مذبح الكنيسة. لذلك تعيّن على الفنان أن يحصل على التكليف من مواطنين آخرين، وهؤلاء مجرد زبائن على الفنان أن يلبّي طلباتهم ويشبع رغباتهم، إذ كانوا يتوقعون من اللوحة أن تعكس رصانتهم ووقارهم وطموحهم. كانوا يريدون أن يتعرّفوا على أنفسهم في اللوحة وأن يتعرّف عليهم الآخرون.
في سن العشرين أظهر رمبرانت براعة فائقة ومقدرة عالية في رسم اللوحات الدينية والتاريخية. اعتاد أن يرسم وجوه أفراد من عائلته، بالإضافة إلى وجهه هو، ويركّبها على الشخصيات التاريخية في تلك اللوحات. في هذه الفترة اكتسب سمعة جيدة ومكانة مرموقة. كذلك كشف عن براعة في ممارسة تقنية جديدة هي الحفر، فقد كان على الدوام تواقاً إلى تعلـّم المزيد والتضلـّع في تقنيات جديدة.. ذات مرّة قال لتلاميذه: «اجعلوا هذا قانونا: أن تمارسوا بوعي ما كنتم تعرفونه قبل الآن.. عندئذ سوف تكتشفون ذاك الذي يفلت منكم، وما ترغبون في تعلـّمه».
في أبريل 1630 توفى والد رمبرانت الذي تجاوز الستين من عمره، وكان على أشقاء رمبرانت تولـّي مسؤولية إدارة الطاحونة. أما هو فقد اكتفى بالعروض الكثيرة التي تأتيه من أمستردام لرسم البورتريهات والصور الأخرى. هذا أدى به في العام التالي إلى الانتقال إلى أمستردام حيث اكتسب، هذا الشاب الموهوب، الشهرة والثروة، وأعماله صارت مثار إعجاب شديد.
في 1633 أعلن خطوبته على فتاة تدعى ساسكيا، وفي العام التالي تم عقد قرانهما. في 1635 أنشأ ستوديو خاصاً به، وقام بتدريس عدد من الرسامين الشبان تقنيات الرسم والحفر، وتعليمهم قياس نسب الجسم البشري وطحن الألوان.
رمبرانت أراد كل شيء: أن يمتلك كل شيء، وأن يفهم كل شيء. درس أعمالا لم يشاهدها قط، رسم مدناً لم يزرها أبداً. نَسخَ لوحة دافنشي «العشاء الأخير». رسم مشاهد من لندن ومناظر طبيعية إيطالية.
مع حلول العام 1641، اجتازت شهرة رمبرانت حدود أمستردام لتنتشر في أقطار أوروبية أخرى، وشرعوا في تداول أعماله.
رمبرانت غالبا ما يتوصّل إلى اللوحة عن طريق عمل تمهيدي يتسم بالحرص والدقة والتمهل. المناظر الطبيعية التي رسمها هي بعيدة جداً عن تلك التي تنتمي إلى الرسم الهولندي في عصره الذهبي، إنها في أغلب الأحوال مجرد محيط لحدث ما. رمبرانت كان يهتم برسم الأساطير، وعناصر الحياة الاعتيادية ليست مرسومة ببساطة إكراما لنفسها: هنا كل عنصر شخصيةٌ في القصة. على سبيل المثال، لوحته «منظر طبيعي مع جسر خشبي» (1637) تظهر حانة على يسار اللوحة، وبرج كنيسة على اليمين، رمزان لقطبين متعارضين، طرفي نقيض، وبينهما الحياة التي كانت تـُعاش في هولندا القرن الـ 17.
إن سر قوة وعظمة لوحاته يكمن في سيطرته التامة على الإضاءة التي تنير أجزاء من الجسد أو المنظور. من أجل أن يرسم الأحلام والتأملات والأفكار، خلق رمبرانت طريقة جديدة تماما لاستخدام أو توظيف الضوء. العالم الخارجي لم يعد موضوعه.
كان يشتري الكثير من المطبوعات التي تحوي صورا ومن خلالها يدرس الفن الإيطالي. ونظرا لكونها بالأسود والأبيض فإنها لا تبدي شيئا من تألق اللوحات الزيتية على القماش واللوحات الجصية الجدارية الأصلية، ولا أياً من المواد المستخدمة. كل ما كانت تظهره هذه الصور هو تكوين العمل الفني وحركة الضوء والظل.
مع تجربته في حفر الكليشيهات النحاسية، كان رمبرانت يعرف أي الخطوط يرقق ويخفف من كثافته بإبرة الحفر وعمق التآكل (تأكل الحامض للمعدن) الضروري لخلق الظل. إن فهمه في ما يتصل بخط وظل اللوحات التي لم يرها أبدا، وتجربته العملية في الحفر كان لها تأثير حاسم على أعماله.
ليس الرسم بل الحفر هو الذي ألهمه عندما بدأ في تنظيم الضوء والظل على الكانفاس. لقد طبّق عملياً طريقة توزّع الضوء والظل كما لو كان يستخدم الحبر على الورق. بإضافة اللون، هو منح هذا التوزّع بعداً آخر. هذه الطريقة لا تعني وضع الظل حيث يلقيه الضوء منطقيا، إنما هي وسيلة لتقديم توكيد في اللوحة، لخلق التأثير الذي يرغب الفنان في إحداثه. لقد كان التعارض بين الضوء والظل في أعماله، هذا التعارض المذهل في دقته، يوصّل الثبات والطاقة معا.
