«لقد صُمِّمت اللغة السياسية لكي تجعل الأكاذيب تلبس ثوب الحقائق، ولكي تقتل ما هو جدير بالاحترام».
جورج أورويل
ربما كان المشروع الذي قدمه الكاتب والروائي البريطاني جورج أورويل لنقد لغة السياسة في أواخر النصف الأول من القرن العشرين هو الأكثر شمولا وتأثيرا طوال القرن العشرين. وقد تبلور هذا المشروع في أعمال أورويل الأخيرة؛ خاصة روايتيه «مزرعة الحيوان»، و«1984»، ومقاله «السياسة واللغة الإنجليزية». ويرجع وصف مشروع أورويل بالشمول إلى تغطيته لكثير من جوانب العلاقة بين اللغة والسلطة من ناحية، واللغة والفكر من ناحية أخرى. إضافة إلى اهتمامه بطرق إنتاج لغة السلطة، وطرق مقاومتها في الوقت ذاته. أما معيار التأثير فثمة دلائل متعددة عليه؛ مثل وجود روايتيه سابقتي الذكر ضمن معظم قوائم أفضل مائة رواية عالمية(1)، كما أنه على الرغم من مرور أكثر من ستين عاما على كتابة مقال «السياسة واللغة الإنجليزية» فإنه لا يزال يُدرَّس في المدارس الثانوية الأمريكية. فبحسب جوستافسون في كتابه «الكلمات الممثِّلة» فإنه عادة ما يُطلب من طلبة المدارس الثانوية والجامعات قراءة مقال أورويل؛ لكونه يُعرِّف الطلاب بسياسات اللغة، ويُنمي وعيهم بالكيفية التي يقوم بها السياسيون بتزييف الواقع أو التحكم في إدراكنا له. ومن مظاهر هذا التأثير الدراسات المتعددة التي تغطي مساحة زمنية ومعرفية واسعة، والتي قامت بمراجعة أفكار أورويل حول لغة السياسة. وقد بلغ تأثير كتابات أورويل حول لغة السياسة حد اشتقاق مصطلح أصبح ذائع الصيت هو مصطلح «أورويلي Orwellian»، الذي يُطلق على اللغة أو الكلام أو التعبير الذي يمارس التضليل والتزييف، كما يُطلَق على العالم الذي تسوده ديكتاتورية قهرية مضلِّلة.
تشترك أعمال أورويل الثلاثة في منطلقها الناقد للغة السياسة، لكنها تختلف في بؤرة اهتمام كل منها. فروايته «مزرعة الحيوان» تقدم صياغة سردية أمثولاتية لخبرة التضليل اللغوي الذي تمارسه سلطة ديكتاتورية في حال التشكل، تحاول ترسيخ وجودها وفرض سيطرتها. ومن ثمَّ تركز الرواية على الكيفية التي تسهم بها اللغة في إنشاء هذه السلطة وحمايتها. أما في رواية «1984» فيقوم أورويل بمعالجة دور اللغة في استقرار سلطةٍ ديكتاتوريةٍ شاملة. وتتضمن الرواية مناقشة نظرية مستفيضة للعلاقة بين طبيعة اللغة السياسية السائدة وتقييد أو تحرير أفق التفكير لدى المواطنين من ناحية، وتأثير اللغة السياسية في تشكيل المجتمع من ناحية أخرى. بينما يقدم أورويل في مقاله «السياسة واللغة الإنجليزية» معالجة نظرية لبعض أوجه العلاقة بين اللغة والسلطة، مركزا على كيفية مقاومة ما يسميه «اللغة الفاسدة». وسوف نخصص هذا المقال لدراسة لغة السياسة في رواية «مزرعة الحيوان» ومقال «السياسة واللغة الإنجليزية»؛ نظرًا لأن لغة السياسة في رواية «1984» حظيت باهتمام كبير إلى حد إفراد كتب كاملة لمعالجتها(2).
