انتهت حمى التفرقة العنصرية بين السود والبيض وانتهى عصر العبيد، فها هي البشرية وبعد احتباس حراري دام أربعين سنة، صارت كلها من السود، بما في ذلك من عاش في القطب المتجمد الشمالي والجنوبي أيضاُ، ولم يعد العالم يعرف الشتاء القارس ولا الخريف ولا تساقط أوراق الشجر.
بعض العنصريين البيض كتبوا على قمصانهم(كنت أبيض كالثلج) ولا أحد يعبأ بما يكتبون، ما أهمية مجنون هنا ومخبول هناك يتباهى ببياض بشرته ما دامت الدنيا كلها صارت سوداء؟ الاحتباس الحراري شطب أيضاً على الفوارق حتى بين الأغنياء والفقراء، فما عاد من أحد يفكر في السيطرة والسلطة سوى بعض المرضى ممن يتلذذون بتاريخ الإنسان الأبيض الذي اندثر تماماً منذ سنين.
مات المئات من البيض برصاصة في الرأس أو رموا أنفسهم من ناطحات السحاب، إذ لا أحد منهم يصدّق ما صار إليه، وبخاصة عصابات(الكوكس كلان) الذين يكرهون السود حد أنهم يتقيأون في الشوارع والحانات إذا مر بينهم رجل أسود أو امرأة سوداء، بينما الممثلات الشقراوات وعارضات الأزياء والمطربات وملكات الإغراء في هوليوود أغرقن أنفسهن في مياه المحيط وبعضهن أغلقن الأبواب والنوافذ وكسرن المرايا ولم يخرجن من بيوتهن حتى الموت، إذ لا معنى للحياة بالنسبة لهن أن تكون المرأة سوداء تشبه ووبي أو تايرا أو أوبرا اللواتي ظهرن على الشاشة طوال أعوام مضت دون أي شعور بما يفكر فيه البيض آنذاك.
ظهرت آلاف الكتب التي تفسر أسرار انقلابات الكرة الأرضية وسيادة العرق الأسود واختفاء البيض من خارطة العالم.
احتفل السود في إفريقيا والهند والصين بالمساواة الكونية، بينما البيض الذين أصابهم الاحتباس الحراري بكارثة السواد مازالوا على حقدهم الأعمى نحو كل شيء أسود، لكن كيف يكون الانتقام إذا كان السواد قد عمّ البشرية ولا أحد يعرف حقيقة الثاني بعد أن تشابه حتى الحمض النووي والجينات وملامح الوجوه من غلظة الشفاه وبقية العلامات التي كانت فارقة بين السود والبيض.
* * *
قبل نشرة أخبار الثامنة يوم الخميس الثالث من الشهر التاسع سنة 2057 وفوق عبارة(عاجل جداً) قالت الفضائيات جميعها وفي وقت واحد: جاءنا الآن خبر ولادة طفل أبيض في مدينة بغداد وقد منعت السلطات تصوير المعجزة حتى إشعار آخر.
لم ينم العالم في تلك الليلة، وكل من كان أبيض البشرة راح يرقص في الشوارع والأزقة والبارات، عسى ولعل وربما يعود العالم الى ما كان عليه من بياض وشتاء ونساء شقراوات، وانتظرت الدنيا كلها بقية اخبار الطفل المستحيل قرب شاشات التلفزيون، بينما خرجت عصابات الكوكس كلان في انديانا ولاس فيغاس بمشاعل النار وهي تقطع الطرقات بهتافات عنيفة تقول(البيض عائدون) بينما السود يضحكون من رجالات الكوكس الذين يرفضون عدالة السماء التي حققت المساواة بين خلق الله جميعاً، بالتالي ماذا يعني مجرد طفل واحد أبيض إذا كانت مليارات البشرية من السود؟
* * *
فجأة، دون أي قرار مسبّق، احتلت أميركا بغداد كما فعلت ذات صباح من عام 2003 ، وهذه المرة من أجل طفل أبيض مايزال تحت الرضاعة!
أخذوه فوراً الى واشنطن واعتبروه مواطناً كازموبوليتياً بانتظار أن يكبر ليحقق معجزة الخلق كما كانت، عسى ولعل وربما ترى الدنيا مارلين مونرو أخرى وألفيس بريسلي آخر.
صارت الحياة بطعم مختلف، معلقة صوب أخبار الطفل الذي أخذته أميركا وأعطته اسم(سقراط) لئلا يبدو اسماً لدولة ما، والصحف والمجلات شطبت على مليارات القضايا بعد أن صارت قضية سقراط البغدادي هي القضية الأولى.
كل ليلة عند الثامنة يزداد سقراط يوماً آخر في إعلانات الجرائد اليومية والفضائيات كلها: سقراط خمسة أيام بعد الشهر الثاني، سقراط بلغ الشهر الرابع، سقراط يقترب من السنة الأولى بعد أسبوع واحد، والنساء اللواتي فكّرن بقتل أنفسهن احتجاجاً على السواد الذي عمّ الدنيا، ما عاد من شيء يشغلهن غير سقراط الذي سيكبر حتماً ويرجع العالم الى شكله الأبيض الناصع الجميل.
ليس من أمنية لدى من كانوا بيضاً غير العيش حتى يكبر سقراط ويبدأ في تلقيح النساء الخصبات، عسى ولعل وربما يتكاثر الجنس الأبيض ثانية وترجع الأرض الى كرنفالاتها السابقة في السينما والمسرح وعرض الأزياء، فما يزال الحلم الأمريكي متناغماً مع البياض مهما بلغت عدالة الأرض بالمساواة بين البشر.
