التجريب فـي الكتابة وفـي القصيدة لعبتي المفضلة
هل يختزل الوطن في وثيقة سفر، أو في جنسية استحدثتها المدنية الحديثة، أم أن الوطن هو أكبر من كل هذه الشكليات في داخل الإنسان، وفي داخل الشاعر النابض بالحساسية المفرطة. إنها أسئلة جديرة بأن تجيب عنها الشاعرة الكويتية المتميزة سعدية مفرح، بعيد عودتها من أول سفر في حياتها إلى خارج النطاق الجغرافي/ الوطن، الذي يحمل اسم الكويت. وكان سفر سعدية الأول مناسبة استثنائية أو منعطفا مهما في حياتها، ومناسبة لحوار ينحو البحث وراء ماهية الكثير من الثيمات التي شكلت في مجملها كيانا شعريا متفردا في منطقة الخليج. وإذا كانت سعدية قد تلقت تحذيراً من والدتها منذ الصغر من مغبة الانسياق وراء غواية تراتيل النسوة، وغنائهن، إلا أنها وجدت متعتها ومنذ الطفولة أيضا في الاختلاء بالمتنبي ورفاقه من الشعراء القدماء، وكانوا ندماءها في مخدعها الليلي.
ورغم فعل التماهي معهم في الكثير من المرات، إلا أنها تصر الآن أن أيا منهم لم يكن ليوجه بوصلتها إلى أي ردهة من ردهات الإبداع تمضي.. لكنها في هذا وذاك تؤكد أنها مدينة للسيد الشعر بكثير مما هو حقيقي وجميل ونقي ومكتمل في حياتها. مدينة له بتعويضها عن كل ما يمكن أن يكون نقصا وعيبا. وقد يكون ساهم في خلق حالة من حالات التشظي لكنه التشظي الذي كان لابد منه لإعادة الخلق.
في هذا الحوار تقول سعدية الكثير لكنها حتما سكتت عن الكثير أيضا.
* في البدء دعينا نعود إلى جذور تنشئتك الشعرية، في أي سياقات جاءت، ولماذا أوصلتك لتكوني شاعرة؟
– نشأت في بيئة شعرية إلى حد ما، على وقع الحكايات الشعبية والقصائد النبطية التي كانت تحكي تاريخ العائلة ويوميات أفرادها، كنت أنام بين أحضان جدتي ، وكانت عمتي تملك صوتا شجيا تتحين فرص غياب الرجال عن البيت الكبير لتطلقه بألحانها المرتجلة وتغني به أغنياتها الحزينة، وكثيرا ما كانت تنافسها في تلك الألحان والقصائد المروية زوجة عمي الكبير بروحها المرحة.. وكنت أسمع وأتساءل بيني وبين نفسي عن أي سحر أسمعه من هؤلاء النسوة وتحذرني أمي، بأحزانها التي لا تنتهي، غالبا من الانسياق وراء غواياته المبكرة؟.. وعندما وصلت لسن المدرسة كنت قد تشبعت بهذه الروح الشعرية وصارت القصائد هي أفضل ما يمكن سماعه من المعلمات وما يمكن قراءته في الكتب المدرسية. وشيئا فشيئا تسلل إلى عالمي شعرائي العظام من كل العصور ومن مختلف المدارس الشعرية وبكل الوسائل.. حيث شاركوني مخدع الليل ودفء المكان، وأهدوا طفولتي الكثير من مباهجها القليلة. لم أحب قراءة قصص الاطفال أو سماعها بقدر حبي لقراءة الشعر حتى لو لم أفهم مفرداته الصعبة أحيانا. كنت أهيم بالمتنبي منذ أن كنت في العاشرة تقريبا ، وكنت أنوح مع حمامة أبي فراس الحمداني وأنا ساكنة بقربه، وأبكي كلما وصلت لنهاية حكاية طرفة بن العبد، وهكذا كانت لي مع كل شاعر حكاية سرية أنسج فصولها على مزاجي وأعيد سردها لنفسي بعد أن أضعني في المكان المناسب من الاحداث فيها. وعندما اكتشفت شعراء العصر الحديث اتسع قلبي وتمددت أطرافي حتى لأكاد أمسك بالسماء وأنا أقرأ لأي واحد منهم.
