العنوان مقتبس من رسالة طفل يعلن مساهمته في التبرع لتمثال نهضة مصر.
* هذا النحات الفذ، المملوء بالأفكار والمشاريع الفنية، لم يكن مجرد نحات، بل هو محصلة لمناخ بالغ الغنى والتعدد..
أهمية بعض المبدعين لا تقتصر فقط على ما يقدمونه من إبداعات، بل تتجاوز ذلك إلى الدور الذي يمكن أن يلعبوه في مجال اختصاصاتهم، وإلى الأثر الذي يمكن أن يحدثوه في الأوساط الأخرى.
محمود مختار، النحات المصري المميز، واحد من هؤلاء الذين تتعدى أهميتهم الإبداعات الفنية الكثيرة التي قدمها، إذ علاوة على هذه الابداعات هناك الدور الذي لعبه في الحركة الفنية المصرية وانعكاساتها على المنطقة العربية بأسرها، ثم التأثير الذي أوجده لدى الرأي العام في المدن والأرياف في النظر إلى الفن والتعامل معه ؛ وأيضاً ربط حركة النحت بجذورها التاريخية، سواء من حيث النظرة والاستفادة من الأسلوب، أو من حيث الالتفات إلى المادة الخام المحلية، وإعادة التعامل معها . هذا عدا عن كونه رائد النحت العربي في العصر الحديث دون منازع.
لذلك فإن استعراض حياة هذا الفنان العبقري الرائد، والالمام بالمناخ العام الذي كان سائداً، يضيئان ليس فقط الانجازات التي حققها، بل والمرحلة التاريخية التي عاشها، كما يساعدان على قراءةٍ أدق للفكر والفن في تطورهما خلال تلك المرحلة، وما واجهها من مصاعب وتحديات .
ولد محمود مختار في إحدى قرى دلتا النيل، غير بعيد عن القرية التي ولد فيها الشيخ محمد عبده، أو تلك التي ولد فيها زعيم الأمة : سعد زغلول.
ولد عام 1891، أي خلال تلك الفترة المليئة بالغضب والتطلع نحو المستقبل، والتي أعقبت الاحتلال الانكليزي لمصر، فقد كانت سنوات التحدي وإعادة النظر بالأسس التي يقوم عليها المجتمع، والبحث عن عناصر القوة والتقدم . وتأكد ذلك أكثر نتيجة الاحتكاك بأفكار وأساليب حياة مختلفة عن السابق، وتزايد الدعوات المطالبة بإقامة المجتمع وفقاً لصيغ ومعايير جديدة، بما في ذلك النظر إلى الأفكار والفنون الجميلة.
وأن يولد مختار خلال تلك الفترة الزمنية الأقرب إلى المخاض الشامل، بما في ذلك الدعوة إلى التغيير، وإلى البحث عن الجديد، وأن تصل إلى مصر أصداء ما يحصل في الأماكن الأخرى، ثم تأثير تلك التجاذبات وإعادة الاصطفاف التي اجتاحت الدول والمناطق، خاصة ونذر العواصف أخذت تطل برؤوسها، وتهز أركان المجتمعات، إعلاناً أن صيغ العالم القديم بدأت بالتصدع، ولن يلبث طويلاً حتى تنهار …إن وضعاً مثل هذا يوجب الانتباه والاستعداد لما هو قادم، وبالتالي ضرورة الاستجابة لأصوات الداعين إلى إعادة النظر والتغيير .
مختار الذي ولد في هذه الفترة بالذات، قدر له أن ينجو من مصير آلاف بل ملايين الأطفال الذين سبقوه، إذ كان يولد هؤلاء الأطفال مع الكثير من الأحلام والرغبات، لكن يوماً بعد آخر تتآكل أحلامهم وتتبدد الرغبات نتيجة الفقر، ولأنه لم تتح لهم الفرصة للتعلم أو مغادرة القرية، وبالتالي لن يطيلوا البقاء فوق هذه الأرض،إذ غالباً ما يحملون أحلامهم ويغادرون الحياة بسرعة .
الطين.. بداية الأشكال
مختار بعد أن مارس لعبة ملايين الأطفال قبله، إذ ظل يتعامل مع الطين ويحوله إلى أشكال حية وساخرة تثير فضول كل الذين حوله، ما لبث أن شعر بصغر عالم القرية، واعتبره غير كافٍ لتلبية طموحاته، وظل يحلم بعالم المدينة الكبيرة التي تحقق أحلام الكثيرين الذين يقدر لهم الوصول إليها، وبقيت هذه الأمنية تراوده إلى أن جاءت المناسبة وانتقلت الأسرة إلى القاهرة . وقد صادف ذلك خلال نفس الفترة التي تزايدت فيها الدعوة إلى إنشاء مدرسة للفنون الجميلة، وهكذا يكون من حظ مختار أن تنشأ تلك المدرسة وأن ينتسب إليها، ثم أن يكون من أوائل الذين يوفدون إلى باريس لمواصلة الدراسة هناك!
إنه الحظ الحسن دون أدنى شك، إذ توافقت الشروط الموضوعية مع بداية الاستعداد، وكان التجسيد لذلك هو هذا الفتى الريفي القادم من دلتا النيل، إذ لو لم تنشأ مدرسة الفنون، وأن يقبل مختار فيها . ثم تظهر عبقريته ويراها أساتذته، ويتقرر إيفاده إلى فرنسا، وأن تتاح له الفرصة هناك كي يحتل موقعاً مميزاً اعتماداً على الأعمال الباهرة التي قدمها والتي تؤكد كفايته وعبقريته، لولا هذه الشروط جميعاً ومعاً، وأن يكون مختار بالذات موضع الاختبار والرهان، لربما أخذت الأمور مساراً آخر، أو لتغيرت النتائج.
وكي تكون الأمور أكثر تحديداً، لابد من الإشارة إلى أن مصر أخذت تتعرض لرياح جديدة بدءاً من غزوة نابليون، وأن عدداً غير قليل من الفرنسيين بدأ يقصد مصر لإقامات قصيرة أو طويلة، باعتبارها مكاناً ملائماً للرسم، خاصة ضمن الموجات والأساليب الجديدة وقد ترك هؤلاء تاُثيرات غير قليلة، وبدأت تتكون بالتدريج حركة فنية، وأخذ يتزايد عدد المهتمين والمتذوقين للفن، إلى أن أطل القرن العشرون.
مع بداية القرن الجديد، ونتيجة تراكم طويل، ومتواصل تقريباً، ومع تزايد الوعي بضرورة الفنون ودورها، ثم توفر الظروف والوسائل، بما في ذلك المدرسة وإمكانيات الايفاد والرجال المستنيرين، كل ذلك هيأ لنقلة نوعية، وكان في طليعتها وأهم رموزها محمود مختار .
