انقراض جميل
كانوا هناك حول النار متحلقين
يرمونها برقصاتهم الغريبة كأنها الوقود
بإزاراتهم المتموجة مع النسمات البعيدة
وفانلاتهم الداخلية البيضاء حتى الآن
مثل أي قطن في شجرة
اصطفوا جنباً إلى جنب
كعادتهم منذ ألف سنة
يداً فوق كتف وساقاً إلى ساق
بأقدام تدوس الحصى والأبناء
يقذفون من عيونهم نظرات باهتة البريق
تتلقفها الظلمات المحيطة كليل
وراء بيوت البلاد المحتجزة بين جبلين
كرهينة كانوا هناك
ومن اللهب المذرور للأعالي أنات تتصاعد
من جذوع السمر وأغصان النخيل المسروقة
من الشمس
من العراء المتروك لوهجها القاسي
ومعها يتطاير غير قليل من سواد الفحم
ذاك الذي كان أخضر حياً قبل اليأس
قبل السقوط بضربة حاطب
بأصياف وأصياف
وقفوا والجدود معهم حاضرون
في الأذهان النشوى رغم الموت
يتمتمون آخر الرزحات والرزفات المعمرة
والتعاويذ التي تحفظ الأرواح من الحسد والجان
على قرع الطبول المكسوة بالجلود المعذبة
تترنح عليها الأيادي الوعرة كالشعاب النازلة
كالطرق تمتد في الوديان الصماء
بين قرى منسية
هناك التفت النار حول أجسادهم السمراء المتعرقة
تلك التماثيل الرخامية المقدودة من الصبر والشقاء
وراحت تراقب انعكاسها على وجوههم الناحلة
على لحاهم الخشنة كإبر الشوك الصفراء
في المآقي النازفة بالحنين الساذج إلى الماضي
في القطرات المتصببة من الجباه كالزيت
كالذكريات
كالوهم يقطر من خرافة وفجأة
أخذت شمسها تزداد وهجاً وسمواً
كان فيها من الغضب أكثر من الحكمة
على ما يخبئه الراقصون للأيام التي ستأتي
للأجيال التي لن تجيد الرقص إلا بالعصا
و كانت تحيك من حقدها لحداً ومهداً
أمام أنظار الراقصين كأبرياء
كأفاعي الحاوي ينفخ في مزماره
تتمايل بعيداً عن حب الظهور
قريباً من إعجاب البسطاء المتجمهرين
كراقصين حول نار
يرمونها بهمهماتهم كأنها الإله
كأن همهماتهم دعاء، كأن طقسهم صلاة
و استمرت النار تزيد في سعارها
في سخطها المشبوب عدلاً وثأرا
وكنت هناك فسيلة طالعة تحاول الحياة
«شاعر من الوطن»
ماذا يفعل شاعر في آخر الليل
مع ورقة أمام بحر؟
حيث الليل والورقة والبحر
عصافير أنيقة خلف أغصان الوطن
حيث الأهل والأحباب والآخرون
ليسوا أكثر من معالم على طريق مهمل
أو انعطافات أفعوانية لا مفر من اجتيازها
ليسوا أكثر من مخلوقات غريبة
جاهزة للنيل من الأحلام
بقرون استشعار تكشف النوايا في الشرود
أيها الحياد أياً كنت
لا تكن جباناً وظالماً
و أينما كنت
في الداخل أو في العراء
شبحاً يتراءى أو واقعاً منصوباً كمشنقة
أنصف الحروف المصفوفة لأجل قصيدة مهربة
«كاعترافات» الماغوط المخيطة بقميصه الأحمر
كالجنود المسروقين من وسائدهم الحنونة
للمثول أمام العلم والعبث والشمس
أنصف الفراشات والأزهار ورائحة قريتي البعيدة
فهناك النخيل يموت واقفاً
وأفلاج الطين المزدانة بالطحالب
لا ترتدع عن البخل
والزحف الأبدي باتجاه الجفاف
والغائط لا يحتاج لأكثر من
دقيقة ليشتوي بالهاجرة
معتذراَ للطبيعة المغناج والأعشاب المدللة
ولو أنك شاهدت أبنائها الملتحين بالغبار
العائدين رفقة الغروب من بساتينهم المضحكة
ورأيت كيف تفيض أقدامهم من
زنانيبهم البلاستيكية
وكيف يؤمنون بالله والقدر والأمطار
ويؤدون الزكاة رغم الجوع والظلام
والمسافات النائية عن الخيال
لعرفت ماذا يعني النوم المبكر
والاستيقاظ على سياط النور
وأكل رغيف من «الرخال» المتكور للتو
أنصفني لأشكرك
وأقتفي آثار السعداء في سلامهم القاحل
فأنا لست ذلك العاق الذي هولوا لك جريمته
لست أكثر من مسافر تورط في ما لا يعني القاطنين
وظل معلقاً بعدها وإلى الأبد
كقرار غير متخذ
كقطرة تتدلى من صنبور قساه الشتاء
خذ الورقة والليل والبحر أيها القاسي
خذ ما تريد واتركني عارياً من الأعماق
لكن أنصفني بكلمة أو حرف
قل لي أنني بريء
وسأترك الرمل للشاطئ
ليبصق فيه كما يشاء
سأترك القبة العالية تتلهى بالنجوم بعيداً عن عيوني
سأترك القوارب المطفأة تنجز القتل بهدوء
على صفحة ناعمة ملساء
وسأعود أدراجي إلى أكثر الزوايا عتمة وانزواء
لأشرب نخب الإيمان بك
مهما كان الثمن الذي ستدفعه أحشائي
فأنا أحبك أكثر من نفسي في الحقيقة
لولا الحياء من الحقيقة وأمور أخرى معقدة
بل إنني مستعد لبيع نفسي في السوق
لأجل أن أخطب قربك أيها البعيد
ولكن من سيشتري آلام شاعر؟
شاعر في آخر الليل مع ورقة أمام بحر
خلف أغصان الوطن
المشرع لكل اغتراب.