كانت تجربتي في الكتابة الشعرية تأتي في سياق تلك القراءات، وكثيرا ما كانت تمثلا لها. وشيئا فشيئا صرت أبحث عن صوتي الخاص من دون أن أقتل آبائي في الشعر. ولعل هذا ساعدني كثيرا في اكتشاف ذلك الصوت باكرا. خاصة وأنني أعتبر نفسي جريئة جدا في خوض غمار التجريب الشعري بلا أي تحسس من أي شيء. وما زال التجريب لعبتي الشعرية المفضلة. لا أخشى شيئا وأنا في لحظة القصيدة أو الكتابة كلها. أجرب كما أشاء، وأتعامل مع اللغة وكأنها لعبتي.. أنا من يخترع لها القوانين، ووفقا لهذه القوانين المخترعة من قبلي أمضي في طريقي الابداعي بمساعدة الأمل والتأمل.. .ولا أبالي.
كان الشعر خياري الأجمل والأسهل والأفضل، ولأنه خيار غير مكلف لا ماديا ولا معنويا فقد كان من السهل علي أن أمضي بذلك الخيار للأبعد بعد ان افترضت لنفسي أنني أملك الموهبة.
لاحقا تشككت كثيرا في تلك الفرضية، والغريب أن شكي يزداد كلما مضيت في العمر وفي الكتابة وفي الشعر. هل أنا حقا شاعرة؟ أم أنني أحببت أن أكون ذلك؛ فافترضت ذلك وحاولت إقناع الآخرين بتلك الفرضية؟ لا أدري ما أعرفه أنني ما زلت ممتنة للشعر عن أشياء كثيرة جدا في حياتي، وأولها أنه مهد لي الطريق للعب في دهاليز اللغة وغرفها السحرية والبحث عن أسرارها الكثيرة من دون خشية من أحد. فربما للشاعر وحده أن يفعل ذلك بقلق يشبه قلق الفلاسفة وبطمأنينة تشبه طمأنينة الأنبياء.
* من خلال كل ذلك أين يمكن أن تضعي الراحل أحمد الربعي، وآخرين ساهموا في توجيه بوصلتك باتجاه الشعر؟
– د.احمد الربعي آمن بي منذ أول مداخلة لي شاركت بها في احدى محاضراته في الجامعة، سألني بعدها عن اسمي وقال ضاحكا لابد أن تكوني شاعرة لتقولي ما قلت. وبعدها بدأت علاقتنا الطويلة والتي اتفقنا فيها كثيرا على الصعيد الشعري واختلفنا كثيرا في قضايا السياسة وخصوصا في السنوات الاخيرة.
نشر لي الربعي أول قصيدة لي تنشر في الصحافة اليومية الكويتية وبعدها اخذ بيدي وسهل لي العمل في الصحافة التي كنت أعشق العمل فيها.
لكن الربعي وغيره أيضا ممن ساعدوني في بداياتي لم يكونوا ليوجهوا بوصلتي الشعرية ، ولا اظن أن أحدا يستطيع القيام بذلك الدور الافتراضي تجاه أي شاعر حتى لو أراد هو أو أراد الشاعر. ميزة هذه البوصلة انها تتصنع لحظة بعد لحظة وقصيدة بعد قصيدة بمعرفة الشاعر وحده ولا ينصقل زجاجها الشفيف إلا نار حرائقه الداخلية وحسب. أما القصيدة الموجهة من قبل الآخرين فهي ليست قصيدة، حتى لو علقت على أستار الكعبة.