إذ ما كاد ينتهي من مدرسة الفنون في القاهرة، ويغادر برغبة، لكن بخوف، إلى باريس حتى يكون من أوائل المقبولين في مدرسة الفنون العليا، باعتباره في مقدمة الفائزين في المسابقة، وهكذا يبدأ مشواره الجديد في رحلة الابداع، خاصة وأن باريس خلال تلك الفترة كانت في إحدى مراحل زهوها الفني، نتيجة الازدهار والخصوبة والتنوع التي تتسم بها فنونها، وتحديداً فن النحت، فقد كان بمكان الذروة في هذا الفن : رودان، وما أوجده من حيوية وتجديد، خاصة بتحطيمه للمقاييس السائدة، الأمر الذي سيكون ملائماً لمختار إلى أقصى حد، فهذا النحات الآتي من حضارة أخرى، والمشبع بروح مختلفة، ورغم معرفته بالأساليب النحتية السائدة في الغرب، كان طامحاً أن يقدم شيئاً جديداً ومختلفاً، وهكذا، ومن خلال الاحتكاك بهذا الجو، أخذت تتكشف عبقريته، وبدأ يشكل ظاهرة في إطار النحت السائد، الأمر الذي لفت إليه الأنظار، وجعله في مركز الاهتمام، حتى إذا اقترب معرض الفنانين الفرنسيين، في الصرح الكبير بباريس، لم يتردد مختار في أن يتقدم لهذا المعرض بتمثال «عائدة»، وكان من أوائل التماثيل التي قبلت، وسوف يصبح بذلك أول أثر مصري معاصر يظهر في معرض خارجي مميز مثل معرض القصر الكبير. لقد حقق مختار ذلك وهو لايزال في مطلع العشرينات، الأمر الذي سيلفت إليه النظر أكثر من قبل، وسيرشحه إلى مراكز إدارية، بما فيها اقتراح أن يصبح مديراً لمدرسة الفنون الحديثة في مصر، لكنه يرفض مثل هذه المراكز، لأن هم الابداع لديه أقوى من أن يختصر بمنصب إداري، وهكذا يواصل الاقامة في باريس، وتوكل إليه مسؤولية متحف جريفين للشمع، وهو من أهم المتاحف وأكثرها إثارة، نظراً لاحتوائه على تماثيل لأبرز الشخصيات المعاصرة. وخلال سنتين في هذا الموقع ينجز مختار أعمالاً هامة، لكن قيام الحرب العالمية الأولى، والتحديات التي فرضتها، والتغيرات التي ترتبت عليها، جعلت مختاراً يواجه مصاعب اضطرته لأن يعمل في غير مجاله من أجل متطلبات الحياة والاستمرار، حتى إذا انتهت الحرب، انشغل بفكرة، تمثال سيطرت عليه تماماً: تمثال يجسد نهضة مصر، ويعبر عما يجيش في الصدور والعقول، خاصة وأن العالم أصبح يواجه وضعاً جديداً نتيجة التغيرات التي أحدثتها الحرب .
لقد ألمحنا منذ البداية، إلى خصوصية المرحلة التي عاش خلالها مختار، وكيف تهيأ الجو كي تكون الفنون جزءاً من اهتمامات أعداد متزايدة من المثقفين وأصحاب النفوذ، وبالتالي استلزم هذا أن تنشأ مدرسة الفنون، وأن تقام المعارض الفنية، وأن يتم إيفاد المتفوقين إلى الخارج.
ويجب أن نضيف هنا أن الأمر لم يقتصر على الفنون وحدها، إذ سبقها وترافق معها الاهتمام بعدد غير قليل من الاختصاصات، وإيفاد الطلاب لاستكمال علومهم في هذه المجالات. كذلك سبقت مختاراً أو زاملته نخبة متنوعة لدراسة الآداب والفلسفة والعلوم، لتلبية الحاجة المتزايدة للجامعة المصرية التي قامت خلال السنوات الأولى من القرن العشرين.
ولابد من الاشارة أيضاً أن مجموعة من الأفكار والقيم ولّدت اهتماماً في أوساط كبيرة بضرورة النهوض، وأن تلحق مصر بالدول المتقدمة، لذلك تزايدت المطالبة بالاستقلال وضرورة جلاء المستعمر، ووضع دستور للبلاد يحكم العلاقة بين الحاكم والمحكوم ويحدد الحقوق والواجبات، ولابد أن يكون الدستور مستنداً إلى رأي الشعب أو ممثليه، وحريصاً على الكرامة الوطنية والعدالة والمساواة، وأن يخضع إليه الجميع . هكذا سيطرت مجموعة من القيم والشعارات، وأخذت تحدد رؤية ومواقف المثقفين، وقد عبرت عن نفسها بكتابات وسلوك وإنجازات الطليعة، فظهرت في تلك الفترة: زينب- لهيكل، وتعتبر أول رواية تكتب بالعربية، حسب رأي بعض النقاد، وظهرت كتابات مصطفى عبد الرازق في الفقه ومحمود عزمي في الحقوق السياسية والدستورية، ومحمد صبري في التاريخ، ثم كتابات طه حسين في الفلسفة والأدب، وظهرت أيضاً إنجازات محمود مختار في النحت، إذ قدم مجموعة من التماثيل استمد بعضها من التاريخ، مثل تمثالي طارق بن زياد وعمرو بن العاص، واستمد بعضها من الواقع، الواقع الذي عاشه في القرية بشكل خاص، والمعبرعن أحلام وطموحات الفلاحين .
لقد كانت مصر تزخر بالأفكار والأحلام خلال تلك الفترة، وهي نتيجة تفاعل طويل ومستمر،ونتيجة الاحتكاك بالآخر، والاطلاع على تجارب الأمم المتقدمة، والأفكار الجديدة . ولقد لعبت الصحافة دوراً هاماً في إشاعة الوعي ولفت النظر إلى القضايا الأساسية، كما لعب الأدب، بتعدد وسائل التعبير، دوراً مماثلاً، وكذلك المسرح. وبرز خلال هذه الفترة عدد من المصلحين، وفي شتى المجالات، وكان لهؤلاء الفضل في طرح الأسئلة الأساسية وتوجيه اهتمامات الجمهور إلى القضايا المسكوت عليها، كما اتخذوا مواقف واضحة وصارمة في الدفاع عن قيم العدالة والكرامة وتحرير المرأة.
كان محمد عبده في طليعة الداعين إلى تحرير الدين من النظرة القديمة المغلقة، وإلى إعادة تفسير الأحكام، وقراءة التراث اعتماداً على متطلبات العصر الذي نعيش فيه. ويمكن أن ندرج في هذا السياق، لطفي السيد وقاسم أمين وفرح أنطون وهدى شعراوي والكواكبي وآخرين، كلاً في مجاله، وقد ساهم هؤلاء وغيرهم في إشاعة جو جديد، وخلق اهتمامات من نمط مختلف عن السابق. وكان مختار أحد التعبيرات الهامة عن هذا المناخ.