كيف تسرق اللغة السياسية ثورات الشعوب؟ من مزرعة الحيوان إلى دولة الإنسان
رواية «مزرعة الحيوان» إحدى أكثر روايات أورويل شهرة وانتشارًا. وهي أولى أعماله التي تناولت كيفية استخدام الأنظمة المستبدة للغة لإنجاز الهيمنة والتحكم في الجماهير(3). تقدم الرواية حكاية أمثولاتية مروية على لسان الطيور والحيوانات. وتحكي عن ثورة الحيوانات التي تعيش في إحدى المزارع على مالك المزرعة «السيد جونز»، الذي يستغل الحيوانات ويستنزف جهدها وعملها، والذي يمكن بدرجة ما اعتباره رمزًا للرأسمالية المستغِلة. وقد طردت الحيوانات «السيد جونز» والبشر الآخرين من المزرعة، وقررت أن يكون خير المزرعة لمن يعمل فيها؛ أي الحيوانات نفسها. ومن ثمَّ فقد تولَّت مسؤولية تنظيم المزرعة وإدارتها، ووزعت العمل والإنتاج فيما بينها.
تُفتتح الرواية على مخاض ثورة توشك أن تُولد، ثم تتتبع الحكم الذي تؤسسه هذه الثورة والتطورات التي تعاقبت عليه. تركز الرواية على رصد الكيفية التي سرقت من خلالها بعض الحيوانات الثورة، وفرضت حكمًا ديكتاتوريًا على الحيوانات الأخرى باسم الثورة نفسها. وترصد كيف تحولت الثورة من حلم بالديمقراطية والتحرر والرفاه والمساواة إلى واقع الدكتاتورية والعبودية والعِوَز. وفي سياق ذلك تقدم صياغة سردية لدور اللغة في ضمان خضوع الجماهير للسلطة الدكتاتورية الجديدة، وقبول ممارساتها القمعية أو السكوت عليها. تنطوي مزرعة الحيوان على نقد عميق للتضليل الذي تمارسه اللغة، والدور الذي تلعبه اللغة في سرقة الثورات الشعبية، من أصحابها الحقيقيين. كما تقدم معالجة درامية لأوجه العلاقة بين اللغة والسلطة، يمكن رصد أهم ملامح هذه العلاقة فيما يأتي:
1- استخدام اللغة أداة لإدماج الجماهير الثائرة في إطار النظام القائم. الإدماج وظيفة للإيديولوجيا. والإدماج كما يُعرفه د/محمد عبد العليم في كتابه «الخطاب الساداتي (القاهرة: دار الأهالي، 1990) هو عملية تتكفل بإدماج الأفراد في نسيج المجتمع القائم عبر منظومة من المفاهيم، تُشكل وعيهم وشخصيتهم ونمط استجاباتهم للواقع؛ وذلك بطريقة تضمن تكيفهم في إطار العلاقات الاجتماعية القائمة… بحيث يبدو سلوك الأفراد كما لو كان نابعا من إرادتهم الحرة وليس مفروضا عليهم. واللغة هي الأداة الأساسية لتشكيل الإيديولوجيا، وهي من ثم الأداة الأساسية لتحقيق الإدماج.
تتعدد أنواع الكلام التي يمكن أن تُستخدم لتحقيق الإدماج، والتي تكون غالبا ذات دلالات رمزية؛ مثل الشعارات والأناشيد والأغاني، والخطب. هذه النصوص والخطابات تستهدف فرض إيديولوجية الطبقة الحاكمة، عن طريق تقديمها بوصفها إيديولوجية الشعب، وبوصفها نتاجا للمحكومين أنفسهم. ويؤدي هذا إلى إدراك الأفراد المحكومين لها بأنها «أمور» طبيعية؛ أي غير مفروضة عليهم، وحتمية؛ أي لا يمكن مقاومتها، وتعمل لمصلحتهم؛ أي تجب مساندتها. وتصاغ هذه النصوص بلغة «إدماجية» تتحدث دائما عن الـ«نحن» دون تمييز بين الحاكم والمحكوم. وعلى الرغم من أن هذه النصوص تخدم مصالح الحكام، فإن المحكومين/الأغلبية هم عادة الأكثر إيمانا بها وترديدا لها.
