فرح لأنّه سيتزوج أخيراً، من امرأة أحبّتها أمه، بعد أنّ ضجر من تلك «البدلة» التي لبسها لأكثر من عشرين مرّة، في محاولاتٍ بائسة لإرضائها.
لم يبقَ سوى خمس دقائق، ويصل إلى بيت خطيبته، التي أُعجبتْ بها أمّه، بعد أنْ رأتها ونقدتها، وعادت مع ابنها فرحة، وهي تقول بابتسامة تملأ الدنيا، وكأنّها رجعت برأس كليب: « ما شا الله عليها، وجهها مدوّر، وفتحة عيونها هالوسع، وطولها يا عود الريحان، وفوق كل هيك ما بتترك فرض».
أرادَ أنْ يفاجئها بزيارته، فهو يعتقد أنّ المفاجآت تنمّ عن ظرفٍ وخفّة دم. حدّث نفسه بالطريقة التي سيلقاها بها، كيف سيصافحها، وهل سيشدّ على يدها، أم أنّه سيظهر لها نعومة لا تناسبه؟ بدأ يتبسّم في الشارع، وكأنّه أمام عدسة «الكاميرا» فتارة يظهر أسنانه، التي لا يهتمّ أبداً بها، وتارة أخرى يخفيها. عليه أنْ يختار حالته التي ستراه عليها. ماذا سيعجبها في إطلالته؟ أنْ يكون عابساً مع قليل من التبسّم «حِمش»، أمْ يبدو أمامها، وقد امتلأ بالفرح الذي لم يأتِ بعد؟ هو لا يعرف ماذا سيفعل؟
فكّر بنصائح أصدقائه، وكيف أنّه سيخاطب الجسد فيها؟ حتّى تتهيأ لما سيحدث يوم الزفاف. فكّر فيما زرعته أمّه في رأسه. فكّر كثيراً، وقبل أنْ يصل بيت خطيبته الجميلة الأنيقة، حالت رنّة هاتفه الجوال دون تحقيق أيّ شيءٍ ممّا فكّر به. فها هو صاحب عمله، ووليّ نعمته يفاجئه كالعادة بضرورة العودة إلى العمل، لأمرٍ لا يحتمل التأجيل. فهل كانت مثل هذه المفاجآت تندرج تحت مسميّات الظرافة وخفّة الدّم، التي أرادها في زيارته لها؟ استبسل في تأجيل العمل، أو تأخير العودة، لكنّ الأخير أغلق هاتفه بعد أنْ توعدّه بنتائج لا تُحمد عقباها إذا لم يأتِ.
عليه أنْ يلجأ إلى الحكمة، لإنهاء الصراع الذي احتدم رأسه، فهو إمّا أنْ يغامر بعمله، أو يعود إليه دون أنْ يخبرها أنّه كان على بعد خطوات من بيت أهلها، لكنّ عمله هذا هو من سيساعده على الزواج منها، فقرّر العودة.
لم يجد سوى مركبة نقلٍ كبيرة، امتلأت مقاعدها بهموم المسافرين. طلب من السائق أنْ يجلسه في أيّ مكان منها، فقوبل طلبه بالرفض، لأنّ في ذلك مخالفة قانونيّة، وليس هناك من شيءٍ يجبر السائق على ذلك. توسّل إليه وأبدى استعداده لدفع قيمة المخالفة إنْ حدث ذلك. وأخيراً رقّ قلب السائق، ليس لجملة توسلاته، وإنّما لما سيدفعه من أجرة مضاعفة لقاء تلك الخدمة.
اشترط عليه السائق أنْ يجلسَ على واحدة من عتبات المركبة، فجلس على أوّل عتبة وضع رجله عليها.
