في قراءته لـ«طرافة البنية السردية في مجموعة الظل العاري» للقاص محمد الغربي عمران, دوَّن أستاذنا الدكتور صبري مسلم حمادي عددا من الملاحظات تختزل على نحو مكثف وعميق, الأطر العامة لسيناريوهات القص واستراتيجياته عند القاص الغربي عمران, يقول فيها: «لا يمكن أن تقرأ للقاص محمد الغربي عمران دون أن تحشد كل طاقاتك الذهنية والنفسية كي تستوعب عالمه القصصي الغامض حينا والوعر حينا آخر, وإذا استثنينا بعض قصصه دانية الدلالة فإنك تضيع وسط متاهات الرمز المركب رغبة من القاص في أن يمنح قارئه إمتاعا مركبا يعيش عبره القارئ مكابدة القاص ويعانق رؤيته… والقاص محمد الغربي عمران مولع بالأجواء الغرائبية التي ربما اتخذت من الواقع الراهن تُكَأَة بيد إنها تحلق بأجنحة الخيال في آفاق قصية, وأحسب أن جرأة القاص في عرض رؤاه أمر مشهود وغير متوقع. وهو مسكون بهاجس التمرد شأنه شأن أي فنان لا يريد أن تبدو تجاربه القصصية مكرورة باردة. إنه يعي عملية وخز ذهن القارئ واستفزاز مشاعره وقلب مفاهيمه»(2). والمتابع لنتاج الغربي عمران يعي جيدا مدى ما تتسم به هذه الملاحظات من العمق والشمول, وإلى أي حد تصدق على تجربته الإبداعية في بعدها القصصي المكتنز لخمسة مجاميع هي : -الشـراشـف 1997م , الظـل العـاري1999م,حريـم أعزكـم اللـه 2001م -ختـان بلقـيس 2002م, منـارة سـوداء2004م. ويبدو أن تحول الغربي عمران من كتابة النص القصصي إلى اقتحام عالم الرواية قد فرض عليه تكنيكات كتابية وإبداعية جديدة تتناسب وطبيعة العمل الروائي المحتشد بالكثير من الأحداث والمواقف ووجهات النظر وأشكال الحياة, مما جعله يتخلى عن كثير من تلك الأطر في مقابل التمسك ببعضها الآخر, فهو وإن تخلى عن ولعه بغرائبية السرد, وافتتانه بالرمز المركب وما يفضي إليه من غموض القص ووعورته, إلا أنه لم يفقد ولعه بالرمز الشفاف, وقدرته على استثمار كل التقنيات والأساليب الفنية التي تمتع القارئ وتحلق به في آفاق قصية, وهو إلى ذلك لايزال مسكونا بهاجس التمرد والخروج عن المألوف واختراق تحصينات المسكوت عنه, بل ويبدو أكثر جرأة من ذي قبل في عرض مواقفه والتعبير عن أفكاره ورؤاه إزاء العديد من القضايا والأجندة الفكرية والسياسية والاجتماعية, دون وجل أو مواربة أو مراعاة لأي اعتبارات من شأنها أن تحد من حريته وتفقد تجربته خصوصيتها الفنية وفرادتها الإبداعية, وهو ما لمسناه في روايته « مصحف أحمر»(3), التي أثارت ضجة كبيرة وجدلا واسعا, وأحدثت أكثر من موقف ورد فعل, وسجلت حضورا لافتا في مختلف وسائط الإعلام, ومواقع الصحافة الالكترونية بشكل لم يسبق لأي من الراويات اليمنية أن حققته. والحقيقة أن الرواية من أنضج ما أبدعه الغربي عمران, وأقلها مساسا بمنظومة الأخلاق والحياء العام, وليس فيها ذلك الكسر العنيف والانتهاك الصارخ للمثل والرموز الدينية التي طالعنا بعض صورها في مجموعة «منارة سوداء», وإنما جاءت في إطار من الحكي الممتع والرمزية الشفافة والفن الجميل.