لقد استُخدمت نصوص متعددة لتحقيق هذا الإدماج في «مزرعة الحيوان» خاصة النصوص الطقوسية مثل نشيد الثورة، الذي أُطلق عليه اسم «يا حيوانات العالم اتحدوا»، والنشيد الذي كانت الحيوانات تردده صباح كل يوم أحد بعد رفع العلم، وخطب نابليون (الخنزير الذي عيَّن نفسه بالقوة زعيمًا للحيوانات) في المناسبات الرسمية. بالإضافة إلى الشعارات التي وضعها المؤمنون بالثورة، ثم استخدمها الخنازير لاستنزاف جهد الحيوانات وإجهاض اعتراضاتهم، مثل شعاري البغل بوكسر «نابليون دائما مصيب»، و«سأعمل بنشاط أكبر»، والأغاني الدورية في نهاية اجتماع كل يوم أحد. وأخيرا، الوصايا السبع التي تمثل دستور المزرعة بعد الثورة، والتي اختُزلت في ظل الثورة المضادة في وصية واحدة هي «كل ما يمشي على أربع أرجل فهو حسن، وعلى اثنتين فهو سيء».
ويمكن شرح الطريقة التي يعمل بها الإدماج بواسطة أحد الأمثلة المأخوذة من الرواية. فقد برر سكويلر-الخنزير الذي يشبه عمله عمل وزير الدعاية، والذي يقوم بتبرير أفعال نابليون- إنقاص المخصصات الغذائية التي تحصل عليها جميع الحيوانات فيما عدا الكلاب والخنازير بأن «المساواة المطلقة في هذا المجال تخالف مبادئ الحيوانية» (ص86). لقد صاغت الحيوانات في بداية الثورة –عندما كان الجميع متساوين قبل أن تسيطر الخنازير على السلطة- ما أسموه «مبادئ الحيوانية». وتضمنت هذه المبادئ القيم التي تمثل العالم الذي ينشد الحيوانات تأسيسه. هذه المبادئ تتضمن حق جميع الحيوانات في العدل والحرية والمساواة. ولكن مع سيطرة الخنازير على السلطة تم التلاعب بهذه المبادئ، وقاموا بصياغة مبادئ جديدة تُحقق مصالحهم، وتسلب من بقية الحيوانات حقوقهم. ومع ذلك تم تقديم هذه المبادئ الجديدة على أنها مبادئ جميع الحيوانات. وبذلك يتم إضفاء شرعية وقبول مزيفين على المبادئ الجديدة التي تعمل لمصلحة الخنازير فقط.
2- صياغة عالم متخيل لا يوجد إلا داخل اللغة، وتقديمه بوصفه العالم الحقيقي الذي يعيش فيه البشر. هذا العالم اللغوي يروج لفكرة أنه ليس في الإمكان أبدع مما هو كائن. ولذلك فهو عالم يختلف، إلى حد التناقض، عن العالم المعيش. ويتم إنجاز ذلك عن طريق:
أ) استخدام التلطيفات اللغوية euphemisms؛ فسكويلر «يتكلم دائما عن التعديل في المخصصات الغذائية، وليس عن الإنقاص» (ص86).
ب) تسمية أو إعادة تسمية الأشياء والأشخاص بهدف حيازة السلطة أو سلبها من الآخرين. ففي مزرعة الحيوان أطلق الرئيس «نابليون» اسمه على المنشآت الضخمة التي بذلت الحيوانات الأخرى جهودا مضنية في بنائها مثل الطاحونة الهوائية. ومن أمثلة استخدام اللقب أداة لإعادة تشكيل وعي الآخرين بالتاريخ تغيير نابليون للقب سكويلر، وهو الخنزير الذي قاد الثورة وخطط للدفاع عنها، والذي منحته الحيوانات ميدالية «البطل الحيواني» اعترافا ببطولته، فبعد أن قتله نابليون أو نفاه بعد صراع على السلطة أصبح يُطلق عليه لقب «الخائن» بعد أن كان يدعوه بـ«الرفيق».
ج) استخدام شعارات مبهمة مبنية على التناقض مثل «كل الحيوانات متساوية (في الحقوق والواجبات)، لكن بعض الحيوانات متساوية أكثر من بعضها الآخر» (ص100)، والشعار الذي استخدمه نابليون في «الحملة الانتخابية»: «انتخب نابليون والإدارة التامة» (ص45).
د) نسبة الأفعال إلى غير فاعلها الأصلي. فكل فعل خيِّر، وكل نجاح متحقق أو محتمل، وكل انتصار حقيقي أو زائف يُنسب للقائد (نابليون)، في حين يُنسب كل خطأ أو هزيمة أو فعل شرير إلى خصمه السابق (الميت).
