ولد إيريك هولدير سنة 1960، في مدينة ليل بشمال فرنسا، بدأ الكتابة في وقت مبكر وفي سن السادسة عشر رُفِض له أول مخطوط أدبي. في سنة 1980 حل بالعاصمة، باريس، حيث مارس عدة مهن، قبل أن يكرس حياته، بعد أربع سنوات، للكتابة بشكل نهائي، مفتتحا بمجموعته القصصية : «قصص من الشمال ومن أمكنة أخرى»، وفي سنة 1986 نشر أول رواية له بعنوان: «مانفريد أو التردد».
يعتبر إيريك هولدير من أهم كتاب القصة القصيرة في فرنسا، وهو جنس أدبي عرف تراجعا خلال العقود الماضية، مع انتشار الرواية الكاسح، لكنه بدأ يستعيد نشاطه، اليوم.
وقد ترجمنا هذه القصة القصيرة للقارئ العربي ليطلع على نماذج من القصة الفرنسية، خصوصا وأن النص يمثل الحقبة الحديثة من نصوص هولدير، حيث تحضر باريس، بقوة.
كان يوما من أيام شهر نيسان، حين تزهر في منطقة باريس أزهار الليلك وأزهار أذن الفأر، حيت ترغم الشمس على نزع المعاطف، وحين يبدأ صبغ بوّابات المنازل من جديد. كان عليّ أن أبتسم للسماء الصافية من كل غيمة. لم أنجح سوى في التساؤل بخصوص موضوع مديري المجلة.
الشخصُ الذي رأيتُهُ، قبل ساعة، يَدينُ لي بأربعة آلاف فرنك فرنسي. نوع من صداقة أتاحت لي أن أذهب عنده لتحريك الموضوع، أي في هذه الضاحية التي أتَوَاجَدُ فيها، الآن. آه، لقد تمَّ استقبالي ومصاحبتي بشكلٍ جيّد، ولكني لم أستطع أن أتخلَّصَ من بعض القلق المصحوب بِدُوخة، هل كنتُ في مستوى هذه المُناسَبَات؟ حصلتُ على طمأنة (إحدى وعشرون مرة، أحصيتُها بنفسي) منه بأني صديقه، حصلت على امتياز إلقاء نظرة على الملخّصات القادمة، سوف يتم دفع الأموال نقداً.
مائتان وخمسون فرنكا. تذكرةُ القطار التي أمسك بها في يدي، في غباء، في محطة «ليزيفلين» الصغيرة، التهمتْ خمسين فرنكا.
– سيدي !
كان عددنا ثلاثة، وكنّا ممعوطين على رصيف المحطة، وكان الفرد الثالث يعرج قليلا، أكياس مشتريات من البلاستيك. كان واضحا بأن الرجل الثاني يتوجه بالحديث إليّ,. كان عمره قريبا من عُمري، عيناه زرقاوان، كانت رأسُهُ مائلة قليلا إلى الوراء، كما يفعل عادةً الذين تبلغ قاماتهم مترا وستين سنتمترا والذين يخاطبون ناسا تبلغ قاماتهم مترا وثمانين سنتمترا.
أخيرا استطاع أن يتلفظ، قائلا:
– لا أعرف كيف يمكن لي أن أخاطبك، باختصار، لقد قرأتُ روايتك، وأحبَبْتُها.
أُوف، قارئ ! قارئ لا أعرفه ! « تعال إلى أحضاني !» كان من الأفضل لي أن أصيحَ به، ولكني دمدمتُ، فقط:
– أنت شخصٌ لطيفٌ.
بدأ مدير المجلة يفقد المكانة التي كان يحتلها في عقلي، ملتحقا بالمَخرج الخفيّ، والواقع في اتجاه الأذن اليسرى، بينما كنتُ أُقدم، على المستوى الذهني، أفضلَ المقاعد إلى هذا القادم الجديد.
تعارَفْنَا، بشكل أفضل، في القطار. كان يُدرّس اللغة الإنجليزية، كان له شكاوى وتظلمات من رئاسة الأكاديمية الواقعة في منطقة فيرساي، كان يحمل محفظة تبدو ثقيلة أو كبيرة بالمقارنة مع جسمه، وأحسستُ بالخجل من جرّاء جذبه معي إلى المقصورة المسموح بالتدخين فيها، إذْ أنه كان يرى في كل سيجارة أشعلها وعداً بنوبة سُعال؛ كانت رقّته ورهافة شعوره تمنعه من إظهار أي ردة فعل.