* الشعراء ربما من أكثر الناس شعورا بالتشظي، وبالألم، وبالغربة .. كل هذه الألم والحزن ماذا يمنح الشاعر ليشعر بكل هذا الفخر.. ماذا أعطاك الشعر؟
– هل يفعل الشعر كل هذا؟ أم ان الشاعر يشعر بكل هذا فيتجه للشعر بحثا عن خلاص؟ الشعر لم يفعل بي كل هذا، بل لعله أهداني النقيض تماما. بواسطته تعرفت على ذاتي وعلى الاخرين، وربما اكتشفت العالم. ومن خلاله استطعت أن أتقبل واقعي وأقبل بنواقصي واكتشف ثغرات الروح ومآخذ القلب. بالكلمات وحدها وهي تنتظم في سلك القصيدة استطعت أن أسير في طرق ملتوية ومليئة بالحفر والأشواك من دون أن أتعثر أو اقع. كنت أتوكأ شعري وأنا أنظر للسماء من دون خشية أن أقع في حفرة أو مستنقع مما يكثر في شوارع الحياة . نعم .. بكل ثقة ومعرفة وطمأنينة استطيع أن أقول ان الشعر حماني، وصنع لي خيمة دافئة جدا واسعة الأرجاء حتى لا أكاد أراها وبلا سقف على الإطلاق. وعلي انا قول ان ذلك تمليس بالشعر الذي أكتب هو حسب بل الذي اقرأه ايضا، فقد كانت رؤيتي تتسع وتتسع مع كل نص جديد أقرأه. وربما لا أبالغ اذا قلت أن الشعر أهداني فرحي الاكبر وشذب من آلامي الوحشية وفتح أبواب غربتي لآفاق الكون كله.
نعم .. أنا مدينة للسيد الشعر بكثير مما هو حقيقي وجميل ونقي ومكتمل في حياتي. مدينة له بتعويضي عن كل ما يمكن أن يكون نقصي وعيوبي. وقد يكون ساهم في التشظي لكنه التشظي الذي كان لا بد منه لإعادة الخلق.
* يبدو أن ثمة الكثير من الالتباس في سياق الحديث عن الجغرافيا والوطن في حياتك الشخصية .. والقارئ لشعرك يدرك أنك حاولت جاهدة أن توجدي لك جغرافيا جديدة .. هل تعتقدين أنك نجحت في ذلك وفي خلق وطن كما تحلمين؟
– أنا لا افتقد الوطن لكي تسأل ان كنت قد نجحت في خلقه أم لا. وطني موجود دائما مثل أي وطن. الأوطان أكبر منا جميعا. ووجود وطني احد مكونات وجودي. . فلولاه لما كنت موجودة. صحيح انني أعاني من وضع معين وهو أنني بدون جنسية لكن الجنسية ليست هي الوطن. هي مجرد وثيقة رسمية تشهد بأن هذا الشخص ينتمي للبلد الفلاني. وهذا لا علاقة له على الاطلاق بمعنى الوطن ولا بتعريفه.
نعم.. لقد أدى وضعي هذا إلى الكثير من المشكلات التي عانيت منها وما زلت مثلي مثل كثيرين في الكويت ينتمون لنفس الفئة، لكن هذه المعاناة لا تنجح أبدا في سلخي عن وطني ولم تفقدني إيماني بوطني أبدا.
أما الجغرافيا الجديدة التي قد تكون لاحظت شغفي بالتعامل معها من خلال قصائدي، فقد لاحظها قبل أن ألاحظها أنا بعض من كتب عن شعري ولفتوا نظري إليها ، حيث أشاروا إلى تعلقي بمفردات المكان وبالحديث عن الجغرافيات بشكل عام، وربما يكون ذلك بسبب معاناتي من فقر المكان في تجربتي الحياتية وبالتالي الشعرية فعلا.
والغريب صرت من حيث لا أقصد ولا أتعمد أبتعد عنها في الآونة الأخيرة، أي بعد أن قرأت ما كتبه هؤلاء النقاد عن تلك الظاهرة في شعري. وهذا وضع يتكرر دائما في تجربتي، فكلما لفت نظري أحد إلى ظاهرة معينة أو حتى مفردة محددة في قصائدي أجدني ابتعد عنها لاحقا وبشكل لا شعوري.
