المقدمة
الأعمال الفكرية الهادفة هي التي تستطيع أن تؤسس لنفسها مكانة تحفظها من الاندثار، وتكتسب هذه الأعمال حضورها من قدرتها على التعبير، أو الابتكار، أو التصوير، أو غيرها من الإمكانات التي تقوم عليها وفق المجالات والقضايا التي ترتبط بها.
ويرتبط الخلود عادة بما هو ماضٍ. فالعظمة والقوة كما يقول باختين(1) مع السلف والأجداد، لأن الإنسان لا يكون عظيما في زمنه؛ لكن تبين لنا، ونحن نقرأ بعض النصوص الروائية العمانية المعاصرة، كيف تكسر الوهم بهذه القاعدة لتكون حاضرة في زمنها؛ وهذا شأن أصحاب الروايات نموذج الدراسة، وغيرهم كثيرون في الساحة العمانية ممن قدموا –وما زالوا- مواقف وقضايا ووجهات نظر تعكس تبصرهم بما يقع في مجتمعهم العماني، وقدرتهم على تشخيص الداء في زمنه أو قبله بكثير.
والأمر الآخر هو تعدد وتنوع مرجعية قضاياهم بشكل يبدو معه الأمر؛ كأن الرواية العمانية الآن تختزل ماضيها، أو تاريخها كله؛ فنصوص عديدة تلك التي استطاعت أن تلج واقع المجتمع العماني وتفسخه بنبرة جادة وحاسمة أحيانا، وساخرة ومرة أحيانا أخرى، واضعة القارئ بين سحر الموضوع، وجمال الكتابة التي تبحث عن خصوصيتها وتميزها بين ما يكتب في الوطن العربي، مؤكدة في الوقت ذاته دور المتخيل السردي العماني في متابعة الواقع ورصده.
وقبل أن نتوقف عند بعض الروايات حديثة الصدور ينبغي أن نسجل أن الجيل الجديد الذي بدأ الكتابة في التسعينيات وبداية الألفية الجديدة هو جيل يتميز بالتعدد والتنوع، ويغني السرد العماني اليوم بشخصيات وموضوعات من نمط جديد، وباشتغال جديد على الذات والمجتمع والتاريخ. وبعمله من أجل أن يستعيد العمل الروائي قدراته على الظهور الفعلي لمرجعه (الذات، والمجتمع، والتاريخ) دون أن يهمل الانشغال بطرائق التخييل وأشكال السرد وجماليات القول.
فخلال العقود الأخيرة، حدثت تحولات دراماتيكية في حقل الكتابة الروائية العمانية.
هذه حقيقة لا يمكن تغافلها، رغم وجود ملاحظات كثيرة على نوع تلك التحولات، وأهميتها، وعمقها على صعيد تطور السرد الروائي. وعلى صعيد مدى الإضافة المقدمة إلى تيار الرواية العربية اليوم. وتلك التحولات لم تطل الشكل فقط، بل المضمون أيضا، مع التأكيد على أن الشكل والمضمون نسيج واحد يصعب الفصل بينهما، إذا ما تكلما بالتأكيد عن التجارب المهمة والمؤثرة في حقل الرواية.
ستتناول الورقة العلاقة بين تحوّلات الرواية وتحوّلات الواقع وتحدّياته، وسنكتفي بقراءة ثلاثة نصوص هي: «الوخز» لحسين العبري الصادرة عام 2006م عن دار الانتشار العربي، و«تبكي الأرض..يضحك زحل» لعبدالعزيز الفارسي الصادرة عام 2007م عن دار الانتشار العربي، و«ابن سولع» لعلي المعمري الصادرة عام 2011م عن دار شرقيات. حتى نتبين ما ورد من آراء وأفكار في الألفية الجديدة في الفترة من (2006- 2011م ) من تطور الرواية، وعلاقته بالسياق النصي والثقافي والاجتماعي، ودوره في بناء النص (الروائي)، هذا الطابع الذي يحول العمل الروائي ويسمو به من الواقعي إلى الفني، ثم تحليل هذه الآراء للخروج بخصائص عامة تبرز مدى القدرة على تجاوز الواقع ورسم الخيال فيها، وإمكانية الكاتب العماني في تناول موضوعاته، وطرح قضاياه، والاستدلال عليها من خلال مفهوم مصطلحي الواقعية و المتخيل، ونظرياتهما الحديثة. وسيبدو أن الرابط بين العناوين ليس منهجاً، أو خطاً علمياً واضحاً، بل معايير مختلفة تحكم اختيار هذه الأعمال دون غيرها، والتركيز على بعض الروايات أكثر من غيرها.
1/3 عنف المتخيل والواقع/ في رواية «الوخز» لحسين العبري
بداية سنحاول أن نبين من خلال هذه القراءة، كيف يصوغ النص عنف الواقع بعنف الكلمة الناقدة والساخرة في الوقت ذاته؟ أي في الوقت الذي يصبح فيه «الوخز» غير الوخز، ليكتسب صفات أخرى تعمل على بناء الصورة السردية التي ستعكس ما يدهش ويربك ويقهر.
بين الكتابة والحكي
نحن أمام شخصية تحمل في طيَّاتها إشكالات متنوعة كما يحكيها الراوي (البطل) «سالم بن عبدالله» ذلك الإنسان العادي الذي يسكنه قلق الضائع في قلب وطنه من جرَّاء معاناته من تهمة غير متوقعة، أو محددة؛ فيبث على لسانه سخرية القدر وممارسات الأمن لواقع الإنسان البسيط، أو بالأحرى العادي صاحب الشخصية النمطية في المجتمع. الذي ليس هدفه سوى الرزق الكريم والعيش الآمن، وهذا لن يحدث إلَّا حين تختل معايير المجتمع المتمثل في الوطن، فـ«سالم بن عبدالله» يعيش، منذ بدايات زمنه في الرواية، فقدان لمأمنه الوجودي. وحين ينتهي من حكايته مع الزمن الحاضر، يؤكد لنا ما سبق أن توصل إليه فكريا قبل أن يحكي الحكاية.
