جدلية الحياة والموت/ قراءة في نصوص من هذا العنوان الدال علي الرؤيا، تبدو نصوص هذه المجموعة بما تحمل من مسافات كبيرة تم تجاوزها في عالم النص القصصي، بحس مُرهف، وروح قادرة على التجاوز للعديد من المناطق الفنية، وسبر أغوار النفس الإنسانية، وفي كثير من طياتها وموضوعاتها التي تتجاور إلى حد التتابع وتفترق إلى حد التناقض، ومقطوعاتها المعزوفة بعناية وألق في نفس الوقت، بين هذه الروح الشعرية وهذا التماسك القصصي تأتي هذه المجموعة، تحمل تفاصيل مُؤلمة، بنفس شعري وطقوس خاصة، تقيم الأسئلة وتقدم إجابات أحيانا أو تترك السؤال في ذهن التلقي باقيا كبقاء الفكرة. تخلق الفرح من الألم ومن الحسرة آلما شجيا ( عرفت لأول مرة أنّ ما أقوم به هو « الرقص « وأنّ للألم عند البشر أكثر من اسم) تبنى من هذه التفاصيل الصغيرة أحلام تتوارى بخجل نحو الانتظار، لكنها دوما ما تظهر ناصعة في موج الكلام الشفيف، وقد عبرت عن الذاتي والموضوعي في هذه النصوص، مُنطلقة من رؤيا شفيفة كالحلم، أو ما هو صادم من الواقع أحيانا، فهي تجمع بين الطريقة التعبيرية الجديدة والحداثية. وفي نفس الوقت تعمل علي كشف الوقائع وتعرية المُختبئ في الزوايا ، لم تكتف بما هو واقعي مرصود أصلا، بل تعدته نحو المجاز والتصوير انتقالا إلى المجرد في التعامل مع القيم الإنسانية أحيانا، مع استعمال الرموز الموحية والانزياح، وتوظيف التناص والدوال السيميائية للتعبير عن هذه اللحظات البسيطة في ولوجها لكون النص وعالمه. تغيب الشمس، أرى نقطة أرجوانية تدفعها ريح الشمال الساخنة، تكبر النقطة وتزداد حدة لونها الهدوء مفزع في مكانه وعلى سكون جلسته نفسها لا يتحرك صغيري تختفي النقطة الأرجوانية كأنها لم تكن لا أمل تصور الكاتبة أيضا برقة إنسانية تعقد الحياة، وقسوتها كما في نص أرض أقل قسوة. ومن هنا، يبرز لنا معنى الأمومة وعاطفة الأم المتقدة بالحنان وقسوة الواقع ومرارته، حين تبدو التفاصيل غامضة في بعض الأحيان، لكنها تحمل هاجس البوح وقتا/ بوح خفي داخلي يظهر من خلف شرفة تقدم المروي عنه بعين راصدة ومعتنية بالسرد، والإقصاء لكل ما هو خارج عن الفكرة، تلمسها شفافية الشعري لتكشف عن كونها البديع، رغم عوالمها الكئيبة، فهي تعمل علي طرح الفكرة في عذرية تامة بكون من الدلالة، وفي نفس الوقت تحميل هذه الفكرة لبُعدها الدلالي، الذي يطرح السؤال في خفاء خلف هاجس الكلام، من أجل خلق المعاني والإيحاء الدلالي والإحالات الرمزية، مُهتمة بالتتابع وإعادة الترتيب للمشاهد، والعبارات السردية البسيطة في تركيبها ولكنها مُوحية وثرية بالإيقاعات المتجاوبة لحالة النص، تحمل هذه السمات من الإيجاز والتركيز وتكثيف التكثيف أحيانا كما في قصتها القصيرة جدا : (سرير جديد ) ( في ذكرى زواجنا غيرنا غرفة النوم. السرير ، الستائر ، المفرش ، الموكيت ، لون الجدران. ولكن بقي شيء عتيق يطقطق، كل ليلة ، فوق السرير الجديد .. كان هذا الاختزال الشديد لعالم مُكتمل يحمل رمزية عالية ومقدرة