* في كتاب الآثام نجدك تتحدثين عن ثلاثة آثام قد تشكل في مجملها اتجاها واحدا «إثم البلاد، وإثم الكلام، وإثم البوصلة .. ألم يصفو هذا الإثم ويطهر؟
– نعم الكثير من هذه الآلام صفت وتقطرت وبدت أكثر نقاء وبالتالي أكثر وجعا. الكثير من الشوائب التي كانت تحيط بتلك الآثام وتختلط مع عنصرها النقي اختفت بمرور الأيام، لكن القليل منها مازال يقاوم، وما زال يتشبث في الذاكرة، بالإضافة إلى النادر منها مما تحول إلى لذائذ مبهجة بقدرة قادر.
ودعني اقول لك ان الآثام ليست سيئة إلى الحد الذي توحي به.. لذلك فغالبا نحن نحب آثامنا، أو على الاقل احببناها في مرحلة ما من مراحل حياتنا وتعايشنا معها ، وإلا لما اقدمنا عليها بكل حماسة غالبا. آثامنا هي جزء من تجاربنا أي أنها مكون من مكوناتنا الانسانية والمعرفية أيضا، وحكمنا عليها بأنها آثام غالبا ما يعتمد على نظرة الآخرين وتقييمهم لها. وحتى عندما نتحرر من تلك الآثام أو نتطهر منها بأي وسيلة فإننا لا نلغيها ولا نعدمها، نحن هنا فقط نعيد تسميتها.. فبدلا من أن تكون تجاربنا الفاشلة مثلا تصبح آثامنا الملعونة أو العكس.
* قبل أيام حدث منعطف كبير في حياتك، عندما خرجت من الكويت لأول مرة خارج النطاق الجغرافي الذي ولدت فيه . . ماذا تمثل لك هذه الرحلة سواء في سياقها الديني أو في سياقها الجغرافي؟
– نعم.. خرجت لأول مرة في حياتي خارج حدود بلدي لأداء فريضة الحج هذا العام.. قضيت عشرة أيام هي كل أيامي التي يمكن ان أسميها سَفَراً. عندما جلست على مقعد الطائرة لأول مرة في حياتي تملكني شعور ملتبس لا أستطيع الآن وصفه خاصة وانني منذ اللحظة الاولى حاولت تجاهل ذلك الشعور بالانشغال في كل شيء حولي. كنت انظر لجناح الطائرة عبر النافذة الصغيرة وأراه وهو يتحرك استعدادا للإقلاع فقط لأتأكد انني سأقلع أخيرا. شعرت ان هذا الجناح جناحي.. ولم أتردد عن تصويره عبر كاميرا هاتفي.. انعكست صورة وجهي على زجاج النافذة الصغيرة فاندغمت الصورة بالجناح.. لم أشعر برهبة الطيران الأولى ولم أشعر أنني أفارق وطني. اسافر..
فقط كنت أشعر انني أطير.. أحلق .. أرفرف وأعلو نحو السماء. ومع ان طيراننا كان ليلا فقد ألصقت عيني بزجاج النافذة طوال الساعتين اللتين هما عمر رحلة الطيران من مطار الكويت إلى مطار جدة. كنت أريد أن أرى الكويت كلها من فوق.. ولعلي كنت أبحث عن مكاني فيها. الحيز الذي كان يحتويني في جغرافيا الكويت. هل تركت فراغا؟ هل ستفتقدني الكويت كما سأفتقدها؟ هل …؟، هل ..؟ وأسئلة أخرى كثيرة كانت تتقافز في رأسي على الرغم من محاولتي تجاهلها. اشتغلت مكينة الاسئلة. .. ولم تخمد حتى عندما وصلت مطار جدة.
