بالمقطع الشعريّ التالي للشاعر عبدالله البردوني «جنوبيّون في صنعاء/ شماليّون في عدن/ يمنيّون في المنفى/ منفيّون في اليمن» يمهّد الروائيّ اليمنيّ أحمد زين لروايته «حرب تحت الجِلد»، «الآداب، بيروت 2010»، ثمّ يستهلّ الفصل الأوّل منها بسرد تاريخيّ مقتضب، يسبقه بثلاث نقاط لها دلالاتها الكبيرة، منها تجنّبه الخوض في بعض حقول الألغام التاريخيّة، وعدم رغبته في النبش في قبور الموتى، وربّما حثّ القارئ وتحريضه على الرجوع إلى كتب التاريخ، وأسفار الماضي، القريب منه والبعيد، للاستكشاف والاّطلاع والتنقيب. يتأكّد ذلك حين نقرأ أنّ البطل الرئيس الذي كان فريسة للأوهام المضلّلة اكتشف حقيقة المَعيش حين قيامه بالنبش في واقع شريحة مهمّشة مسحوقة في المجتمع، ليطّلع من خلال واقعها، على حقيقة شرائح عظمى في المجتمع اليمنيّ الذي لا يبدو سعيداً بأيّ حال من الأحوال، على عكس الصفة الدارجة المشهورة عن يمن سعيد، كأنّما تغدو الصفة للتندّر أكثر منها للتدليل على واقع الحال.. يسوح الروائيّ مع أبطاله في سياحة تاريخيّة من خلال الفرجة على نقوش مسنديّة، تكشف الكثير من الحقائق التاريخيّة، إذ يحضر معهم توسّع وانكماش ممالك وحضارات معين وسبأ وأوسان وقتبان وحضرموت. ويشهد معهم صراع آلهة وملوك ومكاربة وكهنة على النفوذ في تلك البلدان. يجوب زين في بطون التاريخ، يتبيّن في مشهد يجمع فيه بطليه «قيس وعليا» مصير الملك شمر، وحروبه الدائمة مع الملك إيل سرح الذي كان يشنّ عليه الحرب تلو الأخرى، يستمع معهما، ويُسمِع القرّاء ثيوفيلوس؛ المبشّر المسيحيّ، وهو يقوم بطقس تنصيريّ لأحد ملوك حمير، ثمّ يعرّج على توقّفهما أمام الإلهة شمس، يصف ما كان يجري في بلاطها من تصنيم وابتذال.. بهذا الاستهلال التاريخيّ يشدّ الكاتب قارئه إلى تبيّن ما قد يلي، يمارس تشويقاً متصاعداً بوتيرة هادئة مُؤلمة، قد يكون التذكير التاريخيّ للاعتبار والاحتكام والتمحيص، أو للإيحاء بأنّ الحاضر جزء محدّث من الماضي، أو صورة من صوره، أو تجلٍّ مشوّه من تجلّيات ما راكمه من أحقاد وضغائن، وما أسّس له من شقاق وخصام وانقسام، أو امتداد متغاضَى عنه له. يروي الكاتب مجريات فترة قصيرة من حياة الصحافيّ قيس الذي كان فيما سبق الوحدويّ حتّى النخاع، والذي يكتشف بعد التغلغل في أوضاع الناس، أنّه يتغيّر رغماً عنه، يتذكّر كيف كان يدبّج المقالات وينظم القصائد في يمن موحّد، ثمّ يتشوّش تركيزه، ويتبلبل إيمانه الذي كان يظنّه راسخاً، بعد أن يتملّى الزيف الذي كان يغرق في مستنقعه، يكتشف