هذا العالم لا تقوم اللغة بإنتاجه فحسب، بل تسهم في ترويجه وترسيخه أيضا. ويتم ذلك عن طريق استخدام طرق إقناع تنطوي على قدر كبير من المغالطات، واستخدام الأرقام لمقارنة الواقع المعيش بالماضي (ما قبل الثورة). وربما تقدم الفقرة التالية من الرواية، والتي يبرر فيها سكويلر قرار الخنازير إنقاص الغذاء المقدم لبقية الحيوانات، مثالا واضحا لكلا الاستخدامين:
«لكن الحياة كانت قاسية؛ فالشتاء أبرد من سابقيه والغذاء أقل.. ولم يجد –أي سكويلر- أية صعوبة حين شرح لبقية الحيوانات أنه ليس هناك أي نقص حقيقي في الأغذية رغم أن هناك نقصا ظاهرا. وفي الوقت الحاضر، رأى البعض أنه من الضروري أن يكون هناك تعديل في المخصصات الغذائية (وكان سكويلر يتحدث دائما عن التعديل في المخصصات وليس عن الإنقاص) ورغم هذا التعديل فإن المخصصات ضخمة جدا إذا قورنت بالتي تلقتها الحيوانات أيام جونز. وعند قراءة الأرقام برهن لهم بالتفصيل أن لديهم الآن من الشوفان والحشيش واللفت أكثر من السابق، وساعات عمل أقل، ومياه شرب أجود،..، ولقد صدقت الحيوانات كل كلمة من التقرير، وخاصة أن أيام جونز قد غابت جزئيا من ذاكرتهم» ص86.
تتضمن أدوات الإقناع المستخدمة في هذا النص الغموض الدلالي في مثل التمييز بين «النقص الظاهر والنقص الحقيقي»، واستخدام التلطيفات اللغوية مثل استخدام «التعديل» بدلاً من «الإنقاص»، بالإضافة إلى الاستخدام المتكرر لصيغ التفضيل المطلقة؛ لإظهار أفضلية الآن على ما مضى..إلخ.
3- إنجاز أفعال التهديد والوعد والإسكات والكبت، وغيرها من الأفعال التي يمكن أن تنجزها اللغة. والمثال الأوضح على ذلك هو السؤال البلاغي المتكرر الذي يطرحه سكويلر على الحيوانات كلما بدا منها اعتراض ما، أو تذمر، أو مجرد شكوى «حقا، أيها الرفاق، إنكم لا تريدون عودة مستر جونز؟!» (ص 33، 49، 56). هذا السؤال الذي ينطوي على التهديد ينجز فعل إغلاق المناقشة، وإنهاء الكلام؛ ومن ثم إجهاض فعل الاعتراض أو التشكي أو التذمر.
4- إجهاض فرص الحيوانات المحكومة في الاعتراض على أفعال أو أقوال الحيوانات المحكومة. فثمة مشهد متكرر في الرواية تُستخدم فيه وسيلة لغوية لإسكات الأصوات المعارضة التي توشك على الظهور. في هذا المشهد تقوم عنزات أربع، تمثل جوقة الحاكم، بإنشاد جملتين أو أكثر لمدد زمنية طويلة، في اللحظات الحاسمة التي يوشك أن يتكلم فيها أحد الحيوانات منتقدا لممارسات أو كلمات الخنازير أو معترضا عليها، أو محاولا إظهار خطئها. وتظل العنزات تردد نشيدها حتى تضيع اللحظة المناسبة للاعتراض، ويركن المعترض للصمت. وعلى الرغم من أن نشيد العنزات يسلب الراغب في الاعتراض فرصته في الكلام، فإنه لا يستطيع إيقافه. ويرجع ذلك إلى أن النشيد يتضمن حكما قيميا لا تستطيع الحيوانات الاعتراض عليه؛ لأنه هو ذاته شعار المزرعة، الذي يلخص وصايا «ثورة الحيوانات»، ومبادئ «الحيوانية»، والذي تردده الحيوانات جميعا فرادى أو جماعات، والذي يمكن أن يُعد الاعتراض عليه خيانة لمبادئ الثورة. ويمثل إنشاد العنزات نموذجا للاستجابات السلبية التي تدعم الخطاب السلطوي.