تبدأ رواية (الوخز) بهذا المقطع الجاذب «أكان صوت شرطي أم رجل أمن؟ لا أدري، إلَّا أنَّه كان صوتا واضحا وغليظا: ننتظرك اليوم الساعة العاشرة»(2). يتمثل سؤال الرواية في هذا الحوار الضمني الذي نُسِج في عالم الرواية: إنَّه حوار لاثب بين ما يغيب وما يحضر؛ بين ميتافيزيقية كونية لحركة الزمن من جهة، ومخلفات مدفونة متراكمة في الأرض للموجودات، والكائنات من جهة ثانية. يتعمق منظور الرواية الفكري ليقارب سؤالا فلسفيا عن معنى المصير كما سنرى، فتتحدد منذ البداية علاقة غير متكافئة بين الراوي (الشخصية المحورية) ورجال الأمن؛ وهي علاقة تتراوح بين الغموض والتحدي. غموض يوهمنا به النص الروائي، وهو يقدم لنا الطلب عبر محادثة هاتفية بحيث لا نعثر فيه على ما يحددها بشكل جليِّ يجعل من أعضائها شخصيات واضحة المعالم، فيتكسر بذلك أفق القارئ الذي اعتاد على أوصاف اعتبرت في النقد الكلاسيكي ضرورية، كالاسم الشخصي والعائلي والانتماء الجغرافي، وغيرها من السمات التي تغني البطاقة السيميائية للشخصية في النصوص الواقعية عادة. يكتفي الراوي بتعيين المحادثة بصوت الشرطي الآمر الذي يستنكر معرفته ويحدد وضوحه وغلظته؛ ليتعادل الألم الحقيقي مع الألم النفسي «كان ذلك الألم في أذني اليمنى يزحف ببطء ليشمل الصف الأعلى من الأسنان، وكان ذلك أشبه بضربتين في الرأس، شيئين جديدين في يوم واحد ألمين طيبين. وانتبهت للألم في أذني وأنا أستلم المضاد الحيوي ومضاد الألم»(3)؛ فيتجلى له عبر سير الأحداث تباعا أن التحقيق لا مبرر له ولا هدف منه ولا قيمة له بشهادة أحد رجال الأمن حين قال له: «ما الذي يضيرك لو أخبرتنا ما نعرفه؟ هل تظن أننا بالفعل نريد أذيتك؟ هذه القضية برمتها منتهية «(4)؛ إلَّا أنَّه يحمل دلالات كثيرة عميقه تخترق واقع المجتمع المسكوت عنه.
الشاهد وراء المحكي
إن صوت الشاهد في «وخز العبري» يخترق نسيج النص الروائي، ليقدم لنا دلالة إضائية محايدة عن الراوي (البطل)؛ بهدف تحليل شخصيته ومواقفه من الناحية الإنسانية والاجتماعية والنفسية، فيطرح «العبري» شخصية الشاهد المحايدة والمطلعة على سير حياة البطل «سالم بن عبدالله» وهي تقنية يوظفها «العبري» ببراعة وإتقان حين يصرح بضرورة حضورها «في مثل هذا الموقف يحتاج الواحد إلى شاهد لكي يحكي…ولا بد أن يكون هذا الشاهد من الخارج، وكان قد مرَّ بالصدفة، ولم يكن يعي ما سيحكي مقدما، لكن الحقائق تتكشف له واحدة بعد الأخرى، وهو يسترسل في الحكاية»(5)؛ ليعلن الشاهد بضمير الغائب منذ الصفحات الأولى وقبل بدء التحقيق عن فتوته وتمرده ليسير هذا التمرد متجانسا ومتسقا متناغما مع ما سيسرده عبر الزمن القصي الذي لا يتعدى بضعة أيام أو تحديدا ثلاثة أيام لتهمة لا يعرفها أو يتوقعها. «…كان ينعم بسلام إلهي وهو ذاهب للتحقيق، رغم أن المرض كان ينحته من الداخل: إن الشيطان لا يكسر أوانه»(6)، ويتبلور دور الشاهد بجدارة أثناء التحقيق «وينط شاهدي المتخيل قائلا:…لقد كان رحمه الله متدينا لأنه كان متدينا، وحين تدين جاءه من يسأله لماذا تتدين، وحين أوقف تدينه حصل أن جاءه من يسألوه لماذا أوقفت تدينك، ثم ها هم الآن بعد أحد عشر عاما يأتون ليسألوا الأسئلة ذاتها ويقفون على أطلال الذكرى: إننا هنا سيداتي وسادتي، نتكلم عمن يمكن أن نسميه بحق رجلا بتاريخ…»(7)، ويبرز حيادية الشاهد المتخيل، فمقابل المدح يحضر الذم المغلف بالمدح والفخر حين يستفزه أحد أعضاء لجنة التحقيق «كان قبحه الله قليل الأدب، ويتمتع بوقاحة كائن صفيق، فها هو يقذف ذاته الأبية المخادعة إلى مزالق الهوى ومواطن الغواية من أجل أن يقول هو، نفسه، لذاته، ذاتها، إن الحقيقة منشؤها هذا القلب النبيل. فيا حزن نفسه عليه! ويا لغبنها به!…»(8).
سرد الذات داخل وطن
وكما ذكرنا أن القارئ في هذه الرواية يجد أنَّه يعود مع الراوي من حيث بدأ وهذه الآلية أتقن توظيفها «حسين العبري» ببراعة فائقة حتى تجد نفسك، وكأنك تعيش معه آلامه وعذاباته واندهاشه وتساؤلاته، وإن صوت (الراوي) الذي يخترق نسيج النص السردي يقدم لنا إضاءة دلالية تحلل شخصية البطل «سالم بن عبدالله» من الناحية الإنسانية والاجتماعية والنفسية حتى حين ينظر إلى المرآة بعد انتهاء جلسة التحقيق يكون متواجها مع نفسه: «إن هذا ليس وجه رجل تحت التحقيق، بل وجه رجل يلعب»(9)، وهي سخرية لاذعة يلعبها الشاهد مع الراوي.
وكما نلاحظ أن الراوي أمام هذه الأسئلة العامة، يجيب أحيانا بطريقة تجمع بين الدقة والتعميم كإرهاص دال على مراوغة موازية من لدنه للجنة التحقيق، مثل جوابه عن السؤال الأول: «قلت لا، أنا لست ملحدا، ولست وجوديا، وإنَّما لا أصلي فحسب…» وأخرى عبر تعدد الأجوبة التي توحي بعجزه عن الإدراك المقصود من السؤال، بحيث يعطي الجواب وينفيه بآخر، حتى يصل برجال التحقيق إلى الاعتقاد بعجزه، وهو ما يصرح به في النص كإجابته عن السؤال الثالث «يعني أنت وجودي؟ وقلت: لا أعرف حقا»(10).
أما التحدي، فيتجلى أولا، في هذا الأسلوب الذي يعتمده السارد في الإجابة عن أسئلة اللجنة التي تخترق مواطنته إزاء تاريخ وطنه، حين يسأله المحقق باستفزاز إن كان التاريخ العماني من ضمن أحاديثهم التي يعرجون عليها، فيتلقى المحقق الرد الواثق، «فإذا كنا نتكلم عن مصر، لماذا لا نتكلم عن وطننا وتاريخه»(11)، وتتوالى بعد ذلك الأسئلة لتجد لها أجوبة لا تخلو من التهكم والسخرية، وهو مفعم بحبه وغيرته على وطنه. تأتي الرواية لتفضح الهيمنة الخارجية على القوى الأمنية في بلاده، وهي هيمنة تتحدد في جميع المستويات الفكرية والثقافية والسياسية يترجمها الوجود النصي للقضية التي اتهم بها (التطين أو التطرف) بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر في الولايات المتحدة ؛ فضلا عن اللجنة وتهمتها له واستفسارها عن أدق التفاصيل غير المعنية بها الشخصية (الراوي نموذجا). ولا يكتفي الراوي بفضح هذه الهيمنة وإنَّما يعمل على خلخلتها وسحبها من مساحاتها الملحمية التي تجعل منها مقدسا لا يقبل الشك والسؤال، حين يعتمد على السخرية اللاذعة باعتبارها آلية تساعد على بلورة موقفه من العالم.