مونتاج الحكاية. (4)
يتجلى النضج الإبداعي في الرواية من قدرة السارد على تنسيق علاقة التخييل بمعطيات الواقع الاجتماعي والتاريخي في مونتاج مدروس وتركيب ذكي غير مصطنع, والإمساك من ثم بشبكة الأحداث المتشعبة والوقائع المتداخلة وإدماجها في خطين سرديين متوازيين: أولهما: رحلة النضال والكفاح المسلح الذي خاضته الجبهة الوطنية في المناطق الوسطى والأدوار النضالية لبطل الرواية تبعة العطوي, وثانيهما: رحلة المعاناة والحرمان والتشرد التي كانت من نصيب سمبرية راوية القصة وبطلتها الرئيسية. وقد توسل الغربي عمران في عرضه لتلك الأحداث والوقائع المتشعبة بتقنية الرسائل والمذكرات, وهي تقنية صعبة إذا ما أراد القاص النفاذ من خلالها لرصد أحداث متباعدة مكانيا, لأن الراوي في تقنية الرسائل والمذكرات محدود العلم محدود المعرفة الكلية إلا بما يدور حوله وفي محيطه, كونه في الغالب راو بصيغة ضميرالمتكلم يقدم معلوماته باعتباره شخصية شاهدة على الأحداث أو مشاركا في صنعها, وعندما يروي أحداثا بعيدة عنه فانه « مطالب بأن يبرر معرفته بالحوادث التي لم يشهدها ومعرفته بأفكار الشخصيات التي لم يسمعها, فإذا عجز عن التبرير يصبح كلامه نوعا من إفشاء المعلومات»(5). صحيح أن هذه التقنية من أكفأ الأساليب السردية وأقدرها على الغوص عميقا في أغوار الشخصية وإبراز تداعياتها النفسية والكشف عن المصادر السرية للأفعال والمواقف, كونها تمتلك كما تشير- آنا باربولد- «جوا أعظم من الحقيقة يسمح بكشف الشخصيات على نحو أكثر حميمية مما في الرواية التخييلية المعتمدة على المؤلف»(6), ولكن لا ينبغي من وجهة النظر النقدية أن يتعدى الغوص شخصية الراوي المرسل أو صاحب الذكريات, فـ«ما لا يستطيع البطل أن يقوله لا يستطيع المؤلف أن يخبر عنه في هذا الشكل (7). فكيف استطاع الغربي أن يتجاوز هذا المعوق النقدي وهو يمازج بين خطين من السرد, تتناثر أحداثهما بين مناطق الشمال والجنوب عندما اتكأ بشكل أساسي على شخصية سمبرية – الشاهدة على أحداث الشمال والمشاركة في صنعها- لتكون راوية حكايته. لقد لجأ المؤلف إلى حيلة فنية أطلق عليها رسائل تبعة إلى سمبرية, بررت للمتلقي سرد أحداث ووقائع كانت الراوية بعيدة جدا عن مسرح أحداثها, وأتاحت فرصة الإلمام بتفاصيل المشهد النضالي الذي خاضته الجبهة الوطنية في المناطق الوسطى في نهاية سبعينيات القرن الماضي ضد نظام صنعاء, جنبا إلى جنب مع ما كشفت عنه الرواية من صور الظلم والجور والتعسف والإقطاع المشائخي الذي خيم على كثير من المناطق اليمنية.ولعل اتساع فضاء الأحداث بهذا الشكل هو ماجعل أوجه الحياة في الرواية تتداخل, فالسياسي يتداخل بالديني, والفكري ينمط الاجتماعي ويغدو ضربا من الدين وشكلا من السياسة.
غواية العنوان.