التهميش الذي يطال الجميع، بينما يحضّر تحقيقاً لمجلّة أجنبيّة عن أحوال شريحة من المهمّشين، بناء على إلحاح من الصحافيّ الأجنبيّ مايكل الذي يطلب منه التحقيق. يصاحب قيس جماعة ممّن لم يكن يتخيّل أنّه قد يكون معهم في يومٍ ما، هو الذي كان منتعماً ومبتهجاً في سباته، كان يصفهم بالمضلّلين التائهين الغرقى، لكنّه بعد أن يسامرهم، ويتجوّل معهم في أروقة لم يكن قد تنبّه إلى وجودها سابقاً، يكتشف أنّه هو الذي كان تائهاً ومضلّلاً، يلتقي بالباحثة الأجنبيّة التي تبدو مطّلعة على الأوضاع أكثر من أبناء البلد أنفسهم. يلتقي بشخصيّات كثيرة، تؤثّر فيه تأثيراً لافتاً، تشطره إلى شطرين، كأنّه يكون نموذجاً للبلد المنشطر على نفسه، يجد نفسه كائناً منقسماً على ذاته، على ماضيه وتاريخه، تغدو تلك الشخصيّات المعارضة التي كانت تصنّف في خانة الأعداء حتّى وقت قريب بالنسبة إليه من أعزّ مقرّبيه، ومن تلك الشخصيّات: المصوّر طلال، الصحافيّ المعارض شاهر، الرجل الستّينيّ الذي يروي مذكّراته، وسيرة حياته الغنيّة المفعمة بالمجريات التي كان شاهداً عليها، طارق، عليا، شمال الذي يكون بطلاً في الرواية التي تتخلّل فصولها فصولاً في الرواية، وتتسرّب إلى الرواية على أنّها فصول من رواية يقرؤها البطل.. يعبّر كلّ واحد من أولئك الأشخاص عن وجهة نظر معيّنة، عن شريحة اجتماعيّة، يرمز كلّ منهم إلى توجّه، يكون الرابط الأقوى فيما بينهم، التذمّر والاستياء ممّا يعانيه البلد من جنون وتشوّه وتشويه. يفصّل شاهر في الحديث عن واقع الصحافة والتناقض السافر الذي تعيشه عبر تبديل الولاءات وتزييف المواقف، يفضح الصحافة الصفراء، حين تسليطه الأضواء على واقع صحف تزعم المعارضة في حين أنّها تقبض ثمن معارضتها بالدولار. يقرّر أن تكون له صحيفته الخاصّة، لأنّه لم يعد يقوى على مواصلة العمل في صحيفة تغيّر ولاءها أربع مرّات في الشهر، ولها كلّ أسبوع قناعة، بحسب دافع التكاليف والإكراميّات. يحاول طلال التفرّد بصور دالّة معبّرة، يُظهر فيها الوجوه الكالحة، يظهّر فيها الشحوب المزمن والأسى القاهر الذي لا تبدو له نهاية محتملة قريبة. ثمّ الرجل الستينيّ الغارق في خريف عمره الذي بات جافّاً بانتظار النهاية الكئيبة، يتندّم على ماضٍ لم ينصفه، وحاضر نهب وجوده وأجهض قواه وآماله، ومستقبل يخبّئ له الموت الغامض. وكذلك عليا الرازحة في أتون الحاجة والفقر والجوع، تلك التي تكون آمالها أكبر منها، فتبقى تائهة يتلاعب بها المتلاعبون الذين يبتزّونها ويستغلّونها أسوأ استغلال.