فهذا النحات الفذ، المملوء بالأفكار والمشاريع الفنية، لم يكن مجرد نحات، بل هو محصلة لمناخ بالغ الغنى والتعدد، إذ بالاضافة إلى هاجس الأسلوب الذي يجب عليه اعتماده من أجل التعبير عن نفسه، فقد كان ممثلاً لقطاع واسع من سكان بلده، مصر، كان ممثلاً لهؤلاء الفلاحين الملتصقين بالأرض والغارقين بالطين، وكان معبراً عن أحلام الوطنيين الطامحين إلى الاستقلال والحرية والكرامة، والداعين إلى العدالة والمساواة، كما كان معبراً في نفس الوقت عن تلك العلاقة التي تربطه بتراثه وأرضه وتاريخه، وبالتالي يريد أن يكون امتداداً، ولكن بشكل جديد، لحضارة كانت مزدهرة ذات يوم ثم توقفت، ويحن اليوم كل المصريين والعرب لأن تعاود مسيرتها، وأن تتدفق في عروقها دماء جديدة تمكنها من منافسة الأمم الأخرى. لذلك يعتبر مختار بطموحاته وإنجازاته، تعبيراً عن هذا التوجه، إذ بمقدار ما تحمل أعماله أشكالاً فنية جديدة، فإن ما ترمز إليه يمثل طموحاً يعتمل في صدور الملايين، وهكذا كانت فكرة تمثال نهضة مصر، والتي عكف مختار على تجسيدها وعرضها، بداية التحدي لعمل سوف يستغرق عدداً من سنوات عمره القصير.
تمثال نهضة مصر، منذ أن بزغ كفكرة في مخيلة مختار، ثم عبر المراحل التي مر بها، إلى أن اكتمل واستوى على قاعدته بشكله الكامل والنهائي، يعتبر إحدى علامات النهوض العربي الحديث، وبداية التماس مع روح العصر، وتأكيد الارتباط بالجذور.
فهذا التمثال، بالاضافة إلى ما يرمز إليه من فكرة، وما يمثل من جوانب الحياة في وادي النيل، هو أول نصب يقام في المنطقة العربية في العصر الحديث . إذ بعد أن كانت المنطقة في عصور خلت مركز الحضارة وبؤرة الاشعاع للعالم كله، وكانت تزخر بالتماثيل، حتى لكأنها غابة من المخلوقات الحجرية والطينية، في محاولة لتجسيد أبدع ما توصلت إليه مهارة الانسان، ولتقول للقريب والبعيد، للحاضر ثم للمستقبل أي بشر عاشوا على هذه الأرض وكم امتلكوا من المهارات والامكانيات بحيث استطاعوا جعل الصخر يتكلم…بعد هذه الانجازات الكبيرة والرائعة غرقت المنطقة في سبات عميق وطويل، وأصبحت فريسة للطامعين، ومجالاً حيوياً لذوي النفوذ والمتنافسين، وظلت كذلك قروناً عديدة متواصلة .
الآن ومن خلال هذا التمثال، إعلان عن بداية التغير والانتقال، ليس فقط كتوجه واحتمال، وإنما بالمواقف التي اتخذها الناس؛ إذ ما كادت فكرة التمثال تطرح، ويعلن عن النية بإقامته في مصر، حتى جرى ما يشبه الاستفتاء الحر قال فيه الجميع مايفكرون فيه وما يريدونه، وقدموا الكثير من أجل إقامته وإكماله، وقد يكون في استعراض عدد من الوقائع ما يعطي صورة عن المناخ الذي كان قائماً:
إذ ماكادت الحرب العالمية الأولى تنتهي، حتى كانت فكرة تمثال نهضة مصر استغرقت مختار تماماً، وصمم على أن يتفرغ لها، وبعد أن عرض نموذجاً للتمثال في معرض باريس، وقد لاقى اهتماماً من نقاد الفن والصحافة، إذ رأى فيه نقاد الفن «أول شعاع تنبثق منه نهضة الفن المصري وحياته حياة جديدة»(1) صدف أن زار باريس خلال تلك الفترة سعد زغلول، ومعه وفد مصري سياسي من أجل الدعوة للقضية المصرية، وقد اقترح على سعد زغلول مشاهدة نموذج التمثال، فما أن رآه حتى أخذ بفكرته وتصميمه، وشاركه في ذلك عدد من الذين رافقوه في الزيارة، وبدأت الدعوة لإقامة التمثال في مصر.
أما الصحافة الفرنسية، العامة والمتخصصة، فقد أفردت مساحات كبيرة للحديث عن التمثال، كتبت جريد الفيغارو : «… يستحق هذا التمثال المعروض الآن في معرض الفنانين الفرنسيين عناية خاصة، فالظاهر أن له مغزى أسمى ومعنى أعلى، له من القيمة ماللرمز والدعوة معاً،»(2) وكتبت المجلة الحديثة للفنون: «ويدل هذا التمثال الجميل الذي يأخذ بجماله ووقاره بالعقول على ما لصانعه من مقدرة فنية عظيمة، كما يدل على سمو فكره وجمال تخيله».(3)
أما ويصا واصف، عضو مجلس النواب الذي رافق سعد في رحلته إلى باريس، فقد كتب مقالة طويلة نقتطف منها بعض الفقرات: «لما ذهب الوفد إلى باريس دعاه أعضاء الجمعية المصرية إلى حفلة شاي، فقدموا لنا من ضمن الطلبة المصريين محمود أفندي مختار، وقالوا لنا إنه رئيس حفاري معهد جريفين، الطائر الصيت في العالم. فقلت في نفسي: كيف أن مختار المصري يخلف جرفين وكلنا يجهل اسم مختار؟ فقصدت إلى متحف جريفين لأرى ما صنعته يد مختار وأقارنه بباقي التماثيل المعروضة بالمتحف، فذهبت دون أن أخطره، فوقع نظري على تمثال ولسن، وهو تمثال بديع الصنع، فسألت الحارس: من صنع هذا التمثال؟ فأجابني: مختار، فسألته هل تعرف جنسية مختار؟ فتبسم لأنه فهم غرضي من السؤال وقال: إنه مصري، ثم وقع نظري على منظر أجمل مارأيت، وهذا المنظر يمثل كليمنصو واقفاً يتوكأ على عصاه المشهورة باسمه وأمامه فوش وبيتان، والثلاثة يتحادثون، فلما أعجبني المنظر تمنيت أن يكون مختار هو الصانع، فسألت الحارس فقال: هذا أيضاً من صنع مختار، ثم رأيت أشياء أخرى أبدع من هذه مثل منظر الهجوم بالدبابات وكلها من صنع مواطننا مختار، فقصدته في معمله بالمتحف، وأظهرت له إعجابي، وأكدت له، ولم أكن مبالغاً في قولي، أن أحسن ما رأيته في المتحف من صنع يديه.