وقد استُخدمت في الرواية حيلة لغوية أخرى لتقويض استجابة المخاطبين، ووأد مقاومتهم للسلطة. هذه الحيلة هي استخدام كلمات غامضة في نصوص السلطة، ونظرا لجهل السامعين بمعناها، فإنهم يتقبلون ما تطرحه هذه النصوص دون مُساءلة أو اعتراض. ففي الفصل الخامس من الرواية يبرر سكويلر دعوة نابليون لبناء الطاحونة بعد أن رفض قبل ذلك بناءها عندما اقترح منافسه سنوبول ذلك. فقد ذكر سكويلر أن ما فعله نابليون هو «ما يسمى بالتكتيك…تكتيك، تكتيك..أيها الرفاق!.. ولم تكن الحيوانات تدري ما معنى هذه الكلمة بالضبط، ولكن سكويلر تكلم بإقناع، وحدث أن الكلاب الثلاثة التي ترافقه أخذت تهدد بصوت غليظ مما جعل الحيوانات تقبل تعليله بدون أي اعتراض.» ص50.
5- ترسيخ اللامساواة الاجتماعية عن طريق اللغة. فالخنزير الذي عين نفسه زعيما للحيوانات «أصبح الجميع لا يذكرونه كنابليون، وإنما يقولون قائدنا الرفيق نابليون، كما اخترعت له الخنازير ألقابا كثيرة أخرى مثل (أبو كل الحيوانات)، و(مخيف الإنسانية)، و(حامي الأغنام)، و(صديق الأوز) وغيرها.» ص72. وتقوم الألقاب السابقة على الاسم بتمييز نابليون عن بقية الحيوانات [وهو التمييز الذي ينفيه نابليون؛ حيث إنه، بحسب الخنزير سكويلر، «لا أحد يؤمن بأن جميع الحيوانات متساوية أكثر من نابليون» ص48]. كما تقوم الألقاب بتحديد العلاقة بين نابليون وبقية الحيوانات الضعيفة، تلك العلاقة التي لا يسميها أو يصفها أحد خارج دائرة التسمية.
لغة الخنازير
يستطيع قارئ مزرعة الحيوان تتبع الدور الذي تمارسه لغة الخنازير، في تثبيت سلطتهم وهيمنتهم، وفي صناعة أسطورة الزعيم الأوحد، وتعزيز ديكتاتوريته، وفي شل قدرة الآخرين على المقاومة والرفض. إن لغة الخنازير في «مزرعة الحيوان» تُعد نموذجا واقعيا للخداع والتضليل، وهي في الوقت ذاته، أداة القهر الأساسية. فحين لا تنجح اللغة في تضليل الآخرين، تُستخدم في قهرهم. إن ما يبدو مأساويا –في هذه الرواية- هو قدرة لغة الخنازير على السيطرة على أفعال الحيوانات، وعلى إدراكها للعالم الذي تعيش فيه، ودوام أفق هذه السيطرة، دون أدنى بارقة أمل في المقاومة. لكن المثير للدهشة ليس قدرة لغة الخنازير على التضليل والقهر بل السهولة التي خضعت بها الحيوانات. ربما نجد تعليلا لهذه القابلية العالية للتضليل في الصفات الذاتية للحيوانات المضلَّلة في الرواية؛ والتي تشمل الجهل، وضعف الذاكرة، والثقة المطلقة في اللغة؛ أعني الغياب النسبي للقدرة على الشك في ما تقدمه اللغة وتكذيبه.
إفساد اللغة وإفساد العالم
في عام 1946، وبعد نشره لرواية «مزرعة الحيوان» بعامين، نشر أورويل مقالا بعنوان «السياسة واللغة الإنجليزية». عرض أورويل في هذا المقال أفكاره الأساسية حول اللغة السياسية المستخدمة عالميًا أثناء الحرب العالمية الثانية وما بعدها. وقد حظي هذا المقال الصغير باهتمام كبير من قبل دارسي اللغة السياسية على مدار العقود التالية(4).
