«رسائل ضوء وماء» كتاب يمثل الشجرة الثامنة عشرة في حديقة أفروديت، ولد في مارس 2011م من هذه السنة، على يدي مطبعة وليلي بمراكش، وبتوقيع الشاعرة المغربية المبدعة نجاة الزباير. فما هي الفواكه الجديدة التي تحملها هذه الشجرة إلى القارئ؟ وما الإضافات التي تهجس بها؟ في هذه الرسائل نقرأ الشعر، وقد صار أكثر من الشعر، حيث نراه وقد غدا محيطا تتموج فيه أطراف العالم كلها، وكذلك الأشياء، ويتوهج التمرد، وتشتعل الأسئلة، ويتشكل وطنُ الحرية. إضافة إلى أنها تعطينا جُرعة عالية من الشفافية، تُزيل عنا الخراب الشرس الذي يسكننا…الخراب الذي يعوي في أرواحنا ويُدمرها..الخرابَ الذي يحرق بيدي الجشع والكراهية والقسوة كل المشاعر النبيلة والإنسانية فينا، ويغرسُ بدلها نزعات ذئبية كَاليغُورية. إنه كتاب يجتث فساد الروح، وجذور الظلام الغائرة في تفاصيل حيواتنا، ليضع محلها بذور ضوء وماء. ومن ثمة فهو ليس رسائل بالمعنى العادي للكلمة، وإنما هو إشارات ورموزٌ تصغي إلى الصباح المشرق من آلامنا، وتنسج ثياب وجداناتنا بالندى. ثم تُجلسنا في حضن الطمأنينة كما أطفالٌ يتراشقون بأزهار البراءة وعافية الروح وعفويتها. ولهذا جاءت نصوصه كعجينة لينة ممزوجة بضوء الوجدان، وماء الصبوة، وإيقاعات القلب. ومجبولةٍ بحميمية تأملية فذة، أشبه بسيمفونية شعرية نثرية (شَعْثَرِيَّةٍ)، وبموسيقى الأعالي التي توقظ حشائش الذات لتغتسل تحت انثيالاتها. هو عمل يعبر بكَ إلى ضوء المجهول الراعش بطرق تعبيرية غير معروفة، ويسلك بك أيضا طرقا غير معلومة، وهذا هو سرُّ إشراقات حُدوسه، وسرُّ انصهار الشعر فيه مع نصوص أخرى تنتمي إلى حقول أدبية مغايرة كالخاطرة، واليوميات، والتعليقات، والاعترافات، والشذرات ذات النفس الفلسفي، والمذكرات المُناوشة لليومي. فقد تم تذويب هذه الأمشاج كلها في شعرية الشعر وشعرية النثر، وذلك في نسقٍ مُحكم تتعاضد مكوناته لتعطيَ فضاء هارمونيا لغويا تخييليا، يتغيَّا إعادة خلق العالم الجواني بأبجدية أخرى. وعن هذا تقول الكاتبة نجاة :« إن الكتابة قصيدة وجودية تحاول احتواء هذا العالم الغريب…(و) ها أنا الآن أشعر ببعض الطمأنينة، فقد رمتني شباكها نحو أرض الحب..أرض الخصب الإلهي. وسأتنقل بين تقلبات هذه العاطفة التي شرب أقداح جمالها كلُّ من تغنى بروعة الوجود». هي أرض من نوع فريد، نلتقي فيها بقامات إبداعية تُشكل الحياة بريشة البهاء، نلتقي بأدونيس، ومحمود درويش، وإِدْوَارْ إسْتْلِنْ كَامِنْغِزْ، وقيس بن الملوح، وعدنان ياسين، وغازي القصيبي، والطيب هلو، ويوسف زيدان، ونزار قباني، وسعيد مانع العتيبة، وعبد السلام المساوي، وإبراهيم ناجي، وأحلام مستغانمي، والسموأل، وخالد محيي الدين البرادعي، وكريم العراقي. وذلك في منعطفات زمردية ثلاثة؛ هي: ظلال من داليات الشوق والهوى. سماوات الهجر والنوى. رسائل من رماد الوطن. ففي هذه المنعطفات يتمازج رحيق الشعر برحيق النثر، ويُزهر اللقاء فوق غصن الوجود متأملا الآلام والحب، والذكريات والمنفى، والقصف والخراب، والطفولة التي تغَصُّ بدموعها الكلمات. إن نجاة في هذا العمل فنانة شاعرة تلعب ببنية اللغة والمعاني كما تلعب الأمواج بأشرعة الصباح والمساء، لترسم لنا لوحات ثريةً في مظهرها ومخبرها، ومشاهدَ غاية في الجودة، لا يمكن لعدسة مهما كانت دقتها أن تلتقطها، إلا عدسة اللغة التي تجعل المعنويَ حسيًّا بصريا ملموسا ومشموما، وكأنه الظل الأرحب الذي يناجيك ويدثرك. فهو رسائل مشفَّرة، وترصيع باذخٌ، يتنافذ فيه البعد الفلسفي مع البعد الوجداني تنافذ الضوء مع الماء، والعطر مع اللون، ويتداغمان في تناغُمٍ ليرفعاك إلى أفق شبيه بروايات الحب الحزين في الزمن المجدب العقيم، ويضيئا مدن الروح بإشراقات تُفلسف المواقف، وتُفكرها، وتثور عليها وتنتفض. لقد استعملت الكاتبة نجاة كل طاقاتها الداخلية الخفية والمتعانقة، مع أحاسيسها الشفافة، لتعبِّر عن حال إنسانية أوجعتها تجارب الحياة، ولذلك فإنك حين تقرأ هذه النصوص تشعر أنها أحدثت فيك ومضات كهربائية سريعة، وجعلتك تقشعر خوفا على الإنسان من السقوط في جحيم العتمات. فهي تعزف كينونة الذات؛ التي لا تكون إلا إذا كانت غيرها؛ على معزفٍ فلسفي تخرج منه أنغام الأفكار مقطرة في قارورة اللغة، كلما اقتربت منها ـ كما تقول الكاتبة ـ «نبتت في روحك أشجار تتساقط عطرا، وركض في كفك الوقت معلنا صلاته، وتنفست أصابعك قيثار الحكي». إن أتعبتك الحياة، وطوحت بك في مهاوي الشك والانكسار والبُغض، فاسْندْ روحك على كتف هذه الرسائل، فإنك لا محالة ستعود معافى، وستتعلم كيف تحب، وكيف تحافظ على مَنْ تحب بشهامة ونبلٍ لانهائيين.