في يونيو 1642 يفقد رمبرانت زوجته، على الأرجح، بعد إصابتها بمرض السل وهي في الثلاثين من العمر، مباشرة بعد إنجابها ابناً.. وهو الابن الوحيد الذي لم يمت بعد أسابيع من الولادة كما الحال مع الأبناء الثلاثة السابقين.
لم يشك أحد في عبقرية رمبرانت، لكن ذلك لم يمنع الآخرين من توجيه بعض النقد إليه، خصوصا في ما يتعلق باعتماده الكلي على طلبات التكليف التي يتقدم بها الزبائن مقابل مبلغ من المال. كما وُجه إليه الاتهام بأنه يرسم كثيرا لإشباع حاجاته الخاصة: فنان مطلوب منه أن يلبّي مطالب ورغبات أولئك الذين يدفعون لقاء لوحاته. هؤلاء الزبائن، في الحقيقة، لم يدفعوا نقودهم إلى العبقري مقابل صور قابلة للتماثل ويسهل تعيين هوية شخوصها. يتعيّن على البورتريه أن يكون صورة تشبه الأصل، غير أن رمبرانت هنا كان في الواقع يرسم ذاته الباطنية، الجوهر المراوغ، التحوّل.
ليس هناك من موديل أكثر توفرا وأكثر استعداداً عن طيب نفس من رمبرانت نفسه في إعارة وجهه كمادة للـّوحة.. لقد أنجز عددا وافرا من الصور الذاتية (البورتريهات الشخصية).. في الرسم والحفر والإسكتش، ولم يجاريه فنان آخر في هذا المجال. كان يرسم نفسه، بالأحرى وجهه، في اللوحات التاريخية، إذ ينتحل إحدى الشخصيات التاريخية، أو واحداً من الحشود، أو جندياً، أو شخصاً عادياً، بحيث يجعل هذه الشخصية تحمل وجهه. كان يرسم نفسه في حالات وأمزجة عديدة ومتنوعة: قلِق يرتقب شراً، مبتهج، لا مبال، واثق من نفسه، مغرور، متغطرس، خائب الأمل، وهو يصغي، وهو غاضب.. إلخ. كما رسم نفسه بمختلف القسمات والأعمار: شابا، بدينا، متغضن الوجه، شيخا. وهو لم يعبأ بذلك كثيرا: بورتريهاته لم تكن تهدف إلى التماثل. سواء أكان في أسمال بالية أو بملابس مبهرجة، أظهر العزلة التي تأملها ودرسها طويلا، العزلة التي حاول – ربما على نحو يائس – أن يقاومها بثقة وشجاعة، لكن اتضح أنها مراوغة.
تلك البورتريهات لم تكن فقط وسيلة لدراسة نطاق التعبير على الوجه أو استكشاف تقنيات فنية مختلفة، بل كانت أيضا شكلا من أشكال البحث والتوكيد.. هي بمثابة المناشدة، الصرخة، تسجيل لمواقف ومشاعر متغيرة طوال حياته. كان الفنان يرسم نفسه كما لو يندمج في لوحته.
صور رمبرانت الذاتية لم تكن سرداً لحياته بل تجسيدا لطموحاته كرسام.. كانت بيانات، صلوات. لقد رسم نفسه في هيئة آثم يساعد في رفع الصليب الذي يتمدد عليه المسيح. وفي هيئة الابن المبذر. يرسم لينقذ روحه وسمعته. يرسم عزلته. كان وحيدا وبلا حول، وأعزل إلا من فنه.
تلاميذ رمبرانت لاقوا قبولا لدى الجمهور أكثر مما لاقاه معلمهم رمبرانت، غير أنه لم يكترث. كان يرسم فحسب. يجد موضوعاته (للـّوحة أو الحفر) في كل مكان: من الواقع المحيط به، من الحياة، من الكتب المقدسة (العهد القديم والعهد الجديد)، من البشر والأشياء، من الطبيعة.
الرغبة العاتية، التي تحكم وتحرّك رمبرانت، هي الرسم. مجرد أن يرسم، أن يختبر تخوم فنه. يعيش من أجل، ومن خلال، فنه. كل شيء كان خاضعا لفنه، ومكرّساً له.. وأي شيء آخر هو في مرتبة أدنى.
بفنه كان يتحدى الموت
في العام 1662 نشر الشاعر يان فوس قصيدة امتدح فيها رمبرانت بوصفه أحد أكثر الرسامين شهرة في أمستردام.
من المعروف عن رمبرانت أنه لم يغادر موطنه قط.
في سبتمبر 1668 توفى ابنه. في أكتوبر 1669 فارق رمبرانت الحياة وله من العمر 63 سنة.
رمبرانت.. الذي يكدح بلا راحة
( كتب فيليبو بالدينوشي -1686):
هذا الرسام، المختلف في تركيبه الذهني عن الآخرين في ما يتعلق بضبط النفس،كان أيضا الأكثر إتقاناً في أسلوبه، وقد طوّر لنفسه طريقة خاصة به وحده بدون كفاف أو قصور عبر خطوط داخلية وخارجية، بل تتألف كليا من ضربات عنيفة ومتكررة بالفرشاة، مستخدما ألوانا داكنة. لكن الذي يتعذر فهمه هو: كيف يعتمد هذه الضربات الشديدة في الوقت الذي هو يعمل ببطء تام، ويتأخر في إنهاء أعماله.