لقد مضى ما يزيد على النصف قرن منذ نشر المقال لأول مرة. ومع ذلك فإن كثيرا من الموضوعات التي عرض لها ما تزال قيد البحث. وما تزال معظم أفكاره ونتائجه مقبولة وصالحة للتطبيق. وقد تعرض المقال، الذي لا تتجاوز صفحاته أربع عشرة صفحة من القطع المتوسط، لكثير من جوانب العلاقة بين اللغة والسياسة.
تتأسس المقاربة الأورويلية للغة السياسية على إدراك عام للعلاقة الطردية المتبادلة بين اللغة والفكر من ناحية، وبين اللغة وطبيعة السلطة الحاكمة من ناحية أخرى. وتتضمن هذه المقاربة تحديدا أوليًا لوظائف اللغة السياسية، والطريقة التي تعمل بها، والآثار التي تنتُج عن استخدامها، وأخيرا كيفية مقاومتها وإصلاح فسادها.
يرى أورويل أن اللغة الفاسدة تُنتِج فكرا فاسدا، وأن الفكر الفاسد يُنتج لغة فاسدة، والعكس صحيح. هذه العلاقة الطردية تنسحب أيضا على العلاقة بين اللغة وطبيعة السلطة الحاكمة؛ وهو ما جعل أورويل يتوقع في مقاله أن اللغات الألمانية والروسية والإيطالية –في فترات الحكم الديكتاتوري قبل وأثناء الحرب العالمية الثانية- قد أصبحت دكتاتورية نتيجة للديكتاتورية السياسية. ويخرج من ذلك بقاعدة مؤداها أنه «حين يكون المحيط العام سيئا لابد وأن تعاني اللغة» (أورويل، 1946، 364).
يبدو هذا الارتباط بين اللغة ونوع السلطة مبرَّرا؛ نتيجة للوظيفة التي تقوم بها اللغة السياسية للأنظمة الديكتاتورية الحاكمة. فحين تكون الوظيفة الأساسية للخطب والكتابات السياسية هي «الدفاع عن سياسات لا يمكن الدفاع عنها أو تبريرها في الواقع» فإن اللغة التي تستطيع «جعل الأكاذيب تلبس ثوب الحقائق» تصبح أداة حتمية لضمان استمرار هذه النظم. وهو ما يؤدي بدوره إلى تدعيم هذه اللغة الفاسدة «المضلِّلة»، وتقويتها حتى تًصبح مهيمنة ومسيطرة، بينما تُحارب اللغة «الصالحة» الكاشفة، بما يؤدي إلى اختفائها وتواريها. إن الصراع الناشئ بين اللغتين (الكاشفة والمُضلِّلة)، غير متكافئ؛ لأن السلطة الديكتاتورية تدعم اللغة المضلِّلة. وهو ما يؤدي إلى ظهور لغة ديكتاتورية تُمارس إقصاءً وإسكاتاً للغات الأخرى.
تستطيع اللغة الديكتاتورية تحقيق وظيفتها الرئيسة؛ أي الدفاع عما لا يمكن الدفاع عنه، بواسطة ظواهر من قبيل التلطفات euphemism، والغموض الإبهامي المطلق sheer cloudy vagueness، إضافة إلى الاستعارات الفاسدة والكلمات الطويلة والمصطلحات المنهِكة. هذه الظواهر تمثل بعض الخصائص اللغوية والبلاغية للخطاب السياسي الفاسد الذي يلجأ إليه الشخص بشكل غريزي حين «توجد فجوة بين أهدافه الحقيقية والمعلنة» ص364. يضرب أورويل أمثلة لبعض هذه الظواهر مثل إطلاق تسمية «عمليات التهدئة» على تدمير القرى العزلاء من الجو، وتهجير سكانها بعيداً عن أوطانهم، وضرب قطعان ماشيتهم بالرشاشات، وإضرام النار في أكواخهم، أو إطلاق تسمية «ترحيل السكان» على انتزاع ملايين الفلاحين من أراضيهم وتركهم هائمين في الطرقات، أو إطلاق اسم «التخلص من العناصر التي لا يمكن الاعتماد عليها» على عملية إطلاق الرصاص على مؤخرات رؤوس أفراد الشعب، أو إلقائهم في السجون لمدد طويلة بدون محاكمة.