الواقع ان رحلتي هذه لم تكن أول فراق لوطني، فأثناء الاحتلال العراقي للكويت في العام 1990 تركت الكويت أيضا لأيام قليلة متجهة إلى العراق بهدف زيارة أخي الذي كان أسيرا في احد معتقلات صدام حسين في الموصل.. لكنني يومها لم أشعر بلحظة سفر .. فلم استخدم جوازا للسفر ولم اقف عند حدود .. كانت حدود وطني مستباحة وكانت رحلتي بحثاً عن مفقود.. وبالتالي كان ألمي على احتلال وطني كبيرا جدا وموجعا جدا وقاسيا جدا للدرجة التي لم أكن أفكر يومها إلا فيه. وكان سفري كله نحوه وفيه ومن أجله.
أما رحلتي الأخيرة فقد كانت كلها سفرا، وكانت حجّاً، أي ان معنى السفر فيها مضاعف، وبالإضافة إلى أسئلة السفر كانت لي أسئلتي الدينية التي ذهبت إلى مكة بحث الإجابات عنها لكنني عدت بأسئلة أكثر منها. وهي أسئلة تضاعفت وتناسلت من بعضها البعض تحديدا أثناء توجهي للمدينة المنورة وزيارة المسجد النبوي والصلاة بالقرب من قبره صلى الله عليه وسلم. ما زلت مأخوذة بالوقت الذي قضيته هناك، ولا أظن أن دهشتي من مشاعري ستتلاشى قريبا، لكنني أتمنى أن أنجح في الكتابة بشكل أوسع تعبيرا عن تلك المشاعر ومحاولة للإجابة على تلك الاسئلة المتناسلة من بعضها البعض.
* بين أول نص لك وهو «التاء المربوطة» وبين آخر كتاب صدر لك وهو كتاب «سين»، هناك الكثير من الانعطافات والكثير من المشاريع.. ماذا «تحقق منك يا امرأة المشاريع المؤجلة»؟
– حققت القليل جدا وبقي الكثير من المشاريع المؤجلة. في السنوات الاولى لتكون الحلم كنت اقول ما زال الوقت امامي طويلا جدا لتحقيق كل ما هو مؤجل . كنت أراهن على الوقت وحده، لكنني أكتشف الآن ان الوقت عندما يتقدم تتساقط على الطريق بعض المؤن المساعدة، فالظروف لا تعود هي الظروف، والناس يختلفون، ونحن أيضا نختلف عما كنا عليه.
ومشاريعي المؤجلة تفقد ماهيتها احيانا لا بسبب مدى قدرتي على تحقيقها وحسب بل ايضا لأن الكثير منها لم يعد له جدوى. فعندما يرتبط مشروع ما بشخص ما، ماذا نفعل ان غاب هذا الشخص غيابا نهائيا من حياتك على سبيل المثال؟
على ان القليل الذي أنجزته من تلك المشاريع التي حلمت بها ذات يوم ليس سيئا، ويكفي انه أمدني بطاقة على التحمل والاستمرار ، وردود أفعال الآخرين تجاهه رفعت معنوياتي وأوصلتني إلى مناطق و بشر لم اكن لأصل إليها وإليهم من دون تلك الإنجازات على قلتها وربما تواضعها. .
ثم أن الأحلام لم تمت على الرغم من انها تواضعت.. أحلامي مازالت مستمرة، وما زلت قادرة على انتاج المزيد منها لكي أبقى على قيد الشعر وقيد الحياة. وهذه إحدى أجمل وظائف الأحلام.
* في ديوانك «تواضعت أحلامي كثيرا» وفي النص الذي يحمل نفس العنوان بالتحديد ثمة رؤية عكسية لتواضع الأحلام، فما ترينه حلما متواضعا، يراه الآخرون من باب المعجزات في زماننا.. كيف تقرئين ذلك؟
– حتى أنا أرى أحلامي، على الاقل في ذلك الكتاب، تدور في ذلك الفلك. احلامي تبدو احيانا مستحيلة جدا وتبدو احيانا بسيطة جدا ولكنها دائما تبقى في محيط الأحلام اليقينية. والحلم هو زاوية من زوايا الحقيقة الغائبة وصيرورتها المستقبلية. أنا أحلم إذًا أنا موجودة ، وبالحلم كنت دائما قادرة على التجاوز وعلى الإنجاز. ذلك أن الحلم يمنحنا طاقة لا نهائية على العمل وعلى ممارسة الأمل ايضا. فماذا نريد أكثر من هذا؟.