كان بوسعه أن يرسم أعدادا وافرة من البورتريهات، مديناً للمكانة الرفيعة التي اكتسبها في تلك الأنحاء بطريقة تلوينه، الطريقة التي لم ترتفع إلى مستواها رسوماته آنذاك. بعد أن أصبح معروفا، رغب الكثيرون في أن يرسمهم رمبرانت، لكن كان يتعين على كل من يرغب في ذلك أن يجلس أمامه لمدة شهرين أو ثلاثة، لهذا لم يتقدم منهم إلا القلة.
سبب هذا البطء أن رمبرانت مباشرة، بعد أن يجف العمل الأول، يشرع في معالجته مرّة أخرى، معيدا تلوينه بضربات من الفرشاة تكون أكبر أو أصغر، بحيث يكون الصبغ أحيانا، وفي موضع معين، أكثر كثافة وقد يصل السُمك إلى نصف الإصبع أو أكثر. هكذا كان يقال عنه أنه دوما يكدح بلا راحة، يلوّن كثيرا، ويكمل لوحات قليلة جدا. مع ذلك هو استطاع دوماً أن يحتفظ بذلك التقدير والاعتبار بحيث أن أي رسم له، حتى لو لم يروا فيه إلا القليل أو لا شيء، كان يباع في المزاد بـ 30 سكود (عملة إيطالية فضية أو ذهبية).
رمبرانت..و السمو المطلق
( كتب يوجين ديلاكروا في يومياته):
6 يونيو 1851:
رغم أن من الضروري الأخذ بعين الاعتبار كل أجزاء الشكل البشري بحيث لا يعطي فكرة خاطئة عن النسب التي قد تخفيها الملابس، إلا أني لا أظن أن على المرء إقرار هذا المنهج على نحو حصري. أنا واثق تماما من أن رمبرانت، لو اقتصر في عمله على أشغال المرسم، لما استطاع أن يحقق لا القوة ولا البراعة في المؤثرات التي تجعل لوحاته تصويرا حقيقيا للطبيعة. ربما سوف يبرهن رمبرانت في النهاية أنه أعظم بكثير من رافاييل.
ما يفتقر إليه رمبرانت، إذا شئت، هو السمو المطلق الذي يمتلكه رافاييل. ربما ذلك السمو الذي لدى رافاييل في الخطوط وفي فخامة أشكاله البشرية، يملكه رمبرانت في تصوره الغامض لموضوعاته، في الطبيعية العميقة لتعبيراتها وإيماءاتها. مع أن المرء قد يفضّل التوكيد المهيب لرافاييل، والذي هو ربما مناسب لفخامة موضوعات معينة، إلا أن المرء يستطيع أن يزعم باعتدال، وبدون استدعاء سخرية أصحاب الذوق، أن الهولندي العظيم كان، على نحو غريزي، رساما أكثر قوة من تلميذ بيروجينو المجتهد.
5 يوليو 1854:
حقاً مع رمبرانت فقط يبدأ المرء في رؤية انسجام وتناغم في لوحاته بين المقوّمات الملحقة أو الثانوية والموضوع الرئيسي، وهذا التناغم هو أحد أكثر الأشياء أهمية. وعلى أساس هذا الموضوع، بوسع المرء أن يعقد مقارنات بين أعمال الفنانين الكبار.
29 يوليو 1854:
المناظر الطبيعية التي رسمها تيتيان، رمبرانت، بوسين، هي عادة في تناغم مع الأشكال البشرية. في حالة رمبرانت –و هو ينقل هذا إلى الكمال- الخلفية والأشكال هي منسجمة تماما. في اللوحة أنت لا تفصل أي جزء، كذلك الأمر عندما تتأمل مشهدا جميلا في الطبيعة، إذ أن كل شيء يسهم في إثارة البهجة لديك.
عندما ننسخ عملا لتيتيان أو رمبرانت، نعتقد أننا نرسم علاقة الضوء والظل بالشروط والعلاقات ذاتها التي يتبعها الفنان. نحن بدقة شديدة نعيد إنتاج العمل، أو بالأحرى، الخراب الذي اجترحه الزمن. الفنانون العظام سوف يشعرون بالدهشة عندما يشاهدون، على حين غرة، صورا زيتية غير متقنة، وبلون الدخان، بدلاً من أعمالهم كما رسموها فعلا.
29 أكتوبر1957:
المرء عادة لا يجد في الرسم الفرنسي أياً من الاستخفاف بالتفاصيل، وهذا الرسم يتمتع بميزة لفت الانتباه إلى الأجزاء التي تستحق ذلك. التفوق الفلمنكي في هذا، فضلا عن رمبرانت، الذي فيه تكون المعالم نتاج تفكير بقدر ما هي نتاج غريزة. في أعمال الهولنديين والفلمنكيين، في لوحاتهم كما في أعمال الحفر، يلاحظ المرء تحررا من التكلـّف في التنفيذ.
رمبرانت..الشاهق الأكثر علوّا
(كتب فان غوخ في يومياته)
18 سبتمبر 1877:
هكذا، بما أن لدي وقت فراغ، فسوف أنفذ الغاية التي خططت لها منذ زمن، وهي أن أذهب إلى تريبنهويس وأشاهد أعمال الحفر التي أنجزها رمبرانت. ذهبت إلى هناك هذا الصباح وأنا مبتهج لأني فعلت ذلك. وبينما كنت هناك، فكرت: ألا يمكن لي ولأخي ثيو أن نشاهد هذه الأعمال معاً يوماً ما؟
فكـّر لو كان بإمكانك أن تستغني عن يوم أو يومين فقط لتتفرّغ وتشاهد مثل هذه الأشياء..
