فـي معنى الخصوصية … وكتابة المرأة
قبل تناول صورة المرأة كما قدمتها المرأة الكاتبة في روايتها بالدراسة والتحليل، لابد من طرح سؤال أولي حول معنى تلك الخصوصية التي يمكن أن تكون عليها تلك الصورة في هذه الرواية، ومدى صدورها عن وعي نسوي خاص بالذات والهوية عند هؤلاء الكاتبات، بعد أن استعدن دورهن الفاعل في المشهد الثقافي، وأسسن لمساهمة جديرة بالقراءة في حقل الكتابة السردية، انطلاقا من وعي متعدد المرجعيات والمنطلقات الفكرية والجمالية، ظلت ترتهن إليه رؤية الكاتبة في وضعها الإدراكي الذي قدمت من خلاله وقائع السرد وأحداثه وشخصياتها النسائية في تلك الأعمال التي تحظى فيها المرأة بحضور متميز، تحاول الكاتبة من خلاله أن تستنطق تلك الشخصيات وجودا وكيانا … جسدا وروحا وعقلا، على الرغم مما هي محكومة به من إقصاء وتبعية وظلم، يجعلها عاجزة عن تحقيق وجودها الفاعل، ومشاركتها في صنع الحياة التي تطمح إلى تحقيقها.
من هنا فإن السؤال الأول الذي يفرض نفسه يتعلق بمدى تماهي المرأة الكاتبة مع شخصيات أعمالها الأنثوية، وبالتالي ماهو مدى حضور الجانب السيري في حياة تلك الشخصية، وقبل هذا وبعده هل يمكن للذات أن تحقق وعيها لذاتها دون وجود الآخر المختلف الذي هو الرجل، الأمر الذي يستدعي استبطان مضمون العلاقة التي تربطها بهذا الآخر، وانعكاسها على وجودها وحياتها وصيرورتها الإنسانية، ثم أخيرا قدرة المرأة الكاتبة على نقد ذاتها، كما تراها هي، بجرأة تجعلها تكاشف هذه الذات بحقيقتها التي هي عليها، بدلا من الاكتفاء بنقد الواقع وتحميله مسؤولية كل ما تعاني منه، من قهر وإحباط ومصادرة وتهميش. مما لاشك فيه أن وعي المرأة لذاتها ومحاولتها استعادة هويتها ووجودها في مجتمع لم يزل غير قادر على الاعتراف باستقلالية هذا الوجود، وقدرتها على صياغته وتأهيله بمعزل عن وصاية الآخر/ الرجل وسلطته، قد شكل الموضوع الأبرز في حياتها، وكان علامة افتراق بين مصير مكتوب عليها, وآخر تحاول أن تكتبه هي، أوتختاره بمعزل عن أي ارتهان أو استلاب أو إكراه، الأمر الذي يجعلها تصطدم بثقافة ذكورية قارة وعتية، تحدد لها سلفا وظائفها ودورها وموقعها في المجتمع والحياة. لقد ترتب على تلك المواجهة مع الواقع ومنظومته القيمية والمفهومية الناجزة خوض المرأة لمعركة تحررها واستقلالها ودفاعها عن وجودها وخصوصيتها الذاتية جسدا وعقلا، ما تحتم عليها الكثير من المعاناة والمكابدة والألم والمرارة الناجمة عن صلابة تلك المنظومة من القيم والمفاهيم والعلاقات السائدة في الواقع. إن دراسة شخصية المرأة في أعمال المرأة/ الكاتبة لابد أن ينطلق من أن أي وجود للشخصية الروائية عموما، والأنثوية خصوصا لا يمكن له أن يتشكل بمعزل عن مسألة الدلالة، ذلك لأن وجود هذه الشخصية فيها لا يمتلك أي حضور بمعزل عن تلك الوظيفة، ولهذا فإن الشخصية كما يقول فلاديمير بروب (1) تختلف من حيث كونها عنصرا متحولا، والوظيفة باعتبارها عنصرا ثابتا، دون أن يعني ذلك استقلالية كل منهما عن الآخر، الأمر الذي يجعل الوظيفة هي التي تلعب الدور الحاسم في خلق الشخصية وتحديد طبيعتها داخل الرواية.
