تتميز أعمال الدكتور خليل النعيمي الإبداعية بالعمل على البعد الإنساني العربي محاكية إياه ببعد فلسفي، فهو يضعنا في مشاهد وعوالم يطرح فيها أبطالها أسئلة وجودية بشكل معقد مزودة بالكثير من المقولات على شكل باقة من الحكم والأمثلة، والتي يجد فيها القارئ العادي في أغلب الأحيان صعوبة أو غموضا في قراءة وفهم وتحليل ما تخبئه ما وراء الكلمات ، أو إيجاد حلول أو تتمة موضوعية لتحليل النقاط التي تأتي في نهاية بعض الفقرات، وكأن السارد/ الروائي يطلب منا ملء الفراغ بالكلمات المناسبة، وهكذا كان مساره في جل أعماله السابقة، إلا أنه قد انتهج منهجا جديدا، أو لربما نستطيع القول أنه قد اتخذ مسارا مغايرا في سرده لروايته الجديدة: «لو وضعتهم الشمس بين يدي» الصادرة حديثا في بيروت عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر والمتكونة من 42 فصلا و311 صفحة. لعل أول شيء لافت للانتباه في هذه الرواية هو العنوان، المثبت في السطر الثالث من نهاية الرواية، والذي يذكرنا برد الرسول (ص) على عمه حينما طرح عليه مطالب وجهاء قريش في مقابل أن يتخلى عن دعوته لنبذ وترك عبادة الأصنام، فكان رده الشجاع والمعروف « والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري ما تركت هذا الأمر» لذا نستجلي من هذا العنوان دلالات كثيرة أهمها التحدي والتمسك بالرأي مهما كانت تبعات هذا الموقف، وأنه من المستحيل التراجع على مختلف الالتزامات التي آمن بها السارد، خاصة، وأنه تحمل من أجلها الكثير من الصعاب والتحديات ، فماذا تحمل هذه الرواية، أو ما هي رسالتها الإنسانية ؟ .
إنها تتطرق إلى مجموعة من الأحداث التي عاشها أو تمنى أن يعيشها السارد/ البطل، إذ نجد مهمة السرد فيها قائمة من خلال الأنا الساردة والمساهمة في السرد، وأن كل الأحداث تتسلسل أو تروى عبر «الأنا» التي تسير وتنظم عملية الحكي والأحداث، فهذه الأنا يمكن أن تكون شخصية الروائي نفسه، أقصد الدكتور خليل النعيمي، وخاصة أنه يحكي لنا عن مجموعة من الأمكنة والفضاءات التي يحبها ويزورها باستمرار، أي أنها تكشف هموم وآمال وألام «الكائن» قبل وأثناء وبعد مجيئه إلى باريس.
تتوزع الأحداث بين فضاءين وزمانين أساسيين، فضاء الولادة والترعرع ثم الصبا وريعان الشباب، فضاء الماضي، وفضاء الاستقرار أو المنفى الاختياري في الحاضر أي في باريس، بين هذين الفضائين نلمس التحديات الطبيعية ,الفكرية والإنسانية، وحتى الاجتماعية والسياسية التي يتسلح بها الأنا، وذلك عبر تنقلات واسترجاعات «فلاش باك» متكررة تنزلق في مسار النص بسرعة غريبة وغير متوقعة في بعض الأحيان، إذ نلاحظ ونحن نساير تسلسل أحداث ما، وإذا هذا التسلسل ينقطع بالعودة إلى مكان المنشأ، ثم الرجوع مرة أخرى إلى النص، غير أن هذه العودة ليست بالضرورة لحدث مركز بل لأحداث متفرقة تمليها الظروف المعاشة للسارد. وهو يعبر عن ذلك بقوله إنه «مصير الكائن يتأرجح بين مكانين، المكان الذي ولد فيه، والمكان الذي منه لا يعود»، وهو كما نرى يعطينا جملة أو وصفا بليغا لوصف كينونة وهموم بطل الرواية الذي يعمل على الحفاظ على ممارستها والتعبير عنها بالنسبة لماهيته الإنسانية والوجودية في خلاصه من محنه الفكرية وحتى في بعض الأحيان الجسدية في حديثه عن أهوائه واكتشافه لرغباته وللمرأة التي كانت بالنسبة له الحلم في فضاء نشأته وفيما بعد في علاقاته الاجتماعية في دمشق بسوريا.