أخذ يفكّر في خطيبته الجميلة التي أراد أنْ يحاكي جمالها في ذلك اليوم، وهو يستمع إلى أغنية «مخطوبة وغصب يفلان» التي فرضها السائق، ليس عليه فحسب، وإنّما على الجميع. توجّه بكامل جسده وبصره نحو الطريق، وهو يتساءل بصمت، هل من المعقول أنّ هذا السائق يسمع بأغنية «يا حبيب الروح» أو «اتركني انسالي اسمي»؟ لكنّ تساؤلاً آخر فرضه عليه مزاج السائق، هل من المعقول أنّ خطيبته اقترنت به، وهي مغرمة بشخص ما، ولأنّها فقط أرادت أنْ ترضي غرورها أمام صديقاتها، أو لأنّها كباقي الفتيات تحلم بالفستان الأبيض، حتّى ولو كان ذلك على حساب مشاعرها؟
الفضول وحده أخرجه من تلك الأفكار، وجعله يلتفت ليرى من خلفه، فشاهد قاطعاً خشبيّاً أمام المقعد الأوّل الذي خلفه، وقد حجب عنه رؤية الجالسين على ذلك المقعد. لم يرَ سوى أربع أقدام أنثويّة. خطف بصره إلى المقعد الذي يوازيه، خلف السائق مباشرة، فرأى قاطعاً خشبياً آخر، حال بينه وبين رؤية وجوه صاحبات الأقدام المكشوفة عليه.
كلّها أقدام نسائية. شغله ذلك المشهد، وأثاره في الوقت نفسه، حتّى أنّه تمنّى لو كانت مسافة الرحلة أطول من ذلك.
القدمان اللّتان خلفه تماماً، كانت صاحبتهما بمحاذاة الشّباك، لونهما مائل إلى السمرة الجذّابة، صغيرتان بحجم الكف، وقد بدا على أظافرهما اللون الأحمر بشكل صارخ مثير. كلّ هذا وضعته صاحبتهما في حذاء لا يمنعها من السير حافية سوى خيط رفيع بين أصابعها.
نظر إلى القدمين اللّتين بجانبهما، كانتا أكبر، وبالرغم من الثنايا وبعض التجاعيد التي بهما، إلا أنّ صاحبتهما تبدو مهتمة كثيراً بهما، رآهما خلسة، وقد وضعتهما في حذاءٍ أنيق يغطّي مشط قدميها فقط.
وجّه قبلته نحو الطريق، حتّى لا يشعر به أحد، مع أنّ أغلب الركّاب يغطّون في نوم تراه في وجوههم أعمق وأنفع من ذلك الذي يقصدونه في بيوتهم. مالت خيالاته وغرائزه إلى القدم الصغيرة، الناعمة، وقد أصابت أصابعها بطلاء أظافرها الدمويّ، شهوته وغرائزه، وافترض أنّ صاحبتها هي ابنة من بجوارها.
الفضول أيضاً سيجعله ينظر إلى الأقدام الأخرى التي خلف السائق تماماً. خطف بصره إليهنّ، رأى قدمين يبدو عليهما التّرف، من فرط الاعتناء بهما. حول مفصل القدم اليسرى خلخال، لا بدّ أنّها من أغنياء المدينة، ولا بدّ أنّ صاحبتها لا تعرف القيادة، عاد يتساءل، هل وضعتْ الخلخال، من أجل إغواء وإغراء الرجال، أمْ أنّها تريد لابنها الرضيع أنْ يستدلّ على مكان وجودها في البيت، عندما يسمع صوته؟ لا شكّ أنّها جميلة جداً، وأنّها في العقد الرابع من عمرها. ولكنّ الشيءّ الذي لفت نظره أنّها كانت تلصق قدمها بقدم من تجلس بجانبها. هل ترغب بشيءٍ ما منها، أمْ أنّها نائمة لا تتحكّم بحركة قدميها. الغريب في الأمر أنّ الأخرى لم تحاول إزاحة قدمها، ذلك كان كافياً لأنْ يُلقي بنظرة إلى القدم الملتصقة بقدمها.
كانت صغيرة أيضاً، لكنّها مهملة. فلا ألوان على أصابعها، ولا حذاء جديد يحتضنها، حذاءٌ شبه مهترئ. لا بدّ أنّها فقيرة الحال، أو أنّها لا تهتمّ بنفسها جيّداً.
مرّة أخرى أعاد السائق تشغيل الشريط، ومن جديد أغنية «مخطوبة» أصابه صداع فظيع من تلك الأغاني التي تبعث موسيقاها على النّفور، الأمر الذي دعا صاحبة الخلخال إلى مخاطبة السائق بخفض الصوت، والسرعة معاً. فتأكدّ أنّ السائق لم يكن يخشى المخالفة، بل كان كلّ همّه تحصيل الأجرة المضاعفة .