وتأتي النهاية حين يختمها الراوي بسخرية جريئة واستهجان مرير لتلك اللعبة، فتبحث لنفسها عن دعامات أخرى تقويها، وتجعلها قادرة على إدانة عالم يقوم على قيم زائفة معبرا عن نذالة الحياة وبطش ظلمها، لينتهي التحقيق الغبي كانتهاء الحياة المريرة؛ محدثا نفسه ليستعيد ثباته ويتخلص من قهره، «لا بد أن انتصر لذاتي. إنني أتقدم من سلة المهملات العملاقة بالقرب من المقهى، وألقي بكوب القهوة البلاستيكي من أجل أن تبقى المدينة نظيفة دائما من ملوثات صناعية غريبة عن هذه الأرض. وأمشي باتجاه الأحراش حيث تنتصب شجرة سُمر عملاقة نسيها التمدن المسقطي فانحازت جانب الشارع المؤدي إلى الهلاك، ونظرت يمنة وسرة، ورفعت قليلا من دشداشتي وإزاري، وأفرغت مثانتي وأنا أولي وجهي شطر القضبان المنتصبة في الأفق»(12).
يمكن القول إن الرواية في النهاية لا تدعي أنَّها امتلكت الحقيقة كلَّها، ربما أن غايتها ليس بالضرورة امتلاك الحقيقة بقدر ما يبدو إنها منشغلة بسؤال آخر هو: ماذا عن الحقيقة عندما تكون متمنعة مستحيلة؟ ماذا عن البحث والتحقيق الذي قد ينتهي إلى الفشل؟ ماذا عن طريق البحث ووسائله ومناهجه؟ وإن بحثا ما يمكنه أن يكشف عن الحقيقة، لكن قليلا ما نتساءل: ماذا عن محكيات البحث التي لا تبلغ الحقيقة، وغايتها ليست أن تصل إلى الحقيقة، بل أن تظهر الحقيقة ممتنعة مستحيلة، فاتحة بذلك أعين القراء على احتمالات متعددة ملتبسة محيرة كاشفة مختلف الصعوبات والمخاطر والمزالق التي تنتظر كل باحث عن المعرفة والحقيقة. ولهذا يعلن السارد أن القصة لن تنتهي مع هذه القضبان المنتصبة فلها بقية؛ أفصحت عن أزمتها النفسية وصراعه مع الحياة «معلقته الأخيرة»(13) التي استجلت كل دمار، وتحطيم لنفسه عبر أحداثها، حتى مسار نهايتها بانتحار البطل على جسر القرم؛ حين خنق نفسه بمصره الأزرق الذي كان أغلى ما يملكه. وبالنظر إلى العلاقة الكلية التي تربط أوشاج إنتاج «حسين العبري» هناك ما يؤكد الظن بأن هذه الثنائية وضع بذرتها الأولى في قصته القصيرة «لا توجد حياة».
2/3 غربة الذات والوجود في رواية/«تبكي الأرض، يضحك زحل» لعبدالعزيز الفارسي
حين تبدأ بقراءة رواية «تبكي الأرض.. يضحك زحل» للقاص «عبدالعزيز الفارسي»، يثيرك العنوان، وتراودك أسئلة كثيرة؛ فهل رأيت دموع الأرض حين تبكي، أو سمعت ضحكات زحل؟! وما الدلالة الفكرية ذات الأبعاد العميقة التي أراداها الفارسي من بكاء كوكب الأرض الحي بحيواته وضحك كوكب زحل الميت من الحياة؟!
إنَّها دلالة هدمية بنائية للتخرصات الروائية يعلنها «عبد العزيز الفارسي» بسخرية لاذعة، وجرأة شجاعة؛ ويعمقها بضحك السماء وبكاء الأرض في النسيج الداخلي لقريته/الوطن، لتصبح الأرض خرافة أسطورية ضائعة، والناس عليها هياكل يمرحون ويسرحون بضلالهم وبطشهم؛ كلٌّ حسب قدرته ومكانته في المساحة التي عليها.
المكان/الوجود/ الذاكرة
تمثل تجربة القاص «عبدالعزيز الفارسي» نموذجا مهما لقراءة محنة الإنسان المثقف الذي يعاني من غربة الذات والوجود، في تصادماتها مع وهم الحقائق والانكسارات والخسائر التي تعكسها ذاته من إحساس بالغموض والشك والفقد إزاء قدرية الحياة، ومآسيها، لتنصهر التجربة في خصوصيتها وذاتيتها مع الواقع لإعادة تعريف المكان، والكشف عن حضوره وغموضه وغيابه وسطوته والمساحات التي تتوفر فيه للحرية.
فتتجلى هذه التعبيرات عند «عبد العزيز الفارسي» عن أزمة الإنسان، وعلاقته بالوجود في عدد من الغربات المؤقتة والدائمة التي تؤدي إلى تشظي الروح/ روح بطله الأول خالد/ بين غربة الذات التي ترى أن العالم وفق قدرية محتومة، والذات (الشاعرة) المتمردة التي تحاول فك رموز هذا الغموض، مما يضاعف وتيرة الغربة منذ لحظة اصطدامه بحبه لعبير في المدينة، وقراره للعودة إلى قريته ليفرغ فيها جدليات الحياة ومفارقتها، حتى قراره بانسحابه والعودة إلى المدينة ثانية بعد صدمة التجربة التي خاضها في قريته واستكشافه حقيقة الحياة الزائفة المغلفة، والخرافات المتأصلة فيها التي لا تقل عن زيف المدينة، أو الوجه الآخر للقرية؛ ليفرغ كافة التخرصات العالقة المتمثلة في مساحة القرية/ الوطن، وصولا إلى النص الذي يقوم على الدلالة الاستعارية التي لا تخلو أيضا من الاستعارة المتمثلة بشاعره الزحلي. «أبناء قريتي يمشطون أحاديثهم بأسئلة كثيرة؛ وتهزمهم الإجابات المقتضبة كالقشرة. ولأنهم يخشون قول لا نفهم أو لا نعرف، تجاهلوا الشاعر الزحلي وتركوني أدندن»(14).
