ماذا تفعل أمام حانةِ المبْصِرين أيُّها
الأعمى؟
أين ضيَّعْتَ شِياهَ غِبْطتكَ
يا نايَ الـمُـروج الحزينة؟
أين دفَنْتَ كلبكَ أيها الراعي؟
وفي أيٍّ من جُيوبِ معطفِك
الواسعِ
خبَّأْتَ الذئابْ؟
هل رأيتَ الوحْشَ يشُقُّ الهُنيهَةَ
نِصفيْنِ
بِنَابْ؟
هل رأيتَهُ
هناكَ
على الهَضْبَةِ الأندلسيَّة؟
هل كان ذئبًا؟
أم أنَّ العُواءَ منكَ وفيك
محبوسًا كان
في صدرك
مُنْدسًّا في فرْوَةِ صمتكَ
فحرَّرَتْهُ
القصيدة؟
لم يكن ذئبًا ولا نسرًا
كان جامِحًا من حديدٍ
وأمْشاجٍ معدنيَّةٍ
القطارُ الأندلسيُّ يسابقُ الرِّيح
كفرسٍ
تتدحْرجُ من حوافرهِ الأقمارُ
والشُّهُب تتطايرُ
والأشجارُ تُخْلي لمروقِه
السَّبيلْ
تكتُمُ أعشاشَها
وحفيفَ أغصانِها
لكيلا يحرَنَ الفرسُ المعدنيُّ
فيجْفُوهُ الصهيلْ
هنا الجنَّاتُ تجري من تحتها
سواقي الشَّجَى
هنا الرُّمان القديم
زيتونُ الأغنية
هنا الرُّبى
خضراءُ في القصيدة
المروجُ
تتغنَّجُ
على سرير الرِّضا
هنا الفردوس مُضرَّجًا بالهديلْ
كأنَّ الفخَّار القديم تشقَّقَ
في ظمئِكَ
وعلى رملِ شفتيكَ
تَفتَّتْ
«لم يكن وصلكِ إلا حُلُمًا
في الكرى
أو خِلْسةَ المخْتَلِسِ»(1)
قطارُ إشبيلية
فرسُ الأندلس المعدنيُّ
السِّكةُ كتومٌ
والطريق خؤونٌ
لم تُسعِفْكَ بتلويحةٍ
كأننا لا نعرف بعضنا
كأنَّ الهواءَ بدَّدَ هواءَهُ في الخلاء
سأمسَحُ على وجهك أيها المدى
المتسلِّلُ
بين الشَّجر الخافتِ
والأنينِ
بزهرةِ مارغريت
سأبتسمُ في وجهِكِ
أيتها السماءُ الفارغة من الرُّؤى
الجبالُ الرَّواسِيُ انهدَّتْ، تركت مواقعها
للمُروج ودُكَّتْ
لكأنها الأرضُ وقد لانَتْ عريكتُها
فشَفَّت وتعرَّتْ
كأنها السماءُ وقد مَشَّطتِ المكان
مطرٌ قديمٌ يُحرِجُ الزَّياتين
مطرٌ وشيكٌ
يُطِلُّ
من عُنقٍ لَزجٍ في سَريرةِ الماء
الجبالُ الرواسي مزاعِمُ اخْتلقَها الرُّواةُ
فالأرضُ استوَتْ
أو لربَّما هكذا كانت
مُنْذُ كانت
ولا جديدَ لدى المغَنِّي
أيها النايُ القديم
أيها الصَّقر
لماذا توارَيْتَ خلفَ الأكمَة؟
كأنَّ قطارَ مدريد صار جناحًا
كأنَّ هذا القطار الذي
يتمادَى الآن
في الكأسِ وبلَّوْرِها المكسور
في الأندلسِ الصَّهباءِ
وسَواقِيها
لم يقرأ ابنَ خَفَاجة(2)
ولا ابنَ زَمْرَك(3)
– هل جِئْتَ من زمنٍ لم يعُد؟
– ……
– ربما من مكانٍ قَصِيّْ؟
– علَّني قادمٌ من زمانٍ عَصِيّْ
في المقصورةِ
الموسيقى كَتيمَةٌ
الصَّبايا
يُثَرْثِرن على هواتفَ محمولةٍ
شبابٌ بربطاتِ عنق
يتوغَّلون بحواسَّ مشتعلةٍ
في شاشاتٍ زرقاء
امرأةٌ تغفُو
في دَعَةٍ
وأنا أمتطي فرسِيَ المعدني
شاهرًا وَجْدي
كأني وحْدِي المؤْتَمَنُ هنا
على فِضَّةِ الخيال
كنتُ فرسًا يُحلِّقُ بجناحَيْ فرسٍ
أُثيرُ النقعَ
لا موعدَ لي
وسْطَ
هذي الرُّبى
لسْتُ غريبًا
كأني من هنا مرَرْتُ
حُلُماً أو خِلْسةً
أسْلافي يندَسُّونَ
بين حَشائِشِ روحي
ومَحْفُوظاتي
من الشِّعر الأندلُسيِّ
موْتايَ بُعِثوا بغثةً
قتلايَ وجرحايَ عادوا
إلى جسدي
يُطلُّون معي من نفس الشُّرفة
ويلوِّحُون
لأشباحٍ لا يدرِكُها المبصِرُ
لأطيافٍ شاحبة
ويُصفِّقُون بأيدٍ من نحاسٍ
لصَدى الموَشَّح:
لم يكن وصلُكَ إلا حُلُمًا
في الكرى..