فالماضي يساوي المعاناة وقساوة الحياة، التي تأثر بها في صحاري سورية ومنطقة الخابور (وبالضبط في الجزيرة) بكل أوحالها وصعوبة العيش فيها، مع التنقل الدائم للكائنات البشرية، هذا التنقل يوحي بانسداد للأفق، لأن الحياة فيه متوقفة إلى بعض الطقوس والمعاملات الروتينية اليومية.
الحاضر هو مدينة باريس، حيث الحي اللاتيني والحركة الفكرية، وبالضبط حديقة للوكسمبورغ ، حيث تنطلق أو تبدأ أحداث الرواية وذلك عندما يلتقي السارد «برجل الحديقة»، وتنشأ بينهما حوار دائم ومستمر، ومع مرور الزمن أصبح هذا الرجل بمثابة أستاذ أو موجه للسارد، يجب أن يأخذ بنصائحه، لكونه معروفاً بتجاربه واضطلاعه وثقافته .
يفتخر السارد بماضيه رغم قساوته، ويعبر عن فرحه أيضا بوجوده في باريس حيث يقول «حياة لا تشبه شيئاً مما عرفه من قبل. وسيردد في رأسه، وبصوت عالٍ: أحب تاريخي الشخصي الذي صنعته. وبخاصة، ذاك الذي اخترت طريقة صنعه بحرية. وسيضيف، بلا ندم: وأكره الآخر الذي فُرض عليّ، مع أنني أضعت جزءاً من حياتي في سبيله».. . »وقرر: لا بد أن أعود (…) أنا ذاهب لأعود».
فباريس، هذه المدينة التي أرّقت الكثير من المهاجرين إليها وإلى الدخول في متاهاتها لكي يصنعوا أو يعيشوا من أجل تحقيق أحلامهم وأوهامهم القابعة على أعلى برجها العاجيّ، وهي، أي باريس كما يؤكد السارد في أكثر من مرة في روايته، «مدينة تعرّي الكبت وهواجس العادات، وتوقظ الحريّة فينا. لكنّا، إلى الآن، لم ندر كيف نمارسها خارج المكان الذي لم يعلّمنا من الحريّة إلا اسمها» .. «مأساة الكائن العربي الكئيب، مثلكَ، هي اعتقاده الخاطئ بأن الكآبة، أو كآبته هو بالذات، شأن شخصي بحت. وهي، في الحقيقة، غير ذلك. إنها من مفرزات القمع واللا مساواة وانعدام الحق في التفكير والتعبير، وغياب الحرية الجنسية والسياسية، وسلب حقوقه الأخرى التي لا يمكن لنا حتى أن نعددها. »
إذا ما تمعنا كل هذه الإشارات نجد أن هناك سؤالا، لا بد وأن يطرح هو أليس رجل الحديقة هذا، هو الوجه الحقيقي للسارد؟ أعني أن هناك ساردا يروي الأحداث وهو في نفس الوقت يتساءل، أي يقوم بالدورين معا في نفس الوقت، وكأنه سارد داخلي وسارد خارجي، أي المفكر هو كائن وفيما يجب أن يكون؟ يصاحب القارئ هذا السؤال أو هذا الاحتمال حتى الفصل الأخير حينما يغيب السارد عن أجوائه وأصدقائه، ويأتي إلى الحديقة للبحث عنهم ، ويعرف بأن رجل الحديقة قد أصيب بالجنون ولم يعد يتردد كثيرا عليها كعادته.