لغوية لتفاصيل بسيطة وهادئة، ثورة خفية عالجتها بفنية ومهارة. بين المعنوي المحسوس والمادي الملموس وإحالة المشهد بكامله لكون الدلالة. في عبارات مختزلة تقوم علي التعديد. فهي حين تحكي حدثا مُحددًا بنظرة رمزية – تتحرك الشخصية وتشرح الموقف لكنها تُوجِزه في لحظات قصيرة مُعتمدة على مبدأ التكثيف فكرًا ولغة وشعورًا مما يُمكنها من النجاح في نقل هذه الدفق الشعوري بما تحمل من نبض المعنى وإغناء كامل للدلالة، لا شك أن التركيز والتكثيف في هذه النصوص كانا من العوامل الأساسية لنجاح هذا العمل وجعلا الكتابة قادرة علي القبض علي اللحظة المروي عنها ببساطة، دون تسريب للتفاصيل مع ثراء النص وتماسكه علي الدوام ، وإقصاء لكل ما يمكن أن يثقل النسيج القصصي، ويبدو حشوًا يرهل النص، ويضعف أثره الجمالي مع هذه اللغة الشعرية النابضة في هدوء وروعة. فالنص بهذا التركيز والتكثيف يكشف عن لحظات إنسانية شديدة الرهافة والذبول من منطق إنساني عميق، أضاف بهذا التجسيد بُعدا هائلا لحساب الرؤيا، لتلمس أجواء هذا الإنساني وسط حصار المتغيرات الأخرى، والتي لا أهمية لها، وتتحرك البنية القصصية لإبراز دلالتها ببساطة، من خلال تراكيب فعلية تحمل توترها الدرامي، وحركتها السردية، تحيك تفاصيلها البسيطة بشفافية وخفاء، خلال تصاعد الدراما والحالات الرمزية الموحية والقادرة على جعل الرمز هو النسيج الفاعل والمحرك للحدث، أو المضمرة أحيانا عبر تتابع السرد والاختزال، والاقتصاد في الجملة القصصية فقد استعملت الكاتبة فضاء الجملة، والفضاء الشاعري، و المفارقة. ليحمل النص ويعكس موضوعه بهذه البساطة نفسها، كما في قصة الراقص /بما تحمل من رمزية هائلة وانزياح دلالي ومفارقة بديعة وكذلك في نص الحقل / والقاتل لعل من المفيد أن نذكر هنا ومع هذه العناوين أيضا (يقظة الميت / القاتل / رقصة الثأر/ الحقل /رغبة / أرض أقل قسوة / حياء/ ) كلها عناوين يكون فيها الموت قاسما مشتركا، ونهاية لهذا الفضاء الدلالي فتقريبا لم تمض قصة بغير الموت، بل كابوسية الموت في هذه النصوص هو الملاحظة الأقوى علي الإطلاق، فكيف نرى العالم وكأنه نهايات وانتظار دائم، (في الصباح التالي بينما كنت أرتجف وسط ضباب الفجر راح نقيقي يرتفع ويوقظ غريمي وبقية الضفادع كي تبدأ يوما ربيعيا تحول عناء أمسه إلى نحيب) من قصة نحيب لرصد تغيرات الواقع أثر فني كبير في هذه النصوص، حين تتحول الشخصية إلي ضفدعة بينما ترى الناس قد تحولوا إلى ضفادع وتحول الفرح إلى نحيب. كيف يُكتشف العالم ثانية من ذلك البعد الأليم عند شرفة تنتظر، تنظر وتقدم الرؤيا مع قسوة التجربة على الشخصية وعنفها وهروبا من واقعها الأليم إلى المُختبئ في الذاكرة الإنسانية، يسير في نفوسنا كما هائلا من الحزن. المتراكم، يعمل على إحداث هذا التراكم الكيفي، وتعديد اللحظات الإنسانية ورصدها، ليظل فعل الكتابة باق بالقدر الذي يرصد التجربة ويحللها لأنها جزء من وجودنا الفاعل، تُجسد المشاعر الإنسانية بكل إنسانيتها