لم أعرف كم استغرق وقت حديثه عن كتابي، ولكن هذا الوقت مر بسرعة كبيرة(لقد قرأ كتابي بالفعل). حين توقف عن الحديث الخاصّ عن الكتاب، تطرَّق إلى الأدب بشكل عامّ. أبان لي عن شغف عارم تجاه الروايات البريطانية «الرهيبة». واكتسبت آن رَادْكليف أو «ماري شيلي»، بصفة مفاجئة، في فمه، مفاتن، لا نمنحها، نحن، سوى لـ«كينسكي» في فيلم «مارياس لُوفَرْس Maria’s lovers» حين تغسل الأرضية الخشبية تحت نظر عيني «ميتشوم» المتقدتين. كرّس لها موضوع الإجازة، قبل أن يحصل على شهادة الكفاءة التربوية c.a .p.e.s؛ ثم جعلها موضوعا للدكتوراه، وتساءل، في حشمة، عما إذا كان بالإمكان نشر الموضوع لاحقا في كتاب. كان سيبدو كَمَن حاز على جائزة وهو يعلن لي بأن هذه الحقبة من النثر البريطاني منحته « مادّة لنشر مقال في إحدى المجلات». الكلمة الأخيرة، وحدها، لم تَكُن مُوَفَّقَة، وكانت سبباً في اهتمامي المفاجئ بالمسافرين الذين كانوا يصعدون إلى القطار من محطة فيرساي- شانتيي. قلة الأدب التي صدرتْ مني لم تتكرر سوى مرة واحدة، حين طفق يتحدث عن «التبئير». قال وهو يُوَاصِل الحديث مُتحمّْساً: «أصبحتُ، الآن، قادراً على اكتشاف ما هو داخلي وما هو خارجي». كان يتحدث وكأنه مُبيد الجُرْذان في يوم مُتعب. هُنا تبيّنتُ الوضع، من خلال نافذة القطار، في مونبارناس. نقتربُ من المحطة ببطء.
«لن نفترق على هذه الطريقة». كان قارئي منتبها، عيناه الزرقاوان الكبيرتان ذات جوانب مُخمليّة بالأسود، وهو ينتظر مني الاقتراحات الرائعة التي ينتظرها الأطفال. لا يتعلق الأمر إلا بتناوُل مشروبات ما، في شارع «لوديبار» le Départ أو شارع «لاريفي» l’Arrivée. كان الأمر يحتم عليّ أن أدعوه، إذْ أنا من اقترح الدعوة، ولكنه ألحّ على تسديد ثمن ما شربناه معا.
لم أستطعْ أن أرُدَّ له جميلَهُ، على مبعدة عشرة أمتار، لأن هذا الرجل القاسي، رفض أن أُظْهِرَ واحدة من أوراقي المالية من فئة مائة فرنك. عرفتُ أنّي أمتلك أكثر من قارئ، عرفت أن لي صديقا، في الحانة الثالثة، وهو مكانٌ سافل(كنّا نُلامِسُ، ببطء، شارع «لوويست»l’Ouest). قالت ربّة الحانة بأن المكان كان في السابق حانة ومتجراً لِبيع التبغ، وقد سُحِبَ منها ترخيصُ بيع السجائر، ولا تعرف لحدّ السّاعة السببَ. ربّةُ الحانة هي التي منَحَتْنَا الكأسَ الرابعة. واصلتُ تناوُل ما كنتُ أتناوله وهو «باسْتيسْ مُضاعَف»، فيما استبدل هو الليمونادة بنصف كأس من الجعة.
شقّته، التي تقع على مسافة محطتي مترو، ولكننا سرنا إليها مشياً، تُطلّ على مستشفى «سان-جوزيف». الشقة عبارة عن ثلاثين مترا مُربّعا وتكشف، بحدة، عن أنها مسكونة من قبل رَجُل أعزب. ممر الدخول لوحده ابتلع خمسة أمتار مربعة من مساحة الشقة، ونفس الشيء ينطبق على المرحاض. لم يتبَقَّ إلاّ عشرين مترا، يتقاسَمها مكانٌ لسرير ومكان آخَر لأريكة، وكُتبٌ فوقها، وهاتف على جَنَب. حاجزٌ، في الوسط، يفصل بين كل المحتويات مع رشاقة الفتيات الشابات حين يغامرن بالتدخل بين الفتيان.