ولذا وبعد بعد حوارات طويلة مع «صديق الحديقة» كما يسميه السارد، نجد أنه يحدث تحوّل لدى السارد باتجاه التمرد على توجهات هذا الصديق الغريب الذي يرى أو يوهم السارد بأنه يملك الحقيقة التي تنفع الناس وأنه قد وصل إلى باريس وثار عن القمع السياسي، كما يقول «اليوم، بعد أن سمعتُ منه ما سمعت، أحسُّني بلا يقين. لكأنني لستُ الذي عاش تلك الأيام الدمشقية السود (.. . ) لكنني لم أعد أريد أن أخبئ شيئاً، عن نفسي ولا عن أحد آخر، وبالخصوص هو. صرت أشعر بأن الحرية هي قبل كل شيء، أن نتكلم عن أنفسنا وكأننا نتكلم عن آخرين (.. . ) سأحاول اليوم أن أكتشف نفسي وأن أكشف للآخرين أقنعتي ووجوهي.. . » ص 207.
أما الأسئلة التي يطرحها السارد فهي وجودية داخلية يعلنها للملأ، حتى يبين لنا صراع الإنسان مع ذاته، عبر تساؤلاته وأحلامه، خاصة وأنه يثور رويدا رويدا على توجهات رجل الحديقة، ولم يعد يصغي إليه كعادته، أي هناك ثورة تحدث داخل الأنا الساردة مع كثير من الوعي والحكمة واكتشاف خطاب الآخر في الواقع الملموس وهواجسه النفسية غير المرتبطة بحقيقته الوجدانية، أي يكشف انفصام المثقف العربي الذي يقول أشياء أو يطالب بأشياء لا يؤمن بها أصلا، وهو يوهم بها الآخرين، لكن حقيقته تنكشف في أول فرصة يلتقي فيها مع السلطة العربية القامعة ليرتمي في أحضانها دون أن يراعي أبسط المعطيات الأخلاقية.
يكتشف السارد الأوهام التي آمن بها عبر مثقف وضع فيه أملا كبيرا، ليوجهه ويسير به إلى بر الآمان، أو ليساعده لكي يتصالح مع نفسه ، فيجد نفسه أمام نخبة مليئة بالأوهام وبالأفكار المرتبكة ، مما يبين أو يكشف عن ضعفها وهشاشتها في التصرف بشكل موضوعي ومنطقي، ويوحي بانفصام مربك ومخجل لا يقاوم مغريات السلطة العربية البليدة، كما لا يجعلها تتبنى مواقف مثالية يحتذى بها، لذا فوجودها المتمثل في رجل الحديقة، يبين أن خطاباتها المضللة ما هي إلا أوهام صدمت السارد القادم من بلد القمع، والذي أراد أن ينتفع من تجربة من سبقوه إلا أنه وجدها عبارة عن كائنات لا تستحق أن يوليها ثقته .
تتطرق فصول الرواية إلى بداية قصة حب السارد مع زينب التي تظهر في الفصلين الأولين ثم تختفي لتظهر في الفصول الأخيرة ، ثم تترك مكانها لنساء أخريات غير واضحات المعالم، ولا يتعلق السارد بهن كثيرا، رغم أن للجنس مكانة مهمة يلخصها الروائي كونه أساسياً في بناء توازن الكائن، وفي هذا المجال يربط السارد هذه الأحداث بالشخصية التي حرضته على الجنس والمتمثلة في «أبي عروج» صاحب الغزوات المختلفة.
هنا أيضا نرى أوهام المثقف العربي الذي تكون مساندته للمرأة ذات أبعاد جنسية أكثر منها إنسانية، والغريب أنه في الكثير من الأعمال الروائية العربية أننا نلمس هذه الإسقاطات، أي أن علاقة الرجل بالمرأة يجب أن تكون جنسية أو لا تكون، وهذا ما توهمنا به الكثير من الأعمال الروائية التي تتطرق لعلاقة المثقف العربي بالنساء في الغرب، وكأن ما يهمه هو العملية الجنسية. صحيح أن هذه الإسقاطات لها رواسب في حياته وفي ماضيه، غير أنه من المفروض أن يبين الوجه الآخر للعلاقة البشرية حتى لا يوهم القارئ العربي ، بأن المرأة، في الغرب هي جسد للشهوة ليس إلا، وما يطغى في العلاقة هو الجنس متناسيا الأبعاد الفكرية والحضارية، وموقف المرأة الإنساني ونضالها المستميت من أجل احترام نفسها كإنسان له مشاعر وأحاسيس.