إن المنظور السردي الذي تنطلق منه الكاتبة في بناء شخصياتها الأنثوية وتقديمها لابد أن يختلف عن المنظور الآخر الذي ينطلق منه الكاتب على هذا المستوى، حتى وإن كان هذا الكاتب يمتلك نوايا حسنة تجاه المرأة وقضية تحررها، التي يحاول الدفاع عنها وعن حقوقها المنتقصة، ذلك أن معرفة المرأة بحقيقة المرأة وتكوينها الخاص ومعاناتها التي تعيشها، وإحساسها بذاتها وبالعالم الذي يحيط بها، وما يمثله العالم بالنسبة لها، تختلف عن المعرفة التي يمتلكها الرجل/ الكاتب حكما. وإذا كان هذا هو حال المرأة بصورة عامة فكيف يكون حال المرأة الخليجية التي تعيش في واقع بدأ يشهد تحولات متسارعة منذ ثمانينيات القرن الماضي، وإن كان بصورة نسبية تختلف بين بلد وآخر. لقد ترافق مع تلك التحولات الاجتماعية والاقتصادية تحولات ثقافية عبرت عنها زيادة مشاركة المرأة وتوسع دائرة مكتساباتها التي تحققت لها في إطار مشروع التحديث الذي كانت تشهده دول الخليج، وفي مقدمتها دولة الإمارات العربية المتحدة، إلى جانب الكويت والبحرين اللتين كانتا تعيشان حراكا ثقافيا سابقا. وقد شهد الإنتاج الروائي الخليجي في السنوات الماضية تناميا واضحا في عدد الأعمال الروائية التي كتبتها المرأة الكاتبة، وكان لافتا حجم الأعمال التي قدمتها الكاتبة السعودية وجرأتها الملحوظة في خرقها للمحرم الجنسي وتشريح واقعها الشديد الوطأة والمعاناة، حيث شكلت تلك الفورة الروائية النسائية المتباينة في مستوياتها الجمالية والفكرية ظاهرة جديرة بالتأمل والدرس، خاصة وأن الوعي المركزي للمرأة الكاتبة في تلك الأعمال قد عبر عن تمركز واضح حول قضايا المرأة التي شكلت محور تلك الأعمال ما جعلها تنفرد ببطولتها، بينما ظلت الرؤية السردية في تلك الأعمال مرتبطة بالراوي/ المرأة التي تميزت بعلاقتها المباشرة بالسرد الحكائي، فكان استخدام ضمير المفرد المتكلم دالا على طبيعة السرد البالغ الذاتية في هذه الأعمال. ومن الأسماء الروائية التي ساهمت في تشكيل المشهد الروائي السعودي كل من رجاء عالم ورجاء الصانع وبدرية البشر وسمر المقرن وليلى الجهني وزينب حنفي وأميمه الخميس وسميرة خاشقجي وصبا محرز وهيام المفلح … الخ. وتأتي الكويت ودولة الإمارات العربية المتحدة تاليا من حيث حجم مساهمة المرأة الكاتبة في الإنتاج الروائي والثقافي الخليجي، لاسيما بعد فورة التحديث التي شهدها المجتمع الإماراتي على جميع الصعد، وتعزيز مشاركة المرأة في مختلف مجالات الحياة الاقتصادية والثقافية والاجتماعية والسياسية، الأمر الذي انعكس إيجابياعلى وضعها، وحضورها اللافت في مجال الكتابة الإبداعية عموما والروائية خصوصا، حيث ظهرت تجارب روائية مختلفة لفاطمة السويدي وميسون صقر القاسمي وأمنيات سالم وأسماء الزرعوني وباسمة يونس وفاطمة المزروعي وحصة الكعبي ومريم الغفلي، في حين كانت تجربة الروائية ليلى العثمان هي الأقدم والأهم في التجربة الروائية في الكويت، تلتها تجارب كل من فاطمة العلي وبثينة العيسى وعالية شعيب وفوزية شويش السالم وفوزية السنداني. وعلى الرغم من عراقة التجربة الثقافية في البحرين فقد ظلت تجربة فوزية رشيد هي التجربة الروائية الوحيدة التي ظهرت حتى الآن. أما في عُمان فظهرت فيها تجارب كل من غالية.ف.ت. آل سعيد وأزهار أحمد وجوخة الحارثي، بينما اقتصرت التجربة الروائية في قطر على تجربة دلال خليفة.