ويدعو مختار ويصا واصف لزيارته في معمله الخاص ليطلع على نموذج تمثال «نهضة مصر»… فذهبت معه لرؤية تمثاله، فلما وقع بصري عليه خفق قلبي فرحاً بهذا المنظر البديع، صنع أحد مواطنينا العبقريين، وتتصرف به الأمة حسب مصلحتها الأدبية.(4)
أيد هذه الدعوة وعززها عدد آخر من الذين رافقوا سعد زغلول، وكتبوا طالبين أن يبدأ اكتتاب من أجل جمع المبالغ اللازمة لإقامة التمثال في مصر، ومنذ ذلك الوقت، وإلى أن انتصب التمثال، انشغلت مصر من أقصاها إلى أقصاها بالأمر، وعبرت عما تختزنه من مواقف وطاقات، ولعل التمهل في بعض المحطات يساعد في إعطاء فكرة عن المناخ العام الذي عم الناس جميعاً، وما يمكن أن نستخلصه من هذا الدرس الكبير.
إذ ما كادت جريدة الأخبار في القاهرة تتبنى الدعوة إلى الاكتتاب حتى تسابقت الأرياف قبل المدن، الصغار قبل الكبار، الفقراء قبل الأغنياء من أجل تقديم أقصى ما يستطاع، كل ذلك من أجل إقامة تمثال نهضة مصر . ومن الضروري هنا إعادة نشر بعض الرسائل لتصوير جزء مما كان يجري:
كتب أمين الرافعي، المسؤول عن جريدة الأخبار : «لقد شاهدنا من عواطف فقرائنا ما لو كان عشر معشاره عند أغنيائنا لغطى الاكتتاب مرات عديدة، وآخر شيء من هذا القبيل أني تسلمت في صباح اليوم من الاسكندرية كتاباً من طفلة صغيرة فقيرة، لاتتجاوز يومية والدها سبعة قروش، يفيض غيرة ووطنية شرحت فيه حزن والدها الذي لم يتمالك نفسه من البكاء عند تلاوة كلمة الدكتور، لأنه لايستطيع أن يقوم بواجبه الوطني، ومع ذلك آلى على نفسه أن يسعى لتوفير ما يمكنه توفيره حتى لايحرم الاشتراك مع مواطنيه في الاكتتاب، ولو بالقروش فإنها تكون ملايين.» (5)
وأرسلت سيدة مصرية إلى الجريدة الرسالة التالية: «سيدي الفاضل مدير الأخبار : إن المرأة المصرية التي كانت لها يد تذكر في تشجيع النهضة الوطنية في مصر لا تستطيع أن تحجم عن البذل في سبيل إقامة تذكار يخلد ذكرى هذه النهضة،». «…وإني أرسل إليكم خمسة وعشرين جنيهاً آملة أن يكون ذلك فاتحة اكتتاب كبير تقوم به سيداتنا العاملات حتى تبرهن المرأة المصرية مرة أخرى على أنها لا تتردد في الاشتراك في كل ما يعود على مصر بالنفع والخير . حرم حسن شريف»(6)
وضمن القائمة 55 من قوائم التبرعات ورد الايضاح التالي: «نحن المتبرعين بهذا (1جنيه و650 مليم) فقراء كفر معوض، بندر الزقازيق، نتقدم إلى أغنياء الزقازيق طالبين منهم مشاركتنا بالاكتتاب لتمثال نهضة مصر، حتى نكون قد تساوينا بغيرنا من البلدان الأخرى ولهم الشكر سلفاً.» (7)
ووردت رسالة من تلميذ صغير بمدرسة خليل آغا الابتدائية جاء فيها :
إن والدي كان يطلعني على ما كتب بجريدتكم بشأن نابغة مصر، وهو سيدي محمود مختار، لأعلم أن النبوغ أكثر ما يكون من الطبقات التي أنا منها فأبذل جهدي لأكون عظيماً، وأن المديح الذي أسمعه من والدي لهذا النابغة جعلني أحبه حباً لامزيد عليه، واليوم علمت دعوتكم إلى الأمة المصرية لتكتتب بمبلغ يدفع ثمناً لتمثال مصر الذي أجاد إتقانه سيدي مختار ويكون ذلك مكافأة لذلك النابغ وبرهاناً على شعور الأمة الحي.
« وبما أنني أرجو أن أكون رجلاً حياً »، فقد أردت أن أفتتح حياتي بالاشتراك في هذا الاكتتاب المقدس بنصف ما أملك، وهو خمسة وعشرون قرشاً، وأقسم بوطنية مختار، وانه لقسم كما تعلمون عظيم أني لو كنت أملك مئات الجنيهات لأكتتب بنصفها، ولكن ما باليد حيلة.» مصطفى كمال التميمي.
والرسالة الأخيرة التي نثبتها هنا وردت من الشحات ابراهيم الكيلاني، الفاعل بهندسة السكة الحديد بالزقازيق:
« إنني رجل فقير جداً، اشتغل بهندسة السكة الحديد الأميرية بوظيفة فاعل، ويوميتي 70 مليماً ومتزوج يتيمة الأب وأم زوجتي تبيع ترمساً ولي شغف بقراءة الصحف من عهد النهضة المصرية الأخيرة، بينما كنت جالساً أقرأ جريدتكم الغراء بكيت بكاءً شديداً فسألتني زوجتي عن سبب بكائي فأخبرتها عن التبرع لتمثال نهضة مصر، ولم يكن معي نقود أتبرع بها خلاف 200 مليم فقالت زوجتي أنها تتبرع بمائة مليم أيضاً وقالت أمها مثلها وكذلك فعل أخوها وعمره 15 سنة، أما أختها البالغة من العمر 13سنة فقالت أنها لا تملك إلا 50 مليماً فتبرعت بها، ولي طفل عمره سنة ونصف كانت أمه وفرت له 50 مليماً فأحضرتهم فأصبح المجموع 600مليم، فأرجوكم أن تتقبلوا هذا المبلغ لتوصيله إلى أمين صندوق نهضة مصر وتتوسطوا في قبوله، ونكون من الشاكرين، هذا وأني أدعو جميع الفعلة زملائي في الزقازيق وخلافها وأدعو أيضاً جميع العمال للتبرع لتمثال نهضة مصر لنتسابق مع أسيادنا الأغنياء زادهم الله من فضله.» (8)
وهكذا، وفي جو من الحماس والمشاركة الواسعة، أمكن جمع ستة آلاف وخمسمائة جنيه لبدء العمل بإقامة التمثال، وقد تألفت لجنة كان من أعضائها ويصا واصف ومحمد محمود خليل وآخرين، وحين جرت مناقشة المادة التي سيتم اختيارها لإشادة التمثال، كان رأي مختار واضحاً وحاسماً: الجرانيت، لأنه عودة العلاقة مع آثار مصر التاريخية، والتي صنعت من الجرانيت وما ترمز إليه من ارتباط وما تعنيه من دلالة.