كيف يمكن لرجل مثل الكاهن، الذي غالبا ما يمضي مسافات طويلة، حتى في الليل حاملا مشكاة، لزيارة رجل مريض أو على وشك الموت، لمواساته والتحدث معه عن الله الذي كلمته من ضوء، حتى في ليل المكابدة والألم…
كيف يمكن لرجل كهذا أن يشعر تجاه أعمال رمبرانت، على سبيل المثال: «الرحيل إلى مصر ليلاً» أو «دفن يسوع»؟
ليتقدس الشفق، عندما يجتمع اثنان أو ثلاثة باسمه، وهو وسطهم
ليتقدس الذي يعرف هذه الأشياء ويتبعها.
رمبرانت كان يعرف ذلك، إذ من كنز قلبه الغني والوافر هو أنتج، من بين أشياء أخرى، ذلك الرسم باللون البنّي الداكن، بالفحم، بالحبر، إلخ.. والذي في المتحف لبريطاني يتمثـّل البيت في بيثاني. في تلك الغرفة، الفجر كان قد هبط. شكل الإله، النبيل والمؤثر، يبرز وقوراً وغامضا، قبالة النافذة، والتي من خلالها يرشح ضوء المساء. عند قدميّ المسيح تجلس مريم التي اختارت الجزء الأفضل، والذي سوف لن يؤخذ بعيدا عنها. مارثا في الغرفة مشغولة بشيء ما. وإن كنت أتذكر جيدا وعلى نحو صحيح، فسوف أقول بأنها كانت تضرم النار، أو شيئا من هذا القبيل. وأنا أرجو ألا أنسى ذلك الرسم ولا ما كان يقوله لي: « أنا نور العالم.. ذاك الذي يتبعني سوف لن يسير في الظلام، بل سوف يمتلك ضوء الحياة».
30 أكتوبر 1877:
لا أزال أحتفظ في ذهني بتلك الجملة المكتوبة تحت عمل فني بالحفر أبدعه رمبرانت: «في منتصف الليل، الضوء ينشر قوته».
إني احتفظ بمصباح غاز صغير يشتعل بوهن طوال الليل. في منتصف الليل، غالباً ما أضطجع ناظرا إلى المصباح، فيما أخطط لما سوف أعمله في اليوم التالي، مفكرا في كيفية ترتيب وتنظيم مرسمي على نحو أفضل.
أكتوبر 1885:
لوحة رمبرانت «موظفون حكوميون» هي كاملة، ومن أجمل أعماله. لكن « العروس اليهودية» –التي لم تحتل منزلة عالية في التصنيف- يا لها من لوحة حميمية، شخصية، مثيرة للتعاطف ومتجانسة على نحو مطلق. في «موظفون حكوميون» رمبرانت كان مخلصاً للطبيعة، مع أنه حتى هناك، وعلى الدوام، هو يحلـّق عاليا، إلى الشاهق الأكثر ارتفاعا، المطلق.
لكن بوسع رمبرانت أن يفعل أكثر من ذلك إذا لم يتعيّن عليه أن يكون مخلصا حرفيا، كما في البورتريهات التي يرسمها، عندما يكون حرا في إضفاء الصفات المثالية، عندما يكون شاعرا، أي خالقاً.. وهكذا هو رمبرانت في «العروس اليهودية».
و قد فهم ديلاكروا تلك اللوحة بعاطفة نبيلة وعمق لا متناه.. «يتوجب على المرء أن يموت مراراً لكي يرسم هكذا».. هكذا قال، وكم هو بليغ وحقيقي هذا القول!
بإمكان المرء أن يتحدث عن لوحات فرانز هالس، فهي تمكث على الأرض دائما، أما رمبرانت، فيظل غامضاً بعمق، مكتنفاً بالألغاز، إلى حد أنه يقول أشياءً لا توجد مقابلها أي كلمات في أي لغة.
رمبرانت يُدعى، بحق، الساحر.. وهذه ليست تسمية سهلة.
أكتوبر 1885:
لقد أبديت، بصورة خاصة، إعجاباً بالأيدي التي يرسمها رمبرانت وهالس.. أيد معينة في لوحة «موظفون حكوميون»، كذلك في «العروس اليهودية»، وعند فرانز هالس.. الأيدي التي عاشت ولم تنته.. كما هو حادث هذه الأيام.
أكتوبر 1885:
لوحة رمبرانت «درس في التشريح».. نعم، هذه أيضاً أذهلتني تماما. هل تذكر ألوان البشرة تلك، خصوصا القدمين؟
ألوان البشرة عند فرانز هالس هي أيضا ترابية. أحيانا، وربما أجرؤ على القول دائما، هناك صلة التباين بين درجة لون اللباس ودرجة لون الوجه.
لكن أخبرني.. الأسود والأبيض، هل يمكن توظيفهما أم لا؟ هل هما ثمار محرّمة؟.. لا أظن ذلك.
ديسمبر 1885:
لو أردت أن أرسم نسوة قرويات فلابد للنسوة أن يكنّ فعلاً قرويات. وبالمثل، لو أردت رسم المومسات فلابد أن أحصل على التعبير المماثل للمومسات.