تفترض المدونات النقدية أن «اختيار العنوان كعتبة لأي نص لا يتم بطريقة اعتباطية أو تعسفية, وإنما يجب أن يكون بينهما علاقة تناغم وانسجام في إطار دلالي كبير يستقطب كل التمثلات والسياقات النصية بحيث يغدو العنوان هو المحور الذي يتوالد ويتنامى ويعيد إنتاج نفسه «(8), وبسبب من هذه الفرضية وجد من يرى « أن النص الإبداعي يتكون من نصّين يشيران إلى دلالة واحدة في تماثلها، مختلفة في قراءاتها، هما النص وعنوانه، وأحدهما مقيّد موجز مكثّف والآخر طويل، فنصّ العنوان مكثّف مخبوء في دلالاته بما يحمله النص المطوّل بشكل موحٍ إشاري مكثّف»(9), وذلك يضع العنوان -من ناحية الدلالة على الموضوع- في مساحة متساوية مع النص, عُبر عنها قديما فقيل «الكتاب يقرأ من عنوانه». بيد أن تلك المقولات وإن صدقت على العديد من أنماط العنونة, فإنها أحيانا تفقد مصداقيتها كثيرا في عناوين الصياغة الحديثة, خاصة منها العبثية أو تلك التي تتجاوز في صياغتها الوظائف التوصيلية أو الوصفية, وفي هذه الشكل فإن « العنوان لا يحكي النص, بل على العكس إنه يمظهر نية المؤلف ويعلن قصدية النص»(10), وزاوية النظر هذه, هي التي تفرض علينا أن نقارب من خلالها عنوان مصحف أحمر كونه يتخذ لنفسه وضعا خاصا في التشكل والاشتغال, فكلمة «مصحف» التي تشكل نصف الحضور الدلالي, وتشغل نصف الحيز اللغوي للعنوان تعني وفق تموضعها اللساني « جماعة أوراق صحفت أي جمع بعضها إلى بعض»(11), قال الأَزهري «إنما سمي المصحف مصحفاً لأَنه أُصحِف أَي جعل جامعاً للصحف المكتوبة بين الدفتين(12), وهذا يحيل إلى دلالة واسعة للفظة تشمل كل مكتوب ضم بين دفتيه مجموعة أوراق, إلا ان تداولها غدا -بفعل التطور الدلالي – مقصورا على مصحف القرآن, فما إن تطرق أذن المتلقي أو تقع عليها عينه إلا ويتبادر إلى ذهنه صورة القرآن الكريم.ومن المؤكد أن هذه الدلالة كانت حاضرة بقوة في ذهن الغربي فوصف مصحفه بالأحمر ليقلب بذلك أفق التلقي رأسا على عقب, فالقارئ لم يعتد هذا الوصف لمدلول الكلمة في ذهنه, ويعتبره وصفا مستفزا يقلل من جلال المصحف وقداسته, ولا استبعد أن يكون هذا الفهم سبب التحفظ على الرواية, ومصادرة بعض نسخها منذ وطئت أرض المطار. على ان استفزاز القارئ في إبداع الغربي عمران لازمة فنية وقدر محتوم مع سبق إصرار وترصد, وهي في هذا العنوان تنهض بوظيفة إغراء المتلقي وتحريضه وإثارة انتباهه ودفعه إلى الاقتراب من النص وكشف الأسرار التي يخفيها. وبالاقتراب من المتن الحكائي لمصحف الغربي عمران, وقراءة معطياته الفنية والموضوعية, لتلمس فاعلية العنوان وحضوره الوظيفي ضمن البنية الحكائية لنص الرواية, يتضح أن مصحف أحمر ليس قرآنا جديدا لأن صاحبه ليس نبيا, ولا هو دعوة لدين جديد لأن الدين عند الله الإسلام, ولكنه دالة رمزية للفكر المتحرر من التعصب بكل صيغه وأشكاله, إنه رمز لاتجاه فكري يؤمن بالتسامح وبتعدد الرؤى وبحق الآخرين في اعتناق ما يشاءون من الأفكار, ومايروق لهم من المذاهب والمعتقدات, بعيدا عن الإكراه أو التعسف, إيمانا من هذا الاتجاه بأن واحدية التفكير ليس دليل اتساق الحياة ونمائها بقدر