لكنَّ النومَ غادَرَني
أنا الطائرُ من مراكش
إلى مدريد جَوًّا
قطارُ إشبيلية يُحلّق بي الآن
وأنا أنْسَرِبُ
من بين أصابع الوقت
وأتساقطُ قطرةً
هنا
فوقَ الرّابية
قطرةً هناك
على قيلولَةِ زيتونةٍ تغفُو
قطرتينِ على القصْرِ القديمِ
المنعزل
بين الرُّبى
ثلاثًا
على كنيسة القريةِ المعلَّقةِ بين الصخور
فَوابِلًا
على سريرِ الوادي الذي
استحلَّتِ الصَّاعِقةُ
ذاتَ كمينٍ
ماءَهُ
القليلْ
وابِلًا
على جُثَّة الوادي القتيلْ
إنّي أَجِفُّ الهُوينى
لتيْنَعَ في قلبي
القصيدةُ
وتخْضرَّ الأندلُس
جادَكَ الغيثُ
إذا الغيثُ هَمَى
يا زمانَ الوصْلِ
في
ليلِ الأغاني
الطبُول تُقرَعُ الآن
وأنا أتهاطَلُ
كمَطرٍ مجنون
هل وصلْنا؟
هل اسْتَسْلمَ الفُرسانْ؟
أم…
هي مَكيدَةُ قُرصانْ؟
همسَ الجارُ الجُنُبُ:
إنها قرطبةُ الآنْ
ساعةٌ أخرى من الركْضِ
أيها الفرسُ
الهاربُ
من ثيرانِ مدريد
ساعةٌ أخرى ونترجَّلُ
خِفافًا
بباب القصر
مساء الخير إشبيلية
مساء الخرير أيها الوادي الكبير(4)
أهلا Sevilla
مرحى مرحى
– نحنُ على مشارف المدينة واسمي
ساندرا خيمينيث. هل ترسُمُ، لُطفًا، اسمي
بحرْفِك العربي؟
– ………………
– على هذا القُماشِ إذن
– ………………..
– غراسياس(5).. غراسياس
ها هو اسمُكِ على القُماش مخفُورًا
بفَرَاشِ الجنوب
فهل سمعْتِ الطبولَ تُقرَعُ
أيَتُها الأندلسية؟
هل رأيتِ الخيلَ
تثيرُ النَّقع؟
هل سمعتِ قصة بربريِّ مراكش
الملثَّم؟
هل تذْكُرينَ رقصتَهُ
في الوَهْدِ
بين القصر والوادي
في المنْحَنى
الممْتدِّ
ما بين نومِ الأميرة
وأرقِ الرُّعاة؟
كنا نغطِسُ سُهوبَ أرواحنا
التي جفَّت
في بِرْكة الغُبار
والسِّدْرِ
في غَلَسِ الكهوف
كنا ننْزِعُ عنا أشجارَ الحُور
ونسْتحِثُّ الهَجيرَ المخبَّأَ
في صَهيلِ الخيل
في وثْبَةِ الماعزِ الجبليِّ
في عزيمةِ الصخر
نستعيدُ جَفافَ أرواحنا
ونحنُ نتقمَّصُ بَسالة الفاتحين
وبَأسَ الغُزاة
إشبيليةُ فجرًا. قطارُ العودةِ
امرأةٌ سكرى تترنَّحُ
فلامينغو مسفوحٌ
فوق ثُمالةِ الدَّرَجِ
قَدَحُ
نُعاسٍ مُخمَّرٍ
في هواءِ المقصورة
مسافرونَ لم يُغادِرْهُمُ الليل
في خيالي كنتُ أغسِلُ منامةَ النُّعاسِ
بماءِ الفوانيس
وأدع النَّوم يتمرَّغُ
في كأسِي
لتطفَحَ السَّكْرَةُ
وتعودَ الفِكرةُ حَرَّى
في خيالي كنتُ أَمْسُدُ
شَعْرَ غرناطة
شَعْرَها الأسْوَدَ الطويل
غرناطةُ السرُّ
لن أبُوحَ، لن أبُوح
غرناطةُ الوجهُ الحريرُ
لدِينارِ الذَّهب
غرناطة؟
من يحرِّكُ السكاكينَ في قلبِكَ
الآن
أيها الأندلسِيُّ بالفِطْرة؟
سلامٌ لإشبيلية
تلويحةٌ لقرطبة
أما أنتِ يا غرناطة
فاكتُمي أنفاسَ السِّرِّ
فلن أبوحَ
أبدًا
أيتُها الغجريةُ
لن أبوحْ.
ملحوظة: هذا النص مقتطف من قصيدة طويلة ستصدر قريبا في كتاب شعري تحت عنوان (دفتر العابر)
الهوامش
1 – الإحالة هنا كما في مواقع لاحقة على موشح شهير للشاعر الأندلسي لسان الدين بن الخطيب: جادك الغيثُ إذا الغيثُ همى/ يا زمان الوصل بالأندلسِ/ لم يكن وصلُك إلا حلما/ في الكرى أو خلسة المختلِسِ
2- من أهم شعراء الأندلس (1058ـ1138م) عاش في أيام ملوك الطوائف إبان دولة المرابطين. تفرّد بالوصف ولُقِّب بصنوبري الأندلس
3- ولد في ربض البيازين بغرناطة (1333ـ1392م). أشعاره تزيِّن حتى اليوم جدران قصر الحمراء
4- Guadalquivir وادي يخترق إشبيلية وقرطبة. ما زال يحتفظ باسمه العربي
5- Gracias «شكرًا» بالاسبانية.