* قلت مرة «أشعر بأن الشعر نفسه، في الكثير من الأحيان، لم يعد يحقق لي تلك الدهشة القديمة وذلك الفرح الصغير» .. يا إلهي لماذا حدث ذلك؟
قلت ذلك مرة فعلا لكن يبدو انها كانت لحظة خارجة عن سياقي، فسرعان ما تراجعت عما قلت واعتذرت للسيد الشعر، فهو يبقى هو فرحي الكبير وإنجازي الجميل في هذه الحياة.
* أصدرت مؤخرا كتابا بعنوان شهوة السرد، رغم ارتباط اسمك بالشعر إلا أن السرد جاء وكأنه الشهوة التي لا فرار منها ولا خروج عن سطوتها. إلى هذا الحد يفعل بك السرد؟
– السرد فعلا شهوة لابد منها حتى في إطار الشعر، ومع هذا أنا مؤمنة بالنص الإبداعي الحر بغض النظر عن الإطار الذي يضعه الاخرون فيه. النص المبدع ضد كل إطار وخارج كل تعريف ومناقض لكل تصنيف.
أما كتابي «شهوة السرد» فهو عبارة عن قراءاتي النقدية والانطباعية للقصص القصيرة والروايات والسير الذاتية التي اطلعت عليها وجذبتني نحو الكتابة عنها. بالإضافة إلى فصل توثيقي. والغريب ان هذا الكتاب وجد رواجا لدى القراء يفوق رواج كثير من كتبي الأخرى، ربما لأنه مهتم بعوالم صارت هي العوالم المفضلة قرائيا لدى القراء العرب.
* حدثيني عن تجربتك، ما قبل الخلق الفني، خلال الخلق الفني، ما بعد الخلق الفني؟
– أنا أسوأ من يتحدث عن ذلك.. صدقني. أصلا انا لا أعرف متى تبدأ مرحلة الخلق الفني ومتى تنتهي. ما أعرفه انني أنتهي من كتابة القصيدة عندما أقرر التوقف بعد أن أكتشف أنني استنزفت كل ما يمكن تقديمه للقصيدة في لحظة الكتابة. ربما أنجح في الكتابة والتنظير حول مسألة الخلق الفني بشكل عام أو من خلال قراءاتي للآخرين لكن ليس من خلال ما أكتبه أنا تحديدا. هذا صعب جدا، وربما يتناقض مع الخلق الفني نفسه.
* قرأت لك في غير نص مسحة صوفية .. هل تبحثين عن مساحات صوفية في نصوصك، وهل هي انعكاس لقراءات أو ممارسة حياتية؟
– أجمل قراءاتي هي قراءاتي للنص الصوفي شعرا ونثرا، ودائما كانت تبهرني تلك النصوص وتفتح بوابة الفضول لدي. من خلال النص الصوفي كنت أحاول أن أجد الكثير من الأفكار الدينية وكذلك الإبداعية. والنص الصوفي العربي ثري جدا بجماليات عالية، وهو نص يغري أي شاعر لكي يغوص فيه قدر ما يستطيع.
وربما كانت لي بعض الممارسات الحياتية ذات النسق الصوفي لكن ذلك لا يتم وفق ترتيب معين، ولا تعمد. هو إعجاب بالنص الصوفي وتداعياته الإيمانية، وكثيرا ما وجدت نفسي متلبسة بلحظة موغلة في صوفيتها وأنا أصلي أو أكتب أو رسم.