تقوم هذه الظواهر بإضفاء الغموض على الخطاب السياسي الذي يرى أورويل أن سببه هو غياب الإخلاص. حيث يرى أنه «عندما توجد فجوة بين أهداف الشخص الحقيقية والمعلنة يتحول المرء، فيما يُشبه الأمر الغريزي، إلى الكلمات الطويلة والمصطلحات المُنهكة» ص364. ويؤدي غموض الخطاب السياسي إلى عدم وضوح المفاهيم، ومن ثمَّ عدم القدرة على مقاومة الخطير منها. ويشير أورويل إلى هذه النتيجة في صيغة استفهام دال مؤداه: «إذا كنتَ لا تعرف ما الفاشية فكيف تكافح ضدها؟». كما يؤدي عدم التحديد المفاهيمي إلى إفراغ المفردات من معانيها، وهو ما يسعى إليه السياسيون الذين يستطيعون بواسطة ربط مفردات معينة مثل «الديمقراطية»، و«الحرية»، بمشاعر إيجابية يتم استحضارها في كل السياقات التي تُستخدم فيها المفردة، دون حاجة إلى تحديد مفاهيمي لها قد يحرمهم من حرية استخدامها. والأمر نفسه ينطبق على المفردات التي يُريد السياسي دمغها بمعنى سلبي، فيلجأ إلى استخدامها في سياقات سلبية دون تحديد معناها. وتعد هذه العمليات، وفقا لأورويل، إساءةً لاستخدام اللغة، واستعمالا غير أمين لمفرداتها.
يذهب أورويل إلى أن الاستعارات الفاسدة تُفشل الهدف الأساس للاستعارة؛ وهو استدعاء صورة ذهنية للأشياء التي يفكر المرء فيها. ويرجع ذلك إلى أن الاستعارة الفاسدة التي تنبني على استعارات متعارضة لا تُنتج صورا ذهنية. ويمثل لهذه الاستعارات الفاسدة بعبارة «الفاشية الأخطبوطية غنت أغنيتها الفذة» ص361. ويرى أن هذه الاستعارة وأشباهها توفر الجهد العقلي للقارئ لأنها لا تتيح التفكير بشكل حقيقي، وتؤدي إلى غموض المعنى.
لقد بدأ أورويل مقاله عن اللغة السياسية بحكم قيمي وصف فيه الكتابات السياسية في وقته بأنها كتابات سيئة. ولم يلبث بعد قليل أن جعل فساد اللغة سببًا في حالة الفوضى السياسية التي رأى أن عالمه يعيشها. ومن ثمَّ فقد رأى أن إصلاح اللغة السياسية يمكن أن يكون خطوة أولى نحو إصلاح السياسة. يبدو أورويل متفائلا بشدة فيما يتعلق بقدرة البشر على «معالجة انحطاط اللغة» كما أسماه. وذلك على الرغم من إدراكه أنه لا أحد يستطيع التدخل في حركة اللغة ووقعها في عمومها، وأن ما يقترح معالجته، وما يمكن معالجته في الوقت ذاته، يتعلق بالتفاصيل. وربما يرجع هذا التفاؤل إلى ثقته في الدور الذي يمكن أن تقوم به المقاومة الواعية، حتى ولو كانت لقلة من البشر.
تقوم طريقة الإصلاح اللغوي الذي ارتآه، أولا، على فعل السخرية. ويقصد بفعل السخرية أن يسخر الناس من ظواهر اللغة الفاسدة بأقصى ما يستطيعون من قوة. وقد استند في ذلك إلى تجربة ناجحة في عصره استطاع فيها عدد من الصحفيين أن يُخلِّصوا اللغة الإنجليزية من بعض التعبيرات التي كانت شائعة عن طريق السخرية العميقة المتصلة منها. ويذكر أورويل بعض الظواهر اللغوية التي يقترح أن يُتخلص منها بواسطة السخرية؛ مثل الكلمات العلمية المشوشة، والمفردات اللاتينية واليونانية، والاستعارات الفاسدة. ويقدم نموذجا عمليا للسخرية من تركيب «ليس غير not un-» الشائع في نصوص عصره.