بين الكتابة النسائية، والكتابة النسوية
قبل البحث في صورة المرأة في رواية المرأة الكاتبة لابد من طرح مسألة منهجية، تتعلق بمفهومي الكتابة النسوية والكتابة النسائية، لأن ثمة تمايزا واضحا بين المفهومين ما زال العديد من الباحثين والكتاب والكاتبات يخلطون بينهما، متناسين أن مفهوم الكتابة النسوية لا يتضمن أية دلالة تتعلق بجنس كاتب/ كاتبة العمل الأدبي، أو هويته الجنسية، لأن هذا المفهوم ينطبق على الكتابة النسائية التي تدل على الهوية الجنسية لكاتبته، وهذه الكتابة لا تمتلك أية خصوصية تعبيرية أو سردية أو لغوية أو فكرية تمنحها تميزها عن الكتابة الروائية السائدة، في الثقافة الراهنة التي تتماهي معها وفيها كتابات المرأة، حتى وإن اتخذت تلك الروايات من الشخصيات النسائية محورا لها، ومنحتها بطولة العمل، في حين أن الكتابة النسوية تصدر عن وعي ذاتي نسوي بهويتها الأنثوية، وخصوصية تلك الهوية من حيث التكوين والفروق القائمة بينها وبين الرجل، والتي لا ترتبط بالفروق الاجتماعية والثقافية وحسب، وإنما بالفروق الفيزيولوجية التي تنعكس على العلاقة بين الذات والزمن والوجود، إضافة إلى ما يمثله عجز اللغة وأشكال التعبير السائدة التي جرى تذكيرها مبنى ومعنى – وفق ما يقوله عبدالله الغذامي – عن تمثل تلك الخصوصية واستحضارها داخل النص الروائي بوصفها ذاتا فاعلة، تعي شرطها الاجتماعي والثقافي، وتحاول التحرر من سطوته، من خلال انفتاحها على ذاتها واكتشاف لغتها القادرة على ترسيخ حضورها الفاعل داخل اللغة والمجتمع، بعد أن ظلت هامشا يدور حول المركز/ الرجل. لاشك أن حضور المرأة في الرواية، قد ازداد وتعمق قيمة ودلالة وتأثيرا مع تزايد عدد الكاتبات، وتوسع مشاركتهن في حقل الكتابة السردية، وما صاحب ذلك من تنام لوعي المرأة الكاتبة بذاتها وواقعها المعاش، وحاجتها إلى استعادة سيطرتها الكاملة رمزيا وماديا على وجودها وذاتها، والتعبير عن كل ما لديها، بحيث تستعيد علاقتها المتوازنة والطبيعية مع العالم الذي تعيش فيه، بعد أن ظلت تلك العلاقة زمنا طويلا محكومة بالاستلاب والقمع والتهميش، الذي يجعل منها مجرد متلق سلبي في الحياة. إن هذا الوعي النسوي الذي تتباين درجات حضوره ومضامينه ومرجعياته، في رواية المرأة/ الكاتبة بين كاتبة وأخرى، يجعل صورة المرأة بالتالي تتباين وتتمايز أيضا، لأن الشخصية بوصفها تمثيلا لنمط من الوعي الاجتماعي، يظل وجودها مرتبطا بإنتاج الدلالة داخل العمل السردي، هذا الوجود الذي يتم بناؤه وتشكيله من خلال رؤية سردية، تمتلك وعيها القادر على تحقيق انكشاف الذات الأنثوية على ذاتها وجوانيتها انفتاحا جماليا يصوغ معانيها ويستلهم أبعادها
وعلى الرغم من التمايز النسبي بين تلك الأعمال الروائية، من حيث المستوى الفني والجمالي، فإنها تتقاطع جميعا في نقطة مركزية تتمثل في هيمنة قضايا المرأة الذاتية والإنسانية والوجودية عليها، وانشغالها بالبوح والمكاشفة واستبطان الذات من خلال سرد ذاتي داخلي وتحليلي يمعن في استظهار ما تفكر فيه المرأة، وما تعانيه من مشاعر الكبت والقهر والاستلاب، أو تعيشه من أحلام ورغبات ومشاعر مصادرة ترويها وقائع حياة شخوصها، وتتجسد من خلال حركتها وأفعالها التي تتباين بحسب طبيعة وعي وبنية الشخصية التي تقدمها تلك الأعمال الروائية، وما يمكن أن تحوز عليه من وعي ذاتي وكياني بمعضلات وجودها من خلال أفعالها ومواقفها، وعلاقتها بذاتها من جهة، وبالعالم الذي تعيش فيه، وتطمح إلى أنسنته وجعله أكثر ألفة وجمالا من جهة أخرى.