الجرانيت مادة لصناعة التمثال
بعد أن تم اختيار الجرانيت مادة لصناعة التمثال، وبدأ تحضير المحاجر والعربات اللازمة للنقل،أخذت المؤامرات والعقل البيوقراطي ينشطان من أجل عرقلة المشروع ووضع العقبات في وجهه، والحجج التي يمكن أن تقدم لتسويغ ذلك متوفرة أو يمكن اختراعها ! فمرة بحجة نفاد الاعتمادات، ومرة لاستقالة الوزارة أو الوزير، ومرة بحجة إعادة النظر بالمكان المقترح لإقامة التمثال، ووصل الأمر في إحدى المراحل أن بعض مسؤولي وزارة الأشغال طلب إعادة النظر بالتمثال من حيث الأساس «بحجة النظر في قيمته الفنية وضرورة تشكيل لجنة من ذوي الذوق للنظر في صلاحية التمثال» (9)
هذه العراقيل والتحديات لم تمنع الاستمرار. صحيح أن العمل توقف أو تباطأ في بعض الأوقات، نتيجة نفاد الاعتمادات أو بسبب ما قيل عن المقابل الذي يطالب به مختار، لكن المناخ العام الذي تولد منذ أن بدأ المشروع، والالتفات الشعبي حوله، ثم تلك المبادرات الجريئة للتغلب على المصاعب، جعلت الأمور تأخذ مساراً ايجابياً . فحين نفدت الاعتمادات مثلاً بادر ويصا واصف طالباً من البرلمان أن يخصص مبلغاً إضافياً لمواصلة العمل. وحين جرى الحديث عن التعويض الذي يطالب به مختار، لم يتردد في أن يوجه رسالة إلى وزير الأشغال يقول في مقطع منها: «على أنه إزاء العطف الذي أظهرته نحوي الأمة والبرلمان والحكومة، وما طوقتموني به من المعروف بالمساعدة على إنجاز التمثال الذي أعده مفخرة حياتي.
« أقرر لمعاليكم من الآن بأني أترك أمر التعويض المذكور لمحض تقدير الحكومة بعد إنجاز التمثال وتسليمه دون أن يكون لي الحق في الالتجاء إلى سلطة أخرى قضائية أو غيرها في شأن ذلك عدا البرلمان».
لقد كتب مختار هذه الرسالة بعد أن وقع تغيير حكومي، وكان الاتجاه الجديد سلبياً تجاهه وتجاه إقامة تمثال نهضة مصر، وانتهز المسؤولون فرصة سفره إلى باريس في أثناء تعطيل العمل لبعض الشؤون المتعلقة بالتمثال، وليعرض تمثاليه «اللقية» و«كاتمة الأسرار» في صالون الفنانين الفرنسيين عام 1926، انتهزوا هذه الفرصة وتلمسوا في لوائحهم مايجيز حرمانه من مكافأته الشهرية لتغيبه عن عمله،(10) هذا في الوقت الذي يقترح رئيس لجنة صالون باريس الذي يعرض الأعمال الفنية أن يمنح مختار وسام جوقة الشرف اعترافاً بفنه ونبوغه.(11)
لقد خلق تمثال نهضة مصر، منذ البداية، جواً من الحماسة في جميع الأوساط، و«توارى مع هذه الحماسة صوت معارضة دينية تردد خافتاً ثم ما لبث أن اختفى، وظهر بين رجال الأزهر أنفسهم دعاة للتمثال، وكان منهم من يجمع التبرعات عقب الصلاة»(12) ولعل ضمن العوامل التي خلقت هذا الجو: النزوع العارم في مصر، بل وفي المنطقة كلها، نحو التحرر والانعتاق والنهضة، وجاءت فكرة التمثال معبرة عن ذلك، ثم إذا اختلف الناس على بعض الأمور السياسية، فإن هناك إجماعاً كاملاً على أهمية وضرورة : النهضة، أي اليقظة والبعث والتواصل مع الأمجاد القديمة، وبالتالي فإن تمثالاً يرمز إلى هذا سيكون موضع إجماع وترحيب؛ وضمن العوامل أيضاً أن تتبنى مشروع التمثال طليعة من هذه الأمة سواء من مثقفين وقادة رأي وسياسيين موثوقين، وأن تكون قدوة للآخرين وفي مقدمتهم، بحيث لم يجرؤ أحد بعد ذلك على المعارضة جهراً.وحتى المعارضة التي نشأت لاحقاً، ولأسباب سياسية بالدرجة الأولى، كانت تتخفى وراء ذرائع وحجج لا تلبث أن تسقط الواحدة بعد الأخرى، ويستمر العمل في التمثال رغم الصعوبات إلى أن اكتمل .
إن تمثال نهضة مصر، منذ البداية إلى الختام، أحد مظاهر يقظة مصر، وتعبير عن العنفوان الذي تزخر به، وارتباط بروح العصر، كما أنه تأكيد على الانتماء إلى حضارة عريقة راسخة، وإلى رغبة للاستفادة من هذه الحضارة، وأن تكون جزءاً من ملامح مصر المعاصرة .
وإذا وجدت معارضة لتمثال نهضة مصر في بعض المراحل، فقد كانت نتيجة موقف سياسي بالدرجة الأولى، وتجلى ذلك في سلوك بعض الذين تعاقبوا على الحكم خلال تلك الفترة، وإلى موقف القصر الملكي السلبي تجاه مثل هذا التمثال، إذ كان يفضل تمثالاً يصنعه مختار للملك فؤاد أو لأحد أصول الأسرة المالكة؛ ثم هناك البيروقراطية الادارية القادرة على إفساد أي مشروع أو على الأقل تأخيره ووضع العراقيل في وجهه، ومع ذلك فقد تحمل مختار جميع المصاعب واستمر في العمل، حتى إذا اكتمل التمثال، ولم يبق إلا إزاحة الستار عنه، وكانت أنظار مصر كلها تتطلع نحوه، فقد تأخرت الحكومة، قدر ما تستطيع، في إزاحة الستار! وجرى ذلك في 20 أيار 1928، ولم يمنح مختار لقاء إشادة التمثال أي تقدير رسمي!
أشرنا أن مختار أصر على اعتماد الجرانيت مادة لصناعة التمثال، واستبعد البرونز أو أية مادة أخرى، رغم صعوبة العمل والجهد الذي تتطلبه، بما في ذلك انتزاع هذه الكتل الصخرية من مقالعها في أقصى شمال مصر ونقلها إلى القاهرة ؛ يكمن وراء هذا الاصرار أن مختار هدف إلى ربط النهضة المعاصرة بجذورها التاريخية، وكأنه يقول أن الذين استطاعوا بناء الحضارة المصرية القديمة، والمتمثلة بالاهرامات والمسلات والمعابد، قبل آلاف السنين، وقدموا نماذج لا تزال قادرة إلى اليوم على إبهار العين والأخذ بمجامع النفوس، هاهم أولاء أحفادهم يقدمون اليوم إبداعات معاصرة لا تقل جمالاً وروعة، كما أنها تمت بصلة النسب لتلك الحضارة من حيث الروح ومن ناحية المادة، وها هو تمثال نهضة مصر دليل على ذلك.