لذلك كله ستعلق بفخ السرد الجميل الذي يطل به علينا من خلال فلسفة طبيعة البشر واختلاف آرائهم في مختلف القضايا التي تبدو بسيطة للآخرين، ولكنها كبيرة بالنسبة لعالمهم المحدود. شخوص بأصوات متعددة تتصارع أفكارها فتتشعب أحداثها ويحتد رفضها أمام التطوير والتجديد التي عادة يرفضها القرويون جرَّاء توجسهم من انسحاب السيادة عنهم، وخوفهم من حلول لعنة المدينة ذات المدنيَّة بالأفكار الحديثة والبيوت الإسمنتية والحياة المتصلة بثقافة الآخر، فيما يبرز التناقض والتناحر بين زعماء القرية المبنية أساسا على الكذب والنفاق والخداع التي تعايشوا عليها ومعها زمنا. يقدم «عبد العزيز الفارسي» ذلك كله بأسلوبه الدرامي الذي يكتنز لغة كثيفة هادئة وسهلة سلسة، فيما تتحول إلى لغة شعرية جاذبة حين تنعطف بك إلى الحوارات بين «خالد بخيت وشاعره الزحلي»؛ لينثر لك ملامح القرية المعنوية المتمثلة في: الطقوس والعادات والتقاليد والقيم والأعراف، والموروثات؛ إلى المادية من: الأدوات والملابس والمنازل والأزقة والجبال والمسجد والسوق والوادي والبحر والنخيل؛ وعبر ذاكرة استرجاعية ترجيعية تقول لنا، مباشرة ومواربة.. ما تراكم في جسد وروح الإنسان العربي من أوجاع وآلام وأحزان وقهر وقمع واستغلال وموت ومقابر.. حيث كل شيء مقوض منقوص، فيما مزامير القمع والقهر جاهزة كي تلقى على أي مولود يجيء الدنيا.. وحيث عقلية القطيع، ولا وجود لمواطن إنسان.. بل شبهة الحيوان تعلق به دائماً بسبب الاستبداد الذي يحيا به الكائن ويودي به إلى جحيم الحياة، فيما الرغبات مبتورة مجتثة، وفيما التعذيب سمة الوجود في هذه المساحة من القرية/الوطن أو في هذا التابوت الممتد من المحيط إلى الخليج؛ وما يؤكد ذلك العبارة المذيلة بعد العنوان والفهرس، وقبل سرد الحكاية «وعلى القاطنين خارجها مراعاة فارق التوقيت»(15). فضلاً عمَّا يتكشّف في الرواية من موضوعات، بملاحظة السياق التأريخي: الهجرة والحب ورهانات العواطف وهجاء المدينة، ولعنة القرية، والثورة على التقاليد، وهذا ما أكده خالد بخيت منذ البداية، «لا أذكر تحديدا متى عشقت القرية بهذا الجنون. أتصور أحيانا أن الحب ولد معي، ونشأ. لكنه كباقي الأشياء القريبة، لم أشعر به إلَّا ذات فقد. وحين دخلت الجامعة فقدت هذه القرية. هذا احتمال، لأني أذكر أن جوَّ القرية هذا تسبب لي في حساسية مفرطة، ونوبات حادة من ضيق التنفس. لطالما كرهت هذا الجو أثناء طفولتي، وكرهت القرية وتمنيت الرحيل إلى مدينة ذات طقس معتدل وجاف»(16).
غربات كثيرة وذات قليلة
وعبر مشهديات متواترة بدلالة الشاعر الزحلي التي تمر فوق القرية لتخترق سياجها، وتسجل نقطة جديدة في دائرة الزمن، إذ نتعرف على الوجوه والأحلام «خالد وشاعره الزحلي، خديم ولد السيل وعايدة، بخيت وفريدة»؛ شخصيات تصارع أسواراً عالية من تقاليد ومفاهيم وأقاويل وقصص حب مكتومة، فالقرية تحيا على الحب وتعيش حكاياته لكنها تأبى أن تسمع أخبار الحب بإيقاع الحياة.. إيقاع الموت.
نجد عبر صفحات الرواية بتعدد أصواتها غربات كثيرة وذات قليلة في أكثر من بعد صراع يتصل بوجود الإنسان الحسي القيمي والميتافيزيقي؛ الغربة وتجلياتها في النص بالوقوف عند: غربة الذات والوجود، غربة الولادة وانفصالها، غربة المدينة، غربة الأم المرجعية(الأرض/القرية).
ثمة تبادلية تحكم إيقاع الرواية، تتمظهر في ثنائيات لاحقة، الرجل والمرأة، الموت والحياة، الحب والكراهية، القرية في مقابل المدينة، لتبدأ الرواية بإيقاع حزنه المسافر معه أينما حل وارتحل «وحيدا كنت يا وطني..وأنت معي، تسافر فيَّ..تسكنني»(17)، ليعلن البطل خالد بخيت: «هكذا أدندن بأغنيتي الوحيدة؛ أقصر أغنية عرفها تاريخ الهزائم، وأطول حزن يدمنه الغياب»(18). وهذا ما يجعلها تنطوي وفق تلك المقتربات على استعادة لحظات هاربة وتسجيل ذكريات وصور حلوة، لكأنها تستبطن سرداً ذاتياً مقنعاً، فخالد البطل (الراوي الأول) العائد من المدينة وزيفها حين تتكشف له الأمور برمتها في قريته الهجينة فيصطدم بأن من أحبها هي أخته ليبث عبارته الفاتحة لأحد فصولها «على الأكتاف حملنا أقدارنا إذا لم يحتملها جبين»(19).
انشطار الذات/والبناء الفني
استند «عبد العزيز الفارسي» في روايته «تبكي الأرض…يضحك زحل» إلى التخييل داخل التخييل، فحكاية القرية منذ البداية حكاية متخيلة عائدة إلى راويها الأول «خالد بخيت» الذي هزَّ القرية بكلمات إيحائية من شاعره الزحلي، حين أعلن «في بلادي الشتاء والموت وجهان لنفس الرغبة، وهذا الليل يرسم حيرتي دروبا من تلاشٍ، وفي النفس قريتي. قريتي والقطب المتجمد الجليدي وجهان لنفس الوطن»(20)، ومن خلال رحلته مع شاعره الزحلي يبحث «خالد بخيت» عن مساحة من الوطن والحرية في المكان الافتراضي الذي يستعيده في مقاربات من عالم الواقع إلى فضاء الكتابة لإيجاد مكان الروح التي تحقق التوازن والطمأنينة؛ فيعلن الرحيل بجسده والهروب بنفسه عن زيف المدينة وخداعها تاركا أمتعته علَّه يجد خلاصه في مساحة صغيرة من الوطن وهي قريته. «تركت كل أمتعتي وملابسي في المدينة، وعدت إلى القرية وحيدا..عاشقا.. وربما هاربا. ذاك اليوم زارني الشاعر الزحلي.. وأسمعني القصيدة. قال يقنعني بالنسيان» لا مهرب من جحيم الوطن إلَّا في صدر أنثى.. ولا مهرب من صدر أنثى إلَّا جحيم الوطن..وهكذا هربت!، ولم أزل أنتظر- مذ عدتُ- كل فجر، لأتنفس فيه، وأرى ميلاد يوم جديد دون عبير»(21).