1/ 1 المرأة المقهورة قاهرة
ثمة مفارقة قد يوحي بها العنوان، إذ كيف يمكن للمرأة التي تعاني من القهر وتدرك مرارة شرطها الاجتماعي أن تمارس القهر في علاقتها مع المرأة لاسيما إذا كانت هذه المرأة هي ابنتها؟ أو كيف يمكن للمرأة أن تؤدي هذا الدور الذي طالما ظل مرتبطا بالرجل ؟.. ثم ما الذي يجعل المرأة تقوم بهذه الوظيفة التي تجعل منها عدوة للمرأة ومتسلطة عليها ؟ تؤكد الدراسات النفسية المختصة بدراسة سيكولوجية الإنسان المقهور، أن تلك الشخصية المقموعة تحاول ممارسة القهر في سلوكها مع الشخصية الأضعف والأدنى منها كسلوك تعويضي، لكي تسترد ثقتها بذاتها المقموعة، من خلال شعورها بالقدرة على قمع الآخرين، ومن هنا يمكن أن نفهم لماذا تتخذ شخصية الأم في أغلب الأعمال الروائية التي كتبتها المرأة صفة القسوة والتسلط على بناتها بصورة نجدها تتعارض حتى مع شخصية الأب التي تبدو أكثر رحمة وعطفا عليهن من أمهاتهن اللواتي يفترض بهن أن يشكلن مصدر الحماية والعطف والرعاية لهن في مجتمع تحكمه علاقات التمييز الواضحة بين الرجل والمرأة. إن هذا التحليل النفسي لا ينفي الدور الذي يلعبه الواقع الاجتماعي ومنظومته القيمية والثقافية على هذا المستوى، من خلال تحميل الأم أي خطأ يمكن أن ترتكبه البنت، خصوصا ما يتعلق بقضايا (الشرف) التي ترتبط بالمرأة، باعتبار أن ذلك مسؤوليتها التي تحاسب عليها، خاصة وأن هناك ثقافة تقوم أساسا على الارتياب من المرأة باعتبار أن تكوينها العاطفي الذي يغلب عليها يجعلها ضعيفة، إلى جانب نزوعها إلى الغواية للإيقاع بالرجال، الأمر الذي يدفع الأم إلى الشدّة والقسوة في ممارسة سلطتها على بناتها خوفا من الاتهام، ومن تبعات ما ينجم عن ذلك على استقرارها العائلي. في ضوء ذلك نفهم تلك الشكوى المتصاعدة في رواية المرأة من موقف الأم وسلوكها القاسي الذي يخلو في الغالب من الحنان والدفء تجاه بناتها، يقابله سلوك مغاير ومختلف لها في العلاقة مع الأبناء الذكور خاصة مع الابن الوحيد، حيث يبدو التمييز في المعاملة والنظرة واضحا بصورة تجعل الفتاة تشعر بالغبن والقهر والسخط، وتحاول التمرد على هذا الواقع بأساليب وردود أفعال ومواقف مختلفة، ترتبط بطبيعة شخصية البنت ووعيها الذاتي والمحيط العائلي والاجتماعي الذي تعيش فيه. في رواية جاهلية للروائية السعودية ليلى الجهني يكشف سلوك الأم عن تمييز صارخ في العلاقة مع ابنها هاشم الذي لا هم له سوى مطاردة النساء والاستمتاع بعلاقاته الجسدية معهن، وبين ابنتها لين التي تراقب كل حركة من حركاتها، وتتعامل معها بقسوة وصرامة