– تكامُل الشكل والمضمون:
لا يولي الروائيّ عناية إلى جانب المضامين على حساب الشكل، ولا العكس أيضاً، ولا يظهر منساقاً وراء مزاعم الشكلانيّين في تفضيل الشكل على ما عداه، بل نقرؤه يوفّق بينهما بطريقة لافتة. يروي فصول روايته على لسان أكثر من راوٍ. هناك راوٍ عليم مُحتجب، لا يبالغ في إقحام نفسه في وقائع الرواية وأحداثها، ولا يتبدّى ممسكاً بخيوط اللعبة والمصائر والشخصيّات، بل يشكّل نقطة تلاقٍ لطيفة، ينتقل من مشهد إلى آخر بهدوء ودون صخب أو افتعال أو تعالٍ. يغوص الكاتب في أعماق حياة اليمنيّين، يرصد الزوابع التي تنهشهم، وتتلاعب بهم، يقدّم ذلك في أشكال منوّعة، ففي حين يدوّن قيس في تحقيقه الموسّع الأفكار التي خلص إليها، ملاحظاته من الرواية وبعد مشاهدة الفيلم، بالإضافة إلى التفاصيل التي خطرت له عند مراقبته لأبطال تحقيقه من بعيد. يستعين بأكثر من طريقة لتقديم رؤاه. يستعين برواية كتبت عن هذه الفئة، تتطرّق إلى علاقات تربط بعضهم بشخصيّات مرموقة، سياسيّة وفنّيّة. وكذلك مشاهد وصور ذهنيّة متخيّلة، منقولة إلى القارئ، من فيلم مفترَض «سيقان سوداء»، وهو فيلم تسجيليّ أخرجه مخرج يمنيّ مغترب، يسرد بالتوازي حكايات لثلاث شخصيّات، شابّ وصبيّ وفتاة، مشهد يتكرّر بتفاصيل مختلفة قليلاً، لكنّ المضمون واحد. من ناحية الشكل ترد في الرواية معظم الفصول بخطّ عاديّ، تتخلّلها بضعة فصول من رواية مُفترضة بخطّ مائل قليلاً وبالهوامش نفسها، تروي مقاطع من رواية يطّلع عليها الراوي، ويستفيد منها في تحقيقه، يكون بطلها شمال المغلوب على أمره، الباحث عن ذاته المضيّعة في قلب التجاذبات، السارد تاريخاً من الأسى والنضال، ثمّ ترِد في السياق بضعة فصول أخرى بهوامش أكبر من اليمين واليسار، بحيث ترد الكتابة في منتصف الصفحة كعمود في صفحة صحيفة، تصوّر تلك الفصول مشاهد مستعادة من الفيلم التسجيليّ المُفترَض. تتكامل الأشكال المقدّمة، مع المضامين المطروحة المستعرضة، لتقدّم مقترحاً روائيّاً يتكامل فيه الشكل والمضمون، لتنغلق الدائرة على هذا التكامل المنشود، بحيث لا يكون هناك تلاغٍ بينهما بل تلاقٍ وتفعيل وتحديث للصيغ والأساليب والفنّيّات المعتمدة.
– تنويعات السرد:
ينوّع الروائيّ في طرق السرد ومستوياته، فعلاوة على لغته المتقنة المقتصدة، وجمله الدقيقة الدالّة المعبّرة، نراه يطعّم سرده بفقرات ومقاطع وفواصل بالعامّية، بحيث تتكوّن لديه لغة وسطى وسيطة في بعض الفقرات، لغة تنهل من العامّية والفصيحة، تربط وتتنقّل بينهما، وهذا التطعيم لا يكون خارجاً عن سياق النصّ، بل يشكّل إغناء للرواية، ومقاربة دقيقة لعوالم المهمّشين البسطاء، الذين قد لا تنصفهم اللغة الفصيحة بسلطتها وسطوتها ورسميّتها، في مواجهة بساطتهم وتهميشهم وانعدام حيلتهم ووسيلتهم، ولا يكتفي الكاتب بتضمين الفقرات العامّيّة بين طيّات الحوار وثنايا المشاهد المصوّرة ذهنيّاً عن الفيلم المرويّ فقط، بل يجعلها من نسيج السرد الروائيّ الذي يسير بوتيرة متّزنة ومحسوبة، حتّى أنّ هذا الجانب قد أضفى بعض الحميميّة على الرواية، وقرّبها من اليوميّ البريء المعبّر، دون أن يسيء لبلاغة النصّ، حيث تنحلّ المركزيّة اللغويّة، من غير أن تتبدّد أو تتلاشى. يعمد زين إلى التخفيف من حدّة تلك الفجوة – المسافة التي قد توحي بالبعد بين القاع والقمّة، عبر إيجاد لغة رابطة، تؤالف في ظلّ الخلافات المتعاظمة التي تعصف بسكينة الناس وتزلزل راحتهم، بحيث توحّد حقيقة، لا إيهاماً وتضليلاً، كالوحدة التي تغدو مثار خلاف واختلاف لا ينتهيان. كما أنّه يُغني الفصول بمقاطع من أغانٍ شعبيّة دارجة، كأنّها تكون تتويجاً للخيبة، أو بلوغاً لذروة الانتكاسات، إضافة إلى أنّها تشكّل ثراء معرفيّاً وتقريباً من المعايشة المنشودة، للوصول إلى الكشف الصادق عن أحوال تلك الشرائح المغضوض عنها الطرف، المُتلاعَب بحيواتها ومصائرها.