ومع انني قرأت الكثير من النصوص الصوفية إلا انني أحلم أن يتسع وقتي لأبدأ قراءة الفكر الصوفي قراءة منهجية متكاملة فمازلت أتوق لاكتشاف أسرار ذلك العالم، ومحاولة تفسير الكثير من الرؤى المتشابكة فيه.
* لا تهتمين كثيرا في نصك الشعري بتوظيف الأسطورة كما هو حال الكثير من شعراء قصيدة النثر .. ولا تبدو قصيدتك مثقلة برموز غامضة .. هل يحدث ذلك عن وعي أم أن تداعيات الخلق تولده هكذا؟
نعم.. لا اهتم بأي شيء ولا لأي شيء وأنا في خضم الكتابة الشعرية. لا أهتم سوى بأن اكتب واستمر في الكتابة.. ولست أبحث في تلك اللحظة عن أي شيء آخر لا عن أسطورة ولا عن حقيقة ولا عن رمز ولا عن واقع. بل استغرب ممن يقولون عكس ذلك وأنهم وضعوا هذا الرمز تعبيرا عن هذه الفكرة، واستحضروا تلك الاسطورة توضيحا لذلك الهدف. كيف يفعلون ذلك؟ كيف يعون تلك اللحظة ؟ لا أدري..
انا فعلا لا اعرف كيف . تبدأ القصيدة وتنتهي وأنا لا أدري كيف بدأت ولا كيف انتهت ولا كيف كتبتها . . حتى لو كانت هناك رموز أو اساطير أو حكايات من هذه القبيل، فهي تأتي غالبا من دون تحضير مسبق ومن غير ان أعرف تماما الهدف منها وأنا أكتبها.
وربما في المرة الوحيدة التي تعمدت أن أستحضر حكايات من حكايات العرب وأضمنها في إحدى قصائدي كنت أعيش تلك الحكاية فعلا، فقد كنت أقرأها في كتاب قديم ووجدت انها ليست حكاية بل بقدر ما هي ظل للقصيدة التي كنت في خضم التفكير بها فوضعتها في قلب النص الذي كتبتها كاملة من غير أن أتصرف بها، حيث بقيت القصيدة قبلها وبعدها تحمل روحي البسيطة في الكتابة والتدفق الشعري بلا تخطيط مسبق.
* أنت من رائدات الشعر النسوي في الخليج.. في البدء هل تؤمنين بهذا التقسيم، وكيف ترين الحضور النسائي الشعري في المنقطة؟
– لا.. لا أؤمن بهذا التقسيم ولا بهذا التصنيف ولا بهذه التسمية ولا حتى بفكرة الريادة نفسها. لا ريادة إلا للنص المبدع بغض النظر عن الترتيب الزمني لمنتجه. ثم ان قصيدتي لم تنطلق من منطلقات نسوية صرفة بل منذ البداية كنت أكتب في فضاء انساني واسع غير خاضع للتصنيف الجنسوي، كما لاحظ كثيرون ممن اهتموا بالكتابة عن تجربتي.
وحتى لو آمنت، لغرض الإجابة على السؤال، بهذه الفكرة الآن فقط، فأنا لا أرى نفسي جديرة بأن أكون من الرائدات فقد سبقني الكثيرات ممن مهدن الطريق للمرأة في الخليج إلى النشر والانتشار منذ الخمسينيات والستينيات في القرن الماضي في حين أن كتابي الأول على سبيل المثال لم ينشر إلا في العام 1990 ، متكئا على تجارب قيمة وثرية كثيرة لأسماء شقت الدرب وساهمت في تمهيده لنا.
أما الحضور النسائي في الخليج على صعيد الأسماء النسائية فأنا أرى أنه حضور كثيف ومندغم بالمشهد الإبداعي ككل. ولكن على الرغم من أن الاسماء النسائية المبدعة روائيا في الكويت على الاقل وعلى سبيل المثال هي الاكثر عددا والأقوى عدة الا انها في الشعر تبدو أقل وهجا وحضورا.