ما هو دليل على الجدب وانعدام الخصب وازدهار التسلط وسيطرة العقليات الشمولية واستبداد الإنسان بأخيه الإنسان, على نحو ما يفهم من الإشارات الرامزة لحكايات الأجداد التي كانت وصية سمبرية لوليدها حنظلة والتي تشير إلى تعاقب تاريخ الفرد وتسلطه واستبداده, حتى حلت على اليمنيين لعنة الذكر الواحد-كما تقول الرواية (ص20), لتجعل من اشكاليتنا مع الفرد إشكالية قديمة وليست وليدة لحظة تاريخية أو حقبة بعينها, وذلك حتم على فكر التحرر مقاومة الفردية ونبذ الطغيان ورفض التسلط وتضخم الذات الشخصية على حساب الذات الجمعية تحت أي مبرر كان سياسيا أو اجتماعيا أو حتى دينيا. وعلى المستوى النظري فقد تجسد حضور الفكر المتحرر في الرواية من خلال مصحف العطوي, الذي ضم بين دفتيه أجزاء من القرآن الكريم، وأجزاء من التوراة، وأجزاء من الإنجيل، وبعض تعاليم الديانات الأخرى: كالزرادشتية ، والصابئة,والبوذية الكنفشيوسية, والمانوية (ص332)، وكانت الممارسات السلوكية لأبطال الرواية هي التمثيل العملي للفكر المتحرر, فمولانا الذي يتقمص دور الرجل الصالح ويتقدم الناس في الصلاة وفي إحياء المآتم بالذكر والدعاء وإنشاد السيرة النبوية, يتحول في الليل إلى مثلي جنسيا,وتبعة يلتقي مع سمبرية في علاقات حميمية وفق ما أسمته الرواية بـ«شريعة الحب»(ص181), وتتحول سمبرية بعد ذلك إلى مثلية سحاقية على يد فطمينا, ثم تتشارك المتعة ذاتها مع رفيقتها شخنما التي أحالت علاقتهما إلى زواج موثق بالعهود (ص 103). ويشير اللون الأحمر الموصوف به المصحف إلى التيار السياسي الذي تبنى هذا الفكر وتمثل مبادئه, وهو تيار «الجبهة الوطنية» الامتداد الثوري للتوجه الماركسي بشعاراته الحمراء, وسعيه الدائب لفرض نظرياته في السياسة والاقتصاد بالثورات والكفاح المسلح, والمتأمل في موقف الكاتب من هذا التيار وتعاطيه مع أفكاره وأطروحاته والشخصيات التي تبنته لا يخامره شك بأن مصحف أحمر «العنوان» ليس إلا تجسيد رمزي له, ولو حق لنا تجريده من رمزيته واستبداله بعنوان تقريري يلخص الرواية ويختزل موضوعها لكان أنسب عنوان نستبدله به هو «كتاب الجبهة الوطنية», باعتبار كلمة مصحف تترادف مع كلمة كتاب, واللون الأحمر يدل على شعار الجبهة. والرواية في طبعها العام سيرة تاريخية لنضال الجبهة, وكفاحها المسلح, وصراعها مع السلطة والنظام المشائخي في الشمال. ولإسناد هذا الزعم يجدر بنا التلبث قليلا أمام بعض المواقف التي تكشف عمق تعاطف الكاتب مع هذا التيار, ففي المشهد الحواري الذي دار بين تبعة والرفيق شرهان مسؤول تجنيد عناصر الجبهة في أول لقاء جمع بينهما, جعل الكاتب من الانتماء لها انتماء لقوى الخير في مواجهة قوى الشر (ص99), وهي في موضع آخر التيار المعني بتحقيق الوحدة ( ص100), ولكن وفق مبادئها الخاصة « ستزول هذه الأيام بغير عودة…وسنعيش معا في دولة الوحدة..تسودها مبادئ الحرية الاشتراكية» (ص 233), وسمبرية تصف تبعة بعد أن أصبح أحد رجال الجبهة: «لم يكن تبعة ذلك الإنسان العادي بالنسبة لي…فهو من أيقظ مشاعر الإنسانية فيّ… أعطاني المفهوم لمعاني الاحترام والمساواة… من تشربت منه مبادئ الحرية الاشتراكية» (ص318), وهو يتحدث عن نفسه فيقول: «أنا اليوم مناضل أممي..