– العلاقة المُلتبسة بين الأب والابن:
يقدّم الروائيّ أحمد زين صوراً للعلاقة الملتبسة التي تجمع بين الأب والابن وتربط فيما بينهما، يستعرض هشاشة العرى التي تقيّدهما إلى بعضهما بعضاً، سواء كان الأب البيولوجي أو الأب الفكريّ. نجد بطله في بداية الرواية ينهض ويطلّ على والده المقعَد النائم مثل طفل على حافّة السرير. ذاك الوالد الذي يرفض أن ينظّف ابنه غطاء المخدّة المتّسخ الممتلئ ببقع اللعاب الجافّة التي شكّلت خرائط صغيرة. لا يستطيع انتزاع المخدّة دون التعرّض لغيظ وشتائم الوالد. فيبحث عن فرصة ذهابه إلى الحمّام لينتهزها وينظّف الوسخ المتراكم عليها. لكنّه يبقي تلك الفرصة مؤجّلة. يقوم بواجبه إزاء والده، يترك له الطعام والشراب بجانبه. وهنا إشارة صارخة لرغبة الابن القويّة في مساعدة الأب المريض، هذه الرغبة التي تُواجَه برفض الأب، وتجابَه بسخطه وتذمّره، كأنّما لا يمكن الإصلاح أو التنظيف إلاّ بناء على استغلال الغياب الاضطراريّ الذي لا مناصّ منه، الغياب الذي تفرضه الحتميّة البيولوجيّة، التي تتمايز عن الحتميّة الأنتروبولوجيّة، التي تحضر في الرواية في أكثر من فصل. ثمّ تغيب صورة الأب، تُترَك وتهمّش، لتتوالى وتتواتر في النهاية الأسئلة الكثيرة والمضطربة التي كان ينوي أن يلقيها البطل على والده البائس المريض، لكنّه لا يفلح في ذلك، تخونه حباله الصوتيّة، يتلعثم ويصمت، يلغي ما كان يودّ طرحه على والده من تاريخ تضليليّ، ورغبات فظيعة بوحدة غدت قاتلة قتيلة في الوقت نفسه. كما تحضر صورة أخرى لعلاقة الابن المضطربة مع الأب؛ الفكريّ أو الأدبيّ، عبر علاقة قيس برئيس التحرير الذي كان يراه كالوحدة تماماً، مقدّساً وفوق الانتقادات، وكان معجباً به أشدّ الإعجاب، يستعير تشبيهاته وتوصيفاته، ولاسيّما تشبيهه الأبرز للوحدة بالشمس، لأنّها لا تحتاج على أن يتذكّرها أحد عند محاولة رسمها أو وصفها. حيث كان يجد نفسه صغيراً وحقيراً في حضرته، وتحديداً في إحدى المرّات التي زاره فيها في بيته الكبير الذي شكّل مفاجأة وفاجعة بالنسبة إليه. يتحوّل الإعجاب به، والتخاذل في حضرته إلى نقمة كبرى عليه، يثور عليه، من خلال تغيير قناعاته التي حرص ذاك الأب على ترسيخها وتكريسها عبر الزمن، يقتلع قيس جذور الإيمان من روحه ونفسه، يجد نفسه مضطراً لتقبّل بذور الشكّ والريبة بكلّ ما كان يؤمن به، لكنّه يقع نهباً لحنين ماضويّ مأساويّ، لا يريد لنفسه التورّط فيه، والانجرار خلفه، وهو حنين لفترة كان فيها سعيداً بجهله، ينعم في ضلاله وجهالته بكثير من الأمور والحقائق. ولا تكون الغلبة لذلك الحنين، لكنّه حنين يُبدي الشرخ الحاصل الذي يشكّل بداية الافتراق عن ذاك الأب. يقتل قيس آباءه، حتّى إن كان ذلك بالتلهّي عنهم، يثور عليهم، يخونهم، لأنّهم كانوا قد خانوه سلفاً. يبحث عن فرصته بعيداً عنهم، وهو يوقن أنّه قد يمرّ بمرحلة من التيه والضياع..