شديدة، على خلاف هاشم الذي يتمتع بحرية كاملة في حياته الخاصة باعتباره رجلا، الأمر الذي يجعل الأم تنهر لين عند أي محاولة لوقف تعدي هاشم على حياتها وممارسته لسلطته المطلقة عليها، على الرغم من كونه الأخ الأصغر عمرا، لأن المطلوب هو خضوعها التام له في مجتمع يقوم على التراتبية الاجتماعية التي يتسنم قمتها الرجل (كانت أمها دائما وراءه كي تحميه، كي تدفعه، كي تسيّره في طرقات الحياة المتشابكة، ولم تكن لتشعر بشيء في لحظات مثل تلك سوى أنها كيان طارئ، وأحيانا متطفل على وجودهما. كان وجودهما مكتملا، ولم يكن ينقص أن تكون جزءا منه، وحتى أن تطل عليه)(2) ولا تختلف صورة الأم في رواية هند والعسكر للروائية السعودية بدرية البشر عن صورة الأم السابقة، حيث نلاحظ أن بناء شخصيتي الأم والأب في تلك الرواية محكومة بتلك الثنائية الضيقة التي يتحلى فيها بصفات الرحمة والمودة في علاقته ببناته، على خلاف الأم التي تنحاز في سلوكها إلى جانب ابنائها الذكور على خلاف سلوكها مع بناتها، الذي يتصف بالقسوة والشدّة،وهو ما يجعل بطلة الرواية هند، والشخصية الساردة فيها تعبر عن مدى نقمتها وسخطها في خطاب الشكوى الذي تبثه إلى جدتها التي تبدو أنها أكثر عطفا وحنانا من الأم ردا على محاولة الجدة تبرير سلوك الأم (أمي مسكينة ! ألا ترين كيف تهشنا بجفاف كلما توددنا إليها؟ أو حنونا عليها؟ ألم تري كيف تفضل أخوتي الذكور وتعاملهم بوداعة، في حين تقسو علينا نحن البنات الضعيفات. أمي يا عموشة تكرهنا لأننا…بنات؟)(3) . تحاول هند تقديم تفسير لسلوك الأم تجاه بناتها ينبع من محاولة الأم التماهي مع ثقافة تمجد الذكورة وتجلها, وذلك من خلال الخضوع لسلطة تلك الثقافة وقيمها، وتكريسها عبر الممارسة الفعلية، لكي تنال اعتراف تلك الثقافة بها، وبأهمية دورها. إن قسوة الأم وشدّتها في علاقتها ببطلة الرواية تكتسب معناها من خلال الدور الذي تلعبه بوصفها الرقيب والحارس الذي يوكل لنفسه مهمة منع بطلة الرواية من تجاوز الحدود التي يرسمها الواقع للمرأة ومعاقبتها على أي فعل مخالف لذلك، كما هو الحال عندما تضبطها في أحد الأماكن العامة ( دخلت من باب الملاهي وقفت أمي مثل قطار ينفخ من فوهته احتراق أعصابها. كانت تنتظر دخولي متأكدة أنني قد خرجت. عندما رأتني.. عاجلتني بجري من شعري، لطمتني على وجهي أمام الناس.. مزقت ثيابي لأنها دون كم، وقذفت بشالي الحرير إلى القمامة. حبستني في غرفة مجلس النساء في الطابق الأرضي. أقفلت علي الباب، ومنعت اخوتي من رؤيتي أو الحديث معي، أو حتى من المرور أمام الباب)(4).