كما أن مختار لم يكتف باختيار الجرانيت مادة لصناعة التمثال، فقد اختار أيضاً مجموعة من الأشكال والرموز، واعتمد طريقة في العمل تؤكد الصفة المحلية من ناحية، وتشير إلى شخصية مختار وطريقته في النحت من ناحية أخرى، وكلا الأمرين لهما أهمية ودلالة، فقد وصل إلى خياراته النهائية والحاسمة، فهو ابن هذه المنطقة ومشبع بتاريخها وتراثها، ولابد لكل من يرى عمله أن يقدر، دونما خطأ، أن هذا العمل يمت بصلة النسب إلى حضارة وادي النيل، وأن صانعه هو مختار، وهذا ما تحقق فعلاً في تمثال نهضة مصر، وقد شهد بذلك كل من رأى التمثال منذ أن كان نموذجاً في معرض باريس وإلى أن انتصب تمثالاً بحجمه الكامل في أحد ميادين القاهرة، وإلى الآن . وسوف يشهد بذلك أيضاً كل من يرى التمثال في الأزمنة القادمة .
لقد قيل الكثير في الماضي عن تمثال نهضة مصر، قاله النقاد والفنانون،خاصة النحاتون، والذواقة وأصحاب الاختصاص(13) وقاله الناس العاديون، وسوف يقال الكثير عن هذا التمثال وعن مختار في المستقبل، لأن عملاً مثل هذا قليل المثال، ولأن الزمان قلما يجود بنحات كمختار، فالتمثال كان خلاصة الروح وتعبيراً عن أحلام الشعب وطموحه ؛ وإقامة التمثال نموذج لمدى تفاعل ومشاركة الناس جميعاً، في المدن والأرياف، ومثالاً لما يمكن أن يحصل في حال الاقتناع والتصميم. أما مختار ذاته، هذا الفنان النادر المثال، فإنه إلى جانب العبقرية الفنية، يمتلك صفة إنسان بكل ما تعنيه من نبل وتواضع وتضحية، ويمتلك صفة الداعية والقدوة، إذ استطاع أن يجند الجميع من أجل فكرة سامية، وأن يكون المثل فيما يمكن أن يصنع إذا توفرت الارادة والرغبة والقناعة.
لكي تكتمل صورة مختار، لابد من الوقوف في محطتين أساسيتين: محطة التماثيل الكبيرة الأخرى التي شيدها، ونخص بالذكر تمثالي سعد زغلول في القاهرة والاسكندرية؛ ومحطة التماثيل الصغيرة التي صنعها عبر فترات زمنية متعددة، وقد استمد أغلبها من حياة الريف المصري، وتعكس هذه التماثيل رؤية مختار وقدراته الفنية الفائقة.
قبل أن يرفع الستار عن تمثال نهضة مصر توفي سعد زغلول، فقد وافته المنية في1927، ورغم حالة من الفتور اعترت علاقة الرجلين خلال فترة سابقة، ونتيجة الرسوم الكاريكاتورية التي خطتها ريشة مختار لسعد زغلول في بعض الصحف، إلا أن هذه الحالة لم تدم طويلاً، إذ ما لبث سعد أن نسيها أو تجاوزها، وعادت العلاقات إلى سابق عهدها من المودة والتأييد، وتعبيراً عن ذلك قام سعد بزيارة موقع التمثال أثناء العمل، ورافقه عدد من الساسة والمثقفين، لإظهار تأييده الكامل للمشروع ومساندته لموقف مختار. أما حين رحل سعد عن هذه الدنيا، فقد تعالت الأصوات مطالبة بتكريمه، ذلك بإقامة تمثال له، وإن مختار الذي أنجز لتوه تمثال نهضة مصر هو الوحيد المؤهل لذلك. ولم يتردد مختار بإعلان موافقته وحماسه للفكرة، وقال كلمة أصبحت مشهورة فيما بعد، قال: «إن في وجدان كل مصري، ولو لم يكن فناناً، تمثالاً لسعد زغلول.» (14)ولم يتأخر في العودة من باريس حين طلب إليه ذلك ليتولى هذه المهمة. وبدأت معركة جديدة في حياة مختار بعد معركة تمثال نهضة مصر.
ولأن سعد زغلول يعني الكثير للأمة، إذ يمثل كفاحها وطموحاتها وأحلامها، فقد استقر الرأي أن يقام له تمثالان، واحد في القاهرة، والآخر في مواجهة البحر في الاسكندرية، ليقول لكل من يصل مصر عن طريق البحر، ماذا يعني سعد زغلول للمصريين، وما يرمز إليه من قوة وعظمة. وهذا ما جعل مختار يحلق وهو يوافق ثم يفكر كيف سيحمّل هذا التمثال رموزاً وصوراً وشموخاً ليدلل على ما يريد قوله وما يرمز إليه من رسالة، وهكذا حانت الفرصة ليظهر مختار عبقريته مرة أخرى، إذ لابد أن يجسد التمثالان شخصية سعد الوطنية، وأن يعبرا في نفس الوقت عن كفاح مصر وتاريخها وعظمتها، وما تحلم به أيضاً، ولابد أن يكونا شامخين، ولما استدعي مختار من باريس للقيام بهذه المهمة، وتعاقدت معه الحكومة، كان شرطه الوحيد ألا يتدخل أحد بعمله، وهو يعني عدم تدخل الحكومة تحديداً، لكن ما أن مرت فترة قصيرة، وتغيرت الحكومة، حتى بدأت المتاعب:
كيف يقام تمثال لسعد زغلول في القاهرة، وليس في المدينة، بالمقابل، تمثال للخديوي اسماعيل؟
كيف يقام تمثال لسعد زغلول في أبرز ميدان بالقاهرة وكذا الأمر في الاسكندرية بدل أن يكون هذان الميدانان مكانين لتماثيل تخص الأسرة المالكة؟
هل يجوز أن يرتفع التمثالان لعلو 20 متراً في الوقت الذي لايزيد علو تمثال محمد علي باشا عميد الأسرة العلوية عن ثمانية أمتار؟
وهكذا بدأت العراقيل ثم التأخير والمماطلة، واخيراً الرغبة بصرف النظر عن المشروع كله لقاء تعويض مجزٍ لمختار!(15) لكن مختار يرفض، وبإصرار، أية مساومة، وتبدأ سلسلة من المرافعات أمام المحاكم، وتستغرق هذه فترة طويلة يتعطل خلالها العمل، وتتكون اللجان الفنية والمالية للنظر في النزاع، مع الكثير من تعمد الاساءة لهذا الفنان العظيم، وعدم إفساح المجال أمامه لمواصلة العمل أو إنهائه، يترافق ذلك مع الحملات والكيد وتسميم الأجواء.
« وظلت القضية تمضي، أحكام تمهيدية تصدر والحكومة تستأنف، وخبراء يعينون ومعاينات بين أسوان والقاهرة وباريس، ولكن دون جدوى».
«وآثر مختار أن يعيش بعيداً عن بلاده، واتشحت حياته بجو من القتامة. أصدقاؤه بدأوا يرحلون: مات ويصا، وكان سنداً وصديقاً، ومات شوقي الشاعر، ومات حافظ الذي كان يألف صحبته وشخصه.