لهذا السبب أنا مغرم جدا برأس المومس التي رسمها رمبرانت، ذلك لأنه استطاع أن يأسر، على نحو مطلق ولا متناه، تلك الابتسامة الغامضة، برزانة لا يمتلكها أحد غيره.. ساحر السحرة.
رمبرانت.. بالليل يخلق النهار
( كتب الرسام والناقد يوجين فرومنتين في كتابه
«سادة زمن ماض»- 1876)
رمبرانت كان دائما يعالج الضوء بهذه الطريقة. الظلمة الليلية مألوفة في أعماله. الظل هو لغته الشعرية المميزة، وسيلته المعتادة في التعبير الدرامي، في بورتريهاته، في رسومه للمواقع الداخلية، في ترجمته للأساطير والقصص، في مناظره الطبيعية، في أعمال الحفر، كما في لوحاته.. بالليل يخلق النهار.
لرمبرانت طريقته الخاصة في توزع الضوء والظل على الكانفاس، ولا أحد استخدم هذه الطريقة ببراعة وعلى نحو متواصل كما فعل هو. إنه الشكل الملغز الغامض بامتياز، الأكثر خفاء، الأكثر إيجازا وإيحائية، الأكثر قدرة على إثارة الدهشة من بين الأشكال الموجودة في المعجم التصويري الخاص بالفنانين. لهذا السبب هو وسيط المشاعر الحميمة. إنه خفيف، ضبابي، محجّب، سرّي. يضفي سحرا وفتنة على الأشياء المراوغة، يحرّض على الفضول، يضيف التناسق والسمو إلى التأمل الفكري. إنه ينضح بأحاسيس، انفعالات، شكوك، بغير المحدود واللانهائي، الأحلام والمثـُل العليا. ولهذا السبب يكون هذا الشكل الهيكل الشعري الطبيعي الذي فيه تعمل عبقرية رمبرانت باستمرار.
إن أعمال رمبرانت إذن، في جوهرها وحالتها الاستبطانية وحقيقتها، يمكن دراستها على نحو ملائم في هذا الشكل الاعتيادي من تفكيره. ولو كان الأمر بيدي، بدلا من إزالة الطبقة الخارجية عن السطح، فإنني سوف أفحص بدقة أعماق هذا الموضوع الفسيح فلربما ترى كينونته السيكولوجية بكاملها تتجسد من سديم الضوء والظل. مع ذلك، سوف أقول فقط ما أحتاج أن أقوله، ورمبرانت سوف ينبثق على نحو أكثر وضوحا.. وهذا ما أرجوه.
إن نتائج هذه الطريقة في الرؤية والشعور وتصوير عناصر الحياة الفعلية هي متخيلة بسهولة. للعالم مظهر متغير. الخطوط المحددة هي مخففة أو مطموسة، الألوان متطايرة. وضعية الموديل لا تعود محصورة بمحيط صارم، بل تصبح أقل تحديدا بضربات فرشاته، وأكثر تموّجا في الأسطح، وعندما يتم تنفيذ هذا بيد خبيرة، بارعة، وحساسة فإن العمل يكون شبيها بالحياة ومقنعا أكثر.
الخلاصة، ثمة طرق لمنح الكانفاس عمقا وبعدا، لجعله أكثر قرباً، لجعله ظاهرا، ولإخفاء الحقيقي في المتخيل: هذا هو الفن، أو بدقة، فن تناغم الضوء والظل.
إذن مسيرة رمبرانت الفنية بأسرها متشكلة بواسطة هدف ثابت: التلوين بعون من الضوء فقط، الرسم بالضوء فقط. وكل الانتقادات المتنوعة التي وُجهت إلى أعماله، جميلة كانت أم بها خلل وشوائب، مشكوك فيها أم لا تقبل الجدل، ربما تتحوّل إلى سؤال واحد بسيط: هل كان ينبغي عليه أن يعلـق أهمية على الضوء وحده أم ما كان ينبغي أن يفعل ذلك؟ هل يقتضي الموضوع ذلك، يسمح به أم يرفضه؟
إذا كان الأول، فإنه ينتج عن روح العمل ولا يمكن إلا أن يكون مثيرا للإعجاب. إذا كان الثاني، فإن النتيجة هي ملتبسة وغير أكيدة، والعمل يكون موضع شك.
رمبرانت..مرآة ترسم
(كتب الشاعر بول كلوديل في 1935)
لقد كان حدثا هاما في تاريخ الفن عندما كفـّت اللوحة عن لعب دور طقسي، احتفالي، أو تزييني، وبدأت بحرية تامة وببساطة في النظر إلى الواقع وبناء ذخيرة من العلامات والرموز، التي خطوطها وألوانها يمكن أن تكون موحدة معاً لتنتج معنى ما. الفنان الهولندي لم يعد مشيئة تنفـّذ خطة متصورة سلفاً والتي إليها يخضع المنهج والحركة. هو كان العين التي تختار وتقبض، كان المرآة التي ترسم. كل ما كان يفعله ينتج من انعكاس، من الكشف الخبير للصفيحة إلى العدسة. كل الأشكال التي قدّمها لنا تبدو كما لو أنها قد عادت من رحلة إلى أرض المرآة. تدرّج الظلال، إدارة ميزان القيم حول المركز البؤري، تخفيف اللون أو ضبط التفاصيل، انسجاماً مع كثافة وتركز الانتباه، موضع السطوع الذي يشكـّل الكل في علاقته مع نفسه وبغرابة يسبب كل أنواع المؤثرات التي تتألق، التداخل أو التدرّج ، الانعكاسات والأصداء، الأهمية الممنوحة إلى الفراغ وإلى الحيّز نفسه، كل الصمت المنعتق بواسطة الشيء الذي يوقع العين في الشرك. كل هذا لم يخترعه أو يمارسه رمبرانت وحده. هو لم يكن الأول ولا الوحيد الذي عرف كيف يهب الكانفاس روحاً بإضاءته، لو جاز لي التعبير، من الخلف، والذي عرف كيف يوحّد أو يزاوج الضوء والتحديقة.. التحديقة التي تعطي كينونة للوجه بإضاءته.
