هذا المقال يعرض دراسة نقدية قدمت في جامعة الملك سعود في المملكة العربية السعودية لنيل درجة الماجستير بقلم كاتب هذه السطور وناقشها الناقد التونسي المعروف د.حسين الواد والناقدة السعودية د.نورة الشملان وحضرها الناقد السعودي د.عبدالله الغذامي وأشرف عليها د.أحمد سليم غانم. والدراسة تبحث ظاهرة انبناء قراءة على قراءة من خلال أنموذج «قشر الفسر» وهو كتاب قديم يعود إلى القرن الخامس الهجري ألّفه الشيخ العميد أبو سهل محمد بن الحسن الزوزني العارض وهو عبارة عن شرح يقوم على شرح سابق وهو كتاب الفسر في شرح ديوان المتنبي لأبي الفتح عثمان بن جني، فالدراسة انطلقت لتبحث تلك الظاهرة بوحي من (نظرية التلقي) ولكنها لم تُلزم نفسها ما لا يلزم؛ حتى تكون أكثر قدرةً واتساعًا في رصد النص (قشر الفسر) وهو يقرأ البيت في ضوء شرح سابق (الفسر)، وقد كان الهدف من دراسة هذه النصوص المبنية على شرح سابق يعود إلى أنها قلّمَا درست بوصفها مغايرةً عن الشروح الأخرى؛ فاستحقت الدراسة والتأمل لاسيما أنّ كتاب «قشر الفسر» يحتوي على كم جيد من الآراء النقدية والأساليب في التعامل مع الشعر تارةً والنقد تارةً أخرى. إضافةً إلى ما سبق فإنّ هذا النوع من النصوص لا يكشف عن المنطلقات النظرية التي يتعامل بها مع الشعر؛ فتغيب النظرية التي تحكم العمل؛ ومن ثم فإنّ الدراسة سعت إلى الكشف عن تعامل الشرّاح مع الشعر من خلال شرح سابق، والتعرف على التعارض بين القراءات وما تستدعيه من إجراءات لإبراز هذا التعارض أو تجاوزه، وحاولت الكشف عن محاولات الفهم وإجراءاته ومراحل تطويره. ويُعدّ كتاب (المتنبي والتجربة الجمالية عند العرب) تأليف الدكتور حسين الواد، عماد هذه الدراسة، بالإضافة إلى كتاب (المختارات الشعرية وأجهزة تلقيها عند العرب من خلال المفضليات وحماسة أبي تمام) تأليف الدكتور إدريس بلمليح، وكتاب (مستويات القراءة والتأويل لدى الأعلم الشنتمري في شرح حماسة أبي تمام) تأليف الدكتور العياشي السنوني، وكتاب(جمالية الألفة: النص ومتقبله في التراث النقدي) تأليف الدكتور شكري المبخوت. واستعانت الدراسة في تحقيق أهدافها بالمنهج التحليلي في سبر أغوار النص التراثي، بلغة واصفة تستعين أحيانًا بشيء من المقارنة؛ لتعليل الاختلاف والتشابه بين القراءتين. وقد تكونت الدراسة من أربعة فصولٍ، فحاولت في الفصل الأول: مشروعية القراءة، الإجابة عن السؤال التالي: ما مشروعية هذه القراءة في نظر الزوزني ؟ وقد ظهرت تلك المشروعية عند الزوزني من خلال قصور القراءات السابقة، وقد تمثل هذا القصور -عند الشرّاح السابقين ومنهم ابن جني– في ضعف الرواية، وقصور المعنى عما يقصده الشاعر، والغلو في التخريج النحوي واللغوي. وافتراض الكفاءة في قراءته، وقد ظهرت معالم تلك الكفاءة في الصفات التي نسبها الزوزني إلى نفسه من الحفظ الجيّد والاطلاع على الشروح السابقة والإلمام بمعايير تذوق النص الأدبي السائدة في ذلك الوقت، ومناقشة العلماء والأدباء في ديوان أبي الطيب المتنبي إضافةً إلى جديد الآراء والمعاني التي توصل إليها. أمّا في الفصل الثاني: تفنيد قراءات ابن جني وآلياته، استخدم المؤلف مصطلح «مواضع الاستفزاز» ويقصد به ما يستفز الزوزني في شرح ابن جني، ولعلّ أبرز ما يستفزه، تعدد المعنى، وقصور التأويل، من مثل: ترفع ابن جني عن شرح بعض الصور البذيئة، وعدم مراعاته علاقات التشبيه في الشرح، واشتغاله بذكر المناسبة دون شرح البيت، وعدم شرح البيت خوفًا من (السلطة)، وممّا يستفز الزوزني أيضًا الرواية الخطأ ورواية الشرح عن المتنبي خطأً. بعد رصده لمواضع الاستفزاز انتقل المؤلف للحديث عن طرائق الوصف، ويقصد بها العبارات التي يستعملها الزوزني في وصف شرح ابن جني، وتحدث صاحب الدراسة عن معجم الأوصاف عند الزوزني ثم أظهر وجه الحجاج الذي تحمله هذه الأوصاف. وفي إطار طرائق الوصف درس-أيضًا- الوصف الموجه، وينقسم إلى قسمين: وصف موجه إلى الشرح، وآخر موجه إلى ذات الشارح، ثم انتقل المؤلف إلى أساليب الوصف المتداولة في الكتاب: الوصف بالأثر: كالقرآن والحديث والمثل والشعر، والوصف بالإنشاء: كالاستفهام والتقرير والتعجب. أما في مبحث تفنيد قراءات ابن