لم أتعود من قبل على مثل هذا السكن. أنا أقطن على بعد مائة كيلومتر من هنا، في منزل يحتوي على عدة غُرَف محددة بشكل سيء ومفتوحة على كل الرياح. في الشتاء نتجنب الاغتسال فيها، بينما لا ندخلُهَا في الصيف. إنّها تؤوي عشق حياتي. سألته:
– هل أستطيع أن أهاتف؟
عشق حياتي كانت غائبة. نِعْم الأمر، بدأتُ أستشفُّ هذه التغييرات المُتلزِّجَة في نبرة صوتي والتي لا تثير ضحكها. إلا أني مع ذلك حرصت على إعلام بعض جيراني الأقربين بإخبارها بأني سوف أعود في وقت متأخر.
صورة أسلوب.
كان يتوفر على مُدَّخَرات يمتلكها، عادةً، أُنَاسٌ رومانسيون، «كْرُوز» فُتِحَت منذ فترة قريبة، كما يتوفر على «أنكوستورا» لإصباغ شيء من الجمال على الغرفة، وقنينة «ماليبو» لم تفتح بعدُ، وأمّا قنينة الفودكا فهي لا تتوقف عن التجمد في الثلاجة. في المقابل كانت لصديقي هذه الالتفاتات:
– لو أتجرأ على.. ستُشَرِّفُني.. باختصار، هل تَقْبَل بأنْ تتعشى معي، هذا المساء؟ نتناول شيئا بسيطا.
لم يكن في واقع الأمر يتوفر على مطبخ، باستثناء صفيحة كهربائية مُسخّْنة مثل التي تتوفر عليها غُرف الفنادق حين يستقر فيها الزبائن لفترة أسبوع. كان يمتلك قدرا صغيرة مُحَدَّبَة ابيضت من الكلس، تنتصب في مكان ما في المطبخ.
– أنا نازلٌ، لشراء بعض الأكلات الباردة.
تلفَّظ بهذه الجملة بارتباك خفيف في صوته، لم أستطع معه أن أعرف َإنْ كان السبب هو خوفه من أن يتناول ما لم يتعوّدْ عليه خلال سنوات طويلة من الدراسة، أو إذا، على العكس، قرَّرَ، بِشكل مفاجئٍ، أن يَتَقَاسَم معي ذوقَهُ المُفْرِط للكسكس البارد أو الملفوفات مع مَرَق هُلامي. مَدَدتُ له، بجرأة، إحدى أوراقي المالية. لكنه رفَض ببعض مودة.
قلتُ بإلحاح:
– هذا من أجل النبيذ.
ارتسمت على شفتيه ابتسامة.
– أمتلك قناني من النوع الجيد.
سألته:
– أين توجد؟
يا قارئ، حبيبي، في غيابك، رأيتُ كتابي. إنه يُسجّلُ حُدود كتبك من مطبوعات «بانغوين» ويُمهِّدُ السبيل إلى مجموعة مدهشة ومُجلَّدَة من منشورات «كْلوب». شريحة الكتاب الصفراء من نوع «ريكارد»، سميكةٌ فقط بما يكفي لقراءة اسمي من دون خُطوط صغيرة، تُشكِّل هذا النوع من رعشة لطيفة نراها في المحيط الأطلسي، والتي تَعْزلُ، بشكل غير محسوس، البحيرات الشاطئية عن أعماق البحار. إنك، يا قارئ، لم تقرَأْهُ فقط، بل وأعَرْتَه، لقد كان مُلطَّخاً ومُجعَّدا بشكل كبير جدا، وما كانت يداك الصغيرتان كافيتين للتسبب في ذلك.
يا قارئي، يا عزيزي، أية معجزة أتاحتْ لأعمالي أن تَتسلل بين رفوف مكتبتك(كنتُ الكاتب الفرانكفوني المُعاصر الوحيد)؟ أي برنامج، أي مقال، أي صديق قادَ ذراعك، وأي مكتبة(ولكن برنامجا هو الذي أتاح لك أن تتعرف عليّ من دون تردد)؟
لمْ أفكر فيك أثناء تأليف هذا الكتاب. الحُمّى جعلتني أتقوس على شخصياتي. كانت تتيه، عند وصول الليل، في كم لا أعرفه من الغُرَف، غير مبالية بالشروط المناخية، تحترق تحت أشعة الشمس حيث تركْتُها، بعضها انتفخت بطنه، والبعض الآخر من الذين نحلوا، اكتشفت بأنهم كانوا في حالة وَدَقَان. الأمر كان يتطلب الإسراع في تسجيل كل هذا.