لكن فيما اختبر الآخرون العملية بتردد، هو طبقها عمليا بصدق وإخلاص وسلطة معلـّم. كل تلك البورتريهات من حولنا ليست بيانات وسجلات لحياة إنسانية مدروسة ومحكمة بطلب من مؤرخ أو معلـّم أخلاقي. أولئك الرجال، أولئك النسوة، لديهم معرفة شخصية، لديهم إلمام، بالليل. إنهم يعودون إلينا ليس في خيبة بقدر ما في حيرة وإرباك يمارسه وسط أكثر كثافة. مغسولين بالضوء المستعار من الذاكرة، هم بلغوا حالة الوعي بالذات. تقدموا وحرّكوا صدى هناك، حيث في قلب الفنان وفي الأحشاء الأعمق من الأرض، تكمن هاجعةً قوى الخلق وإعادة الإنتاج. في موازاة الطريق إلى الانطفاء والكسوف، قاموا بانعطاف. لقد أحرزوا حالة من الدوام والاستمرار فيما عقولنا السهلة الانقياد تتلمس الطريق محاولة إدراكها. مدموغين بالذاتية، هم يعطون حياة جديدة للصورة عن طريق عزلها، صورة الخالق، والتي ترقد مدفونة في اليومي، في العادي.
هكذا يأتي الجو الخاص كله الذي تبعثه صور رمبرانت وأعماله في الحفر. الإحساس بالحلم، بشيء منوّم أو مخدّر، محتجز وصموت، ضرب من فساد الليل، ضرب من الحمض الذهني في قبضة الظلال التي تحت أعيننا تواصل على نحو غامض نشاطها المتأكسد.
فن الهولندي العظيم لا يعـود توكيـداً عارمــاً على الـ هنا والآن، تفجراً للمخيلة في حقل الحقيقي والفعلي، وليمة لحواسنا، تخليداً للحظة فرح ولون. إنه لا يعود الحاضر الذي إليه تتوجه التحديقة.. فن رمبرانت دعوة للتذكّر.
يتكوّن لدى المرء انطباع بأن الرسام يرافق كل إيماءة من إيماءات موديلاته، كل سلوكها، كل تفاعلاتها مع الجماعة، في رحلته الاستعادية وراء السطح والـ هنا والآن، الرحلة التي هي مديدة على نحو غير محدود والتي تبلغ هدفها في الارتدادات والأصداء أكثر مما في التخوم. الحافز قد أثار التذكر، والتذكر الطالع إلى السطح بدوره، على نحو متعاقب يربك الطبقات المركـّبة للذاكرة، ويستدعي صوراً أخرى لها علاقة.
أمام لوحة رمبرانت لا يمكن للمرء أبدا أن يملك الإحساس بالدائم والنهائي: إنه خلق غير ثابت أو مستقر، إنها ظاهرة، عودة إعجازية إلى الماضي. الستارة المرفوعة للحظة مقدّر لها أن تُسدل. الانعكاس يخبو ليتلاشى. الضوء في تغيّر بواسطة هامش يطفئ الأعجوبة. الزائر الذي منذ لحظة كان هناك قد اختفى، نحن بالكاد توفر لنا الوقت لتمييزه والتعرّف عليه « في لحظة تناول القربان المقدس»، أو إذا كان الزائر لا يزال هناك، بهذا الإلحاح الخاص، بهذا الظهور السحري، فبوسع المرء أن يقول.. إنه يعيش فحسب. ثمة شيء ما هنا يضاهي ظاهرة المد، يضاهي تلك الحياة البديلة التي تحيي هولندا، يضاهي الاكتمال التام إلى حد يجعل المرء يشعر بأن على جميع الجوانب هو يتهيأ للجزْر.
لكن عند رمبرانت، هي ليست مسألة مياه تنفخ نسيجنا الرقيق وتخترق جوهرنا. إنها مسألة ضوء، والذي بالنسبة إليه هو أشبه بالنُسغ، الضوء الذي يؤازر الفكر وينبثق منه. كم عشق الضوء! كم أدرك تلاعباته وغاياته! الشاشات التي تنفتح وتنغلق على كل نواحي السماء. الانحدار الخاص لشعاع الشمس الذي يزور، يتفقد، يعبر، يستقصي منزلنا الباطني وطاقات التفكير لدينا.
رمبرانت سيد شعاع الضوء، سيد التحديقة وكل ما يبعث إلى الحياة، والخطاب الذي تحت التحديقة.