– الحروب المحتدمة:
لا تنحصر الحرب داخل الجلد الواحد فقط، بحسب ما يشير العنوان، بل تتعدّاه إلى حروب كثيرة، يتشظّى مفهوم الحرب، تتكاثر الحروب، تنشب حروب داخليّة، داخل الفرد نفسه « قيس، شاهر، طلال، عليا…»، ومن أهمّها الحرب الدائرة داخل قيس الذي يروي كيف أنّه كان يمتدح الوهم والسراب ويركّز على ما لم يصبح واقعاً بعد. ليتجاوز ذلك إلى تصوير حروب مستعرة دائرة في الصحافة، بين صحف المعارضة وصحف السلطة، وداخل الصحيفة نفسها، وبكثير من السخرية المريرة يشير إلى كيف أنّ هناك مَن يدبّر عملية اعتداء لنفسه، كي يحظى بالشهرة، وينهل من الامتيازات المتحصّلة المستجداة فيما بعد.. ثمّ يصوّر حروباً محتدمة شرسة داخل الداخل، بين شمال وذي النياشين في الرواية المفترضة المتضمّنة في الرواية الأصليّة. كذلك تكون الحرب القاتلة داخل الشمالي المنشطر، وفي قلب الجنوبيّ المنشطر، وبين الشطر المنشطر أشطراً والقسم المنقسم المُتشظّى، بحيث أنّ كلّ واحد يحارب نفسه، ويعارك أخاه الذي لم تبقِ العداوة المستفحلة أيّة صلة بينهما. تكون الوحدة هي التي جلبت الكوارث، بدل أن تجلب النعم كما كانت قد وعدت. تتصاعد كذلك حروب القبائل فيما بينها.. الإمام وقوّات ناصر.. بين الشمال والجنوب، في عدن، في صنعاء.. في كلّ مكان من اليمن الموحَّد شكلاً، المتصدّع حقيقة. تبقى الحرب المستعرة جمراً تحت الرماد، وتحت الجلود. يروي السارد مشاعر مَن يحارب وقد يخسر روحه من دون هدف، بالموازاة مع شعور مَن يدخل حرباً يعرف مُسبقاً أنّها بلا معنى، حرب الكلّ فيها مهزوم. لا منتصر فيها. الرابح فيها يربح بالهزيمة لا غير. حرب صامتة، وأخرى مدوّية، معلنة ومضمَرة، مشينة ومشرّفة، قاتلة وساحقة، مدمّرة ومعمّرة. لتتحوّل الوحدة إلى شعار يفرّق أكثر ممّا قد يوحّد. وبكثير من المرارة يستعرض كيفيّة تحوّل الفرق الشعبيّة التي تؤدّي رقصات الحروب عند القبائل إلى مدّاحة للحرب داعية دون أن تتقصّد ذلك، كأنّها تساير الرغبة الدفينة في إبقاء جذوة الحرب مستعرة. نجد شاهر يصرّح بكآبة بوجهة نظره عن تلك الرقصات: «تبدو الرقصة إحماء لحرب جديدة. كأنّه ما يكفيش حروب». «ونحن وقودها بالتأكيد». ص «178».