يطغى في الرواية حضور الأب الذي يرجع إليه السارد في الشدائد ليأخذ من مواقفه العبر، وذلك عبر مواقف مختلفة وقعت للأب، وكان السارد شاهداً عليها وكذا معالجة الأب لهذه المواقف بكثير من الفلسفة والحنكة.
يوجد بين الماضي والحاضر، زمن التنقل، زمن المجيء، والتعود على الحياة في باريس الجميلة الباردة، ولكنها تتيح لأي كان بأن يحقق ما يصبو إليه، من ثقافة ووعي وبناء ذاتي في مجالات متنوعة، وقد تسقط البعض في مشاكل كثيرة مثلما حدث مع «ابن الخياط» أحد الشخصيات التي التقى بها السارد في «المجمع السكني» الباريسي، حيث كان يقيم في بداية وصوله إلى باريس، وحيث تعرف على مجموعة من البشر من مختلف الشرائح والجنسيات ومن بينهم «ابن الخياط» وهو أيضا من سوريا، والذي يظهر ويختفي في فصول الرواية، أحيانا بمعنويات عالية، وأحيانا أخرى في حالة نفسية يرثى لها.
وهنالك جانب آخر لدى الدكتور خليل النعيمي وزمن آخر مهم، وهو زمن استشراف الثورات العربية، ويأتي هذا الاستشراف انطلاقا من معطيات الواقع المعاش والملموس في باريس، حينما شارك السارد في مظاهرة عمالية كبيرة في باريس، وقارن هموم ووضع الطبقة العاملة فيها وفي الوطن العربي، حيث تكلم عن الصمت المطبق حول القمع في البلدان العربية، هذا الصمت الذي لا بد له وأن يولد انفجارا ما ذات يوم، ويفجّر المطالبة بالتغيير إلى الأحسن، والأحسن يتطلب الثورة والعنف والتضحية من أجل تغيير هؤلاء المحبطين للحلم العربي والذين يحكمون الأوطان العربية بالحديد والنار..
لقد حملت رواية «لو وضعتم الشمس بين يدي»، أكثر من مدلول ومعنى، اذ لخصته في سؤال الحرية من خلال المفارقة التي عاشها السارد بين المكانين دمشق وباريس، وما بينهما كما أشرت من معارف بدأت من الترعرع في صحراء سوريا وبالذات في «الجزيرة»، وصولا إلى حالة الرفض والتمرد على السائد، من خلال تنقل ومحاكة بطل الرواية وشخصياته لظروفهم ولماذا هم في غير مكانهم، ولعل السؤال الأكثر قلقا، هو مفهوم المنفى أو الغربة والنتائج التي استغرقت جهد بطل الرواية وحنينه لبلد المنشأ وعن تطرقه لتفاصيل عائلته وجيرانه في الصحراء، مرورا بدمشق كمدينة لافتتاحه على فضاءات واستلهامات أخرى، منها المرأة واللذة والمدينة وحالة القهر والأصوات المبحوحة والمسكوت عنه، وصولا إلى باريس كبلد يسمح بالحرية وإعطاء العقل إمكانية التنفس والمقارنة لكونه الخزّان الفكري الذي يسمح له بالبحث عن حلول وإجابات الانزياح الحسي والجغرافي والقيمي والفني. وبما أن السارد عايش المتمردين والمطالبين بتغيير الأوضاع، فراح يقاسمهم أحلامهم وهمومهم، وكان أن عايش الكثير من المظاهرات العمالية والطلابية وقارن ما وصلت إليه أحلام ومطالب هؤلاء بتلك المطالب المكبوتة في الشوارع العربية، ومن هنا بنى رؤيته الاستشرافية التي رأى بأن هذا الكبت سيولّد لا محالة الرفض العام وتغيير الأوضاع عاجلا أم آجلا.
والجدير بالذكر أن رواية الدكتور خليل النعيمي هي عبارة عن صرخة إنسان عانى الأمرين، وأمله الكبير في أن تتغير الأوضاع من أجل أن يستعيد الإنسان العربي كرامته ومكانته في هذا العالم ، وأن لا يبقى مجرد كائن خاضع لا حول له ولا قوة ، وهنا تكمن قوة المبدع الذي يستشرف المستقبل، ويتسلح بالصرخات التحريضية الصادرة عن تجربة إنسانية لم تكن راضية عما يحدث في بلدها، لذا اختارت المنفى كحل ربما حلا مؤقتا، في حالة اشتعال هذه الثورات وفرضها بديلا يخدم البلاد والعباد، وإلا فالمنفى الدائم، ما دام الحكام العرب الحاليون يعيثون في الأرض فسادا واستبدادا، وغير مبالين بمطالب الجماهير العادلة .