رمبرانت.. والوجوه التي خرّبها الزمن
(كتب جان جينيه في 1958)
الحس الأخلاقي الذي حثـه وحرّكه لم يكن بحثاً عقيما عن تحسّن روحي، بل اقتضته أعماله، أو بالأحرى كان متصلا به على نحو لا ينفصم. نحن نعرف هذا، وعن طريق مصادفة فريدة تقريبا في تاريخ الفن، لأن رساماً، اتخذ وضعية ما أمام المرآة برغبة نرجسية تقريبا، قد ترك لنا، في موازاة أعماله، سلسلة من البورتريهات التي رسمها لنفسه، والتي فيها نستطيع أن نقرأ تطور منهجه وفعل التطور على الإنسان.. أم هل هو بالعكس؟
رمبرانت منذ أيام شبابه اهتم برسم تلك المراتب الأدنى التي غالبا ما يزيّنها بخرق متألقة. ويبدو أنه، بينما يحلم بالأبهّة والفخامة، لديه في الوقت نفسه ولع بالوجوه المتواضعة والوضيعة. باستثناءات نادرة، الحسيّة التي لامست فرشاته عندما كان يرسم تقهقرت عندما اقترب هو من وجه ما. حتى في شبابه كان رمبرانت يفضّل الوجوه التي أتلفها العمر.
ثمة من كتب يقول: رمبرانت، بخلاف هالس، كمثال، لم يكن ماهرا في الحصول على صورة تشبه الأصل في بورتريهاته. بتعبير آخر، لم يكن ماهرا في رؤية الفرق أو الاختلاف بين رجل وآخر.
لو لم ير ذلك، هل ربما لأن ذلك لم يكن موجودا؟
بورتريهاته، في الواقع، قلـّما توصّل سمة شخصية: الرجل الذي هناك غير ذي صفة. لا نعرف إن كان ضعيفا أو جبانا أو طويلا أو قصيرا أو طيبا أو شريرا. إنه قابل، في أي موضع، أن يحمل كل هذه الصفات.
باستثناء ابنه تيتوس الذي يبتسم، لا وجه من الوجوه العديدة التي رسمها هي هادئة، رائقة، مشرقة. كلها تبدو مرهقة، مثقلة بالدراما. الشخصيات، دائما تقريبا، في وضعياتها وحالاتها الجماعية والمركّزة توحي بإعصار تأجل حدوثه للحظة. إنهم يحملون أقداراً ثقيلة، يثمّنونها بدقة. بينما دراما رمبرانت ما هي إلا رصده للعالم. إنه يريد أن يعرف ما الذي يحدث من حوله لكي يحرّر نفسه. كل شخصياته تمتلك المعرفة بوجود جرح ما، ويلتمسون اللجوء إلى مأوى بعيدا عنه. رمبرانت يعرف أنه مجروح، لكنه يريد أن يشفى. لهذا السبب يتكوّن لدينا الانطباع بانعدام الحصانة وسرعة التأثر عندما ننظر إلى بورتريهاته الذاتية، والانطباع بالقوة والثقة عندما نكون أمام لوحاته الأخرى.
رمبرانت؟ باستثناء بضع بورتريهات متفاخرة بعض الشيء، فإن أعماله ، من فترة شبابه المبكّرة، تفشي روحاً مضطربة تسعى وراء الحقيقة التي تراوغه وتتملص منه. حدّة بصره ليست معللة كلياً بإلزامية التحديق بقوة في المرآة. أحيانا كان يحيط به جوّ من الشر تقريبا (ذات مرّة عمل على إدخال أحد الدائنين السجن) جو من الزهو (غطرسة ريش النعامة على قبعته المخملية.. والقلادات الذهبية).. لكن شيئا فشيئا، صلابته الرزينة تصبح ناعمة. وأمام المرآة يتحوّل الإشباع النرجسي إلى قلق شديد.
لبعض الوقت عاش رمبرانت مع امرأة رائعة ومدهشة، لابد وأنها قد أشبعت لديه الشهوة والعذوبة معاً.
مع دنوّ حياته من النهاية، صار رمبرانت طيبا وخيّرا، فلم يعد بحاجة إلى قناع أو حماية. نأى عن الشر، عن كل أشكال العدوانية، كل ما نسميه سمات الشخصية، الدعابات، الرغبات، الشهوة الجنسية والزهو والغرور. كسر شاشة الشر ليجعل العالم أقرب مما كان.
لكنه لم يسع وراء هذه الطيبة امتثالا لقانون أخلاقي أو مبدأ ديني أو لاكتساب بعض الفضائل والمزايا. إذا كان قد اختبر في اللهب ما يمكن للمرء أن يسميه صفات مميزة، فلكي يمتلك رؤية أنقى للعالم ويحقق أعمالا أكثر صدقا.
أعتقد أنه في نهاية الأمر لم يبال ما إذا كان طيبا أو شريرا، عصبي المزاج أو حليما، جشعا أو كريما.. مهمته أن يكون عيناً ويداً فحسب، ولا شيء آخر.
في البورتريه الشخصي الأخير كان يضحك في هدوء. كان يعرف كل ما يمكن للرسام أن يتعلمه. يعرف أن الرسام متركـّز كلياً في العين التي تذهب من الشيء إلى الكانفاس، وقبل كل شيء، في إيماءة اليد التي تذهب من بركة الألوان الصغيرة إلى الكانفاس.
الرسام متركز هناك، في الحركة الواثقة والهادئة لليد. لا شيء غير هذا في العالم.