لي رسالة عظيمة.. وطني العالم»(ص 159). وما يدعم خضل الرؤية السابقة ذلك الإيقاع المنتظم بين انكسار قوات الجبهة الوطنية حاملة هذا الفكر, وبين انتزاع أوراق الديانات الأخرى من مصحف العطوى الرمز الروحي لفكر النضال والتحرر. لأن انتزاع أوراق الديانات الأخرى يعني السير باتجاه واحدية التفكير وهو مالا ينسجم مع فكر الجبهة والمبادئ التي ناضلت من أجلها, وربما لهذا السبب لم يكن العطوي سعيدا بإعلان الوحدة الهدف من كفاحهم الطويل,وليلتها «لم ينم..انكفأ فوق مصحفه..كان صوت صلواته مزيجا من النحيب والإنشاد الشجي» (ص321), لأنها – برأيه- ليست الوحدة التي نشدها الشعب, ولا تمثل حلم الجبهة بوحدة تسودها مبادئ الحرية والاشتراكية» (ص 233), ولذا يراه بلا هوية, ويعتبرها جزءا من أكاذيب السلطة: «لم يرحل التشطير.. وما نراه مجرد صفقة لا يعرف احد تفاصيلها»(ص321).
لعبة الأسماء :
في مصحف أحمر تنتاب الإنسان مشاعر متباينة, فحين تقرأ شوق سمبرية والتياعها على فقيدها الغائب حنظلة تشعر بأنك أمام رواية اجتماعية, وتصادفك أحداث ووقائع وأقوال من مثل قول العطوي « لم يرحل التشطير… مانراه مجرد صفقة لا يعرف احد تفاصيلها «ص321», فتتأكد بأن ما تقرأه رواية سياسية بامتياز, وحين تتوقف على التفاصيل التاريخية لأحداث السبعينيات والمعلومات الدقيقة لوقائع ربما اطلعت عليها لأول مرة في حياتك يصح لديك أن مصحف أحمر رواية تاريخية. والحقيقة أن الرواية مزيج من كل ما ذكر ففيها الاجتماعي, وفيها السياسي والتاريخي, اذ ان أحداثها مستوحاة من الواقع بكل ما يضطرم فيه ويعتمل على صفحته من تلك المشاعر والاتجاهات. ولا يستبعد مطلقا أن يكون لأحداثها وشخوصها جذور حقيقية وحضور فعلي في الواقع, صحيح أن الرواية مهما كانت لها من أبعاد واقعية, إلا أنها في الأول والأخير عمل متخيل وعالم افتراضي تتحرك شخوصه وكائناته على الورق فحسب, غير أن الغربي في مصحفه الأحمر ترك مجموعة من الأسئلة المفتوحة لم يجب عنها مما فتح شهية التساؤل حبا في المعرفة والاطلاع, وبظني أن هذا الفعل ليس ناجما عن سهو فني أو خضل في رؤية الكاتب, بل قد يكون مرد ذلك إلى واقعية الرواية وتعلقها بشخصيات لهم وجود فعلي على أرض الواقع, وأول تلك التساؤلات يتعلق بصياغة الأسماء, فالغربي يفاجئنا في هذه الرواية بأسماء لم نسمع بها مطلقا على الأقل في الإطار المكاني للرواية, مثل: سمبرية, تبعة, خمينة, شخنما, فطمينا,وهي الشخصيات الأساسية في الرواية, طبعا قد تكون لعبة الأسماء إحدى استراتيجيات القاص, لكن الغربي لم يستمر في نحت بقية الأسماء على هذا المنوال, بل جاء بأسماء مما نعرف ونعايش : مثل شرهان, محمد أحمد الذحلي, عبده المقذي,علي صالح, فيدل, الرفيق ناجي من كولة السيد, الرفيق صالح من السدة,ومسعد من حمام دمت, والرفيق زيد من الخشعة…الخ, وهي شخصيات ثانوية تربطها بأحداث الرواية خيوط ضعفية, فلماذا في الشخصيات الأساسية جاء الغربي بأسماء غريبة جدا, فيما تخلى تماما عن هذه الإستراتيجية في بقية الشخصيات.