ولعل أبرز خصائص الرواية من ناحية بنائها الفني ودلالاته، ومن ناحية أساليبها في تشخيص العوالم الذهنية والنفسية في علاقاتها المعقدة بالعوالم الاجتماعية الخارجية هو بناؤها الفني، حيث يتألف النص من أربع وعشرين مجزوءة مؤطرة بأسماء الشخوص، وتتصدر كل مجزوءة شذرة هي في شكل قصاصة خبرية، وتتخلل المجزوءات نصوص أو مقاطع غير مرقمة، وهي عبارة عن شهادات قدمتها بعض شخصيات الرواية؛ وهكذا يبدو النص الروائي كأنه ينتهك التماسك الروائي المألوف، ويؤسس منطلقا سرديا؛ لم يعد النص الروائي يقوم على الوحدة والتماسك بالمعنى المألوف، بل إنَّه وحدة تتأسس على التعدد والتفكك، وتبدو الرواية في مجموعها كأنَّها جمع من أشياء مختلفة، يمكن للشذرات التي تتصدر مجزوءات المحكي المركزي أن تؤلف في مجموعها نصا له استقلاليته النسبية.
وإجمالا، ينبغي أن نسجل بأن «تبكي الأرض…يضحك زحل» في مجموعها رواية توظف أشكالا سردية متعددة: المحكي الوقائعي الخارجي، المحكي النفسي بمختلف ألوانه، المونولوج الداخلي بمختلف أشكاله، رسائل الشخصيات وشهاداتها بطريقة سمحت بالتقليل من سيطرة السارد، وفسح المجال أمام الشخصيات لتحتل مقدمة المشهد السردي بإحداث شرخ في صلب أحادية السارد التقليدي ووجدانيته، وهي من الروايات القليلة في الأدب العماني التي تعتبر القرية مركز اهتمامها، وتعبّر عن حب كبير للتربة والأرض والنَّاس، وتقترن بنظرة عميقة ترفض التقاليد السلبية، وتحذر من نتائجها وجوهر الاهتمام ليس مجرد وضع أهل القرية وممارساتهم، بل هو الإصلاح الاجتماعي والسياسي، ولهذا السبب يصبح تحرير القيم ضرورة وطنية واجتماعية وسياسية.
3/3 أزمة الهوية من الرفض إلى الأمل في رواية/ «ابن سولع» لعلي المعمري
حين لم تكن لعبة الأوضاع السياسية في فترة ما تمنع حب الوطن شكلت أزمة الهوية بعدا رئيسي في عدد من النصوص الروائية العمانية الحديثة؛ كونها – أي الأزمة- نتاج العلاقة غير المتكافئة مع الغرب التي حالت دون تكوّن أنظمة ديمقراطية عربية حقيقية، وأفضت بالتالي إلى رزوح المواطن العربي تحت أنظمة استبدادية، وعادات وتقاليد رجعية، امتدت لتشمل المواطن المهمش والمنفي داخل وطنه، ولعل أبرزها ما نجده في رواية «ابن سولع» التي تلامس بحس مرهف رائع مسألة الهوية، لكن بهدف إضفاء المعاني الجديدة عليها التي عززت المتخيل التاريخي باقتدار.
فالرواية تدور أحداثها في السبعينيات من القرن المنصرم؛ وبالتحديد تبدأ في لندن عام 1977م؛ أي في السنة التي التحق فيها بطل الرواية/الراوي «سريدان بن فطيس الحرسوسي» بكلية الدراسات الشرقية والأفريقية (SOAS)، وفي الفترة التي عاد إليها ثانية لاستكمال دراسته العليا (الماجستير)، حيث حدد موضوع رسالته «التاريخ السياسي لشبه الجزيرة العربية».
إنه ليس من باب الصدفة أن يكون عنوان الرواية «ابن سولع» فوراء هذا العنوان ما وراؤه من دلالات وثائقية متعددة، وأبعاد تأريخية مهمة، وانعطافات سياسية كبيرة؛ قادت إلى إعادة التعريف بخارطة هذه المنطقة الممتدة –عمان- تأريخيا وسياسيا واقتصاديا، وحتى اجتماعيا بعد أن تفجر النفط من صحرائها الذهبية، وبدت أطماع النفوذ البريطاني تحيك الدسائس حولها في سبيل بسط هيمنتها، وإعادة تشكيل خارطتها؛ مستعرضا كل ذلك بأسلوب حفاوي، وسرد فني شائق؛ رغم تجذر أبعاده التأريخية عبر الشخوص والأحداث فيها؛ مازجا بين الرفض والأمل من جهة، والمتعة والفائدة من جهة ثانية، ليكون الخلاص برمزية الحب الأبدي؛ ألا وهو حب الوطن المتمثل بمحبوبته «ميثاء العمانية» بالانتظار المرتقب لحل أزمة هويته الوطنية.
غربة الوطن تاريخ المكان
تبدو شخصية البطل/ابن سولع «سريدان بن فطيس الحرسوسي» الصحراوية من الوهلة الأولى وعلى طول مسار الحكي متناقضة متأزمة بما خلفه الماضي للحاضر، وبما حمله الحاضر للمستقبل؛ نفس تائقة إلى رباط متواصل بجذور انتماء الإنسان العماني ليس لمنطقته «جدة الحراسيس» فحسب، بل لكل أراضي عمان؛ كما يقودنا إلى خبايا تلك المحمية التي تحتضن «ابن سولع» من الانقراض؛ وما هذه إلَّا معادلة جليَّة بما تحمله من دلالات مكتنزة، وأبعاد مؤلمة أراد أن يطرحها الروائي «علي المعمري» من خلال الحكي والمحكي؛ كمعادل موضوعي بين هذا الحيوان الذي يكاد أن ينقرض في بلده وبيئته، وبين العماني الذي يوشك أن ينقرض هو الآخر بين رحاب حدود بلاده المتنازع عليها، أو المسكوت عنها، وما ذلك إلَّا تأكيد على رفضه للواقع الذي آل إليه وطنه وتعرضت له مواطنته؛ ولعل هذا ما تؤكده حالة الفوضى والضياع التي كان يعيشها «ابن سولع» في بيئة غير بيئته؛ عاش حياة يومية انفصم فيها بين أحضان ثلاث عشيقات مثلن قوى رمزية وواقعية ضاغطة على نفسه المتأزمة، فاستسلم لـ«بروين الإيرانية»، واندفع باتجاه «كارن البريطانية»؛ حتى لاذ بين أحضان عشقه الأبدي المتمثل بمحبوبته «ميثاء العمانية»، حيث أبان عن أرقه وقلقه على مصير وطنه، وما يمكن أن يؤول إليه كذات باحثة عن مواطنة، «وأنا في شقتي الصغيرة، يا عيني، وجدت أن عودة ابن سولع إلى محميته مستحيلة، وخصوصا عندما عرف بنبوءة المستقبل، للأسف الشديد، أن هناك آفة سوف يجنيها الزمن المقبل، بأنني سوف أنقرض من وطني، كما انقرض ابن سولع من محمياته الطبيعية بالربع الخالي»(22)؛ فهذه العبارة اختصرت ما أراد أن يفصحه لنا الروائي «علي المعمري» من خلال مزجه بين الزمن الماضي والحاضر متنبئا بالمستقبل، غير غافل الخطوط البنفسجية التي رسمت على حدود بلاده لتشتت هويات ناسها، واستحالة الخلاص من الأوبئة التي سكنت النفوس ما بين ماضٍ وحاضر مستلبان.