المادة الأوليّـة للرؤى
(كتب إيلي فور، المؤرخ الفني):
كل هولندي يولد رساما في العمق، ولا يستطيع أن يكون غير ذلك. من أجل أن تتكشّف وتتجلى هذه الموهبة الفطرية في بضعة عقول، وتوضع في موضع التطبيق، فإنها لا تحتاج إلا للحظة من الحماسة، لحظة وجيزة من بذل الجهد، والتي تحرّك جيلاً أو جيلين. ليس هناك من بلاد في العالم مارس فيها التاريخ والأرض مثل هذا التأثير في رسم الفنان للحياة. ومهما قيل، فإن رمبرانت ليس استثناءً.
مع ذلك، هذا يحتاج إلى تعليل. ما يتناوله رسامو هولندا الألف، كموضوع للوحاتهم، يستخدمه رمبرانت كمادة أوّلية لرؤاه. وحيث يرى الآخرون الحقائق، هو يرى الصلات المحجوبة التي تربط حساسيته الخارقة بالواقع وتنقل كل ما استله دينياً من الخلق الكوني إلى مستوى خلق جديد. وفيما راح أولئك الذين بينهم يعيش في الشعور تجاهه باللامبالاة، كانت رؤاه الغريبة تمرّ فوق رؤوس الناس، وكان هو يبدو خارج الحشد، حتى عندما يكون في حالة خصومة أو تنافر دائم مع ذلك الحشد. مع ذلك هو يتحدث لغتهم، وعنهم يتحدث إلينا.. أي عن الذي يجد هناك جذور معاناته، عن الإدراك والحب والكراهية. عن قبول العاطفة والشغف كقدر حي. إنه يدمج هذا داخل ذاته مع صور أخرى للعالم.
من أين لرمبرانت أن يجد ألوانه الذهبية والحمراء، والضوء الفضي أو الضارب إلى الحمرة حيث الشمس والرذاذ يمتزجان، لو لم يعش في أمستردام، في ناحية من المدينة هي الأكثر ازدحاما، الأكثر قذارة، قرب المراكب التي تفرغ حمولتها على رصيف الميناء، حيث الخرق الحمراء،الحديد الصدئ، سمك الرنكة، كعكة الزنجبيل، صف من الألوان القرمزية والصفراء في يوم سوق الزهور؟
من أين لرمبرانت أن يكتسب ولعه بالرحلات المتخيلة، بلمحات من البحار البعيدة؟
حتى عندما تكون أدوات العمل الخاصة به مجرد طرف فولاذي، صفيحة نحاسية، مادة حمضية، لا شيء غير الأسود والأبيض، فإنه كان يعالج العالم بوصفه دراما متواصلة، غير منقطعة، يشكلها النهار والظلام، منحوتة، مزلزلة، هادئة، ويجعلها تحيا وتموت حسب رغبته، حزنه، توقه الشديد إلى الأبدية والمطلق الذي استحوذ على قلبه.
من بين يديه يخرج البهيّ
(كتب وليام هازليت، 1817):
كان رمبرانت الأكثر مباشرية، الأكثر مرونة من بين المحاكين للطبيعة. كان يتناول أي مادة، لا يهم إلى أي مدى هي عادية، سواء في الشكل أو اللون أو التعبير، ومن الضوء والظل الذي يسلطهما عليها، تخرج هذه المادة، أو الشيء، من بين يديه بهياً وفائق الجمال.
كما حقق فان دايك أحد أصغر التباينات من الضوء والظل، ورسم كما لو في الهواء الطلق، استخدم رمبرانت أكثر التباينات اتقادا وحدّة في هذا الخصوص، ورسم أشياءه كما في زنزانة أو برج محصّن.قد يقال أن لوحاته «ساطعة بفعل الظلمة المفرطة».
بوسع رمبرانت أن ينتقل على نحو سريع من حد أقصى إلى آخر، ويغمس ألوانه في ظلام الليل أو في وهج شمس الظهيرة بنجاح مساوٍ. في تطويق الأشياء المختلفة بواسطة المخيلة، المهيبة أو الباهرة، رمبرانت كان شاعرا حقيقيا. في كل ما تبقى، هو كان مجرد رسام، لكن ليس الرسام الذي له سمة أو صفة مشتركة مع غيره. طاقات يده مساوية لطاقات عينه. وبالفعل ما كان بإمكانه أن يجرّب الموضوعات التي حققها لو لم ينجزها ببراعة وحسب معرفته العميقة.
ألوانه أحيانا كانت تسقط على الكانفاس في كتل، وفي أحيان أخرى تكون ممدودة على السطح على نحو أملس ومصقول كما الزجاج. وهو لم يكن يرسم بمقبض فرشاته، بل كان لديه عين ترى كل الأشياء.
بوسعنا أن نحدّق في مناظره الطبيعية إلى الأبد، رغم عدم وجود شيء فيها. يبدو كما لو حفرها بعيدا عن الطبيعة. كل شيء حقيقي جدا، واقعي جدا، حافل تماما بكل المشاعر والتداعيات التي تستطيع العين أن تقترحها للحواس الأخرى، إلى حد أننا في الحال نشعر بعاطفة قوية تجاهها كما لو أنها منازلنا.. المكان ذاته الذي نشأنا فيه.
رمبرانت هو الأقل كلاسيكية والأكثر رومانتيكية من بين كل الرسامين.
النظر إلى القلب
(كتب إرنست جومبريش)
تلك العينان الحادتان، الثابتتان، اللتان نعرفهما جيدا من بورتريهات رمبرانت الشخصية، لابد أن تلك العينين قادرتان على النظر مباشرة إلى القلب البشري.
المصدر:
– كتاب:
Rembrandt, The substance and the Shadow
تحرير: باسكال بونافو