هكذا نرى قساوة بلد المنشأ تتبدد رويدا رويدا مع صعود الحلم بالتغيير، وصعوبة الحياة في المنفى، المتمثل إما في الخطاب السياسي الغربي اليومي، أو صعود أحزاب اليمين المتطرف في تلك البلدان، أو مع تقدم العمر ومعطياته التي تجعل الإنسان دائم التفكير في بلد المنشأ، لذا فالحنين يغطي على بعض الصعوبات، وهكذا نرى النقد متلفعا ثياب الحنين والأمل في الخروج إلى بر الأمان، وعودة الأنا على الأقل للمساهمة في وضع التجربة الإنسانية التي اكتسبتها في خدمة بلد المنشأ.
تطرح مسألة المنفى التي فتحت أبوابها لبعض المثقفين والمشردين العرب الكثير من التساؤلات، لأنهم راحوا يتعاملون معها كفضاءات بديلة مؤقتة، منتظرين عودة الأمن والأمان لبلدانهم حتى يعودوا إلى أوطانهم، أو على الأقل يسمح لهم بالمساهمة في بنائه أو إعادة صياغته بصورة أفضل «لأن مواجهة القمع (كما هي الحال في العالم العربي اليوم) لا تكون دائما بالثبات في المكان، ولا بالمحاجات اللفظية والصيغ الذهنية المفرّغة، إنها تقتضي، أحيانا، اكتشاف عوالم جديدة، تمد العربي المقموع بطاقة إنسانية .. » ( ص. 259).
يواصل السارد مؤكدا بقوله بأن «اختلاط الأمكنة في كائن واحد تجعله يدرك خطورة مصيره. وتدفعه، إن وعى شيئا من هذه الخطورة، إلى الاعتماد المطلق على الذات. فلا حزب ينقذنا من تفاهتنا، ولا سلطة تبرئنا من جهلنا، ولا جماعة تسعفنا عندما نخفق في حياتنا..». (ص. 234).
لا شك أننا حينما نقرأ هذا العمل الضخم، نتذكر الكثير من الروائيين العرب أو غير العرب وهم يتطرقون إلى فضاءات مشتركة مثل الصحراء، التي كتب عنها الروائي الليبي إبراهيم الكوني في الكثير من أعماله الإبداعية، وتطرّق الدكتور النعيمي لها هنا تبين معرفته الدقيقة بخباياها وعمقها، كما يذكرنا تطرقه إلى أبي عروج في الروائي السعودي أبو الدهمان إلى ملهمه في روايته «الحزام» ، أو حديثه عن باريس في رواية «بول بولز» متشردا في باريس ، أي أن هناك قواسم مشتركة بين الكثير من الأعمال وهي آتية إما عبر قراءات الدكتور أو نابعة من تجربته الإنسانية.
تنفتح رواية «لو وضعتم الشمس بين يدي» على الكثير من التجليات والمواضيع، لأنها تتطرق إلى عوالم مختلفة من ضمنها الأنا والآخر، مشكلة الحوار بين العالم العربي وأوروبا، وغياب الديمقراطية في العالم العربي، هذه المواضيع وغيرها تفرض نفسها على السارد رغم أنه استقر وارتاح ماديا وعلميا في الغربة، إلا أنه يحمل هذه التساؤلات التي تبين أنه ليس «بخير» أو مثلما يريد، كما يؤكد على ذلك في العديد من المواقف. حيث يقول في الصفحة 258 من الرواية «كل مغترب كئيب إلى أن يثبت العكس» ، أي أن الإنسان يحمل هموم عائلته وأصدقائه وبلده، أينما حل وأينما كان، وهذا ما نقرأه من خلال هذه الرواية التي كما قلت في بداية الموضوع أنها تطرح الكثير من القضايا بشكل فلسفي، وهو تقليد حافظ عليه الكاتب وميز أعماله الإبداعية، بل وحتى بعض رحلاته التي قام بها في مشارق الأرض ومغاربها والتي دونها في العديد من كتاباته.