– تأريخ ذاكرة الضحايا.. تبديد البديهيّات:
يروي الكاتب على لسان أبطاله ذاكرة الضحايا، يؤرّخ وقائع حيَوات المسحوقين. يستعرض غياب أو تغييب الإرادة الحرّة، التقاء الوحدويّين والانفصاليّين على التبعيّة لهذا الزعيم أو ذاك. يحارب بالحياد، يعلن أنّه سيخوض حربه الخاصّة محايداً، بعد أن يخونه الرفاق بصراعهم وحروبهم القذرة والنظيفة معاً. يصوّر كيف أنّ الانفصال يغدو الحافظ المرتقب للوحدة. بعد أن باتت البلاد منتقلة من حرب إلى أخرى، منهوبة لأمراء الحروب.. يرتهن قيس المتماسّ مع مبتدعه لما يجد نفسه ملقياً في نيرانه، يُقلقه الحنين، يُكئِبه، تغدو ذاكرته خصماً له، يحارب نفسه بنفسه، تشتعل حروب داخله، تنفجر براكين كانت خامدة، ينقلب على ماضيه المستسلم المنساق، بعد أن تستبدّ به المشاعر المتناقضة، يقع نهباً لشعور قاتل قاهر بالمآسي المَعيشة، وحتّى بعد أن يدرك ما يحصل، «من إيمان بسذاجة الإيمان نفسه، يقبض على شعور غامض بالحنين، إلى تلك السنوات. حنين ملتبس، غريب ونادر. أيمكن لشخص الحنين إلى يجد أنّ ما قد يسعفه هو الاعتراف المفزع بأنّ كلّ شيء لم يكن على ما يرام. وأنّ المستقبل الذي حمّلوه فوق طاقته، من ضمان الرفاه والكرامة، بفضيلة العدالة والحرّيّة ليس سوى صورة مضطربة عن الحاضر. وليس ما يختم به من رؤيته القلبيّة والعقليّة للظلام القادم القاتم سوى استشراف خطير لواقع لا تبدو فيه بشائر التغيّر. حين يختم كاتباً: «حدّق أمامه فهاله الظلام، بلا تخوم ويبدو ضارباً في القدم، يجثم، عميقاً، فوق بيوت تنام، كأنّما منذ زمن بعيد..». كأنّما النوم أو التنويم أو التناوم تكون بدائل للاستيقاظ المفزع المرعب، وكأنّما تكون الخاتمة التي تتنبّأ بالغرق في ظلام مقبل وشيك لا محالة، ناشئة عن رغبة استفزازية لتثوير الطاقات ودفع المستغرقين في حروبهم المدمّرة إلى التنقيب عن بدائل إنقاذيّة أو حلول إسعافيّة لتدارك الفجيعة الأكيدة. لا يرتضي الكاتب بتلك المقولة التي تزعم أنّه في الحبّ والحرب كلّ شيء عدل، بل نجد روايته بمثابة صافرة إنذار تعلن أنّه لا شيء عدل في هذه الحروب العاصفة، ولا بأس من التحقيق في أسباب الكوارث التي أنتجت هذا الركام الهائل من الخراب البشريّ، وهذا الحطام التاريخيّ الذي ينذر بالظلام لا غير. يثير الرغبة في البحث عن أسباب اللاانتماء المتفشّي، وعن الإقصاء الممارَس، وعن النفي المستمرّ للذات اليمنيّة في الداخل والخارج، بحيث لا يشعر الواحد بالانتماء إلى شمال أو جنوب، ويفقد المرء كينونته وهويّته المنشطرة إلى هويّات متناحرة لصالح قوى مبتزّة معتاشة على التأزّم المزمن والتأزيم المستديم. «حرب تحت الجلد» رواية تقدّم الكثير من المآسي والصور المرعبة، تبدّد البديهيّات، تكسر الأوهام عن يمنٍ سعيد، رواية مؤلمة عن جانب مظلم وظلاميّ في آن، عن يمنٍ متناحرٍ غير سعيد، رواية توجِب البحث عن أسباب ذلك، تنذر بغرقٍ وشيكٍ في تعاسته وظلمته وتخبّطه وحروبه، وتيهٍ لا مناصّ منه بين الجنوب والشمال، بين الحلم والظلم، بين الألم والأمل..