كانت الكلمات تتدافع. الظروف(ظروف المكان والزمان) كانت تتَسَاقَطُ تحت قلمي مثل جراد أفريقيا، التكرارات تنام تحت ظلّ الذاتيات، المجازات كشفت،عند استخدامها، عن ريبة، كما نجد في الكتاب استطرادات هناك، قرب الأفق، وهي تُلوّح بمناديلها علامة على الوداع: إنها لا تتفكك أبدا في النصّ. الأخطر من هذا هو التدخلات التي لا تتوقف للسكاكين الثانوية، وللرجال الذين لم يكن لهم ما يقولونه في هذه القصة، ولكنهم كانوا يصرون على التدخل، إنها سناجيب على طريقة «تيكس أَفِيري» Tex Avery، في حين تم تمثيل «كِي لاَرْغُو» Key Largo.
ذات صباح، يتقرر الانتهاء من الأمر. كان بالإمكان إضافة مائة صفحة أخرى، ولكن الأبطال تعبتْ. يتم أن نخرج من هذه المحفظة النهايةَ التي تُتْرَك طرية، ثم يضع الرقن النقطة النهائية.
المخطوطُ سوف يُصبح كتابا، سوف أُوَفِّرُ عليك التفاصيل أو الاختبارات، ومن بينها القسم الصحفي. لكنك سوف تظهر، هنا، لدى الناشر، الجالس أمام شرائح صفراء من الأكوام، والمكلَّف بحشوها. تسبح بالقرب من السقف، تمرّ تحت إطار النافذة على طريقة علاء الدين أو قطّ «أَلِيسْ». هُوبْ، هوبْ ! قفْ ! مَنْ تُشبه، أنت؟ ننهض كي نرى بدرجة أفضل. نحن مرغمون بمعاودة الجلوس تحت نظرات عمال دار النشر. « هلْ تُريد قهوة؟» لا شيء، إننا نرّد ونحن نمسحُ عرق الجبين، إنها الحرارة.
فات الأوان، أنتَ لنْ تعود، قطّ. لقد صدر الكتابُ للتوّ؛ تَسَاقَطَت الآراء الأولى، بعضها كان وُدّيّا والآخر نقديا. تساقطت على جانب.
تم تقريظ النهاية، ولكن النّهاية هي التي تهمّ. أمّا فيما يخُصّ الأسلوب فحيثُ كان من الضروري ألاّ يكون، فإنّ غيابه الوجيه كان حيث(يُتخيَّل أنْ) ينبثق. يُتحَدَّث عن الشوق حين يتعلق الأمر بالحقد والاستياء، ويُتحدَّث عن الهَوَس بالتفاصيل حين يتعلّق الأمر برؤية من طائرة. يَجدُ القارئُ نفسَهُ مصحوباً بعرّابين لا يريدهم، وبأقرباء عبثيين…
يتم رصد ردود الفعل بقلب خافق، وينتهي الأمر بالهروب حتى من الأصدقاء. إذنْ فبعد أن نتلفَّف في حركة فخمة، نعود إلى البادية. في هذه اللحظة، يا قارئي، أَكُون مُرْغَما على القول بأنك تزعجنا.
الزمن يمرّ.
نفضل الآن منح إخوان وأخوات للشخصيات السالفة الذكر. هؤلاء يصبحون أكثر إثارة للقلق، تماماً مثل أطفال يتوقفون عن أن يكونوا منقطعي النظير. في هذه اللحظة بالذّات تختار أن تصل، وترنّ كلماتك أخيراً(نحب الاستماع إلى الحديث عن الأبناء الأوائل). لقد اخترتَ هذه اللحظة كي تعود ببيض السمك(تَارَامَا) وسمك البلم المنقّع في الخلّ والخبز الأسود(طعامي المُفَضَّل).كنتُ أعرف بأنك لن تطرح عليَّ أسئلة بليدة من نوع «لماذا تكتب؟». سنتعشّى في راحة، معاً. بعدها ستكون الحياةُ جميلة، والليلُ، طليقا في باريس، سيكون، بالتأكيد، عذبا.
كانت في جيبي مائتا فرنك وكانت عندي رغبةٌ في الكتابة.