اقترب من الوصول، ولم يفكّر مطلقاً بخطيبته، ولا بسيّده في العمل، ولا بالعمل نفسه، بقدر ما شغلته تلك الوجوه الأربعة، خصوصاً بعد أنْ نحتَ وجه كلّ واحدة منهنّ، في محراب غرائزه وشهوته، وفي قمقم رجولته الضيّق المخنوق. للحظة ما كاد أنْ يقتله الفضول لرؤية تلك الوجوه. حاول القيام بحجة بلهاء، إلا أنّه آثر إخماد فضوله ورغبته في ذلك، بعد أنْ طمأن نفسه بأنّه سيرى كلّ واحدة منهنّ منفردة بكلّ قوامها، فيتأكّد من فراسته وسعة مخيلته ومعرفته بالنساء، من خلال هذا الجزء الأنثويّ المثير، الذي لا يعني شيئاً لكثيرٍ من الرجال.
فجأة توقّف السائق، أدار وجهه إلى المسافرين، قائلاً بصوت عالٍ وغليظ، وكأنّ الرجولة مقتصرة على حجم الصوت ومستواه، ولا يعلم أبداً أنّ الكلاب النبّاحة قليلاً ما تعضّ: «اللي مولع سيجارة يطفيها، كل واحد يدخن بداره مش هون». بالتأكيد لم يكن من أحد قد أشعل «سيجارة» فالجميع ضمناً يدركون ذلك، لكنّه أراد أنْ يقدّم نفسه بطريقة متخلّفة، كأغانيه التي يسمعها.
قبل الوصول بدقيقة واحدة أغلق السائق شريط الأغاني النائح، وكأنّ مهمته انتهت في إيصال مشاعره وفكره بالحياة إلى الركاب.
توقّفتْ المركبة، فتح السائق بابها الأماميّ فقط، ليرى كلّ النساء، ومدى إعجابهنّ به وبمزاجه وسلوكه.
كان أوّل المغادرين، ابتعد عن المركبة قرابة مترين، وقف وكلّه شغفٌ لرؤيتهنّ. كانت ذات الخلخال أوّل من هبطت، بوجه عابس وأنف كبير، وعينين منفرتين. وشعر خشِن. تلتها من كانت خلفه، بوجه مريح، ومنديل أزرق، وقامة مثيرة، وحضورٍ بهيّ، بالرغم من كبر سنّها. وبعدها نزلت من كانت بجوارها، والتي اعتقد بأنّها ابنتها، بوجهٍ شاحب متكدّر، إلا أنّ سنوات عمرها التي لم تصل العشرين منحتها ذلك الجمال. لم يبقَ سوى تلك التي كانت خلف السائق مباشرة، والتي سمعها وهي تضمّ صوتها إلى صوت ذات الخلخال، تدعوه إلى خفض صوت «مخطوبة وغصب يفلان» وكأنّها بذلك لا تريد إبعاد قدمها، أو أنها كانت «مغصوبة» فعلاً.
انتظرها بشغف ولهفة، حتّى يخفّف عنه وجهها وطأة فشله وإخفاقه في رسم الوجوه الثلاثة التي سبقتها.
ألهذا الحدّ أنا عقيمٌ في إنجاب وجهٍ واحد، بهذا حدّث نفسه، وفكّر أنّ من سيعيد ثقته بنفسه هي الفتاة الرابعة التي يجب أنْ تكون قبيحة. فتلك القدم المهملة، والحذاء البائس، ورغباتها الشّاذة، كلّ ذلك كان كفيلاً بأنْ تكون امرأة، ليس لها علاقة بالأنوثة سوى اسمها.
كانت آخر من نزل من المركبة، أذهله وجهها الجذاب، وأدهشته عيناها اللوزيّتان، وأثاره شعرها الكستنائي المتهدّل على أطراف جسدها المجنون، المثير. نزلت بصدرها الهائج كالبحر، الدافئ كالشتاء، تهاوت على الأرض بكلّ أنوثتها، رأته أمامها. كيف لم يرَ كلّ ذلك من قبل؟ كيف أنّه لم يميّز صوتها؟ كانت أجمل النساء الأربع، كانت أجمل ما رأته عينه، وأكثر ما أدهشه وأذهله أنّها كانت خطيبته.