وتتسم شخصية الأم في رواية زاوية حادة للروائية الإماراتية فاطمة المزروعي، كما هي الشخصيات السابقة بطابعها التقليدي، وغياب الحس بواقع الظلم الذي تعيشه المرأة، بل تغدو هي رمزا لهذا الظلم الذي تمارسه على مستويات متعددة تلغي فيها أي قدرة لبطلة الرواية/ ابنتها على أن يكون لها أي خيار في حياتها، الأمر الذي يجعلها رغم اشتراكها بنفس صفات القسوة والعنف مع الأمهات السابقات تذهب بعيدا في تعسفها وقسوتها، حيث ساهمت عوامل ذاتية واجتماعية في تعميق حالة التأزم التي كانت تعيشها الأم، والتي زادت من حدّة سلوكها القامع مع ابنتها، منها مرضها الغامض الذي كانت تعاني منه، وهجر الزوج لها، ومن ثم الزواج من امرأة أخرى، ما ساهم في تفاقم حالة القسوة والظلم التي كانت تواجه بها ابنتها عند أي موقف كان، بعد أن كانت قد حددت لها أقدارها قبل أن تأتي إلى الدنيا( – أمي لدي امتحان غدا. لا تهتم تضربني، تسحبني من شعري. لوهلة كرهت شعري الطويل، كل واحد يريد أن يضربني ويمسكني من شعري بقسوة، وأنا أصرخ. أعمل في المنزل، أطبخ وأنظف، أمي تحرمني من الدراسة، لا تريدني أن أصبح معلمة، تقول إن المرأة مكانها في المنزل مهما صار لديها من علم، والعصا الغليظة التي تهددني بها دوما، وموافقتها على تزويجي من ابن خالي، ولم أكن قد تعديت بعد العاشرة من عمري، وافقت أمي، أعطت كلمة لخالي، أخبرته بأن أول ابنة سوف تنجبها ستكون لابنه)(5) .
إن هذا التناقض العجيب في سلوك وموقف الأم القامع والعنيف مع بناتها يدلل عليه بصورة بالغة الدلالة سلوك الأم ميا في رواية سيدات القمر للروائية العمانية جوخه الحارثي عندما تنهال عليها بالسوط وتقوم بتكسير الهاتف النقال عقابا لها بعد أن اكتشفت علاقتها الغرامية مع الشاب أحمد. وتتأتى تلك المفارقة من أن ميا كانت فتاة عاشقة قبل أن تزوجها أمها من شاب آخر، لتبقى حكاية عشقها وخيبته تخفيها في طيات أعماقها الجريحة، فكيف لامرأة عرفت معنى العشق وعانت من عجزها على تحقيق أحلامها أن تتخذ هذا الموقف العنيف من ابنتها لندن عندما عرفت بقصة عشقها على خلاف موقف الأب الذي يحاول أن يواسيها في أحزانها (في أحد المواقف الممتدة على طول شاطئ السيب، أطفأت الأنوار وانفجرت في البكاء . لم أرها تبكي منذ أن كانت طفلة حتى العام الفائت حين انهالت عليها أمها بالسوط، وكسرت هاتفها النقال)(6). إن ميا التي كانت فيما مضى تتخذ موقفا رافضا لقيام والدتها سالمة بضرب شقيقتها خولة، وممارسة سلطتها الكلية عليها، حتى على صعيد زينتها الخاصة، هي التي تعود لتمارس العنف مع ابنتها لاحقا، فما الذي يجعل تلك الشخصية التي كانت ترفض سلوك والدتها القاسي مع شقيقتها، تمارس نفس الدور مع ابنتها عندما تتبدل المواقع والأدوار، وتغدو أما ؟ فهل يرتبط سلوك العنف بالموقع الاجتماعي للمرأة؟ وما يجعل المرأة تعيد إنتاج أدوارها القامعة مع بناتها؟ (ميا تتضايق من ضرب أمها لخولة على أتفه الأسباب. إذا كانت لا تحب الزينة فهذا شأنها، لكن لتترك خولة في حالها)(7). إن الشخصية المقموعة التي عانت من الإحباط والخيبة هي شخصية تحاول أن تسترد ثقتها بنفسها من خلال إعادة ممارسة نفس الدور القامع. وقد ساهم الشعور بالإحباط في تأزيم تلك الشخصية التي ظلت رغم سنوات زوجها الطويلة عاجزة عن أن تقول لزوجها كلمة حب على اعتبار أن زواجها لم يكن سوى انصياع وخضوع لرغبة الأهل، وعجز عن رفض هذا الاختيار الذي لم تستطع أن تتمرد عليه، ولذلك فإن هذا الإحباط نفسيا ينعكس على سلوك الشخصية سلبيا فتحاول لا شعوريا أن تنتقم لنفسها من خلال إحباط تلك العلاقة التي استطاعت لندن أن تستبسل لإنجاحها، لكن واقع التجربة وعلاقتها مع معشوقها تكشف عن شخصية أخرى نقيضة لما كانت تتمناه وتريده فتطلب الطلاق منه وهما في مرحلة كتب الكتاب.