جني وآلياته، فقد تحدث عن مفهوم التفنيد، ثم تحدث عن أنواعه، وينقسم إلى تفنيد القراءة، ويندرج ضمنه: تفنيد الشرح في ظل تأثير الحقل المعجمي، وتفنيد المقارنة، وتفنيد آلية التعامل مع البيت المفرد، وتفنيد آلية الطباق، وتفنيد الخلط بين السياقات المختلفة. ثم رصد آليات الزوزني في تفنيد آليات ابن جني في إنتاج الفهم، كاستخدام الحجاج وقد وقف مع مفهوم الحجاج مطولاً، ثم تحدث عن تجلياته في كتاب «قشر الفسر» من خلال الجدل والأسلوب. وتحدث أيضًا عن آلية العرض، وآلية التفنيد الضمني، وإبراز التناقض، والتوبيخ لعدم الاستفادة من رأي الشاعر في الشرح. وأخيرًا رصد المؤلف تفنيد الرواية، من خلال: تخطئة الضبط، وتخطئة الأحرف، وتخطئة اللفظ، وعرض أساليب الزوزني في تفنيد الرواية، من مثل: تقديم سند أقوى، وإضعاف رواية ابن جني من خلال خبر تاريخي، ومقارنتها بالسماع، وعرضها على منطق البيت، وإرجاع الخطأ إلى التصحيف. أمّا الفصل الثالث: تقديم الفهم البديل: قراءة الزوزني، تطرق المؤلف للحديث عن إنتاج الفهم عند الزوزني ووسائله، فدرس الألفاظ التي يقدم بها الزوزني فهمه، من مثل: «يقول»، و«بيانه»، و«معناه»، لكي يعقبها اجتهاد لإرجاع المعاني إلى مراجعها الواقعية. وفي مبحث إنتاج الفهم، قسّم تعامل الزوزني مع البيت إلى تعامل مع اللفظ وتطرق إلى تحليل أنواع هذا التعامل: كالنزعة المعجمية والصرفية والنحوية والبلاغية. وفي مبحث التعامل مع التراكيب ظهر من خلال دلالة التركيب في الواقع ودلالته في الشعر والنزعة النحوية والنزعة البلاغية. وظهر تعامل الزوزني مع المعنى من خلال طريقة شرح الأبيات التي اتبعها، وهي تحويل النظم إلى النثر وهي طريقة قديمة اتبعها من كان قبل، وأيضًا عرض لموقف الزوزني من أبيات المبالغة عند المتنبي، ودائمًا ما كان موقفه تعليل هذه الأبيات وإيجاد العذر للشاعر، وأحيانًا يكتفي الزوزني بالإشارة إلى أن الشاعر استعار أو شبه أو كنّى. بعد ذلك انتقل إلى مبحث الاحتجاج للفهم، ودرس فيه: الشواهد وقيمتها الحجاجية في الإثبات والإقناع وعرض للسلم الحجاجي في كتاب فشر الفسر. في الفصل الرابع: تقويم عمل الزوزني، حاول المؤلف تقويم عمل الزوزني من خلال سؤالين: الأول، هل انسجم عمل الزوزني مع الأفكار التي وعد بها في المقدمة؟ وينقسم إلى قسمين: المنهج، والإنجاز. أما السؤال الآخر في التقويم فهو: هل يختلف عمل الزوزني عن عمل ابن جني في الفهم وإجراءاته وطرائق الاحتجاج؟ وإذا وجد فما علته؟ وقد توصلت الدارسة إلى أنّ السقطات التي وقع فيها الشرّاح السابقون في شرح ديوان المتنبي تسوغ قراءة الزوزني، كما أنّ تلك الميزات التي تميّز بها الزوزني تتفق مع المعايير التي يطلبها النقاد القدماء في الذات الشارحة. وتبين من خلال الرصد أنّ تعدد المعنى عند ابن جني في نظر الزوزني يعود إلى عدم قدرته على إدخال المعاني الجزئية ضمن معنى عام يشملها، كما تبين أنّ الوصف الموجه إلى ذات الشارح هو وصف يعكس موقفًا حادًّا من كلام الشارح ابن جني، وكذلك الوصف بالأثر لأنه مُحمّل بمواقف سابقة تصب في حدة الموقف، أما الوصف بالإنشاء فهو وليد اللحظة لا يعكس في كلام الزوزني ما تعكسه الأوصاف السابقة. إضافة إلى ما سبق فإنّ تنوع وسائل التفنيد يعود إلى امتلاك الزوزني أكثر من آلية لأجل تفنيد شرح ابن جني، وهو ما يشي بذات ناقدة على قدرٍ من الرواية والدراية. وقد كشفت الدراسة عن تشابه آليات الزوزني وابن جني في طريقة التعامل مع الشعر من النزعة المعجمية حتى النزعة البلاغية، ومساهمة ابن جني كثيرًا في تحديد قراءة الأول من خلال تأثير المداخل التي دخلها، وهي سلطة اكتسبها بسبب علمه ورجاحة عقله وجودة قراءته. كما أنّ الشواهد في قراءة الزوزني تؤدي دورين: تسويغ القراءة والدفاع عن المتنبي. وقد توصّلت الدراسة – أيضًا- إلى وعي الزوزني في الممارسة بالمنهج الذي يتبعه ويظهر هذا الوعي من خلال التذكير والتعليل حينما يتجاوز ما ألزم به نفسه في المقدمة، وتبين أنّ هجومه على ابن جني -أحيانًا- ليس لأسباب شخصية وإنما لا يتجاوز أنْ يكون صراعًا في النص ولأجل النص لا غير، فضلاً عن «كون تعييب الأقران لا يعد عداوةً في نظر القدماء».