خارطة الأحداث:
الرواية في إطارها العام عمل ذهني متخيل وعالم افتراضي, لا يمكن أن يكون هو الواقع مهما كان له من تشابه معه, وعندما نقرأ رواية لها نَفَس واقعي, فلا ينبغي أن نُحَكم فيها معيار الصدق أو الكذب في الدلالة على الواقع, لأنها في كل الأحوال شكل فني, وليست وثيقة تاريخية, بيد أن ذلك لا يعفي المبدع من كتابة الرواية كيفما اتفق, دون تخطيط محكم ورسم دقيق لأحداثها وحركة الشخصيات فيها, فللفن اشتراطاته التي تحتم على الكاتب ضرورة التوسل بكل الحيل والتقنيات الفنية التي تحقق اتساق الرواية وتوهم بواقعيتها, وهذا بالضبط أساس اشتغال الغربي في مصحفه الأحمر, ومن يرسم خارطة لمسرح أحداث الرواية مستثمرا التفاصيل الدقيقة التي وشت بها وخاصة تلك المتعلقة بتنقلات تبعة في رحلته الأولى إلى معسكر التجنيد في منطقة القفر, ثم التحاقه بمعسكرات الجبهة في منطقة الضالع, ومن ثم عودته إلى حصن عرفطة للزواج بسمبرية وأخيرا تنقلاته بين جبهات القتال في جبال المناطق الوسطى, سيجد أن الروائي استطاع بذكاء حاد ومعرفة عميقة بتفاصيل تلك الأماكن وتموضعها الجغرافي وطرق الوصول إليها أو العبور منها, أن يصنع لروايته فضاء سرديا متسقا في لغته الفنية ومرجعيته الواقعية, لولا ذلك الكسر أو الفجوة غير المردومة أو النقطة غير المضاءة في ما يتعلق بحصن عرفطة المكان الأساسي لبؤرة التداعيات السردية, إذ أن ثمة غرابة تلفه بشكل كبير سواء من ناحية التسمية أو الموقع, فصياغته الاسمية لا تتفق البتة مع نسق أسماء بقية أماكن الرواية والتي تستقي صياغتها من المعجم الجغرافي الحديث للمناطق اليمنية, ولها حضورها الواقعي على الخارطة, وبعضنا يعرف الكثير من تفاصيلها.» السدة, النادرة, كولة السيد, حمام دمت, قرية الخشعة, جبل القرانح, وادي المعرش, وادي بنا, جبل جحاف, الرياشية, قعطبة,الضالع…وغيرها من المناطق المعروفة». وفيما يخص موقع حصن عرفطة فان الوصف الذي أضفاه السارد عليه وعلى محيطه لا يتناسب وتضاريس مكانه المحدد بـ27 كم إلى الغرب من صنعاء, كما أن خط هروب تبعة منه وعودته إليه مشوب بكثير من الغموض خلافا لالتزام القاص كما أسلفنا بتدوين أسماء الأماكن التي مرّ بها البطل في رحلته إلى الجنوب وتلك التي تنقل للقتال فيها وتعيين حدودها بالضبط كما هي على الواقع, وذلك مبعث تساؤل كبير, وخاصة للقارئ المحلي الذي ينتمي مباشرة لخارطة الرواية, وعايش عن قرب فصولا من أحداثها, حتى يخال له وهو بصدد تفحص ذلك الجزء من مسرح الأحداث أن حصن عرفطة ليس هذا موقعه البته, وليس القول بانتمائه إلى صنعاء إلا محاولة لتعميم جور السلطة وتعسف جهازها المشائخي, باعتبار صنعاء عاصمة اليمن وما يجري فيها يصدق على غيرها من المحافظات, أو