أعتبر أن هذه الرواية من بين أهم ما كتب عن تساؤلات المثقف المهاجر في المنافي، بل تعتبر أنها أهم رواية كتبها الدكتور خليل النعيمي حتى الآن، لأنه أثبت فيها مجموعة مهمة من التجارب الإنسانية ومصائر بعض الكائنات التي بالغت في التزييف واللا صدق، وبالتالي فهي رواية تطرقت إلى الكثير من المعطيات الملموسة عبر رحلة الأنا الساردة، الذي هاجر من مسقط رأسه، إلى دمشق عبر حلب ثم الهجرة إلى فرنسا، وذكره لتلك المصاعب التي مر بها من أجل أن يجد مكانا له في باريس، إنها رواية تترجم حياة وتجربة الكثير من المتشردين العرب في العواصم والمنافي الغربية. بحيث عبر عنها السارد مؤكدا على أن: «كل مغترب كئيب إلى أن يثب العكس».
أنا لا أتفق مع من كتبوا على رواية خليل وحصروا عمله في كونه سوريا، أو أن ما عالجه في روايته «لو وضعتم الشمس بين يدي» هي رواية تقتصر على وصف حالة السوريين فحسب، أنا أرى بأن هذا العمل تطرق إلى ما يحدث في عواصم الغضب العربي، وأن السارد قال فيه الكثير من الأمور التي تعالج وتعانق صمت ومؤامرة الكثير من المثقفين العرب الذين يريدون أن يكونوا مجرد مشاهدين متقزّزين لما يحدث، وأنه يخيل إليهم أن «نضالهم» في المقاهي والصالونات الباريسية هو الذي يفيد الطبقة العمالية، ويسهم في تأجيج غضب الشباب، وهم يتفوهون بانتقادات جارحة لا علاقة لها بالواقع الموضوعي، هؤلاء هم الذين كشف عورتهم السارد الذي عانق حلم التغيير ومشروع التأمل في غد أجمل وأروع، حتى وإن كان هو ذاته ينعم بالكثير من الراحة في عمله وحياته، لكن راحته النفسية مهلهلة ونفسه مجروحة، لكون أن شروط التغيير في العالم العربي أصبحت على الأبواب وعلى المثقف الواعي أن يشجعها أو يقول فيها خيرا، حتى لا يزيد من حجم المؤامرة ويفقد الإحساس الحقيقي بتطلعات الشباب العربي من المحيط إلى الخليج.
بدأ خليل مشروعه الروائي بالكثير من الأعمال الإبداعية، وعودنا على الغوص في تركيبات الكائن النفسية والاجتماعية، لكنه تميز في عمله الجديد لكونه تطرق إلى الأنا التي كلمنا عبرها عن تغيراتها وخيباتها وآمالها وأحلامها، وبالتالي أدخلنا في كينونته التي اكتشفنا عبرها بأنها تخاطب المتمردين بصيغ شتى، وتحرضهم على مواصلة السير من أجل تجاوز العقبات والصعوبات لمواصلة الاهتمام بما يحدث في أوطاننا، وأن لا نكون مجرّد كائنات ذابت في المنافي الغربية، وراحت تبحث أو تعيش أو تنعم ببعض الراحة المادية متناسية أهلها وأوجاعهم وآمالهم الحقيقية.
ولهذا كانت رواية الدكتور خليل النعيمي تخاطب الكثير من شرائح المجتمع العربي, بتنوعاته الثقافية ومكوناته الاجتماعية, وهي تنفذ إلى اللحظة الراهنة دون نسيان التطرق إلى الماضي لكي تقرأ المستقبل, وأن تعلّقه أو تطرقه إلى الشمس يعني الكثير، أي أن هذه المجتمعات التي تنعم بنور الشمس تريد أيضا الحرية والتطلع إلى مستقبل أرحم وأجمل تساهم في بلورته وإرهاصاته واختياره.