تؤسس المقاربة الأورويلية أرضية للمقاربات النقدية للغة السياسية. لقد وُصفت روايته 1984 مرارا بأنها نبوءة، أما مقال «السياسة واللغة الإنجليزية»؛ فإننا يمكن أن نصفه بأنه مُلهِم. ربما يعود جزء من أهمية المقال إلى البعد الإنساني الكامن وراءه، ونبل مقاصده أو إلى روح مقاومة الطغيان التي تسري فيه. لكن المؤكد أنه يقدم أفكارا لا تزال قابلة لإثارة النقاش حولها.
لقد كشفت العقود الستة التي تفصلنا عن أعمال أورويل عن أن بشاعة الاستخدام اللغوي في عالم أورويل الكابوسي ليس أكثر من بشاعة استخدامها في عالم آخر غير متخيل، هو عالم حياتنا اليومية. وما يُصيب بتعاسة حقيقية هو ما يبدو من أن الدكتاتوريات الحديثة، التي غدت مسيطرة على العالم في الداخل والخارج، والتي تتشدق ليل نهار بديمقراطيتها التي يجب أن تُحتذى، ربما كانت أكثر استفادة من عوالم أورويل وكتاباته. لقد قصد أورويل من أعماله أن يُطلق صيحة إيقاظ، مدعَّمة بالتخويف مما يمكن أن يصل إليه عالم يقوم على القهر والتضليل اللغوي. وحتى الآن يبدو أن من أيقظتهم الصيحة قلة، وأن المستفيدين بحق هم المضلِّلون الذين أعادوا إنتاج عوالم أورويلية، لا تقل بشاعة عن عوالمه المتخيلة.
الهوامش
1- يمكن الرجوع على سبيل المثال إلى تصنيف دار نشر رادكليف Radcliffe في يوليو 1998، لأفضل مائة رواية مكتوبة بالإنجليزية في القرن العشرين. وقد احتلت رواية 1984 المركز الثامن في هذا التصنيف، أما رواية «مزرعة الحيوان» فقد احتلت المركز السادس عشر. وكذلك أورد التصنيف الذي قدمته مكتبة جامعة سوليفان Sullivan University Library الروايتين ضمن قائمتها لأفضل مائة رواية في القرن العشرين. أما موقع «اليوم العالمي للكتابhttp://www.worldbookday.com/»، فقد أُجرى في 27 مارس 2007 استفتاءً لاختيار الكتب العشر التي لا يستطيع البريطانيون الحياة بدونها. وقد شارك في الاستفتاء ألفا شخص، وجاءت رواية «1984» في المركز الثامن.
2- مثل كتاب «Aubrey, Crispin & Chilton, Paul (Eds.). (1983). Nineteen Eighty-Four in 1984: Autonomy, Control & Communication. London: Comedia.
3- انتهى أورويل من كتابة الرواية في فبراير من عام 1944. وقد تُرجمت إلى العربية في العقود الثلاثة الماضية ثلاث ترجمات على الأقل؛ صدرت الترجمة الأولى في عام 1978 عن سلسلة «كتاب اليوم»، الصادر عن دار أخبار اليوم المصرية، وقام بها عبد الحميد الكاتب. وصدرت الترجمة الثانية في عام 1996 عن دار الأنصار السورية، وقام بها عبد الهادي عبلة. أما الترجمة الثالثة فقد صدرت في عام 2006 عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر ببيروت، وقام بها محمد عيد العريمي. وقد اعتمدتُ في هذا المقال على الترجمة الثانية التي قام بها عبد الهادي عبلة.
4- لم يعش أورويل حتى بدايات القرن الحادي والعشرين (لحسن حظه). وربما كانت ستنتابه الدهشة، وهو يقرأ ويشاهد آلاف الصحف والقنوات الفضائية و«البشر» الذين يطلقون على القوات الأمريكية التي احتلت العراق «قوافل التحرير»، وعلى غزو دولة مستقلة «حرب التحرير»، وعلى الجنود المرتزقة والشركات المتخصصة في القتل والإبادة التي تولت مسؤولية إبادة بعض القرى العراقية «قوات التحالف الدولي» «وشركات الأمن»، وعلى «العراقيين» الذين أيدوا غزو بلادهم، وتولوا بعض شؤون إدارتها تحت مظلة الاحتلال «المخلصين لأوطانهم»، وعلى المدافعين عن وطنهم وأرضهم وأرواحهم وأعراضهم «الإرهابيين» و «الخونة».