أن ثمة اعتبارات أخرى نجهلها وعلمها كما يقولون في بطن القاص. إن الإلحاح على اتساق شخصيات الرواية وفضاء الأحداث فيها ليس هدفه التحقق من صحتها التاريخية بقدر ما هو مطلب فني بحت تفرضه طبيعة العمل الروائي عندما يستوحى أحداثه من جغرافية الأرض والمكان, وما يقتضيه ذلك من الدقة في البناء والتخطيط بحيث تنطلي رؤية الكاتب على القارئ وتوهمه بواقعية ما حدث فيتفاعل معه وينفعل بوقائعه ويتخذ منها موقف ما.وهذا بالضبط ما عناه موبسان في مقدمة روايته «بيار وجان» بقوله « إن تقديم الحقيقة إلى القارئ يكون بالإيهام بالحقيقة, وباتباع منطق الوقائع بدل تدرجها العشوائي, فالفنانون الكبار هم هؤلاء الذين يفرضون على الناس وهمهم الخاص « (13) وذلك لا يكون للسارد إلا إذا حشد لعمله كل الإمكانات والحيل الفنية واعتنى جيدا برسم شخوصه وحدد بدقة فضاء تحركهم وخارطة تصارعهم, «فإذا تمكن القارئ من إعادة رسم هذه الخريطة, كمرحلة أولية لدراسة الرواية, توصل إلى نتائج هامة… واستحالة هذا الرسم بسبب قلة المعلومات أو غموضها أو تناقضها تكشف عن عجز الكاتب عن خلق عالم محسوس»(14).
سحر الشخصية:
في مصحفه الأحمر يدهشك الغربي وهو يناوب بين الأحداث وينقلك من رسالة لأخرى, دون أن تشعر أن ثمة اضطراب, بل تنتقل معه بسلاسة وتعيش الأحداث كأنك أحد المنغرسين فيها, وذلك لم يكن له لولا تلك الشخصية الكاريزمية التي أبدعتها مخيلته, وهي شخصية سمبرية فقد كان لعبارات الفقد ونشيج اللوعة التي كانت تفتتح رسائلها إلى الغائب حنظلة به, الدور الأبرز في تمهيد الانتقال من حدث إلى آخر, والكاتب لا يخفي إعجابه بها وتحيزه لأطروحاتها,فهي وراء توليفته الإبداعية, وهو مأخوذ بسحرها حتى ان صوته في كثير من الأحيان يتماهى مع صوتها, لتغدو بنت القرية – التي لم يتعد حظها من التعليم سوى بضعة دروس في فك الخط على يد الفقيه – مفكرا كبيرا ومناضلا جسورا وفيلسوفا من طراز رفيع يصنع الحياة ويهبها للآخرين, يضاهيها في ذلك شخصية العطوي النموذج الفذ للفكر المتحرر إيمانا منه بإنسانية الإنسان وبواحدية الأديان, ليلقى بعد ذلك العنت الكثير والظلم الكبير, وهو صابر ومتشبث بصلابة بالمبادئ التي آمن بها والآراء التي يعتقدها, لقناعته بعدالة المستقبل:غدا يشيخ الطغيان ولن يجد من يعيد إليه صباه..من يحد أنيابه.. وسيبلى السوط الذي نظفره من جلودنا.. ولن يجد الجلاد من يسمع مبررات طغيانه «248» وهو- أي العطوي- وإن لم يحظ بما حظي به غيره من فرص الكلام والحديث عن الذات إلا أن سمته الإيماني وهدوءه واتزان أفعاله كانت خير دليل وأبلغ تعبير عن حاله مما لو كان تكلم, وفي مقابل مثالية العطوي وعبقرية سمبرية تبرز شخصية «تبعة» كلاعب أساسي وشخصية