لقد عزز هذا السلوك أن المجتمع والثقافة السائدة التي تحدد الأدوار الاجتماعية لكل من الرجل والمرأة، هي التي تدفع بالمرأة عندما تتحول إلى أم إلى ممارسة هذا السلوك العنيف، ولعب الدور القديم الذي كانت تلعبه أمها معها ومع شقيقاتها، طالما أن تلك الثقافة ومنظومة قيمها الاجتماعية ما زالت تعيد إنتاج ذاتها، وتمارس فعلها المؤثر في العلاقات والمفاهيم السائدة، على الرغم من التحولات التي يشهدها الواقع، والتي لم تستطع أن تمس جوهر تلك العلاقات والقيم المكرسة زمنا طويلا، إذ ظل تأثيرها في إطار قيم الاستهلاك والحداثة الخارجية.
تنزع أميمه الخميس في روايتها رائحة البحر إلى الكشف عن شكل آخر من اضطهاد المرأة وقهرها لذاتها، يفرضه الواقع الاجتماعي والأقدار التي تفرض على المرأة مصيرها دون أن يكون لها أي رأي فيها، وذلك عبر قمعها وزجرها لشخصية الطفلة سعاد التي تمثل الشخصية المقموعة داخل بطلة الرواية بهيجة، وكأن هذا سلوكها القامع لها موجه بصورة مباشرة إلى شخصيتها الأخرى التي تحاول أن تستقيظ، وأن تعبر عن نفسها ورغباتها المكبوتة، التي حرمت من التفتح والإشباع بسبب زواجها المبكر وتحملها لمسؤولياتها كأم، في عمر مبكر فرضه عليها أهلها( كانت بهيجة عندما تنهر( سعاد) فإنها تنهر تلك الخرقاء بداخلها التي ما برحت تود أن ترقص وتتهادى بأثواب قصيرة وعباءة خفيفة ومغرية، كتلك التي ترتديها سعاد دون أن تبالي بتذمر( سعد) وتوبيخ النساء) (8) . من جانب آخر يشكل سلوك بهيجة القمعي مع سعاد وسيلة تعويض كانت تمارسها كدافع لاشعوري لتحقيق توازنها الذاتي، بعد أن ظلت أم صالح سيدة البيت تمارس نفس السلوك القمعي معها، لأن الشخصية المقموعة تلجأ عادة إلى ممارسة هذا الدور مع من هو أضعف منها، لكي تسترد تلك الثقة الغائبة بنفسها من جديد، وهكذا يتناسل القمع الذي تمارسه المرأة بحق المرأة بوصفه نتيجة تفرضها طبيعة العلاقات الاجتماعية القائمة في الواقع.
الهوامش
[ جزء من دراسة مطولة..
1 – مورفولوجيا القصة- فلاديمي بروب- ترجمة د.عبد الكريم حسن ود.سميرة بن عمو- دار الشراع دمشق 1996- ص 38
2- جاهلية- ليلى الجهني- دار الآداب- بيروت 2007- ص 88
3- هند والعسكر- بدريه البشر- دار الآداب- بيروت- 2006- ص22.
4- هند والعسكر- بدرية البشر … مرجع سابق- ص 90
5- زاوية حادة- فاطمة المزوعي- دار العين القاهرة 2010- ص 56.
6- سيدات القمر- جوخة الحارثي- دار الآداب للنشر- بيروت 2010- ص 55.
7- سيدات القمر- جوخه الحارثي… مرجع سابق- ص 730.
8- البحريات – أميمة الخميس- منشورات دار المدى- دمشق 2006- ص 192.