«وعاش هو موزعاً بين الأطباء، بعد أن أصيب في يده، في أداة إبداعه» (16)
إنها فترة بالغة الصعوبة ولاتخلو من سخرية سوداء، إذ بدل أن يكرس نهائياً وبشكل كامل هذان الرمزان العظيمان، سعد زغلول ومحمود مختار، بعد أن مضى الأول إلى رحاب الخلد كزعيم للأمة وكعنوان لكفاحها الوطني: وبعد أن اعترف العالم بالثاني، محمود مختار، كواحد من أبرز نحاتي العصر الحديث، بدل ذلك جاءت المتاعب فأعاقت العمل؛ وحل الجحود والانكار مكان الاعتراف والتقدير في مواجهة مختار، مما أدى إلى انعزاله ثم إلى مرضه.
ومع ذلك، فإن مختار وأبرز مثقفي الأمة وألمع مناضليها احتشدوا متضامنين من أجل إنجاز التمثالين، متحدّين المصاعب، مصرين على مقاضاة الحكومة وكل من يقف إلى جانبها . ومن خلال الاصرار والصلابة، ورغم التأخير والعرقلة، أمكن في النهاية الوصول إلى نتائج إيجابية، إذ قام التمثالان وارتفعا شامخين في القاهرة والاسكندرية، وقد بذل مختار عصارة قلبه من أجل أن يحملها رموزاً ذات دلالات كبيرة . لقد اختار لسعد زغلول، في كل من التمثالين، صيغة تليق بمكانته ودوره، وعبر عن ذلك بقوة وشفافية معاً، كما استفاد من قاعدتي وجوانب التمثالين، إذ اختار مجموعة من اللوحات التي تمثل مصر العليا ومصر السفلى ومدى العلاقة بينهما، واختار من الوجوه والأزياء والحركات ما يعبر عن الريف المصري وناسه وطبيعة الحياة فيه، فعل ذلك وهو ينتزع من أعماق الذاكرة أصدق اللحظات في حياة الناس الذين يعملون في الأرض، وأكثر اللحظات إشراقاً وقوة مع بساطة متناهية.
إن الاختيارات التي لجأ إليها مختار هي مزيج من الضخامة المميزة للنحوت الفرعونية، كي توحي بالقوة والعظمة، والنمنمة الاسلامية، مع تجارب الخبرة والأيام التي اكتسبها من الدراسة والعمل معاً، والتي انصقلت وتكاملت عبر أعماله السابقة، بحيث أصبح هذان التمثالان تعبيراً عن المستوى المتقدم الذي وصل إليه، وتلخيصاً لأسلوبه الخاص في النحت، والذي يتميز عن الأساليب الغربية من حيث ليونة الخطوط واستدارتها ثم تداخلها بالكتلة، وهكذا نرى في هذا الانجاز ملامح الحضارة التي نبع منها، والتاريخ والشخص معاً، ونشم رائحة المكان أيضاً، كما نلمس بصمات أصابع عشرات، بل مئات الفلاحين الذين سربوا مهاراتهم إلى الأبناء ثم إلى الأحفاد من بعدهم، ومنهم، أو على رأسهم، كان محمود مختار.
إن تمثالي سعد زغلول إنجاز فني بالدرجة الأولى، ثم هما رمز وطني بعد ذلك. ولأنهما بالغا الاتقان والرهافة، ومليئان بالرموز، ويمثلان مصر كلها من أقصاها إلى أقصاها، وعبر تاريخها بكل مامر عليه من حضارات وإنجازات، فإنهما لذلك نموذج لنمط من النحت نادر وشديد الغنى، وجدير بأن يتم الوقوف عنده طويلاً.
أما المحطة الثانية التي يجب التوقف فيها، لكي تكتمل صورة مختار، فهي مجموعة أعماله المتوسطة والصغيرة التي أنجزها عبر مشواره الفني .
فمنذ أن كان صبياً صغيراً، وقدماه تغرقان في الوحل، كانت أصابعه لاتترك الطين، إذ تعبث به وتشكله المرة بعد الأخرى، لتخلق منه كائنات حية ساخرة، وهي بمقدار ما تثير الاعجاب فإنها تثير الفضول أيضاً،وكانت هذه البداية هي التي لفتت إليه النظر، وكانت أيضاً البداية التي جعلته يرتبط بعملية « الخلق»، يطورها يوماً بعد يوم، حتى أصبحت جزءاً من حياته، ثم حياته كلها . ولذلك لم يتردد في أن يسلك هذا الطريق، وأن يواصله إلى النهاية .
تماثيله الأولى هي التي قادته إلى المدرسة العليا للفنون في باريس . أما تمثال «عائدة» فهو الذي فتح أمامه أبواب القصر الكبير، وأن يتم اختياره من بين آلاف المتقدمين، ليصبح بذلك أول عارض مصري، عربي، في العصر الحديث. أما حين يصبح مديراً لمتحف جريفين فقد حصل ذلك ليس نتيجة حظوة، وإنما من خلال الكفاءة وإثبات الجدارة، والدليل تلك الانجازات التي تأخذ بمجامع القلوب وتستوقف طويلاً أي زائر لتتأكد أن ما يشهده بشر من لحم ودم، وليس مجرد شمع يأخذ هيئة البشر!
والتماثيل الأخرى،قبل الشمع وبعده، لا تقل أهمية عن التماثيل الكبيرة، من حيث الرهافة والاتقان، بل أن بعض نقاد الفن يتوقف ملياً أمام هذه التماثيل، معتبراً إياها لاتقل أهمية عن الكبيرة، بل إن كثيراً من الأجزاء التي تعطي «نهضة مصر» أو تمثالي «سعد زغلول» تميزها المتفوق نجد تجاربها الأولى في التماثيل الصغيرة التي سبق لمختار أن أنجزها في وقت مبكر. ومثل عادة المبدعين الكبار فإن التجارب المبكرة لاتغيب من البال، وبالتالي تعاود الظهور، وأن بشكل مختلف أو مختصر في الأعمال اللاحقة، وهذا ما فعله مختار، خاصة في الأعمال الجانبية والقواعد للتماثيل الكبيرة.
أكثر من ذلك: أقام مختار معرضاً خاصاً لأعماله المتوسطة والصغيرة في باريس، وقد لاقى هذا المعرض اهتمام النقاد والصحافة المتخصصة، علاوة على الجمهور الواسع. وكان ينوي أن يطوف بهذا المعرض على عواصم عديدة، غير أن المعرض والحزن الذين طوقاه في القذارة الأخيرة حال دون ذلك.