فاعلة ومؤثرة في مسار الأحداث وتداعيات السرد, ولكنه على خلافهما شخصية متقلبة وغير مستقره فكريا, فقد بدأ مناضلا جسورا وصاحب قضية ومبدأ, لينتهي به الأمر إلى أراجوز يلعن رفاقه السابقين ويتهمهم بالعمالة بعد أن أصبح مرتميا في حضن السلطة التي قاتلها ذات يوم, ليجسد بذلك أقسى صور الهزائم والانكسار لتطلعات الكثيرين وآمالهم في التغيير (ص335). وبعد: فإن مصحف أحمر رواية محتشدة بأشكال شتى من تناقضات الحياة وقسوتها وتلاعبها بالأحلام والطموح, وهي بما تحمله من رؤى فكرية وقيم فنية وما تشي به من صراعات إيديولوجية وسياسية نجتر آثارها إلى اليوم, تعد بحق انعطافة حقيقية ونقلة نوعية في تجربة الغربي عمران ورؤيته الإبداعية ليس على مستوى المضمون فحسب, بل على مستوى الشكل أيضا.
هوامش وإحالات
-1 إستراتيجية السرد: هي مجموعة الإجراءات السردية المتبعة أو الأدوات السردية التي تستخدم لتحقيق هدف ما محدود. ينظر: قاموس السرديات,جيرالد برنس,ترجمه : السيد إمام,ميريت للنشر والمعلومات, القاهرة 2003,ص 131. -2 الآفاق والجذور, فضاءات الأدب اليمني المعاصر, صبري مسلم حمادي, اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين, مركز عبادي, صنعاء,2004, ص215-216. -3 إصدارات:الكوكب رياض الريس للكتب والنشر, بيروت, فبراير2010. -4 المونتاج: من مصطلحات الصناعة السينمائية التي استعارتها السردية ويعني: اختيار وترتيب المشاهد, ولا يختلف المونتاج الروائي كثيرا عن المونتاج السينمائي لا في تقنيته ولا في أهدافه ولا نتائجه فهو: جمع لأجزاء النص وفق الترتيب الذي يرسمه المؤلف وربط الأجزاء بحلقات وصل تسمح للقارئ بإعادة تكوين الأصل. ينظر: معجم المصطلحات الأدبية, إبراهيم فتحي, المؤسسة العربية للناشرين المتحدين,صفاقس,1986, ص360. وينظر: معجم مصطلحات نقد الرواية, لطيف زيتوني, مكتبة لبنان ناشرون, بيروت,2002, ص 162. -5 معجم مصطلحات نقد الرواية,ص42. -6 نظريات السرد الحديثة, والاس مارتن, ترجمة حياة جاسم محمد, المجلس الأعلى للثقافة, القاهرة,1989, ص173. -7 نفسه, ص173. -8 دينامية النص, محمد مفتاح, المركز الثقافي العربي,بيروت,الدار البيضاء, 1987, ص 72. -9 قراءات في الشعر العربي الحديث والمعاصر,خليل الموسى,اتحاد الكتاب العرب,دمشق,2000, ص74. -10 عتبات النص:البنية والدلالة, عبدالفتاح الحجمري, شركة الرابطة,الدار البيضاء, 1996, ص 18. -11 معجم الفروق اللغوية,أبو هلال العسكري,مؤسسة النشر الإسلامي,قم, إيران, 2000, ص447. -12 تهذيب اللغة,أبو منصور الأزهري, تحقيق: مجموعة من العلماء,الدار المصرية للدراسات والترجمة, القاهرة, د.ت, مادة:صحف . -13 معجم مصطلحات نقد الرواية ص 176. -14 نفسه: ص 129.