نجد في رواية «ابن سولع» محكيات بضمير المتكلم، ومحكيات بضمير الغائب، نجد محكيات وقائعية خارجية، ومحكيات نفسية داخلية، ويحصل التناوب، أو التداخل بين المحكي والمونولوج، بين صوت الراوي وصوت الشخصية، بين خطاب الراوي وشهادات الشخصيات، بين الآنسر مشين والقط حمران، بالشكل الذي يجعل هذا التناوب، أو التداخل يولد محكيا متعدد اللغات والأصوات، ويترجم علاقات الشك والارتياب التي تطبع موقف الشخصية من ذاتها كما من العالم والآخرين، ويجعله يعمل على تشعيب الحقيقة وتنسيبها، فالحقيقة لايملكها صوت واحد، بل الأصح أن الحقيقة لا تكون إلَّا بين أصوات تتحاور وتتجادل.
علاقة سريدان بميثاء
تبدو «ميثاء العمانية» منذ الوهلة الأولى شخصية جاذبة متألقة واثقة، فأبى حين يذكرها، أو يغلبه الحنين إليها إلَّا أن ينعتها بـعفوية تلقائية «ميثاء العمانية» أو «العمانية» ليحدد من جديد خارطة الوطن المأمول «وكنت أضع في صينيتي ما تضعه ميثاء العمانية من طعام في صينيتها بعناية فائقة، تشعرك بحس خاص في انتقاءاتها لوجبة غذائية صحية كاملة. ومن لحظتها أصبت بداء رغبة الجذب والانجذاب بالآنسة ميثاء العمانية، ومن لحظتها تمنيت مرافقتها بشكل مستمر دائم. وكنت أتحين فرصة لقائي بها في أي وقت من الأوقات…»(23)؛ فتتشكل العلاقة بينه وبينها منذ الوهلة الأولى ومن أول لقاء جمعه بها؛ لتسير العلاقة بينهما منطلقة من الدور الداعم الذي تقدمه ميثاء لسريدان في سبيل إنجاز بحثه لتبدأ حكاية الرواية. لم تكن ميثاء امرأة حقيقية فكونها مصدر الحب والملذة والذكريات وحسب، وإنَّما هي أيضا الماضي بمختلف أيدلوجيته القومية والانتمائية والطائفية. فتداعي أفكار البطل سريدان الحرسوسي ومشاهداتها تبدو على مسافة من نبذ التطرف الوطني، «والواقع أنني أرى في ميثاء الحلم الذي أود تحقيقه في حياتي، بعدما تعافيت من جراح وكسور نتيجة تجاربي السابقة، لقد حاولت كثيرا أن أحقق حلمي في الوطن لكن للأسف الشديد، وأنا أتكلم بحرقة ومرارة أصابتني في الحال، حلمي لا يمكن تحقيقه في مكان موبوء بداء ألمَّ ببشر في يدهم تكمن سلطة الأمر والنهي»(24). يتعمق في منظور رواية «ابن سولع» الفكري ليقارب استنكارا فلسفيا عن حل مؤقت لقضية الوطن، ومسألة المواطنة.
في الاتجاه المعاكس للزمن
لئن قام مفصل الرواية على الهجرة إثر شعوره بالبحث عن حقيقة الوطن، فإن عودته إلى الوطن/عمان لم تكن عودة إلى الوطن فحسب، بل عودة فرضتها التطورات السياسية والأمنية والإقليمية التي أفرزت أيدلوجية شعارها «بث الديمقراطية ونشر الحرية»؛ يذكر «ابن سولع» وبسخرية حين عرض عليه أساتذته في جامعة لندن منحه مواصلة الدكتوراة «لقد تذكرت مقولة شهيرة قالها حكيم من قديم الزمن، وأنا أدخل البوابة الرئيسية لكلية الدراسات الشرقية الإفريقية، أنَّه حين يشبع الطغاة شراستهم يتحولون إلى رجال طيبين»(25)، وكون المفارقة بين عودته حين أنهى البكالوريوس، وعودته بعد أن حصل على الماجستير؛ لكن تقاطع صوت الكاتب/الروائي مع صوت البطل/ ابن سولع بضمير الأنا حمل معه رؤيتين متناقضتين للعالم، ولمعاني الانتماء والمواطنة، أحدها: تمثلها الرواي والحبيبة ميثاء، والثانية: يمثلها ابن سولع البطل نفسه. ومع تضارب هاتين الرؤيتين من جهة وإشكالية البطل وتناقضاته مع الزمن العماني الذي عاكسه من جهة ثانية، أي الزمن الذي لفظه فيه وطنه الغارق في استبداده منذ ما قبل الستينيات، ما أفرزته إرهاصات التحديث، حيث نجح «علي المعمري» في القبض على المأزق العماني الراهن بملحقاته لتجاوز الأمكنة بصورة ساخرة لكنها منسجمة مع السياق «وجلست أهز رأسي ويدي الممسكة بكأس الطلا، وكأنني أسمع أصوات كعوب وحوافر ركض ابن سولع، مخلفة نقع أتربة بمواطنها في الصحراء، بدلا من أصوات قرقعات الثلج في كؤوس رفعناها نخب مشكلة كريستي هذه الليلة»(26).
أما رحلات الذهاب والإياب في فضاءات الزمن المعاكس أتقن لعبته الروائي «علي المعمري»، وفي ذلك شاهد على حلِّه وترحاله بين فضاءات الوطن من جهة، وبين لندن والوطن من جهة أخرى، حيث عاد بطل الرواية «سريدان الحرسوسي» مع زوجته «ميثاء العمانية» إلى عمان، وما تحمله نفسه من حنين وشجن، ولكن الأوضاع خيبت أمله كسابق عودته، وهذا ما يبثه للعمة حمدة إذ يذكر. «لقد أصبت بخيبة أمل وانكسارات في الروح عندما بدأت حياة العمل في وطني، وظننت أن الحالة عابرة ولن تستمر في بلادنا، لكنني وبعد تقصي المستقبل في كثير من الأمكنة من بلدي بان لي استحالة الخلاص من تلك الأوبئة الضارة التي سكنت نفوس من تعاملت معهم طوال فترة حياتي العملية في عمان»(27).