ملايين الصبايا من كل شعاب الدنيا تبرعن بالنوم مع سقراط ورأت شركات التزوير الكبرى فرصتها المؤكدة في جمع الأموال بتسجيل اسماء الراغبات للبقاء ساعة واحدة مع سقراط لقاء ثلاثمائة يورو، وهو ثمن بخس للنوم مع أشهر كائن على وجه الأرض، وهكذا بزغت شركة(جولدوني) في روما ومؤسسة(ميزو) في أمستردام و(بابا نور) في القاهرة و(العم لينكولن) في نيويورك، وكلها تحقق الحلم الكبير في أعظم ساعة حب مع سقراط، حتى قبل أن يصل الى سن الرشد، وبعض الشركات حققت كنوزاً من الأموال عندما أعطت الضمان بأولوية الدخول الى غرفة سقراط والبقاء في أحضانه ثلاث ساعات بدلاً من ساعة.
بغداد التي أنجبت ابنها سقراط الأبيض، لم تفتح أيما باب لتلك الشركات، وكم حاول العم لينكولن وميزو وجولدوني وبابا نور إقناع الصبايا فتح فرع لتلك الشركات من أجل عالم أبيض نرى فيه فاتنات شقراوات يشبهن دوريس داي ونيكول كدمان، فما كان من جواب لدى النساء غير ضرب تلك المؤسسات بالحجارة والشتائم.
* * *
لم يعد من أحد يعبأ بالرئيس التالي للولايات الأمريكية، ولا أحد يسأل عن أخبار(ناسا) وما فعلته في الفضاء بعد احتلال كوكب المريخ، وليس من امرأة يهمها أن تكون أجمل من سواها، وكم خسرت شركات المكياج وكم أغلقت دور الأزياء نصف أبوابها، فما عاد من شيء في الحياة غير الكلام عن سقراط وما سيفعله عند البلوغ، وماذا عن سلالته القادمة؟
يمشي الزمان ببطء قاتل، وصارت صورة سقراط تملأ البيوت والفضائيات والجرائد بعد السماح من الحكومات جميعها بنشر أخباره في كل شبر من القارات السبع المحشوة بمليارات السود وهم ينتظرون الساعة التي سيدخل فيها سقراط في أول أنثى محظوظة حتى يأتي الطفل الأبيض المنتظر. وجاءت تلك الساعة في أعياد الميلاد عند منتصف الليل من عام 2073 وكان سقراط في أول يوم من دخول عامه السادس عشر.
واحدة من صبايا نيوأورليانز كان لها شرف الدخول الى عرين الفارس الأبيض، والثانية من باريس، والثالثة من بيروت، بحسب الرقم السري الذي تحتفظ به النساء في كل بيت ومدينة،واكتشف العالم لعبة الشركات التي تبيع الأوهام والتي سرقت أموال الصبايا في روما وأمستردام والقاهرة ونيويورك، ولم يتحقق الحلم الكبير في أعظم ساعة حب مع سقراط الأبيض، واختفت تلك الشركات في لمح البصر.
ثلاث صبايا كل يوم حصة سقراط، برغم أن المظاهرات عمت الدنيا بأسرها من أجل زيادة نسبة الراغبات والمتبرعات ببكارتهن مادام سقراط نفسه قال في حديث خاص(لا مانع من أن تأتي الى فراشي عشر نساء في اليوم الواحد).
في عام 2074 والعالم كله ينتظر صراخ أول طفل أبيض من سلالة سقراط، نزل الطفل المنتظر فجر الثامن من شهر آب قبل موعده بأسبوعين، أبيض المسامات مفتوح العينين، احتفلت به الدنيا من شرقها الى غربها ومن شمالها الى جنوبها، وقبل أن ينتهي قطار الدهشة جاء الطفل الثاني والثالث والرابع والخامس، بنات وبنين من أجمل مخلوقات باريس ونيو أورليانز وحتى من مدغشقر والصومال وأثينا وساحل العاج، خرجت الأرض من ثيابها فرحاً وتوزع الصبيان البيض على شعاب الدنيا ومخابئها وزواياها من أجل أن يبدأ العالم رحلته الى بداياته التي كان عليها منذ بدء الخليقة، عالم أبيض وأسود كما الليل والنهار وكما تشاء الطبيعة بعد أن اندثرت طبقة الأوزون وخف الاحتباس الحراري وعاد القطب الجنوبي وراحت الدببة ترقص تحت الماء، بينما عصابات الكوكس كلان ترقص في كل جزء من شيكاغو وبنسلفانيا حتى حدود المكسيك.
* * *
الآن، الشقراوات وعارضات الأزياء والممثلات رجعن الى حياتهن الصاخبة بعد أن فتحن الأبواب والشبابيك وعادت المرايا في البيوت أكبر مما كانت، ولم يعد من أحد يكتب(كنت أبيض كالثلج) فقد عاد الجنس الأبيض بقوة وعادت معه الفوارق بين الغني والفقير وبين السيد والعبد، مزقوا آلاف الكتب التي تحكي عن سيادة السود على الكرة الأرضية وصار الحقد على غلظة الشفاه والأنف المفلطح والشعر المكعكل أكبر مما كان عليه الحال قبل ما يزيد على خمسين سنة، وتحقق شعار الكوكس كلان(البيض عائدون) وغرزت التفرقة العنصرية مخالبها وأنيابها في جسد العالم عشوائياً هذه المرة وفي كل مكان، وعاد عصر العبيد.
بغداد التي جاءت بسقراط، وغيرت أحداث الدنيا كلها وأعادت معادلة الطبيعة ما بين البيض والسود، لم تسأل ولم تعترض ولم تفتح أي باب لمؤسسات بيع الأوهام، ذلك أنها مازالت تئن تحت أوجاعها بعد أن أخذوا منها سقراط ولم يعد الى بيته حتى الآن، ولا أظنه سيعرف الطريق الى هنا……ك.