وتعبيراً عن أهمية وروعة هذا الحجم من أعمال مختار قامت الحكومة الفرنسية باقتناء بعضها لمتاحفها وبعض مراكزها. كما أن نقاد الفن توقفوا عند هذه التماثيل حين تم افتتاح متحف مختار في القاهرة، وأشادوا بتميزها وقوة تعبيرها، وتجدر الاشارة إلى أسماء بعضها على الأقل : «فتمثال الخماسين» يعتبر من الآثار الفذة في فن النحت الحديث، وفيه فضلاً عن قيمه التشكيلية طاقة نفسية ترفعه من المحلية إلى العالمية(17) وكذلك الحال بالنسبة لتمثالي: «الحزن» «والقيلولة» ويمكن أن يقال الشيء نفسه بالنسبة لتمثال «اللقية» و«عروس النيل»، وقد اشترت الحكومة الفرنسية التمثال الأخير. أما شخصية الفلاحة المصرية، خاصة وهي تستقي من مياه النيل، فقد حظيت باهتمام خاص من مختار، إذ جسّدها في أعمال عديدة، مفردة أو ضمن سياق جماعي ؛ ورغم التكرار، والذي يصل إلى درجة الإلحاح، مما يؤكد أن مختار أمين لأصوله الفلاحية، وأن له حنيناً دائماً لهذه البيئة ومعرفة عميقة بها، فإن كل عمل جديد يحمل إضافة أو اختلافاً يميزه عن سابقه أو عن الذي سيأتي بعده.
ويمكن القول، بوجه الاجمال، إن الفترة الأخيرة من حياة مختار، ومع تراكم التجارب، عاد مجدداً إلى جو القرية ومفردات حياتها وناسها، والمسحة التي طبعت أعماله خلال المرحلة الأولى من إقامته في باريس، وتأثره بطريقة النحت السائدة، ما لبث أن تخلى عنها أو زالت، لتظهر بوضوح شخصيته الخاصة، المميزة من ناحية أسلوب النحت، ولتظهر موضوعاته أيضاً.
ولعله من الضروري أن يتصدى بعض الدارسين لإعادة « قراءة» مختار،سواء من حيث التعاقب الزمني، أي كيف تطور أسلوبه ومواضيعه تبعاً للسن ومكان الاقامة والأساتذة، وكيف تدرّج إلى أن وصل إلى شخصيته المميزة ؛ أو من حيث المقارنة بين تماثيله الكبيرة وتلك المتوسطة والصغيرة، عبر المراحل المتعددة، وأيضاً الموضوعات التي كان يختارها، وما هي العوامل التي أثّرت عليه، والعناصر التي جذبته أكثر من غيرها. إن الدراسات من هذا النوع ستجعلنا نكتشف مختار مرة أخرى. ومثلما فتن الأجيال السابقة، وملأ مراحل زمنية مديدة، لابد أن يفعل الآن، مجدداً، لأن عبقرية مثل هذه لم تظهر منذ أكثر من قرن، ولأن جوانب الجدة والنبوغ فيها لم تتجسد بوضوح بعد.
ألمحنا في فقرة سابقة إلى مرحلة من الفتور في العلاقة، إذا لم نقل من الصداقة، بين سعد زغلول ومختار، وأشرنا إلى أن السبب بعض الرسوم الكاريكاتورية التي نشرها مختار لسعد زغلول في الصحف، الأمر الذي ولّد المرارة في نفس سعد، ثم الجفاء،لكن هذا لم يطل، إذ ما كاد سعد يرى مختار ذات مرة في أحد الأماكن العامة حتى استدعاه وعادت الأمور إلى سابق عهدها، وتعبيراً عن الود والتأييد، خاصة في مواجهة أزمة تمثال «نهضة مصر»، قام سعد زغلول بزيارة مختار في موقع العمل، وكان برفقته عدد من المثقفين والأصدقاء والمؤيدين، تعبيراً عن تضامنه ووقوفه إلى جانبه، وكانت تلك الزيارة وداعية، إذ لم يمتد العمر بسعد زغلول بعد ذلك!
لقد كررنا إيراد هذه الحادثة لسببين : الأول: كيف أن الكبار قادرون على التسامح، ويتمتعون ببعد النظر وموازنة حجوم الأشخاص والأشياء، وبالتالي لا يبقون أسرى موقف واحد أو حالة طارئة، وهذا تجلى في موقف سعد زغلول، إذ رغم مكانته الكبيرة والعالية، وتقدمه بالعمر قياساً لمختار، ورغم أنه تعرض للإساءة بمعنى ما، إلا أنه عرف كيف يسامح ويصالح، وأن يزور مختار في موقع عمله، لإظهار تأييده، خاصة في مواجهة القصر، وللتعبير عن التقدير الذي يكنّه للتمثال وللفنان معاّ، وسلوك من هذا النوع قلّما يمارسه رجال السياسة، بل قلّما يعرف هؤلاء ألف باء الفن، أو يحفلون بدوره !
أما السبب الثاني لإيراد هذه الحادثة، فلكي نشير إلى أن مختار، علاوة على كونه نحاتاً من درجة رفيعة، كان أيضاً رساماً للكاريكاتور، وله مساهمات في صحافة تلك الأيام، كما اشترك في تبويب وتزيين بعض الصحف وعدد من الصفحات. وهذا يدل على تعدد اهتماماته ومشاركاته.
وتجدر الإشارة أيضاً إلى الصداقات الوثيقة التي كانت تربطه بعدد كبير من قادة الفكر والرأي والفن، ومدى مساهماته في هذه المجالات .
والكلمات الأخيرة التي تقال في هذه الاطلالة السريعة على عالم مختار وإنجازاته الفنية، أن عبقرية بهذا الحجم، ورغم ما تعرض لها من مصاعب وتحديات، كانت البداية الحقيقية مع فن العصر الحديث، خاصة في مجال النحت . ومع أن القدر جاد على مصر في فترة دقيقة من تاريخها بهذه الهبة العظيمة، فإن القدر نفسه كان قاسياً، إذ عجّل باختطاف هذه العبقرية ولمّا تتجاوز الثالثة والأربعين، بل وخسر العالم بأسره، أحد أبرز نحاتي القرن العشرين، والذي كان مقدّراً له أن يضيف إهرامات جديدة لتراث مصر والعرب.
ومع أن مختار غاب وهو في شرخ الشباب، إلا أن آثاره والمناخ الذي أوجده لا يزالان قائمين ومؤثرين، وسيبقيان كذلك زمناً طويلاً… إذا استطعنا أن نحافظ على البداية التي بدأها وبمواصلة السير على الطريق الذي شقّه.
الهوامش
1- عن بدر الدين أبو غازي، المثال مختار، ص 17، الدار القومية للطباعة والنشر، القاهرة 1964.
2- المصدر السابق، ص 74.
3- المصدر السابق ص74.
4- المصدر السابق ص95-96.
5- المصدر السابق ص 100.
6- المصدر السابق ص76.
7- المصدر السابق ص 77.
8- المصدر السابق ص 77.
9- المصدر السابق ص 79.
10- المصدر السابق ص 79 .
11- المصدر السابق ص79.
12- المصدر السابق ص75.
13- مراجعة كتاب أبو غازي للاطلاع على نماذج مما قاله النقاد.
14- من حديث صحفي لمختار سبتمبر 1927.
15- كتاب أبو غازي المذكور سابقاً،ص61، ويحتوي المصدر على نص المذكرة التي رفعها محامي مختار احتجاجاً.
16- المصدر السابق ص63.
17- المصدر السابق ص25.