فـ«ابن سولع» الذي جسَّد معنى الأصالة والأرض شعر في غربته بمفارقة الزمن وإشكالياته فكان قرار رحيله عنها ثانية عكس زمانه وناسه، وبالتالي حين اختار العودة إلى لندن/مهجره بدت عودته معاكسة أيضا لزمانه وسببا لجرحه؛ لأن هذا الزمن الذي عاد إليه «ابن سولع» لم يعد زمانه هو، زمن الفطرة والبراءة والدعة، بل زمن والفوضى والاستغلال العبثي. «وكي يحقق بعضا منهم مشاريع كان يستخدم قوته وعنفه وكل السبل المشروعة وغير المشروعة في تنفيذها، حتى ولو كانت طريقة تحقيق مشاريعه سوف تؤذي وتؤدي إلى هلاك للآخر. لقد بكرت الأطماع والأنانية والحسد في وصولها ونموها، وحلت في تربة نفوس من سولت له نفسه أن يكون طاغيا وباغيا، لا تهمه مصلحة البلد، ولا مستقبل الوطن، أكثر ما يهمه نهب المال العام، وجمع الألقاب قبل اسمه، مثل: دكتور، وشيخ، وسعادة، ومعالي، و… إلى آخره»(28). أما الاتجاه المتذبذب في الزمن المعاكس فقد حمل «علي المعمري» في روايته قولا روائيا جديدا ومختلفا عن والولاء والانتماء متحررا من قيود العصبية والقبلية، فالبطل اصطدم بزمنين عمانيين مختلفين: زمن الاطماع حول عمان الكبرى وتجزئتها، وزمن عمان الصغرى، وانفصالها عن رحمها مما جعله إنسانا عُمانيا متأرجح الانتماء والوطنية، فهو معتز بعمانيته البدوية الحرسوسية، إلى جانب يقينه بأن هذه الإمارات المنفصلة هي عمان الكبرى التي لا تضنيها ازدواجيته الجنسية، بل تشكل مصدرا من مصادر غناها الفكري والتأريخي والرحمي.
تعيدنا نهاية الرواية إلى بدايتها، أو لما قاله «ابن سولع» في بداية رحلته في زمن الرواية، «وها أنا ذا أبحث من جديد عن حل مؤقت لقضية لم أحسمها بعد، وهي مسألة الوطن والمواطنة يجب ألَّا تعالج بطرقنا المثالية، وإنما هناك أمور معقدة وشائكة في قضية الوطن والمواطنة تجعل الإنسان يبحث عن حلول صائبة لها، ولو بشكل مؤقت. فحياتنا على هذا الكوكب أيضا لها فترة معينة، وهي مؤقتة، وبعدها لا بد من نهاية. وهذه النهاية قد تكون سعيدة، وربما قاسية وحزينة، وأنا لا أعلم ماذا سيكون عليه الغد، حينما تشرق علينا الشمس، أنا وخطيبتي ميثاء، في مدينة الضباب، عندما نصلها عبر طيران الخليج غدا صباح الجمعة»(29).
تستعيد الذاكرة السردية الزمن باعتباره عالما كان، فتبدو فعلا يتجاوز التاريخ. فـ«ابن سولع» في مسعى الراوي، مشروع جواب فلقد كتب «علي المعمري لحكاية أضمر فيها دعوة للاهتمام بالحكاية/ قضيتنا، وقاده اهتمامه بهذه القضية إلى ممارسة كتابة الاختلاف البنائي للنوع الأدبي الروائي. ولم يكن دافع الاختلاف شكليا، بل هو مرتبط بمادة الكتابة نفسها، بموضوع القضية وحكايتها.
الخاتمة:
انطلاقا من هذه الأعمال الروائية الثلاثة يمكن القول: إن الرواية في عمان تسير نحو خلق توازن بين مختلف وظائفها الجمالية والمعرفية والتداولية، وبالرغم من أن الكتَّاب الثلاثة ينتمون إلى جيلين مختلفين، وبالرغم من وجود خصائص تميِّز تجربة كل واحد منهم، فإن الملاحظ أن الروايات التي صدرت في سنوات متقاربة من الألفية الجديدة تشترك في خصائص نراها هامة. فهي تشتغل على البناء الفني للعمل الروائي، وتستدعي البنيات اللعبية الانتهاكية، وتوظف أشكالا وأساليب في الحكي والسرد والتخييل، وتعمل إلى هذا الحد أو ذاك على تفجير النص الروائي بمعناه التقليدي، بشكل يبدو معه كأن هناك قواعد مقولبة للكتابة، وميثاقا جديدا للقراء جديد.
وفوق ذلك، فقد اختارت هذه الروايات الثلاث، كل واحدة بطريقتها شكلا سرديا محددا هو شكل محكيات البحث والتحقيق. وهذا ما يشير إلى أن الرواية العمانية الآن تريد أن تعرف، تريد أن تؤسس معرفة حول الإنسان ومجتمعه وتأريخه ومصيره، أو أنَّها بالأساس تريدنا أن نفكر في سبل تأسيس معرفة بذواتنا وأوساطنا وعوالمنا ومصائرنا.
واللافت للنظر أن الروايات الثلاث لا تدعي أنَّها تمتلك المعرفة الكاملة أو الحقيقة المطلقة حول الإنسان أو المجتمع أو التأريخ، وهذا بلاشك تحول جديد في الرواية العمانية؛ فالأدب الروائي لم يعد يعمل لمصالح أيدلوجية معينة، ولم تعد الرواية تدافع عن دعوى أو أطروحة، بل إن الرواية الآن تركب الشك، وتقول الاحتمال والافتراض، وتمارس السخرية والاستنكار، وتبدو كأنَّها تسبح في الخيال واللايقين، ويجد هذا التحول تفسيره في ظل التحولات الكبرى التي يعرفها مجتمعنا والعالم.
شيء ما بدأ ينكسر منذ السبعينيات أو أواخرها، وتفجر في التسعينيات، وبداية الألفية الثالثة ستصاب الأيدلوجيا كما ستصاب الأنساق الفكرية والتشييدات النظرية الكبرى، وأضحت هناك أزمة عامة تعرفها خطابات اليقين، وهناك عجز في صناعة الأمل، وهناك أزمة تعيشها المثل السياسية، ولن تكون هذه التحولات دون تأثير على الأدب الروائي منه؛ بالأخص في هذه الروايات الثلاث معا، يبدو الأمر كأن المعرفة معرفة ما يجري، وما يقع في المجتمع أمر غير قابل للإدراك، ولم يعد السارد يمتلك تلك القدرة التي تسمح له بتأليف حقيقة العالم، فالعالم أضحى أكثر تمنعا وانغلاقا واستحالة، ما يقع هو أشبه بالغرائب والعجائب، أشبه بشيء غير واقعي مستحيل الحدوث، وأقرب إلى الجنون، والأدب الروائي يكتسحه الشك والسخرية واللايقين، يحاول أن يستعيد مكانته داخل العوالم الأدبية والثقافية والمرجعية بنوع جديد من الالتزام، لكن بعيدا عن الإيدلوجيات الاحتوائية القاهرة، والمحاولات المثالية الحالمة التي هيمنت على الأدب في عقود سابقة. فهناك تحولات هائلة في السرد الروائي بالتأكيد. ولهذه التحولات أسباب لم تكن عرضية أو طارئة، لكنها متساوقة، بجدلية راسخة، مع تحولات مجتمعات وشعوب. لم يعد المثقف نخبة في محيط أمي، كما كان ذلك قبل نصف قرن على سبيل المثال. نخبة متعالية على الحياة اليومية للناس العاديين الأميين، النخبة التي كانت تجهل تمام الجهل تفاصيل واقعها وهموم فردها البسيط في الشارع والحقل والجامع.