في مواجهة الهزائم المتكررة في لحظات يصعب فيها تحديد نوع هذه المشاعر تحديدا دقيقا. وكأن الشخصيات قادمة من الغيم بلا مطر ولا رواء، في واقع مهين ذابل، مع لغة السرد المُحبب للنفس تشيع في النصوص الق الحضور الهادئ المتوازن، غير أنه ثري بما يكفي حد الأنين أحيانا، ومسكونا بالوجع أيضا، الدراما تتسرب برشاقة إلى نفس القارئ، تستعذب اللحظات والأحداث، وتحتفل بالحكي وتهتم ببنية السرد بروح هادئة وواثبة مع اختزال الزمن بشكل موحى ودال، فتعكس لنا النصوص نوازع الشر والحقد البشري بتصوير نزعة العدوان، وصراع الواقع.أحيانا، واللجوء دوما إلي الفقد والانتظار الدائم. يحمل خطاب النص هنا ألفة وبساطة بين الغموض والتصريح، بين الكلام والإخفاء، بين اليقظة والحلم، في هذه المفارقات المختلفة تعتمل النصوص علي طرح الدال في تدفق شعوري شديد التماس مع اللحظات المرصودة. كما في قصة رقصة الثأر أو نحيب ولكنها في ذات الوقت تتواري وتخفت أحيانا في وصول هذا الصوت.لتتمحور حول الذات. مع جدلية المكان/ المكان الباقي دوما ضمن عناصر النص، فلا تخلو قصة من ذكر المكان وكأنه الفضاء الوحيد المتماسك لدي الشخصية، إلى جانب شعرية الواقع في التناول، ودراما وقائعه بما يحمل من تحيز لصالح الرؤيا. فمن مظاهر هذه الشاعرية، استعمال تراكيب دائرية تقوم على إعلاء موقف الدلالة والبنية من خلال التوصيف وتجسيد المشهد المروي عنه، لكن الدمعة قفزت من عيني، ثقيلة وذات رنة اختفت في نسيج كنزتي بحثت عنها وحدقت بإمعان إلى غرزات الصوف ثم أغمضت عيني أمام ذكرى صوت الباص وتلاعب الهواء بضفيرتي التلميذة التي كنتها، وصورة الفتي الذي كان ينتظر الباص تدور هذه النصوص في قضايا مُتعددة منها ما يدور حول المرأة وخباياها النفسية الشعورية واللاشعورية، وتلك التي تتعلق بالمرأة في علاقتها بالرجل وقضايا الفقر والغربة وقضاياها الخاصة بالحب والزواج كما في قصة قصاصات / حياء/ وغيرها ومنها ما يدور حول قضايا فلسفية تعني بالوجود في مقابل القضايا الحياتية أيضا، إلى جانب قضايا الواقع المرير / واقع رمزي شفيف يشير إلى ذاك الصراع الأبدي كما في قصة رقصة الثأر وهذا الحلم بعالم آخر وفي نفس الوقت، تصور النصوص مشاعر ذاتية متفردة في إبراز أهواء الشخصية وانفعالاتها، غير أن الفقد أو الموت، هو القاسم المشترك في كل هذه النصوص، يظل يلح علي وجوده دوما وهو يظهر بوضوح، فلا تكاد تخلو قصة واحدة من لفظة موت أو فقد، هذا العامل المهم والذي تدور كل النصوص في فلكه بأشكال متعددة، وصور مختلفة غير أنها جميعا تعبر عن نفس المعنى الموت. أخيرا لهذه النصوص طعمها الفريد وقدرتها على خلق عالم ثري مفتوح بالجرح على الدوام تفاصيل أليمة وبسيطة في ذات الوقت، تتصاعد حتى تغدو عالما متسعا الأفق، تقرأ فيها الرموز وكأنها الوقائع تتردد في دفق السرد بهدوء وبساطة، بمقدرة فنية وطاقة قصصية هائلة، قادرة على منح هذا الدفق الشعوري الهائل نسيج متميز وفكر منفتحا علي أفق الكتابة.