نجد أنفسنا أمام هذا «المثلث الروائي» من الأفخاخ الفنية –إذا جاز التعبير- التي تعكس بعض أوجه الفنون السردية، وهي إشكالية نقدية متمثلة في علاقة الكاتب بالراوي والشخصية. فقدمت لنا هذه النصوص الروائية الثلاثة مثالا واقعيا عن ارتباط، لا بل عن تلاحم الشخصية الروائية بسياقها التخييلي الخاص. هذا السياق الذي يقود القراءة النقدية إلى عدم الخلط بين الشخصية التخييلية وبين الشخصية كذات إنسانية، أو الخلط بينها وبين الراوي والكاتب تحت طائلة الإساءة للنص، والانحراف بخطابه عن أبعاده الدلالية؛ بحيث لا يجدي مثلا التعرف إلى الكاتب «حسين العبري» في «الوخز»، أو «عبدالعزيز الفارسي» في «تبكي الأرض يضحك زحل»، أو «علي المعمري» في «ابن سولع» في وجوه شخصيات أبطال رواياتهم، لأن هذه الشخصيات شأنها شأن باقي الشخصيات مجرد عناصر قائمة داخل بنية سردية ابتدعها الكتَّاب الثلاثة لتكتسي هذه الشخصيات دلالاتها، ولترفد بهذه الدلالات الخطاب الروائي الكاشف والمضيء؛ بحيث تجلت الأبعاد الدلالية لهذا الخطاب –في أحد مستوياته- في مناصرة الكلمة الحرة مكتسبا بذلك حقيقته التي عمل بها الكتَّاب على تمويهها بفنية عالية عمادها التشكيك منذ البدء بواقعية الحكايات، فكان انسحاب الذَّات الحرة والخطاب الحر؛ ليظهر الحدود الواهية بين الحلم والواقع، ويفرض نفسه كخطاب موجه ضد كل عناصر الاستبداد والظلم والانغلاق في مجتمعنا العماني، وضد تاريخ القهر والغربة، والنفاق والعنف الخفي الذي طال الإنسان العماني؛ حتى غدت النهايات في الروايات الثلاث كلَّها تنشد الإنسانية، وتعيد إنتاج الوعي في ظل زمن الحقوق الإنسانية، وما خلفته المدنيَّة الحديثة.
ثمة تداخل، توحي به الروايات الثلاث، بين الواقع والخيال. تداخل لا ينبني وفق مفهوم الثنائيات والتقابلات الضدية: (واقع/خيال، موت/حياة، ماضٍ/حاضر)، بل وفق مفهوم التحول التداخلي. فالزمن يجري كالأنهر؛ لكنه يتراكم ويتمخض جريانه عن تحول ما يراكم. وتبدو البشرية في هذا الفضاء المخيالي التي تستعاد به، وفيه صور من العالم الماضي العائد إلينا في خيالنا حينا، وحينا آخر في وجوه الآخرين الموتى في مرايا تبصر فيها الذاكرة وجوهها التي راكمها الزمن، فبحسب منظور الروايات، لا شيء يفنى، بل يتحول ويحل في أشياء أخرى. إن التحولات هي حركة الزمن والوجود، أو هي حركة التاريخ. وحركتنا، نحن البشر بهذا الزمن وفيه، هي هذه الرحلات والتقلبات التي تقوم بها شخصيات فيها. ليست الكتابة الروائية العمانية مجرد إبلاغ حقيقة، أو نقل الواقع المعطى كما هو، قدر ما هي مساءلة «الحقيقة» والنظر إلى ما وراء الواقع المعطى بشكل يجعل من التخييل مرآة نقدية لما يقدم على أنَّه «حقيقة» في عالم من التوافقات والاصطلاحات. بواسطة الكتابة الروائية يمكن اختبار العقل والشك في عقائده والسخرية من مسكوتاته ويقينياته، والإنصات إلى خطاب الجنون، وممارسة اللعب، والدخول إلى عالم الاحتمالات والافتراضات، والنظر إلى «الحقيقة» على أنَّها مشكوك في أمرها، وإن كل شيء يسبح في فضاء اللايقين. وبعبارة أخرى فالرواية في مجموعها تقع بين الوهم والحقيقة، بين الواقع والافتراض. ويبدو كأن الأهم ليس هو البحث في صحة ما يشاع، بل البحث في أبعاده الاستعارية والرمزية، وكشف الوجه الآخر المأساوي للإنسان والمجتمع في زمن شاعت فيه التحولات والمسوخات التي تمس جوهر الإنسان، وإنسانيته فبتركيزها إلى تحول الإنسان إلى كائن قزمي مهزوم؛ ذلك لأن المسخ يؤلف إدراك وتمثل للقدر الشخصي للإنسان في أكثر اللحظات تأزما من حياته ومجتمعه. وهكذا يمكن القول إن الرواية العمانية كالرواية العربية الجديدة نزلت إلى ميدان الثقافة العربية وهي متسلحة بكل ما وصلت إليه الحضارة الراهنة. فوجدت نفسها في خضم عالم معقد، لم يعد يحتمل الثنائيات التقليدية في السرد السابق، الخير والشر، المناضل والخائن، الملحد والمؤمن، العربي والآخر، السلطة والفرد، بل حملت في أحشائها الهزيمة، التمرد، التشظي الروحي، العجز، النفي، فقدان الهوية، الانتصارات الفردية الصغيرة. صارت بالتالي انعكاسا لروح الكاتب المأزومة، وانعكاس لروح شخصياته المأزومة. وهي بالتالي انعكاس لواقع مأزوم خال من القناعات، وصارت بالتالي معبّرا أمينا عن حيرات كرتنا الأرضية.
في هذه الروايات الثلاث –لاشك- أننا نكون أمام كتابة تقول واقعنا وزماننا ومصيرنا، ولكن بطريقة لاواقعية، لامعقولة تأكيدا على غرابة الواقع المتناقضة المرعبة المقلقة المتحولة عمَّا هو مألوف وإنساني.
الهوامش:
1) ميخائيل باختين: الملحمة والرواية، ترجمة د.جمال شحيد بيروت، معهد الإنماء العربي ط1، 1986،ص39
– حسين العبري، رواية الوخز
2) ص5 3) ص13 4) ص61 5) ص12
6) ص73 7) ص36 8) ص118 9) ص50
10) ص33 11) ص26 12) ص225-226
13) أحمد الطريسي، مجلة نزوى، العدد 50/ وناصر أبو عون، جريدة الشبيبة العمانية، ملحق آفاق.
– عبدالعزيز الفارسي، رواية تبكي الأرض..يضحك زحل.
14) ص13 15) س19 16) ص117-118 17) ص3
18) ص3 19) ص259 20) ص17 21) ص114
– علي المعمري، رواية ابن سولع .
22) ص130 23) ص15 24) ص387 25) ص320 26) ص134
27) ص387-388 28) ص388 29) ص439 .